بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 أبريل 2016

الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (30) .


             الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (30) .

الشباب العربي ومستقبل الأمة ..

الشباب في أي مجتمع هو بمثابة العمود الفقري في جسم الكائن الحي الذي يصبح كتلة من اللحم غير قادر على الاستواء والحركة بدون هذا العضو الاساسي المهم ..  لذلك تخشى المجتمعات التي يقل فيها الشباب من الشيخوخة والهرم ، فتتخذ  الاجراءات الوقائية العاجلة والفعالة ، مثل المكافآت المادية المغـرية التي تقدم تشجيعا على الانجاب كما يحدث في العديد من الدول الاوروبية ..
غير أنه من المفارقات العجيبة أن تكون الامة العربية من اكبر الامم الزاخرة بقواها الشبابية ، في حين نجدها أمة عاطلة عن الفعل ، وعاجزة عن التغيير وصنع التقدم الذي يمكن ان يكون فيها بسرعة البرق  مقارنة بواقعها الراهن وبطاقاتها الشبابية الكامنة .. فالشباب هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " أوصيكم بالشباب خيرا ، فإنهم أرق أفئدة ، إن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فحالفني الشباب ، وخالفني الشيوخ " .
ولعل مثل هذا الحديث الى الشباب العربي يكون مطلوبا ومفيدا في مثل هذه الفترة الحرجة من تاريخ الامة العربية التي يؤخذ فيها شبابها غيلة وغدرا بعيدا عن دوره ومواقعه ، حيث يتحول على أيدي القوى الظلامية الغادرة الى معـول للهدم والتدمير الذاتي ، بدل أن تكون سواعدهم آداة  للبناء والتشييد الذي تحتاجه أمتهم  ..
وهكذا يحتاج مجتمعنا الى حديث خاص ، تتجه مضامينه لتحرير الارادة ، وتبعث على الثقة في الانسان العربي للنهوض بالامة العربية مثلما نهضت كل الامم التي عاشت واقعا مأساويا مفزعا ، وعانت من الصراعات والحروب والدمار  والتخلف والاحتلال والهيمنة والاذلال .. لكنها استطاعت ـ جميعا ـ الخروج من محنتها ومعاناتها حينما آمنت بامكانياتها ، وعوّلت على قدراتها ، فقامت بالمراجعات الجذرية لتراثها الانساني ، وخرجت الى فضاء العقل الرحب ، لتعيد النظر في جميع المسلمات ، ولو اقتضى بها الأمر الى ازاحة اللثام عن " المقدس " الذي صنعه الانسان نفسه في تلك المجتمعات خلال القرون الوسطى وجعل له سياجا محكما يشل به قدرته على التفكير والخلق والابداع .. وهكذا شهدت المجتمعات الاوروبية منذ القرن الثامن عشر حركة فكرية نشيطة ، وتغييرا اجتماعيا شاملا ، ساعد ـ في النهاية ـ على قيام الحركات القومية بكل خصوصياتها ، وتناقضاتها في تلك المرحلة ، حيث كانت مدافعة على حق شعوبها في الداخل ، وحاملة في نفس الوقت لتلك النزعات الاستعمارية الجارفة في الخارج .. وهو ما أفرز ـ في المقابل ـ ظهور الحركات القومية المقاومة للهيمنة الاستعمارية في الدول المستعمرة ..
وبقطع النظر عن التفاصيل ، والأساليب ، والشوائب التي صاحبت مسيرة الشعوب الاوروبية  بسبب الصراعات السياسية ، والسباق المحموم نحو السيطرة وبسط النفوذ التي تقودها قوى مهيمنة في تلك الدول ، فان الحركات القومية تبقى دوما صانعة التقدم في أي أمة ، وهي صاحبة الدور الرّيادي والقيادي للنهوض بها نحو أهدافها المشروعة  في الاستقرار والوحدة التي يكتمل بها وجودها ، ويستمر بها تطوّرها  .. فحين تضعف الحركة القومية في أي أمة تتخلف الأمة بالضرورة .. تلك هي الحقيقة التي تغيب على الكثيرين .. وهذا يعني أن الحركة القومية في أي مجتمع هي بمثابة جهاز المناعة الذي يدافع عن وجوده وسلامته .. وبقدر ما تتقدم الحركة القومية وتتجاوز عجزها وسلبياتها تتعافى الأمة .. طبعا هذا الكلام يمكن اختباره في الأمم المتقدمة والمتخلفة على حد السواء .. فإذا نظرنا نظرة بسيطة الى السياسة والأوضاع الدولية منذ الحرب العالمية الأولى الى الآن سنجد أن أغلب القوى في الأمم الأخرى قومية في علاقتها بأوطانها بقطع النظر عن  المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنادي بها وتعمل على تحقيقها في الواقع القومي .. لهذا لا نستغرب حينما نجد أغلب الزعماء السياسيين والأحزاب الحاكمة والمعارضة في كل الأمم وهي تتنافس وتتصارع وتتسابق الى الحكم من أجل تحقيق المصلحة القومية لتنال رضا شعوبها وناخبيها ... هكذا رأينا أكبر الأحزاب الليبرالية في أوروبا وأمريكا وهي تدافع على المصلحة القومية لدولها التي من خلالها تسعى لتحقيق مصالحها .. وهكذا رأينا القادة الكبار من الماركسيين أمثال لينين وكثير من القادة الماركسيين من بعده وهم يطوّرون الفكر الماركسي الأممي بالأساس ليصبح قوميا .. وهكذا رأينا أيضا الأحزاب الإسلامية الكبرى في تركيا واندونيسيا وإيران ، والأحزاب المسيحية في أوروبا .. وغيرها تدافع عن مصالح أممها في هذا العالم المقسم قوميا ..... حتى الحركة الصهيونية التي تستند الى خلفية دينية عنصرية نجدها ترفع شعار " الوطن القومي لليهود " ، ولا تعبأ بتشويه الواقع القومي التاريخي وهي تزور التاريخ وتطوّع الخلفية الدينية بالقوة لتجعلها على مقاس العصر .. !!
وحينما ننظر الى الامم المتقدمة في اوروبا وآسيا وأمريكا ، سنكتشف أنها وصلت الى تلك المرحلة رغم العصور المظلمة التي عاشت فيها طويلا ، ورغم التخلف الذي شمل  فيها كل نواحي الحياة ، ورغم الأخطاء الكبرى ، والنكبات العارضة التي صاحبت مسيرتها .. بفضل تحررها من عقدة الذنب والخوف ومواجهتها لأخطائها بشجاعة ، واعتمادها على التفكير العلمي بعيدا عن الأوهام والخرافات التي سادت مجتمعاتها قرونا طويلة ..

في النهاية سنجد أنها نهضت حينما افرزت حركات قومية قادت مسيرتها ومعاركها ـ اولا ـ نحو الوحدة القومية ، وثانيا نحو البناء والتغيير  ..
ورغم هذا الانجاز المهم في تاريخ الحركات القومية عامة ، فانها  تبقى جميعا وليدة عصرها وظروفها .. أي انها تحمل جينات العصر الذي ولدت فيه .. فضلا عن بصمات القادة التاريخيين لتلك الحركات زمن نشأتها .
ففي الولايات المتحد الامريكية بدأت الحركة القومية نضالها ضد الاستعمارالبريطاني والفرنسي والاسباني ، حيث كانت الدول الاروبية تسيطر على مواقع مختلفة من القارة الجديدة .. ومع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجدت الولايات الامريكية نفسها على وشك الدخول في حرب اهلية ، لم يجد الرئيس الجديد ابراهام لينكون بدا من خوضها ضد الانفصاليين ، ثم انهاء حالة الانقسام بتعليق قوانين الرق واعادة الوحدة بالقوة سنة 1865 .. وفي المانيا كما في ايطاليا كانت حالة التشتت والضعف تهيمن على شعوبهما ، بسبب الهيمنة الخارجية من طرف الامبراطورية النمساوية المجرية من جهة ، ومن طرف الامبراطورية الفرنسية من جهة ثانية  ، الا ان الحملات النابليونية التي داهمتهما معا ، كان لها الاثر الايجابي في ايقاض الشعور القومي في نفوس الايطاليين والالمان مما أدى الى بروز الحركات القومية التي قادت مسيرة كل منهما نحو الاستقلال والوحدة التي تحققت فعليا في المانيا اثر هزيمة نابليون سنة 1813 ، غير ان ايطاليا التي تخلصت من الهيمنة الفرنسية اثر الهزيمة ، بقيت تعاني من الهيمنة النمساوية ، حيث قال مستشارها في مؤتمر فيانا : " ان كلمة ايطاليا ما هي الا مصطلح يعبر عن مكان جغرافي فقط " .. فتأخرت الوحدة الايطالية الى سنة 1871 .. 
وحتى الحركات الماركسية في روسيا والصين المعادية ايديولوجيا للقومية كانت قومية بالممارسة حينما سعى كل طرف منها لتوحيد أمته ، وقيادة مسيرتها نحو التقدم العلمي والتكتولوجي الذي كانا يزاحمان فيه أمما اخرى مثل الولايات المتحدة .. بل أن هاتين الدولتين وصلتا الى حد النزاع المسلح بينهما ، حينما وقف كل نظام بجيش دولته الشيوعية مدافعا عن حدود ومصالح دولته القومية في مناسبتين ، الأولى سنة 1929 والثانية سنة 1969 وهي من أكثر الاحداث طرافة في تاريخ الماركسيين الذين وقفوا عاجزين امام النزعة القومية التي تحركهم وهم يهاجمونها .. وهو ما أدى في النهاية الى تطوير المفاهيم الماركسية للقومية ، ومراجعة مواقفها من الحركات القومية الصاعدة خلال النصف الاول من القرن العشرين وبعده حتى اصبحت بعض الاحزاب الماركسية في الوطن العربي أحزابا قومية بامتياز ..
وكذلك الشأن بالنسبة للحركة القومية التركية التي انطلقت بخلفية علمانية في عهد اتاتورك ، وأصبحت دينية اسلامية في العقدين الاخيرين ، ونفس الشئ تقريبا حدث بالنسبة للحركة القومية الايرانية التي بدأت علمانية  مطلع القرن الماضي  لتتحول الى الخلفية الدينية  بعد الثورة الاسلامية سنة 1979 .. وقد عملت ولا تزال تلك القوى في الأمتين التركية والايرانية ، في جميع مراحلها ، وبجميع هوياتها السياسية ، على تثبيت وحدة شعوبها وخدمة مصالحها حتى وان كان ذلك على حساب مصالح شعوب وأمم أخرى ، وأبرزها في الحاتلتين الامة العربية التي تعرضت الى التتريك والتفريس ، ومحاولات الهيمنة ونهب الثروات ، والاحتلال الذي ادى الى سيطرة تركيا على لواء اسكندرون في شمال سوريا سنة 1939 بطواطئ فرنسي  .. وسيطرة ايران على الاحواز العربية سنة 1925 بطواطئ بريطاني  ، ولا يزال التدخل متواصلا من الجهتين الى اليوم ...
وهكذا ، مهما كانت الشوائب التي تلحق بالحركات القومية ـ والحركة القومية العربية واحدة منها ـ  فان القومية رابطة انسانية راقية ، ستبقى دائما هي الحجة على القوميين أينما كانوا ، وليس هم حجة عليها على الاطلاق ..
ومثلما تبقى للاديان مضامين انسانية نبيلة ، ومبادئ ومثل ، لا يغير منها ذلك التشويه الذي شهدته الديانة المسيحية على أيدي رجال الدين في اوروبا خلال القرون الوسطى ، أو الذي يشهده الاسلام اليوم على أيدي قوى متسترة بالدين في الوطن العربي  ، فان للحركات القومية بشكل عام صيرورة واتجاه ومضامين انسانية تتأثر بمن يحملها لكنها تتغير باستمرار للتخلص من تلك الشوائب والادران التي تعلق بها خلال مسيرتها ، وترتقي تدريجيا في كل عصر ـ والحركة القومية العربية في المقدمة منها ـ الى المراتب العليا وهي تقود شعوبها ، نحو التقدم والرخاء والتعاون والاستقرار والمحبة والسلام ، مسترشدة بكل المضامين الانسانية التي نادت بها الاديان السماوية جمعاء ، وبكل التجارب الانسانية ، والتراث الانساني الزاخر يالأفكار والقيم النبيلة .. متجهة نحو الفضاء الرحب للانسانية قاطبة ، الذي يتجاوز كل الحدود والقيود ..
ولكن أين العرب اليوم من كل هذا ، وأين أنتم أيها الشباب العربي من قضايا المستقبل ..؟؟
فها قد ضاقت بكم أوطانكم الصغيرة ،  وحصرتكم الاقليمية في سجن مقيت ، فلم يعد أمامكم الا الفضاء القومي الرحب الذى يأخذكم الى حضن امتكم المجزأة ، شعبا وأرضا وامكانيات ..
ضاقت بكم وضيّقت عليكم الرجعية  سبل الحياة ، وهي التي تستحوذ على ثرواتكم وتستأثر بها للعائلة والقبيلة والحاشية ، بينما أنتم تتخبطون في الفقر والتهميش والفاقة والجوع والمرض ..
ضاقت بكم الحياة وغابت عنكم الحيلة فاصبحتم تهربون الى الياس وتختارون الهجرة والموت والانتحار وأنتم اصحاب الثروات الهائلة المادية والبشرية التي تقدرون بها صنع التقدم والرخاء لكم وللاجيال القادمة ..
ضاقت بكم ايها الشباب الثائر لان الرجعية والصهيونية والقوى الطامعة في ثرواتكم تتحالف ضدكم وتضللكم لكي تفقدوا البوصلة وتدمروا أوطانكم بأيديكم حتى لا يبقى غير ما يريدونه لكم  ..
ضاقت بكم الاوطان وانحسرت حولكم امكانيات العيش والتطور ، وما ينبغي أن تضيق بكم السبل .. وأمامكم فضاء امتكم الواسع ، القادر وحده على انتشالكم من النفق الذي وقعتم فيه ..
فالدولة الإقليمية في الوطن العربي إن كانت غنية مثل دول الخليج وذات ثروات طائلة فهي عاجزة أولا ـ عن تنمية تلك الثروات بالطرق العصرية التحويلية الصناعية ، فلا تجد سوى الحل الأسهل وهو استنزاف ثرواتها وبيعها خاما في الأسواق العالمية مكتفية بالاستهلاك السلبي الذي يؤدي فقط الى استنزاف الثروة دون تنميتها .. وهو ما يجعلها عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي فتقع تحت الهيمنة الاقتصادية  ..
وهي عاجزة ثانية ـ عن حماية حدودها وعروشها وثرواتها فلا تجد سوى أن تلوذ داخليا بالحماية القبلية والعشائرية لتحول الوطن بأكمله الى مزرعة خاصة للعائلة الحاكمة .. ثم تختار بطواعية طرفا خارجيا يحميها ويقتسم معها ثرواتها ، ثم يفتعل لها مشكلات واحتياجات وضرورات تدفعها لاختيار السياسات التي يراد لها ان تختارها بكل " ديمقراطية " عن طريق النقاش والحوار والتصويت البرلماني والطعن في الأحكام .. وكل الآليات اللازمة لتكون القرارات في أحسن صورة ديمقراطية ..

وان كانت الدولة الإقليمية فقيرة  و" ديمقراطية " مثلا ، فهي تزداد ـ يوما بعد يوم ـ نموا في السكان ، وتزايدا في الاحتياجات ، وتضاءلا في الثروات ، وهو ما يزيدها عجزا عن إيجاد حلول جذرية لمشكلات التنمية ، حتى تصل ـ في ظل هذه التراكمات ـ الى قمة العجز الذي يدفعها بالقوة الى التداين الخارجي والخضوع للاملاءات والتدخل المباشر في سياساتها واختياراتها حتى تفقد نهائيا استقلالية قرارها الوطني وتتحول الديمقراطية التي تظهر بعض مظاهرها في الانتخابات والمنابر الاعلامية والتظاهر السلمي وغيرها ، الى مجرد واجهات تتوقف على الشكل الفارغ دون مضامين حقيقية اقتصادية واجتماعية .. وهكذا في ظل هذا المناخ الديمقراطي الزائف العاجز عن تلبية احتياجات الناس المتزايدة باستمرار ، ينجح الفاسدون في استدراج أغلب فئات الشعب الى مواقعهم ليتسرب الفساد وينتشر على أوسع نطاق جاعلا من الهامش الديمقراطي وسيلة لوأد الديمقراطية ذاتها ... وتصبح الديمقراطية مجرد لعبة مسلية بيد اللوبيات المرتبطة اقتصاديا وماليا واجتماعيا بالدوائر الرأسمالية العالمية ..
ضاق بكم الافق ولن تجدوا فرصا كاملة للتشغيل ، ولا امكانيات للنهوض العلمي ، والصناعي ، والتكنولوجي ، الذي تطمحون اليه في ظل هذه الدويلات القزمية العرجاء التي لا تقدر على الوقوف الا متكئة على أكتاف الاجنبي ، ولا تقوى على التنفس الا اصطناعيا ، ولا تستطيع البقاء الا في ظل الحماية المشروطة ..

ضاقت بكم هذه الدويلات الفاشلة وقد استنفذتم فيها كل امكانيات التقدّم ، فلن يجديكم الاحتجاج ، ولا الثورات ، ولا تغيير السياسيين والحكام ، دون الاهتداء الى البعد القومي لمشاكلكم ، فالحصر الاقليمي هو الذي يخنقكم ، ويحول دونكم ودون التوظيف الكامل للامكانيات القومية المتاحة في أمتكم .. وهكذا  ستتواصل الحيرة ، والضياع ، والمعاناة ، والتخلف ، حتى تدركوا ما أدركته الشعوب في امريكا منذ القرن الثامن عشر ، وفي مجمل اوروبا والعالم خلال القرنين الماضيين ...

فلا يخدعنكم ايها الشباب العربي ادعاء من يدّعي الباطل ويروج الاكاذيب ، وانظروا ماذا أنتم فاعلون بمصيركم ومستقبلكم في هذا العصر .. عصر التكتلات الكبرى التي لا مكان فيها للصغار الا تابعين صاغرين  ..
فاذا قيل لكم ان القومية مناقضة للاسلام فهو باطل .. لان المسلمين الاوائل الذين حملوا راية الاسلام ، هم الذين وحّدوا هذه الامة التي لم تكن موجودة قبل الفتح .. وهذا فضلا عن الجهل والخلط بين الرابطة القومية والرابطة الدينية ..
 فالاولى علاقة انتماء الى وضع تاريخي متطور ومتغير أبدا ، بدأ بالاسرة ثم بالعشيرة والقبيلة والامة وهو في نمو واضافة تتحكم فيه قوانين وظروف ، بعضها سابق على وجود الناس في مرحلة معينة من مراحل التطور الانساني ، وبعضها الآخر يساهمون هم في صنعه بأنفسهم ، فيحدّد مصيرهم ومصير مجتمعهم الذي ينتمون اليه في تلك المرحلة ، فهي علاقات خاصة بكل مجتمع على حدة ..
والثانية علاقة انتماء الى دين سماوي ، ان كان الاسلام فهو عالمي موجّه الى الناس كافة دون اعتبار لتلك الخصوصيات الانسانية المتعلقة باللغة أو بالحضارة أو بالتاريخ ، بل بالاختيار الحر الذي جعله الله اسلوبا وحيدا للانتماء الى الاسلام أو الى غيره حتى ولو كان الكفر بجميع الاديان ..
واذا قيل لكم ان العروبة مناقضة لهوياتكم المحلية فهو وهم ، لأن الهوية القومية هي مجرد دائرة من دوائر الانتماء التي تجمع الناس فيلتقون في بعضها ويختلفون في بعضها الآخر .. كالانتماء الجغرافي ، والانتماء الحزبي ، والاسري والقبلي ، والديني ، وهكذا .. فمثلما  يكون الانسان منتميا الى قرية وديانة ما ، يمكن ان يكون غيره منتميا الى نفس القرية ولكن الى ديانة أخرى .. دون أن يكون هناك  تعارض أو تناقض بين الانتماءات ..
وهذه الدوائر لا تهم الناس في الأمة الواحدة فحسب ، بل تتعدّاهم - احيانا - لتشمل الانسانية جمعاء .. فمثلما يكون الانسان عربيا  مسلما من قرية ، ومن قبيلة ، ومن أسرة ما ، يمكن أن يكون غيره مسلما مثله لكنه من أمة أخرى ، يختلف عنه في جميع الخصوصيات والمشاكل والطموحات التي يحملها ، دون أن يكون في ذلك تعارضا أو تناقضا بين تلك الانتماءات المتعدّدة للناس جميعا ، أو للانسان الواحد الذي يلتقي مع غيره في بعضها ويختلف معه في بعضها الآخر .. وفي هذا توضيح للدكتور صبحي غندور يقول : " للإنسان ، الفرد أو الجماعة ، هويّاتٌ متعدّدة ، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى ، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها ، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها ، والتي فيها ( أي الدوائر) " نقطة مركزية " هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية . هكذا هو كلّ إنسان ، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة ، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره : من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء " .
وهكذا فان الاصرار على حصر الهوية  في صفة واحدة ( الاسلامية مثلا ) هو جهل قبل كل شئ بنواميس وقوانين الحياة التي جعلها الله على هذا الوجه ، وعلى هذه الصورة من الاختلاف .. حيث يوجد تعدد بالضرورة حيثما وجد اختلاف ، والاختلاف ثابت باقرار من الله عز وجل حينما قال في كتابه الكريم : " وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون"(يونس ـ 19)..  
واذا قيل لكم أن القومية والعـروبة مناقضة لحضارات الشعوب القديمة فهو باطل ، لأن القومية اضافة الى ، وليس انتقاص من وجود سابق ، وهي بعد ذلك مرحلة من مراحل التطور الانساني الذي يصل فيه الارتقاء  بالعلاقات الانسانية التي يصنعها النضال المشترك بين مكونات المجتمع عبر مسيرتها الطويلة ، الى تجاوز الانتماءات الاجتماعية الضيقة دون الغائها ، وهي بالتالي خطوة تقدمية شجع عليها الاسلام نفسه حينما دعا صراحة الى تجاوز الروابط القبلية الضيقة التي كانت تعيق دعوته ، ليفسح المجال أمام مراحل جديدة أكثر شمولا هي التي ظهرت بعد ذلك في جميع انحاء المعمورة ، وهي الظاهرة القومية التي لم تكن خاصة بشعب معين ، أو بأمة معينة .. وعلى هذا الوجه  فان جميع الشعوب والاقوام التي انصهرت لتصنع الوجود الواحد  والمصير الواحد في الامة الواحدة ، هي شريكة في النضال القومي ، ولها نفس الدرجة من الانتماء الى الامة حتى وان كانت ممثلة في مجموعة صغيرة من المجتمع القومي  ، وهي أيضا جزء من الأمة حتى وان بقيت لها  جميعا أو للبعض منها ، بعض الخصوصيات التاريخية والثقافية المحلية التي تميزها ..
وهكذا فان هذه المشاركة والمساهمة النضالية في صنع المصير القومي يجعل من جميع المراحل التاريخية والخصوصيات الحضارية والثقافية القديمة  ، خصوصيات قومية بالضرورة ..
فالحضارة الامازيغية مثلا ، جزء من الارث الحضاري للامة العربية ، نفس الشيء بالنسبة للحضارة الفرعونية والقرطاجية والفينيقية وحضارات العرب القديمة .. كلها فروع واجزاء من تلك  الحضارة القومية  باعتبار أن الواحدة منها  تمثل تاريخا خاصا لجماعات قديمة اصبح ابناؤها شركاء في الحضارة القومية الجديدة ، وهي الحضارة العربية الاسلامية التي صُـنعت عبر مئات السنين بتلك العجينة المتكونة من جميع المكونات الاجتماعية  التي عاشت بين المحيط والخليج على امتداد تلك  الفترة الزمنية الطويلة وهي تحمل معها جيناتها الحضارية القبلية القديمة التي لاتزال بعض مظاهرها ومعالمها ظاهرة في كثير من المواقع والاقطار في الوطن العربي ، وهي خير شاهد على ذلك الماضي الثري وتلك الروافد التي صنعت حضارتنا القومية الحديثة  ...
واذا قيل لكم أن العلاقات القومية مفتعلة وتعصبية وشوفينية ومرضية فتلك دعوات جاهلة وباطلة ومغـرضة في نفس الوقت ، هدفها أن تحبط عزيمتكم ، وتضعف قوتكم ، وتصرفكم عن الطريق الصحيح الذي يؤدي الى القوة والعزة والتقدم والنصر  .. فهذا ماضي الشعوب أمامكم ، وماضي أمتكم بين ايديكم ، لعل ابرز ما فيه على الاطلاق أن كل الشعوب المتقدمة اليوم هي بالذات التي استطاعت ان تحقق وحدتها  القومية ، وتبني دولتها القوية ، بينما بقيت الأمة العربية ضعيفة متخلفة بسبب تجزئتها ، وتشتت امكانياتها ، وسهولة اختراقها في غياب الوحدة القومية الصمّاء ، حيث كثيرا ما تلعب أجزاء من الامة ، دور الطابور الخامس في بقية أجزائها ، خدمة لأعدائها ، وحفاظا على المصالح الضيقة والامتيازات الفئوية للعائلات الحاكمة ، وهو الواقع المر الذي تعيشه الامة العربية  منذ مطلع القرن العشرين ..
واذا قيل لكم أن الحكام القوميين في الوطن العربي مارسوا الديكتاتورية ، أو تسببوا في الهزائم ، فهي ادعاءات غير بريئة هدفها الوحيد تشويه الحركة القومية من خلال الاساءة الى رموزها لانها ، تطلق الاحكام بعيدا عن سياقها التاريخي من ناحية .. ومن ناحية أخرى لان هذه الأحكام صادرة جميعا عن جهات لا تعرف الديمقراطية فكرا ولا ممارسة ..
ولنأخذ أهم الرّموز القوميين في تاريخ الحركة القومية وهو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ..
ففي اطار السياق التاريخي ، نجد في عصر عبد الناصر على الصعيد المحلي حركتين سياسيتين هما من أكبر القوى السياسية والاحزاب في مصر في ذلك التاريخ ، ونعني بهما : حزب الوفد ، وحركة الاخوان المسلمين .. ولنا في هذا السياق شهادة الدكتور عصمت سيف الدولة الذي قارن فيها ـ من ناحية التقاليد الديمقراطية السائدة في عصر عبد الناصر ـ بينه وبين زعماء تلك الأحزاب المعاصرين له ،  فيقول :
" بالنسبة لحزب الوفد تكرّرت مسالة فصل الأعضاء من طرف القيادة ، حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي العـتـيـد " ..  ويذكر منها العديد من عمليات الفصل الجماعية لأغلب أعضائه : (عشرة من أربعة عشر ) من طرف القيادة بداية من سعد زغلول سنة 1921 وصولا الى زعـيمه مصطـفي الـنحـاس في عام 1932 بعـزل أغلبية الأعضاء ( ثمانية من إحدى عشر ) .. كما يظيف بأن مثل هذه القرارات الفردية قد تكررت العديد من المرات الأخرى بفصل أشهر قيادات الحزب طوال تاريخه .. وهو ما يجعل من هذا " التقليد الاستبدادي "  واحدا من اهم أسباب الانشقاقات التـي حصلـت في الحــزب .. (عصمت سيف الـدولـة ، هـل كان عبد الناصر ديكتاتورا  )   .
أما بالنسبة للإخوان المسلمين فيقول :  "  فمنذ أسس المرحوم حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ، نشأت ونمت على أساس من نظام البيعة والتسليم الكامل للقيادة  ، احتجاجا بقوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا  فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . [النساء : 65 ] . وكان على كل أخ مسلم من أعضاء الجماعة أن يتأكد من صدق ولائه للدعوة بان يسال نفسه عما إذا كان مستعدا لان يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا ما خالف رأيه رأي القيادة ... "

وقد كان في نظر عصمت سيف الدولة ـ  أن " حجة الذين أنكروا على عبد الناصر في عام 1953 ، استـئـثاره بالسلطة كانت حجة داحضة . فقد كانوا يسلمون أمورهم إلى قياداتهم تسليما غير مشروط  وينكرونه على عبد الناصر . بمعنى أنهم لم يكونوا على أي وجه ديمقراطيين ليقيم الشعب وزنا لدعاويهم الديمقراطية . ولقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت تنتهي – كخلاصة – إلى أن يسلّم عبد الناصر السلطة الى الزعيم مصطفى النحاس أو إلى الأمام  حسن الهضيبي ، و لم يكن في ذلك شئ يمت بصلة للديمقراطية . فحتى لو  افترضنا فيهم العدالة فقد كان كل منهم – عند أنصاره – مستبدا عادلا . و لم يكن عبد الناصر ، قائد الثورة  ، اقل منهم أنصارا  .."

ثم اذا كانت حركة الاخوان المسلمين تدافع فعلا عن الديمقراطية ، فلماذا نجدها  تناصب العداء للأنظمة القومية دون غيرها ؟؟
 ألم تكن هذه الحركة موالية لأنظمة رجعية ديكتاتورية في الوطن العربي ؟؟ فان كانت حريصة على الديمقراطية لماذا تعيش بين أحضان الانضمة المتخلفة ديمقراطيا ؟؟
وهل كان النظام السعودي الذي احتضن الاخوان ، و بقية حلفاؤهم  من الأنظمة الرجعية مثل النضام القطري والاردني ، والمغربي والسوداني ، وأنظمة الخليج عامة أكثر ديمقراطية ، وأكثر وطنية وأكثر انجازات من نظام عبد الناصر الذي ناصبوه العداء منذ بداية الثورة ..؟؟
ولماذ قبل الاخوان بالتعايش مع تلك الانظمة وبعضها مثل النظام السعودي العميل  لا يسمح لهم حتى بإلقاء محاضرة قي مسجد ، في حين غدروا بعبد الناصر بتدبير حادثة الاغتيال سنة 1954 ، وهو الذي استثناهم من قانون حل الاحزاب الرجعـية سنة 1953 وسمح لهم بالنشاط الحر .. ؟؟؟
ولماذا عاد جهازهم الخاص يخطط  لمؤامرة قلب نظام الحكم سنة 1965 ..؟؟؟
ثم دعونا أيها الشباب العربي نتأمل رصيد الديمقراطية منتصف القرن العشرين على الصعيد العالمي ، وما هي التقاليد الديمقراطية الموجودة في عصر عبد الناصر الذي يخصّونه وحده بالديكتاتورية  ..
ففي فرنسا التي تعتبر مهد الثورات ، والتي صدرت فيها أولى الدساتير كانت تحكمها الأنظمة الملكية الامبراطورية التي تمثل ظل الله في الارض حتى جاء العسكري ديجول على رأس الجمهورية الخامسة فحكم أكثر من عبد الناصر ، بداية بالوزارة سنة 1944 الى الاستقالة من رئاسة الجمهورية سنة 1969 ، وهو الذي كان يرفض مساواة الجزائريين مع الفرنسيين بمنحهم الحق في الاستقلال ، معتبرا الجزائر مقاطعة فرنسية .. !!
وألمانيا  كان  يحكمها هتلر الغني عن التعريف حتى انتحاره بعد الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية .. وايطاليا كان يحكمها صديقه الحميم وحليفه موسيليني الشهير ، واسبانيا كان يحكمها الجنرال فرانكو الذي بقي في الحكم 39 سنة كاملة ، من 1936 الى 1975 .. وروسيا كان يحكمها ستالين والحزب الشيوعي السوفياتي بمفرده .. ونفس الشئ  تقريبا في الصين التي شهدت الى حدود الامس القريب ما سمي بربيع بيكين سنة 1989 ، وغيرها من دول الكتلة الشرقية ودول امريكا اللاتنية التي كانت تحكمها الانظمة الشيوعية الشمولية التي لا تعترف سوى بديكتاتورية البروليتاريا الخ .. فاين الديمقراطية اذن ..؟ هل هي موجودة عند الشعوب الآسوية والافريقية المتخلفة ، والرازحة تحت نير الاستعمار ، أم عند الانظمة العربية الرجعية  ـ حليفة الاخوان ـ التي لا ترى شعوبها صناديق الاقتراع حتى الآن سوى في نشرات الأخبار ..؟؟
ثم الأهم من هذا كله فان مشروع الحركة القومية غير مشروع الأنظمة  بالتزامها الكامل أسلوب العمل الجماهيري الخالص ، تجاوزا لسلبيات الحكام القوميين وأخطائهم التي حصل بعضها لاسباب تاريخية قاهرة وبعضها الآخر كان ناتجا عن افراطهم في التعويل على مؤسسات الدولة الإقليمية الفاشلة .. وهذا من ناحية ، ومن أخرى ، فان الحركة القومية الاصيلة الموحدة تنظيما وامكانيات غير موجودة في الواقع العربي وان ما يروّجه أعداء المشروع القومي بأن التجارب القومية قد فشلت جميعا ، وأن هذا المشروع لم يعد له صلاحية البقاء والاستمرار .. هو قول عار من الصحة ، وبعيد عن الموضوعية والدقة العلمية .. لأن الذي فشل هو مشروع الدولة الإقليمية حتى وان كان يديرها القوميون  .. وهو فرق كبير وشاسع بين أن يكون القوميون يعملون على تحقيق المشروع القومي بأساليب ووسائل اقليمية فاشلة بطبعها وطبيعتها ، وبين عملهم على تحقيق المشروع بالوسائل العلمية الغائبة في الوقت الراهن : الحركة القومية الواحدة ، والدولة القومية النواة التي تضع جميع إمكانياتها والإمكانيات القومية المتاحة لخدمة ذلك المشروع ..
وهو ما يجعل كثير من التحاليل في الواقع العربي مقلوبة على رأسها ، فالفشل في الواقع الإقليمي ، وواقع التشتت والتشرذم والمصالح الإقليمية والخيانات الظاهرة والخفية والتضليل .. وغيرها  المؤدية الى الخيبات ، والهزائم والتخلف العربي ،  محسوبة ـ اما جهلا او بسوء نية ـ  على  الحركة القومية الغير موجودة أصلا في الواقع الا في شكلها الاقليمي الذي هو جزء من المشكلة ، وحتى الأنظمة التي تتحدث بخلفيتها القومية لم تكن تمثل الدور القومي المطلوب بوسائله وامكانياته فهي أيضا جزءا من المشكلة ذاتها .. اذ في الواقع لا توجد جهة قومية حقيقية قائمة الذات تتحمل مسؤولية ما يحدث ، ولذلك فان كل الخيبات الحاصلة في الواقع العربي تتحمل مسؤوليته القوى الاقليمية دولا وجماعات وأحزابا التي تتعامل مع الواقع القومي والقضايا القومية بمنطق المصلحة الاقليمية الانتهازية .. وهذا هو الواقع .. وهو دليل على فشل المشاريع الاقليمية في الواقع العربي التي وصلت الى طريق مسدود .. والفشل الاقليمي في الحقيقة ، انتصار للمنطق القومي ودليل على صحة هذا الطرح الذي يشير منذ البداية الى عجز الاقليمية  وليس العكس ...

وأخيرا ، اذا قيل لكم ـ أيها الشباب العربي ـ ان الدعوة القومية قد تجاوزها الزمن وحالفها الفشل فهذا قول جاهل ، وهذه أمامكم كل المجتمعات في العالم على صورتها القومية ، ودولها ، وحدودها ولغاتها القومية ، وتاريخها وحضاراتها المتميزة قوميا .. وما فشل المحاولة الاممية في روسيا بتوحيد القوميات المكونة للاتحاد السوفياتي سابقا ، والتي تجاهل فيها الماركسيون تلك الفوارق والخصائص القومية بين الشعوب ، التي عادت الى وضعها الطبيعي بعد عقود طويلة من المحاولات الفاشلة في طمس هوياتها ، الا دليلا على دور العامل القومي وتاثيره في صنع التقدم والاستقرار ..
وأمامكم ايضا التجربة الالمانية التي ظهر خلالها اصرار الشعب الالماني على الوحدة ، فتمكن بارادته وعزيمته  الصلبة من اسقاط سور برلين ، وتحقيق الوحدة القومية بين اجزاء الألمانيتين سنة 1989 .. أما المحاولة الاممية الجارية حاليا في اوروبا لتوحيد الامم الاوروبية  فهي في طور التأسيس وقد يلزمها أكثر من قرن لانجاز تلك المهمة التاريخية التي ستؤدي الى تحوّل المجتمعات الاوروبية الى مجتمع واحد اذا توفرت لها الظروف اللازمة لانجاز هذا التحول عن طريق التفاعل الحر والانصهار التدريجي بين مختلف الشعوب ، وهو ما يبدو ممكنا في ظل القيم السائدة حاليا في تلك المجتمعات ..
لذلك فان الوطن العربي المقسم حاليا الى ثلاثة وعشرين دولة اقليمية ـ واذا استثنينا المجتمع الكوري ـ فهو الوحيد في العالم ، الذي يعاني من المشاكل العميقة والثقيلة للتجزئة .. بعضه واقع تحت الاحتلال ، وبعضه الآخر تحت الاستيطان ، وأجزاء منه منهوبة ، وأجزاء أخرى خاضعة للقواعد العسكرية الأجنبية ، وتتحكم في  جميع أقطاره أنظمة رجعية مستبدة تستأثر بثروات الامة وتبدّدها دون رقيب  .. وهو ما يزيد مشاكلها تعقيدا  في ظل تفشي الفقر والبطالة والجهل وضعف الامكانيات ، وسيطرة العقلية المتخلفة لرجال الدين والحركات الدينية التي زادت بفهمها الرجعي للاسلام وخلط الاولويات ، في تأجيج الصراعات ، وإشاعة  الفوضى باسم الثارات والاحقاد الطائفية والمذهبية المتعفنة ، تساندها في هذا وتسندها القوى الخارجية المعادية ، والأنظمة الرجعية في الداخل .. وهو ما يجعل حجم الاستهداف للامة العربية ومن ورائها المشروع القومي التي هي بحاجة اليه ، أمر  لا مثيل له في أي أمة على وجه الأرض ..
فكل الأحداث والوقائع التي شهدها الوطن العربي منذ قرنين أو أكثر تؤكد بما لا يترك مجالا للشك أن المستهدف هو الكيان العربي وليس الإسلام في حد ذاته .. فالدين الإسلامي في أماكن عديدة ومنها أوروبا بالذات ، لا تتهدده أي أخطار ، لأنه لا يمثل خطرا بطبيعته الدينية المعروفة المتسامحة ، والمتعايشة مع كل الثقافات والأديان .. إنما المستهدف فعلا هو الوجود القومي العربي الذي يحمل بطبيعته ، وفي ذاته كل مقوّامات القوة المانعة لنهبه واستغلاله ككيان يزخر بالإمكانيات والثروات والمواقع الإستراتيجية في العالم .. أما الدليل فهو استخدام " المتدينين " أنفسهم من قوى الاسلام السياسي ، بجميع فئاتهم ، دولا وجماعات ، في استهداف الوجود القومي العربي والذهاب به الى ما هو أخطر من التجزئة وهو التفتيت الذي يقوم على تفكيك النسيج الاجتماعي الموحد لكيانات التجزئة ...
فطوال السنوات السابقة على 2010 ، كان العالم يتصوّر أن الدولة المستهدفة مستقبلا بعد غزو العراق هي إيران .... وقد تبين غباء كثير من المحللين ... وكثير من السياسيين العرب أساسا ... حتى شاهدنا بأم أعيننا اتجاه التخطيط لتدمير الوطن العربي قطرا قطرا من خلال براعة الاطراف التي تستهدفه في التقاط اللحظات التاريخية المساعدة على تحقيق أهدافها حتى وان لم تكن من صنعها ، مستغلة في نفس الوقت حاجة الامة الى التغيير بكل اشكاله ومضامينه التحررية .. وهكذا كانت ليبيا هي المحطة الثانية ، ثم سوريا .. واليمن .. ولم يكن الاستهداف يتجه أبدا الى تلك الكيانات القطرية التي تمثل الحاضنة الرجعية للدين سواء داخل أقطارها أو خارجها .. بل كانت هي ذاتها آداة تدميرية لما تبقى من دعامة ومقوّمات القوة للكيان العربي المستهدف والمقاوم منذ عقود ..

المشكلة اذن ، في القوة العربية مهما كان شكلها ومصدرها ، وأسبابها .. قوة الوحدة ، والثروات ، والامكانيات البشرية ... تلك هي المشكلة أولا وأخيرا .. 
فالمشروع القومي يهدف الى اعادة توحيد أقطار الامة المجزئة ، وتحريرها من الاحتلال واغتصاب الارض المسلوبة في فلسطين وفي غيرها من المواقع المحتلة ، ويهدف ايضا الى تحريرها من الهيمنة والتبعية الواقعة عليها في ظل الاساليب المتطورة للاستعمار الجديد ، كما يهدف الى بناء مجتمع قومي تتوفر فيه فرص العيش الكريم  في ظل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الحقيقية للانسان .. ولذلك ظل المشروع القومي مستهدفا على الدوام ، من كل القوى التي يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها ..
مستهدف من طرف الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية الغاصبة في فلسطين .. ومن طرف قوى الاستغلال والنهب الرأسمالي في العالم ممثلة في دولها الاستعمارية .. ومستهدف من طرف الأنظمة الرجعية والعائلات الحاكمة الناهبة للثروات في الداخل ممثلة في الدول الاقليمية ، ومستهدف أيضا من طرف القوى الظلامية التي بات مشروعها يتقاطع مع كل الاطراف الاخرى في استهداف الحركة القومية المعبر الحقيقي عن طموحات الامة  في التحرر والتقدم والوحدة .. 
وفي ظل هذه التحديات ، لا يمكن أن يصلح حال الامة دون قيام الحركة القومية الواحدة التي تقود خطاها  نحو التحرّر النهائي والوحدة وإقامة المجتمع الديمقراطي العادل .. وعندها ستختفي تلقائيا تلك الطبيعة التي تميز الحركة القومية في سعيها الى الوحدة ، لينحصر دورها ونشاطها بعد ذلك في مجالات التنمية والحريات وكل ما يحتاجه المجتمع العربي الموحّد ، لنموّه وتقدمه ونهوضه على غرار ما يحدث حاليا في كل المجتمعات ..
غير أن الامة العربية لن تنهض أبدا ، ما لم تتوحّد .. ولن ينهض في المقابل أي قطر من أقطارها منفردا مهما  كان حجم الارادة الوطنية المتوفر لقياداتها ، مثلما حدث للعراق ، وستبقى تلك الدول الاقليمية  مستهدفة ما لم تقبل بالخضوع لمشيئة أعدائها ، فترضى بالعيش ذليلة تحت الهيمنة الأجنبية ، وترضى بالاحتلال والصهيونية و نهب الثروات ، أما اذا أرادت العكس ، فانها ستتعرض للحصار والعزل ، والعدوان ليتم ضربها وتمزيقها تحت أي ذريعة مثلما وقع لليبيا وسوريا باسم الديمقراطية ..
وهي لن تتوحد  أبدا الا حينما تفرز من بين صفوفها حركة قومية ديمقراطية ، منظمة ، تقود النضال القومي ، وتقسّمه الى مراحل ، وأهداف ، وخطط .. وقد تدوم تلك المسيرة عقودا طويلة .. اذ أن تجربة الثورات العفوية منذ سنة 2010 ، وما صاحبها من أحداث مأساوية في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين ، ثم ما تعرضت له الثورات في تونس ومصر من انتكاسات ، قد اثبتت صحة المقولات الداعية الى قيام حزب قومي جماهيري  يمارس دوره الطليعي الى جانب القوى الوطنية في قيادة الثورات ، ثم يتولى معها حراستها بافضل ما يملك من الوسائل ، حتى يصل بها الى اهدافها العظيمة في الحرية ، والعدالة الاجتماعية ، والديمقراطية الشعبية ، التي تمكن الشعب من تحقيق آماله  وطموحاته ..

فاذا كانت الحركة القومية العربية ـ ايها الشباب العربي ـ متخلفة ديمقراطيا ، خلصوها من تخلفها .. واذا كانت الحركة القومية العربية ممزقة ، ومشتتة ، عليكم بتوحيد صفوفها على قاعدة الثوابت والاهداف القومية الكبرى .. في اطار الممارسة الديمقراطية ، والالتزام بشروطها الملزمة ..
واذا كانت الحركة القومية العربية عاجزة عن تحقيق أهدافها الى حد الآن ، فلأنها تحتاج الى جيوش من المناضلين الاشداء القادرين على شق الطريق نحو المستقبل بكل عزم وثبات ، بمثل ما يتحلى به الشباب على وجه التحديد ، ولأنها تحتاج الى امكانيات قومية لن تتحقق لها الا بوحدة التنظيم على المستوى القومي ..
أما اذا اخترتم غير ذلك فمعناه استمرار التخلف والمعاناة والضياع ... حتى تأتي أجيال بعدكم تصحح الأخطاء .. ورغم ان ذلك سيزيد في كلفة التخلف الذي ستستمر فيه الامة .. لكنها ستبقى صامدة على اي حال .. فالامة العربية أمة مكتملة التكوين .. ولن يقع لها أبدا ما وقع للهنود الحمر الذين داهمهم الغزو الاوروبي في المراحل القبلية الأولى ، السابقة على التكوين القومي ، مما جعلهم ينصهرون ـ طوعا أوكرها ـ في المجتمع القومي الجديد ، حتى وان بقيت منهم بعض الجماعات تحتفظ ببعض الخصوصيات القبلية القديمة .. وهنا نختم بتلك المقولة الشهيرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر :

"  انني اؤمن ايمانا قاطعاً انه سيخرج من صفوف هذا الشعب ابطال مجهولون يشعرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة " ..
وقال أيضا : " إن القومية العربية هي التي خلقتني لست أنا الذي أثيرها بل هي التي تحملني ، انها قوة هائلة ولست الا إداتها المنفذة ولو لم أكن موجودا لوجد غيري، واحد ، عشرة ، ألفا يحلون محلي . ..ان القومية العربية لا يمثلها رجل واحد أو جماعة من الرجال . انها لا تتوقف على جمال عبد الناصر أو أولائك الذين يعملون معه . انها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم مشعل القومية . أنها تيار لا يمكن مقاومته ، ولا تستطيع أية قوة في العالم تدميره طالما احتفظ  بثقته في نفسه .. " .

والله ولي التوفيق ...


( القدس ) .





***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق