الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (29) .
ضرورة
واحدة أم ضرورات متعدّدة ..؟؟
نسمع كثيرا منذ
سنوات ، عن حزب الضرورة ، ومرحلة الضرورة .. وتكتيك الضرورة .. والمقصود هو مواجهة
الواقع الاقليمي بأساليب وأشكال تنظيمية وقتية حتى قيام الحركة العربية
الواحدة ، وهو أسلوب مبرر لدواعي مفهومة .. الا أن هذا الاسلوب لا يكون ضرورة ـ بالنسبة لاي حزب اقليمي داخل الحركة
القومية ـ الا اذا كان جادا في تجاوز تلك الضرورة من خلال بحثه الدائم والمتواصل
عن بدائل يفك بها أسره من الحصر الاقليمي ، ولو من خلال قنوات بسيطة يغير بها شكله
وصورته الاقليمية ، حين يعبر عن ارتباطه الدائم بفضاء امته الواسع ، وجماهيرها
العريضة وقضاياها المصيرية .. أما بالنسبة للاحزاب التي تنكفئ على نفسها ، وتستسلم للواقع ، وتعتبر ان مهمّتها تنحصر في
الوصول الى السلطة ، ثم تغير خطابها واساليبها ، فتعطي الاولوية لكل ما هو اقليمي
، فهي ابعد ما يكون عن أحزاب الضرورة .. وهو ما يعني باختصار ، أن مصطلح الضرورة
لا يصح الا على خلفيته القومية ..
ثم ان المتغيرات
التي طرأت على الواقع العربي تجعل من تطويرالاساليب ضرورة لازمة بالنسبة للحركة
القومية .. ولعل ذلك يشمل كل الجوانب المتصلة بالواقع الذي تمارس فيه نشاطها ،
سواء في علاقاتها الداخلية او في علاقاتها بمن حولها من جميع مكوّنات المجتمع .. وهو
ما يضعنا ـ من جديد ـ وجه لوجه مع العنوان الذي انطلق منه الحديث : " الحركة القومية بين دعاتها وأعدائها
" .. ثم نسأل من هم أعداؤها حقا ..؟؟
ولعل المبرر الاول لهذا السؤال هو الكشف عما يثيره
الجاهلون من شبهات ومغالطات حول أسباب الخلاف بين الاطراف السياسية في المجتمع التي
تصل في بعض الاحيان الى درجة العداوة القصوى ، لتصبح الايديولوجيا ـ في نظر البعض
ـ سبب البلاء ، الذي يثير كل الخلافات الحادة والصراعات .. والواقع فان
مثل هذا الاعتقاد يقوم لدى هؤلاء على الجهل المركب بطبيعة العلاقات الاجتماعية ،
التي تحكمها منذ البداية سنة الخلق القائمة على الاختلاف في المقدرة الجدلية بين الناس .. فيكون ـ بالضرورة ـ الفكر الذي تقوم وظيفته على التفكير ،
مصدرا للفهم المختلف ، والافكار المختلفة ، والمواقف المختلفة ،
والايديولوجيا المختلفة .. وهو ما يعني أن التفكير الايديولوجي ليس حكرا على بعض
التيارات السياسية ، ولا يمكن أن تتحوّل الايديولوجيا الى تهمة يتبرأ منها البعض وكأن
ما يقولونه ، أو ما يصرّحون به من مواقف وآراء ليس ايديولوجيا .. !!
ثم ان ذلك الجهل يأتي من وراء الخلط بين الفكر الايديولوجي الحر القائم على التسليم بالتعدد والتنوع والاختلاف ، كمصدر اساسي للعلم واثراء المعرفة بالمشكلات في الواقع ، وبين التعصب الفكري القائم ـ منذ البداية ـ على الرفض المطلق للفكر المخالف ، مع النزعة الجارفة للاقصاء واستبعاد المخالفين ..
كما أن الجهل يقوم في كثير من الاحيان على الخلط بين وضع
العامة الذين لا يلزمون أنفسهم باي مشروع مرتبط بالواقع حيث يتفرغ هؤلاء الناس فقط
لاوضاعهم الخاصة في جميع مراحل حياتهم ، وبين من يسمونهم باصحاب الايديولوجيا وهم
فئة من الناس يحملون مثلهم أفكارا ورغبات قد لا تختلف كثيرا عن أفكار ورغبات الآخرين ، ولكنهم مع ذلك يخصصون جزءا هاما من حياتهم الى الاهتمام بالشأن العام ، حتى يتحول الى التزام مبدئي وشغل شاغل يعيشون من أجله لتحقيق أهداف وغايات هي تختلف ـ بالضرورة ـ باختلاف المشروع الذي يلزمون به انفسهم ، وباختلاف تلك الافكار
التي يحملونها فتسمى ايديولوجيا ..
وفي هذا الاطار تحديدا يمكن ان نسمّي المشروع القومي
مشروعا ايديولوجيا ، يلتزمه القوميون ويضحّون من أجله ، فيحملونه هما مضافا الى
همومهم التي يعيشونها كبقية الناس في واقعهم ، وبهذا ايضا يحق لهم كما يحق لغيرهم
أن يدافعوا عنه ، وأن يعملوا من أجله على تغيير الواقع ، كمبدأ يؤمنون من خلاله بان قضايا أمتهم المصيرية ومشاكلها
هي قضاياهم ومشاكلهم الخاصة ، وهو ما يرتقي ـ في الأصل ـ بتلك القناعات الى مراتب
الشرف ، ولا ينزل ـ بسببها ـ بالمرة الى دائرة الاتهام التي ينظر اليها الجهلة .. وهو المبرر الوحيد الذي يسمح بأن تتحول تلك القناعات الى عمل متواصل لتحقيق غاياتها ( دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ) ، وبناء
مستقبل أفضل لهذه الامة التي يفترض أن
يحمل كل ابنائها بجميع مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية ، همومها ، فيعملون
على حل مشاكلها في اطارها القومي العام ، فلا يبقى لها ـ وقتها ـ من أعداء سوى
الانتهازيين والعملاء في الداخل ، والطامعين المتربصين بها في الخارج .. ولعل مثل
هذا الرأي نجد له طرحا مماثلا لدى الدكتور صبحي غندور في مقال بعنوان " هل الهوية
الاسلامية بديل للهوية العربية " .. فبعد أن يعرض العلاقة التاريخية بين
العروبة والاسلام بعمومياتها وخصوصياتها نجده يذهب للجانب المهم في الحديث مبينا العلاقة
بين شمولية مفهوم الانتماء القومي وخصوصية الانتماء الفكري والعقائدي والسياسي
داخل الامة الواحدة ، قائلا في ذلك : " يُفترض أن تكون القومية العربية
إطاراً للهوية الثقافية ، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية . إذ يمكن أن
تكون قومياً عربياً علمانياً ؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً ؛ ويمكن أن
تكون قومياً عربياً ليبرالياً .. أي نستطيع وضع أي محتوى " أيديولوجي"
داخل هذا الإطار القومي . فالقومية هي هويّة ، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً
وليست هي المحتوى . فالمشكلة التي حدثت ، خاصّةً في النصف الأول من القرن العشرين ،
تكمن في أنّ معظم من طرحوا فكرة القومية العربية قد طرحوها بمضمونٍ إمَا علماني
ليبرالي ( غربي ) ، أو علماني ماركسي ( شيوعي ) ، وفي الحالتين كان هذا الطرح
متناقضاً مع الإسلام بشكل أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو
الابتعاد عن الدين ، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب ككلّ ،
مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية أو عقائدهم الدينية "
.
ثم يواصل الدكتور حديثه متسائلا في استغراب عن
مبررالعداء للامة في الداخل حينما يأتي من بعض ابنائها أنفسهم فيقول : " لقد
كان الخيار القومي العربي - وما يزال - يعني القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة تتألف
الآن من أقطار متعدّدة لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً ،
تتكامل فيها الموارد والطاقات .. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب
الذين في الماضي ، كما هم في الحاضر، يمنعون توحد الأمَّة العربية حفاظاً على
مصالحهم في المنطقة وعلى مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية
والبشرية .
وإذا كان من المفهوم
أن يحارب غير العرب ( على المستويين الإقليمي والدولي ) فكرة القومية العربية ،
فما هي المصلحة العربية في إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض العرب أنفسهم ، أو
من بعض من ينتمون لأقليات إثنية وفدت للمنطقة العربية بفعل جرائم حصلت ضدّها من أممٍ أخرى ( كما حصل تاريخياً مع الأكراد
والأرمن ) ، فاحتضنت المنطقة العربية هذه الأقليات اللاجئة اليها ، وكان ذلك شهادة
للعروبة كما كانت شهادة للعرب المسلمين وجود ملايين من أتباع الطوائف الدينية المسيحية
واليهودية لقرون عديدة ، قبل عصر " التتريك
" والاستعمار الغربي والوجود الصهيوني وجماعات التطرّف الديني التي نشهدها
الآن .. ؟؟ " ..
اما المبرر الثاني لذلك السؤال فهو يتعلق بالفهم القائم على الاعتقاد بان في استمرار الحديث عن الأعداء ، استمرار للعداوات ، والصراعات ، والثارات ، والتطاحن الداخلي الذي يأخذ دائما مبررات وأشكالا واساليب جديدة ، لا تؤدي في النهاية الا الى المزيد من الهدم الذاتي ، والتدميرالشامل للنسيج الاجتماعي الذي سيزيد في تفتيت الامة وتخريبها تحقيقا لمصالح الأعداء الحقيقيين المتربصين بأبناء الأمة جميعا ..
ومثل هذا الفهم يشير
اليه الدكتور محمد سيف الدولة في مقال كتبه بمناسبة ذكرى الوحدة ، حيث نجده يستعرض
حالة التراجع التي تشهدها الامة من أعلى هرم المد الوحدوي خلال الستينات ، الى
اسفل قاعدته التي انحدر اليها ذلك الحلم في ظل حالة الانقسام والصراعات التي اصبحت
تهدّد الوجود القومي بأكمله ، ثم يقول : " كانت تلك هى
التحديات الرئيسية وقتها ، فى ظل ايمان الشعوب العربية من المحيط الى الخليج
بالعروبة وبالقومية العربية ، وحلمها ومطالبتها بالوحدة ، وتأييدها ودعمها لكل
معارك التحرر العربى وتحرير فلسطين .
وكان ذلك هو الشعور العربى العام باستثناء بعض
الخلافات والصراعات الفكرية بين النخب من التيارات الفكرية المختلفة حول فكرة
القومية بشكل عام والقومية العربية على وجه الخصوص ، وما اذا كانت القومية العربية
ام الاسلام ام الاممية العمالية ام الوطنية المحلية هى الانتماء الحقيقى والموضوعى
للشعوب .
اما اليوم فان التحدى الرئيسى والجديد الذى
يواجه اى حديث او مشروع لإعادة احياء الشعور القومى والدعوة الى الوحدة العربية ،
هو انقسام الشعوب ذاتها بين انتماءات وولاءات متعدّدة ، ساعدت عليها سلسلة الهزائم
والتراجعات والاستسلامات التى لحقت بالامة فى العقود الاخيرة .
ولقد وصلت هذه الانقسامات الى حد الاقتتال الاهلى فى
عديد من الاقطار، وبلغت ان قطاعات واسعة من انصار التيارات أو المذاهب والطوائف
المتصارعة نزعوا صفة الحق فى المواطنة عن خصومهم من التيارات الأخرى، واصبحوا
يصنفونهم كأعداء للوطن وللأمة ، ويضعون حتمية بترهم واجتثاثهم على رأس أجنداتهم
السياسية .
وبعيدا عن العنصرية والكراهية الكامنة وراء مثل هذه
الدعوات والتوجهات ، فان الاجتثاث لأى تيار أو طائفة أو مذهب من تلك التى شكلت
مكونات الأمة الرئيسية على امتداد قرون طويلة ، هو أمر مستحيل . المطالبة به او
التورط فى معاركه ، سيدفع بنا الى عقود طويلة من الحروب ، الجميع فيها هالك و
مهزوم .
وبالتالى فاننى أتصور أن أهم وأولى التحديات التى
تواجه دعاة وحدة الأمة اليوم ، هو العمل على اخراجها من حالة الاستقطاب القاتلة
والجهنمية التى ضربتها ، والانطلاق من حقيقة اننا جميعا مواطنون عرب ، لا فرق
بيننا على اساس الجنسية او الدين او المذهب أو الطائفة ولا على أساس المرجعية
الفكرية والانتماء السياسى .. " .
أجل ، فكرة العداء بين أي فصيل سياسي وآخر مرفوضة ومدانة اذا كانت قائمة على
خلفية الاجتثاث والاستئصال .. ودور الحركة القومية هو تأصيل فكرة الصراع السلمي ،
والمنافسة الشريفة على قاعدة الديمقراطية وقبول الاختلاف ، في حدود الالتزام
باحترام سلامة الوجود للمجتمع والوطن والامة ..
ولكن ... !!
المشكلة تقوم على علاقة بين اطراف متعدّدة .. فماذا
نفعل للذين لا يؤمنون أصلا بالتنوّع والاختلاف ، فيرفضون الحوار والتعايش بين
الناس .. ؟؟ أليست هذه المشكلة هي سبب البلاء والخراب في الوقت الراهن ..؟؟
وماذا نفعل بالنسبة لمن لا يؤمن بالجدل الا اذا كان
آداة لتحقيق مصلحة ، أما في غياب ذلك فيأخذ الجدل ـ عنده ـ منحا سلبيا باختيار
الصراع .. ولا يقبل بالحد الأدنى الذي يتطلب أولا البناء على ما هو مشترك أحيانا بين
رأيين مختلفين ؟؟
في الواقع ان قوانين الجدل والصراع يرتبط أحدهما
بالأخر اما في اطار الحتمية او في اطار الاختيار .. فقيام الصراع عند تعطيل الجدل
أمر حتمي ، ولكن قيام الصراع مع توافر امكانيات الجدل أمر قائم على الاختيار ..
وهو ما يفعله عادة اصحاب الفكر المتعصب الرافض للحوار من اساسه ، او الانتهازيون
الذين لا يقبلون بالتنازل عن مصالحهم اذا كانت ستحقق مصلحة عامة على حساب امتيازاتهم
الخاصة ..
والواقع فان اتخاذ الجدل بين رأيين منحا سلبيا
باختيار الصراع بينهما ، هذا موجود منذ قابيل وهابيل ، اي منذ أن وقع التعدد من
خلال الاضافة الى اثنين مكوّنا المجتمع الانساني الأوّل .. وقـبـل ان يعرف اي مفكر
أو صاحب رأي فكرة الحوار والجدل الذي اتخذ
اشكالا بدائية متـنـوّعة قبل اكتشاف اللغة ..
ولا شك أن اكتشاف قوانين الجدل كان اضافة ذات قيمة لمن يعرفها ، لفهم ما يجري في الواقع والاستفادة منها في
تطويره من خلال معـرفة اتجاه تطوّره .. غير ان قيام الصراع في المجتمع من عدمه لا
يتوقف في كل الاحوال على مجرّد العلم او الجهل بتلك القوانين ، أوعلى مجرد الحلم
المثالي بان نبني اولا نبني على ما هو مشتـرك .. بل على اساس الموقف من الواقع ...
ايا كان الواقع .. سواء كان قضية كـبـرى او مشكلة بسيطة .. ومن هـنا فان الوعي بجدل الانسان كقـانـون ليست شرطا لتحقيق غايته
أو لاثبات فعاليته ، لكن معرفـته وتـفعـيله على نطاق واسع في المجتمع ،
يحوّله من مجرّد قانون نوعي الى منهج للمعرفة ، يساعد - بلا شك - من يعمل به على امكانية توفير الظروف
اللازمة لقيام جدل خال من الصراع ..
أما أن يتجه الصراع لالغاء الجدل ، وعدم أخذه
بما هو مشترك بين رأيين ، فليس سببه ـ دائما ـ غياب الجدل ، بل هو عائد قبل كل شئ
لطبيعة المشكلة والاشخاص وطبيعة الظروف التي ينشأ فيها الجدل ، ومدى قابلية
الاطراف للتفاعل فيما بينهم ، واستعداد كل طرف للتواصل والبناء على ما هو مشترك ،
لتطوير العلاقة المشتركة بينهما .. وحتى لو سلمنا بأن الصراع يلغي أحيانا قيام
الجدل ، فان الصراع ليس سلبيا كله ، لان الجدل لا يؤدي دائما الى حل المشكلة اذا
كان أحد الأطراف غير جاد في الوصول الى حل ، ووقتها قد يكون الصراع لازما في مرحلة
من المراحل لجعل الجدل مفيدا في مراحل
لاحقة ، كوضع حد للانتهازية مثلا .. اذ ما
قيمة الجدل بين طرفين تقوم بينهما مشكلة ، وحينما يتفقان على حلها لا يلتزم أحدهما
بتنفيذ الحل ، أو لا يهتم بها أحدهما كما
يهتم بها الاحوج لحلها ، أو لانه يمتلك الأدوات التي تمكنه من جعل الجدل ينتهي
بقبول الاستسلام .. الخ .
ثم على من تقع
مسؤولية من يختار الصراع حينما تكون أرضية الجدل متوفرة ..؟؟
لا شك أن المسؤولية في مخالفة ذلك تقع على المخالفين
أنفسهم وليس على من يتصدّى لنهجهم
واساليبهم المخربة سواء كان هذا التصدّي من طرف السلطة ، او من طرف الأحزاب والجماهير
الشعبية ، أو من كل الأطراف داخل المجتمع ..
أما بالنسبة
للحركة القومية فيكفي التأكيد على ايمانها العميق بقيمة الانسان ودوره الفاعل في
قيادة الظروف وتغيير الواقع بحسب ما يتوفر لديه من مقدرة على الفهم والفعل في آن
واحد ـ اي بحسب المقدرة الجدلية المتوفرة للناس في المجتمع .. حيث يعطل التخلف والاستبداد
ـ دائما ـ قدرة الناس على تطوير واقعهم على الوجه الأكمل ، بسبب ما ينجر عنهما من تعطيل لمقدرتهم الجدلية
على فهم الظروف من خلال الزيف والتضليل الذي يشيعه المستبدون في المجتمع ، فيصرف
انظارهم عن الحلول الصحيحة ، التي لا يستطيعون الوصول اليها في ظل هذا الواقع ،
كما يجعل من البعض موالين خائفين ، أو انتهازيين أو مخربين الخ .. وهو ما يحيلنا
الى التعامل مع هذه الظاهرة في اطار تلك الظروف التي افرزتها ، جاعلة من الناس
ضحايا وهم لا يدركون حقيقة الوضع الذي أصبحوا يعيشون فيه ، وهو ما يقودنا الى
ادانة الواقع والظروف دون ادانة الضحايا انفسهم .. ليبقى دور الحركة القومية في
المجتمع ، هو العمل على تخليص هؤلاء من حالة التردّي التي وقعوا فيها طوال فترة الاستبداد ، بداية
برفع الخوف ، وازالة الظروف القاهرة التي منعتهم من توظيف قدراتهم الجدلية على
الوجه الأكمل ..
وهكذا ، وعلى هذا الاساس
يمكن القول بأن الحركة القومية ليس لها أعداء سوى اعداء الامة بشطريها وشرطيها :
الشعب والارض .. أي أن المسألة ليست مسألة تنافس سياسي ، أو حزبي ، أو أغراض شخصية
بين السياسيين من هنا وهناك .. بل هي مسألة مبدأ وحق ، ومصلحة قومية أعمق ، وأشمل
من أي مصلحة خاصة أو ضيقة .. لذلك فان مصطلح العداء بالنسبة للحركة القومية ، لا
يكون مبررا الا على تلك الخلفية ، فلا يكون عدوّها أبدا من يخالفها الرأي ، او من
ينافسها ـ ديمقراطيا ـ لتحقيق اي مشروع سياسي .. بل من يسعى عمليا وميدانيا الى تحقيق اهدافه
عن طريق التخطيط الخفي والعلاقات المشبوهة والتعاون مع أعداء الامة التاريخيين ،
الذين يضمرون لها الشر ، ويطمعون في ثرواتها ، ويسعون للهيمنة عليها واثارة الفتن
والصراعات والانقسامات داخلها ..
والواقع ان بعض
هؤلاء ظاهرين ومعروفين ، والبعض الآخر لا يزال متخفيا وراء الشعارات حينا ، ووراء المقدّسات
أحيانا أخرى .. فما العمل ؟؟
هناك أولا مسألة
مهمّة بالنسبة للعمل في المستقبل تتعلق بالانعكاسات السلبية التي تسبّب فيها فشل
النخب السياسية بعد الثورات بشكل خاص .. وهو ما يقتضي ـ ضرورة ـ تطوير الخطاب
والممارسة على حد السواء .. وهذا في علاقة بالخارج ، أما في علاقته بالداخل ، فالتطوير والنجاح لا يتحقق أولا دون مراجعات ، وثانيا دون قراءة علمية للواقع ، وثالثا دون فهم صحيح للمرحلة ، ورابعا دون تخطيط للمستقبل ، وخامسا دون
مبادرات حقيقية للتقارب والوحدة داخل الحركة القومية ، وسادسا دون ممارسة
ديمقراطية واسعة ، وسابعا دون استمرارية والتزام بالخطط المرسومة لتحقيق
الاهداف الخ ..
وفي هذا السياق يمكن
ان نضرب مثلا حيا للنجاحات التي يحققها أعداء المشروع القومي للمقارنة على مستوى
الفهم والتكتيك والاستمرارية في خدمة الاهداف ، قد نجدها أحيانا عند القوى الرجعية
ولا نجدها عند القوى التقدمية وهو مدعاة للتساؤل والحيرة والبحث ..
فأمامنا ـ بشكل عام ـ
المشروع الصهيوني الذي تمكّن من تحقيق أغلب أهدافه المرحلية والاستراتيجية في ظرف
قياسي ، وأمامنا بعض المشاريع للأنظمة العربية الرجعية التي وصلت الى تحقيق نجاحات
منقطعة النظير سواء في المحافظة على كيانتها ، أو في افشال المشروع القومي عدوّها
الرئيسي ، وأمامنا أيضا الكثير من الدول في العالم التي نراها تحقق نجاحات متزايدة
قد تكون أحيانا على حساب المشروع القومي العربي على غرار ما تفعله ايران وتركيا
خدمة لمصالحها القومية ..
وهذه المملكة العربية
السعودية واحدة من هؤلاء ، وهي التي يعتبرها التقدميون العرب : قوة رجعية ، عميلة
، متآمرة على الامة ، متخلفة ، ظلامية .. وقد تكون كل هذه الأوصاف أو غيرها صحيحة
.. غير ان مثل هذه الحقيقة تحيلنا الى سؤال جوهري ومهم : كيف تنجح القوى الرجعية
وتفشل القوى التقدمية ..؟؟ فالمفترض والمفروض أن يكون النجاح حليف التقدمييين
لانهم الأقدر على فهم الواقع ، والاكثر استعدادا للتضحية من اجل المصلحة الوطنية
والقومية .. فلماذا العكس هو الحاصل ..؟؟
قد يقول البعض بان
المقارنة على هذا النحو غير موضوعية ، لانها لا تقتصر على الامكانيات الذهنية فحسب
، بل يجب ان تشمل الامكانيات المادية المتاحة للقوى الرجعية ، والمتمثلة في
استغلال كل امكانيات الدولة المادية والسياسية في الداخل والخارج ، حيث تلتقي
بامكانيات القوى العظمى ومخططاتها في مواجهة القوى التقدمية .. الخ . وهو صحيح
أيضا ، لكنه يحيلنا الى سؤال آخر لا يقل أهمية : الم تكن بين ايدي القوى القومية
التقدمية امكانيات دول أكثر تقدّما وأكثر امكانيات واكثر قوة من المملكة
العربية السعودية .. ألم تكن العراق وسوريا وليبيا دول غنية تحت قيادة القوى
القومية على مدى أربعيين عام أو أكثر ...؟؟
أيها التقدميون ... ان
التاريخ لا يرحم .. ولا بد من القول الموجع لكي نقف ولو على جزء يسير من حقيقة
الفشل ..
لا شك ان القوى
التقدمية ، والقومية منها بالاساس كانت بعيدة كل البعد عن الممارسة العلمية طوال
الفترات السابقة .. وهي التي تدعي انها تمتلك كل ادوات التحليل العلمية ، بينما
كانت في الواقع تمارس بأسلوب التجربة والخطأ .. حيث لا فهم صحيح لللظروف ..
ولا تخطيط سليم للمستقبل .. ولا التزام بالفكر الوحدوي الذي تحول الى تشظي
وانقسامات وممارسات غير مسؤولة .. ولا مراجعات ، ولا تراجعات ، ولا تنازلات ، حتى
في أحلك الظروف التي مرت بها الامة .. !!
لم نر ـ مثلا ـ قراءة علمية لمجريات الاحداث ، ولا ممارسة استباقية لتجنب النتائج الكارثية للنوايا
المبيتة في العدوان ، حينما ضيقت الولايات المتحدة الخناق على ليبيا منتصف
الثمانينات ، ومارست عليها الحصار ، وحولت مسؤوليها الى المحاكمات في قضية لوكربي
ثم استهدفتها بالعدوان المسلح .. وحينما هاجم العدو الصهيوني المفاعل النووي
العراقي .. وحينما تعرضت العراق للعدوان الاطلسي مطلع التسعينات .. فلم نر
تحديا من القوى القومية الحاكمة في سوريا وليبيا والعراق وهي تتعرض للهجوم والحصار
باعلان مبادرة تكون بحجم التحديات والاخطار الداهمة متمثلة في اعلان الوحدة : وحدة
الجيوش ووحدة المعارك ووحدة المصير في وجه العدوان الاطلسي الذي بات يهدّدها جميعا
، ويجبرها على التراجع ، مستفردا بها الواحدة تلو الاخرى .. !!
ولكن ماذا كانت تفعل
القوى الرجعية في ذلك الوقت ..؟؟ هل كانت تمارس باسلوب رجعي يعيقها عن تحقيق
أهدافها أم باسلوب علمي تقدمي يقودها من نجاح الى نجاح .. ومن نصر الى نصر .. ؟؟
ام هل ترانا نخجل من قول مثل هذه الحقائق ..؟؟
الا تتبع الحركة
الصهيونية اسلوبا علميا .. لماذا تحقق النجاحات في الواقع اذن .. ؟؟
وهل النجاح حكر على
القوى التقدمية .. ؟؟
أبدا ... لان
التقدمية موقف من الواقع ، بينما النجاح نتيجة لتطبيق اسلوب علمي يلائم الاهداف
المرسومة ..
فجدل الانسان قانون
نوعي خاص بكل الناس وليس حكرا على التقدميين ، والنجاح غير متوقف على ادراك هذا
القانون ، بل على الاهتداء الى تطبيق حركات الجدل المتاحة لكل الناس : الفهم
الشامل والدقيق للواقع .. وطرح الحلول المناسبة للمشكلات ، ثم الاتزام بتلك الحلول
في الممارسة ..
وهكذا يتصرف الرجعيون
، وآل سعود بشكل خاص ..
طبعا التقدميون
يصفونهم بالاغبياء .. والجهلة .. والمتخلفين .. فهل هذا هو ما يحصل فعلا ..؟؟
ان المتأمل في الوقائع
التاريخية يرى عكس ذلك تماما .. اذ ان آل سعود هم الاكثر فهما للواقع ، والاكثر
اصرارا والتزاما بالدفاع عن مصالحهم الخاصة بعد ادراكهم لحقيقة بقيت ماثلة أمام
أعينهم بشكل دائم ، وهي أن المشروع القومي هو العدو الرئيسي لمستقبلهم ، ومستقبل
عروشهم .. وهو الذي يمكن ان يسلبهم كل الامتيازات المتاحة لهم في ظل الاحتفاظ
بدولتهم ..
فهم قد عرفوا مصلحتهم
، وعرفوا عدوّهم ، وعرفوا أن العدو ليس مجرد كيان سياسي يمكن مواجته وازاحته
بالحرب الخاطفة ، والصراع المسلح ، بل هو مشروع فكري وايديولوجي خطير على
وجودهم ، قادر على الاستمرار من خلال ما يمتلكه من اغراءات قائمة على دواعي عاطفية
ومرتكزات تاريخية وحضارية ودينية واحتياجات اجتماعية وتنموية مستقبلية .. ثم عرفوا
ايضا أن مواجهته لا تكون الا بمشروع ايديولوجي مشابه ، ذو اغراءات مماثلة قد
يجد فيها الكثيرون نفس الاحتياجات ، او هكذا يمكن تسويقه ..
كما عرفوا أن
هزيمة المشروع القومي مسألة حياة او موت بالنسبة لبقائهم في اطار الدولة السعودية
.. فكان المشروع الوهابي مشروعا جاهزا للتصدي ايديولوجيا للمشروع القومي .. وكان
التحالف مع اعداء المشروع القومي اسلوبا علميا بالنسبة لهم يمكنهم عمليا من
حماية كيانهم الذي يستفيدون منه .. !!
وبهذا نعرف أن العمالة
والخيانة والتآمر على مصالح الامة والتحالف مع اعدائها ، وطرح الحلول الاستسلامية
، والتعامل مع الصهاينة ، وتخريب الاوطان ، وبث الفتن فيها والصراعات المذهبية ..
لم يكن صدفة ، ولا حرصا على مصالح دينية يهدّدها المشروع القومي كما يدعي آل سعود
.. بل هو التزام بممارسة يقتضيها هدف المحافظة على كيان الدولة السعودية
وامتيازاتها في ظل الادراك التام بخطر العدو الأكبر الذي يهدّدها بسلب كل
الامتيازات التي بحوزتها ..
وهكذا نكون أمام
نموذج واقعي لدولة اقليمية رجعية ، تقودها عائلة حاكمة ، واعية
ومتنبهة للاخطار المحدقة بمصيرها ، وملتزمة على مدى أكثر من نصف قرن بالتخطيط
العلمي المحكم والاستمرارية في الدفاع عن مصالحها بكل الوسائل المتاحة و"
المشروعة " من وجهة نظرها الخاصة ، حيث لم تغفل في اي فترة من الفترات عن
تطوير اساليبها الدفاعية في مواجهة عدوها الأوحد والرئيسي وهو المشروع القومي ..
فوفرت لمشروعها كل وسائل النجاح ، واستعملت لافشال المشروع المعادي كل ما هو متاح
لها من امكانيات في جميع انحاء العالم من اساليب يسميها الآخرون ، عمالة ،
واستسلاما ، وخيانة ...
استعملت الجانب
الايديولوجي منذ الخمسينات في اطار مشروع تسليف الاخوان الذي ضخت فيه اموالا طائلة
سواء في ساحة مصر أو في ساحة اليمن ( الحلقة 9 و 12 ) ..
واستعملت الجانب
الديني في أوروبا ودول البلقان منذ الخمسيانات ايضا ، حيث المجال الواسع للحريات ،
وعدم امكانية تدخل الدول المسيحية في شؤون المساجد ، وحيث لا تملك الشعوب المسلمة
مرجعيات دينية واضحة في كثير من الدول التي طالتها يد الدعاة الوهابيين
لتحويلها جميعا الى الوهابية ( الحلقة 13 ) ..
واستعملت علاقاتها
الدولية لضرب المشروع القومي في الخمسينات والستينات ، وتدخلت لافشال الوحدة بين
مصر وسوريا ، ووقفت في صف الاعداء لتلحق به الهزائم ..
والمملكة لم تكتف في الواقع بتسليف الاخوان وحدهم ، بل عملت على تسليف كل المسلمين ، وتعميم الفكر السلفي على القارات الخمس .. فقامت منذ وقت مبكر ببعث
المشاريع العملاقة في مجالات الدعاية والاعلام والبحث والطباعة والنشر والترجمة
واسست مئات المراكز والمواقع المتخصصة في مجال الدعوة والدعاية للمشروع السلفي في
العالم ورصدت له ملايين الدولارات مستغلة المجال الديني الذي صار مرتبطا رأسا
بالنشاط الدعوي والاعمال الخيرية .. فنجحت
ـ منذ الستينات ـ في بعث رابطة العالم
الاسلامي ، المنبثقة عن مؤتمر العالم الاسلامي الاول في شهر ماي سنة 1962 ، والتي اصبحت ـ بمرور الوقت ـ مركز الثقل بالنسبة للنشاط الدعوي داخل المملكة وخارجها من
خلال الهيئات والدوائر المتخصصة التابعة لها ، والمرتبطة بمواقفها وسياساتها على المستوى المحلي والعالمي .. ومن
هذه الهيئات نجد الهيئة العالمية لعلماء المسلمين ، المجمع الفقهي الاسلامي ، الهيئة
العالمية للتعريف بالرسول ، هيئة الاغاثة العالمية ، مؤسسة مكة المكرمة الخيرية (
المشهورة برعاية الايتام في العالم ، وبناء المساجد .. ) ، الهيئة العالمية للاقتصاد والتمويل
، المؤسسة العالمية للاعمار والتنمية ، الهيئة العالمية للاعجاز العلمي في القرآن
، الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن ، الهيئة
العالمية للمساجد ، الهيئة العالمية للتنمية البشرية ، الهيئة العالمية للاعلام ،
.... كما بعثت مؤسسة الملك فيصل الخيرية بفروعها
المتخصصة والمتعددة : جائزة الملك فيصل العالمية ، مركز الملك فيصل للبحوث
والدراسات ، مدارس الملك فيصل ، جامعة الملك فيصل ، ... ونجد ايضا اكبر مؤسسة
دعوية ـ خيرية في العالم مشهورة برعاية الارهاب منذ احداث 11 سبتمبر وهي مؤسسة
الحرمين الخيرية ، التي تأسست في كراتشي بباكستان سنة 1988 وأصبح لها فروعا في جميع أنحاء العالم ، تدار كلها من الرياض عاصمة المملكة عبر سفاراتها في الخارج ... وحتى الدول التي يحظر فيها نشاطها مثل سوريا ولبنان والمغرب والاردن ، فقد تسللت اليها عبر جمعيات محلية تخفي حقيقة نشاطها في تلك الدول ( ويكيبيديا ) ... كما نجد آلاف
المؤسسات والجمعيات ذات التخصصات نفسها تقريبا سواء داخل المملكة أو في اوروبا
وآسيا وامريكا ، فضلا عن الدول العربية والافريقية الاكثر فقرا واحتياجات .. حيث استطاعت المملكة منافسة الاخوان في تلك
المواقع للسيطرة على المساجد ، وتحويلها
الى مراكز استقطاب وتسليف لكل المتدينين في العالم .. وقد تجلت أبرز نجاحاتها
فعلا ، في اقتحامها للدول الاسلامية في وسط اوروبا وشرق آسيا مثل البانيا وكوسوفو والشيشان
ودول القوقاز ... ونجحت فعلا في اختراقها ، وحل هيئاتها الدينية ومجامعها
الفقهية ، وقامت بتغيير شامل لمناهج التعليم في جميع الدول المنفصلة حديثا عن الاتحاد
السوفياتي ، وغييرت فيها المذاهب الدينية من
الحنفي والشافعي الى الحنبلي الوهابي ، كما قامت برصد الاموال والاعانات لبناء
المساجد وتكثيف النشاط الدعوي ، ورسكلة الايمة وتكوينهم داخل المملكة .. الخ .. ( فقرة 13 ) .
كما استعملت كل ما لديها من امكانيات مادية في الطباعة والنشر والاعلام ، والتمويل والتدريس والتكوين والتأطير وشراء
الذمم وتشويه الرموز والتجارب القومية .. والتجسس ، وبث الفرقة والخلافات
والصراعات وصولا الى الفتن الطائفية والمذهبية ... وكل ما من شأنه ان يضعف الروابط
القومية ويخرّب النسيج القومي الذي يتحقق من خلاله الانسجام والتقارب
والوحدة ..
باختصار ، لقد لعبت المملكة العربية السعودية
بالفعل ـ منذ ذلك الوقت الى الآن دور الاقليم القاعدة للمشروع الوهابي حسب المصطلح
القومي ، في حين لم ينافسها ولم يزاحمها بشكل علمي صحيح اي نظام قومي في دورها
وحرصها واستمراريتها ـ بعد رحيل عبد الناصر ـ الذي كان الدرع الواقي للمشروع القومي المستهدف طوال تلك الفترة .. !!
ثم ظهرت في الاثناء
دولة قطر بعد ان استوعبت قواعد اللعبة وقوانيها ، فاصبحت تزاحم المشروع الوهابي
مستخدمة المشروع الاخواني مع المحاكاة والتطوير للأسلوب السعودي ، فكانت قناة
الجزيرة ذراعها الاعلامي والقرضاوي ذراعها الديني ، مع التنافس المفتوح في العمالة
والخيانة والاستسلام للصهيونية والقوى العظمى التي وجدت نفسها ـ في ظل هذا التنافس
الاقليمي ـ تحصل أحيانا على أكثر مما تطمح اليه ..
فأين القوى القومية من
كل هذا ، وماذا يعني بالنسبة للمستقبل .. ؟؟
اذا انطلقنا من
المقارنة فان الحقيقة تقول بان القوى القومية بعيدة كل البعد عن حجم التحديات
المطروحة ، وهو طبعا مبرر موضوعي للحديث عن تلك الضرورات في جميع مستوياتها
، الداخلية والخارجية ..
فعلى المستوى الخارجي
قد يكون تطوير الخطاب الموجه للناس ، ضرورة لا تخدم مصلحة الحركة القومية
فحسب ، بل تخدم ايضا قضايا الامة ومصيرها ومستقبلها ، حيث ان الخطاب الحزبي في
الوطن العربي صار مهزلة بسبب الحسابات الضيقة والتنافس الغير شريف ، وطغيان
المصلحة الحزبية والفئوية والمال السياسي الخ .. وكل هذا لمسته الجماهير في تونس
ومصر بعد الثورات .. حتى اصبحت تكفر بالعمل السياسي وبالسياسيين ، وكل ذلك اضر
بالمصالح الوطنية والقومية قبل كل شئ ..
والحركة القومية
كحركة عقائدية تهمّها المصلحة القطرية ، والقومية ، ومصالح الناس فيهما بكل فئاتهم
، وتوجهاتهم ، دون تفرقة بينهم على اساس الدين ، او العرق ، او الجنس ، او الخلفية
الفكرية .. عليها ان تسعى لاعادة الثقة لدى
الجماهير في العمل السياسي ، من خلال الخطاب الموضوعي الجاد والنزيه في جميع
ابعاده ومضامينه .. اذ لا احد يملك حق التخوين للناس ، ولا احد يملك الحقيقة
المطلقة ، ولا احد يملك الوصاية على شئ في هذه الامة : لا على الدين ولا على الارض
ولا على الاخلاق ولا على الناس ، ولا على الماضي أوالمستقبل .. ولا على
الديمقراطية والحقوق والحريات .. الخ ، والحركة القومية التي لها الثقة التامة في
اطروحاتها عليها ان ترسّخ هذه المفاهيم لدى العام والخاص ، لتسحب البساط من تحت
اقدام المتاجرين بهذه القضايا ، أو من
يمارس الوصاية في حديث أو نشاط خاص .. فليس كل من يتحدث باسم الدين يعرفه او يمثله
أو يصدق فيما يقوله عنه ، فيحق له امتلاكه واحتكاره من دون الناس ،، وليس كل من يتحدث عن حقوق الانسان ، يعرفها
حقيقة ، ويفهمها ، ويملك الحق في اتهام الغير بالاستبداد أو نحوه .. وليس كل من
يتحدث عن العروبة له توكيل خاص ، او تمثيل ، او شرعية ، او حق للملكية يمنحه لمن
يريد ويسحبه متى يشاء .. وهذا يعني ان هناك قضايا عامة يحق للجميع التعاطي معها في
اطار القبول بالاختلاف والاحتكام الى راي الناس المعنيين قبل غيرهم باختيار ما
يناسبهم في المستقبل .. وهكذا لا يكون الفرز في المجتمع على أساس الشعارات الجوفاء التي تعزل المواقف وتجزئ القضايا الوطنية والقومية فتجعلها متضاربة ، بل على اساس المواقع من الصراع بشموليته وبكل ما يفرضه من تداخل وعلاقات بين القضايا كلية .. العلاقة بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، والعلاقة بين حرية المواطن واستقلال الارادة ، والعلاقة بين التحرير والوحدة ، الخ ..
هناك اذن قضايا مترابطة ومشتركة
لا يجوز فصلها ولا احتكارها في المجتمع ولعل الدين في المقدمة منها جميعا هذه الايام .. والاسلام بشكل خاص ..
فالاسلام في تركيا اسلام تركي ، وفي ايران ، اسلام ايراني .. وفي
كل أمة من امم العالم يوظف الاسلام لخدمة المجتمع القومي داخلها .. بينما نرى
الاسلام في الوطن العربي غريبا عن امته ، مضادا لتطورها ، لا يتفق مع مصالحها
ومستقبلها ، يعمل على تدميرها وتفتيتها ، ويوظف بوعي أو بدون وعي لصالح أعدائها .. ولا شك
ان مثل هذا المفهوم للاسلام يمثل مشكلة حقيقية ، بل مصيبة كبرى وليس حلا مثلما
نسمع من دعاة الاسلام السياسي منذ عقود ، الذين جعلوه غريبا عن تربته ، وبيئته
التي احتضنته منذ ظهوره ، فصار معاديا للعروبة ، ذلك الجسد الذي هو بمكانة الروح
فيه ..
نحن في حاجة الى اسلام يخدم المصالح القومية بالدرجة الأولى ، حينما يلتفت الى مشاكل الامة ، ويساهم في النهوض بها واخراجها من التخلف والجهل الذي انحدرت اليه .. أي نحتاج الى هوية للاسلام مثل هوية المسلمين ..
تحتاج الامة العربية في هذا العصر الى اسلام عربي خالص يتوجه الى خدمة ابنائها جميعا دون تمييز ، فلا يقيم الفوارق بينهم ، ولا الحواجز ، ولا يميّز بين مكوّنات المجتمع على اساس عرقي ، أو ديني ، او مذهبي ، أو طائفي .. بل يعتبرهم سواسية ، لا فضل لمواطن على آخر الا بما يقدّمه خدمة للآخرين ..
نحن بحاجة الى
هوية عربية جامعة لكل الهويات ..
نحتاج الى هوية للخاص في محل ما ، مع هوية اشمل في محل آخر .. او هوية للكل الذي يحتوي الأجزاء ولا يلغيها ، بل يغنيها جميعا بما يضيفه اليها حينما يوحّدها ، دون ان ينقص منها شيئا وهي أجزاء لا تتجزأ منه ، وعناصر محدّدة لوجوده الذي لا يكتمل الا بها جميعا ..
نحتاج الى هوية للخاص في محل ما ، مع هوية اشمل في محل آخر .. او هوية للكل الذي يحتوي الأجزاء ولا يلغيها ، بل يغنيها جميعا بما يضيفه اليها حينما يوحّدها ، دون ان ينقص منها شيئا وهي أجزاء لا تتجزأ منه ، وعناصر محدّدة لوجوده الذي لا يكتمل الا بها جميعا ..
ففي مفاهيم الانتماء : نحتاج الى سنية عربية وشيعية عربية ، ومسيحية عربية ، واسلام عربي .. نحتاج الى ليبرالية عربية .. واشتراكية عربية ، وديمقراطية عربية ..
وفي التجسيد
الفعلي لهذا الانتماء نحتاج الى سنة عرب وشيعة عرب .. نحتاج الى مسيحيين عرب ومسلمين عرب .. كما نحتاج ايضا الى لبراليين عرب واشتراكيين
عرب وديمقراطيين عرب ..
نحتاج الى وعي
عربي شامل ، والى فكر عربي يطرح ما يشاء في اطار رؤية شاملة للمستقبل العربي ..
نحتاج الى الغاء الحدود والتجزئة في مستوى الفكر والوعي أولا وقبل كل شئ ...
أما في الداخل ، فالحاجة
تكون أكثر الى تطوير الخطاب والممارسة على جميع المستويات المتصلة بالحاضر والمستقبل : فلا احد وصي على الفكر ، ولا
أحد يمتلك مفاتيح العلم ، ولا احد ابن هذه الامة والآخر ابن ربيبتها .. نحتاج فعلا
الى تواضع ، وثقة بين الجميع ، ومحبة خالصة ، وروح قومية عالية ، وفرز داخلي ـ في نفس
الوقت ـ على اساس الكفاءة والمصلحة الوطنية والقومية العليا اولا واخيرا ..
نحتاج الى طرح كل
شئ ، ونقاش كل شئ .. نحتاج الى ترتيب الاولويات ، وتحديد الآليات ، والمهام ،
والادوار ..
نحتاج الى
استراتيجيا مرحلية .. وتكتيك مرحلي ..
نحتاج الى تحديد
الاطر والقوانين ..
نحتاج الى
الاختلاف والاتفاق ، والتوافق ، والتنازلات ..
نحتاج الى
المحاسبة .. الى العتاب ، والمجاملات ..
نحتاج الى وقفة ..
الى تأملات .. نحتاج الى مراجعات عميقة .. الى نقد ذاتي .. نحتاج الى التراجع أحيانا ..
نحتاج الى تغيير
وتطوير الاساليب .. نحتاج الى مبادرات ..
نحتاج الى علاقات
جديدة .. الى بناء أطر وقنوات ..
نحتاج الى مسافات .. نحتاج أحيانا الى
الصمت .. وتجاهل الأمور ..
نحتاج الى خطاب
واضح وشامل في مناسبة .. والى خطاب بسيط ومفصل في مناسبات أخرى ..
نحتاج الى عمل
ميداني .. الى اهتمام بالمشاكل الصغرى ، تماما مثل الاهتمام بالقضايا الكبرى ..
نحتاج دائما الى
كل الناس .. من يخطو معنا خطوة ، ومن يخطو معنا خطوات ،، ومن يخطو معنا اميالا
وأشواطا ..
نحتاج الى ثقة في
النفس .. وفي رفاق الدرب ..
نحتاج الى الوحدة ، وحدة الصف والحركة ..
نحتاج الى الديمقراطية ، ومزيد من الديمقاطية ..
نحتاج الى الوحدة ، وحدة الصف والحركة ..
نحتاج الى الديمقراطية ، ومزيد من الديمقاطية ..
نحتاج الى عدة
ضرورات وليس الى ضرورة واحدة .. ضرورات فكرية ، وضرورات سياسية .. وضرورات حركية .... وتبقى البوصلة متجهة دائما للمصلحة
القومية ، والمشروع النهضوي العربي الشامل ..
وبوصلة لا تشير الى المشروع القومي .. مشبوهة ...
( القدس ) .
( القدس ) .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق