الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (28) .
ورابعا : الوقائع
...
ان أهمية ما جاء من أفكار في دراسة الدكتور عبد
الله عبد الدايم ، يكمن في تعرّضه لكثير من المظاهر السلبية المنتشرة على الساحة
القومية ، والمتعلقة في مجملها بالاساليب المنفـرة من العمل القومي .. ولعل ما يدل على أهمية هذه الجوانب هو تداولها
بطرق مختلفة والتاكيد عليها من عدة كتاب ومفكرين قوميين .. ومنها ايضا ما تناوله
الدكتور صفوت حاتم في دراسته المقارنة بين الوحدة الالمانية والجمهورية العربية
المتحدة .. حيث يذكر عدة تفاصيل مهمة عاشتها الامة الالمانية في حالة من الرداءة
والضعف والتفكك والحصار ، كما ذكر جوانب مهمة
من الظروف التي عاشها الشعب الالماني والحركة القومية الالمانية ، وهي تعاني من حالة
الياس والتشكيك والانقسام والضياع على مدى قرنين كاملين (من 1803 الى 1990 اثر
سقوط سور برلين) ، أي بمثل ما هو سائد تقريبا في الوطن العربي من انكسار واحباط او اكثر .. وهي في الواقع دراسة طويلة ، نسوق
منها مقتطفات لأهميتها :
في البداية ينقل لنا صورة عن وضع التجزئة في
ألمانيا كما وصفه المفكر القومي ساطع الحصري، حين قال : " كانت الأمة الألمانية تتمتع بأدب راق وثقافة عالية ..
ومع هذا كانت مجزأة الى دويلات ودول كثيرة .. أما الموانع التي كانت تحول دون
اتحاد هذه الدول والدويلات .. فكانت تأتي ـ في الدرجة الأولى ـ من "
أنانية " الملوك والأمراء وتمسكهم بالإمتيازات التي كانوا
يتمتعون بها .. لأن ألمانيا كانت ـ في العقد الأخير من القرن الثامن عشر
ـ منقسمة إلى 360 وحدة سياسية .. مستقلة عن بعضها استقلالا مطلقا .. غير ان عدد
هذه الوحدات السياسية .. أخذ يقل شيئا فشيئا .. بسبب اندماج واتحاد بعضها ببعض :
فقد نزل هذا العدد الى 248 دويلة عام 1803 .. ثم الى 39 دويلة
عام 1815 .. ثم الى 25 دويلة عام 1871 ( اي بعد ثمانية وستون
عاما من بداية أول عملية توحيد !! ) .. إلا أن هذه الوحدات .. كونت في السنة
المذكورة ( 1871 ) .. دولة اتحادية فيدرالية .. وتنازلت لها عن جميع السلطات
المتعلقة بجميع الشؤون العسكرية والخارجية ..ولم يبق عدد هذه الدول المكونة على حاله .. بل نزل الى
17 فقط سنة 1918 .. وفي الأخير زالت هذه الدول من الوجود وتركت محلها "
للرايخ الألماني " أي الدولة الألمانية الموحدة توحيدا تاما عام 1923
.. اي بعد قرن كامل وثلاث عقود .. !! ( ساطع الحصري ، محاضرات في نشوء
الفكرة القومية ) .
وفكرة الدكتور صفوت حاتم الرئيسية تقوم على ابراز
التشابه بين الواقع الالماني قبل الوحدة والواقع العربي في الوقت الراهن ، وهدفه
من وراء هذه المقارنة الوصول الى القول بان الوحدة العربية ممكنة فعلا بالرغم من
كل ما يعترض سبيلها من عوائق ، ودليله هو ما عاشته ألمانيا خلال قرنين كاملين وهي
تعاني من الهزائم والتجزئة والاحباط .. لذلك
نجده يوجه القول مباشرة الى من يشكك في الوحدة من الاقليميين قائلا : " ان
الذين يهرولون لعقد الإتفاقيات التجارية والإقتصادية والسياسية وإتفاقيات
الشراكة مع أوروبا ومع أمريكا .. بل مع العدو الإسرائيلي .. كإتفاقية
" الكويز " المصرية الأمريكية الإسرائيلية ٍ ..كل هؤلاء لا يفسرون لنا ولا لشعوبهم .. هذا
الجموح الغريب والتهليل العجيب للتعاون مع الآخر غير
العربي .. والنفور المريب من التعاون والإندماج العربيين .."
ثم يقول متوجها اليهم مباشرة : " لكل هؤلاء
اليائسين .. اهدي هذه التجربة الرائعة لتجربة وحدة بدت في لحظات طويلة " وحدة
ميئوس " منها .. وارجو أن يتسع صبر من يقرأ هذا الكتاب لإستيعاب هذه التجربة
فقط .. " ( يقصد الوحدة الالمانية ) . كما نجده يقطع الشك معهم بالتاكيد على
ان " النظال الوحدوي ، هو نضال من أجل المصلحة القطرية في الاساس ..وهو البداية .. "
وبعد الحديث عن التشتت المجسد في تعدد الالاقاليم
والوحدات السياسية التي بلغت المئات ، يحدثنا عن الوضع بين الحكام فيقول :
" كانت ألمانيا المثال
الكلاسيكي للتعصب المحلي والصراعات الأقليمية ( كما هو الحال في الأمة العربية )
ففي العصور القديمة كانت هناك عداءات متوارثة بين القبائل الألمانية وبخاصة بين
السكسون والفرانك .. وكان ألمان الشمال وألمان الجنوب لا يكادون يفهمون بعضهم
البعض .. وكانوا يلجئون الى اللاتينية إذا أرادوا التواصل والإتصال ببعضهم البعض!! " ثم يظيف : " وصعد عدد كبير جدا من
النبلاء الى مصاف حكام الأقاليم ووضعوا سياستهم الخاصة وفق مصالحهم الخاصة وقاموا
بحروبهم المنفصلة دون أدنى إعتبار للأهداف القومية المشتركة . وكانت السياسة
" المحلية " لكل إقليم تقوم على اساس المصالح للبيوت والعائلات الحاكمة
( !! ) .. والغريب أن هذه السياسات كانت تحظى بتأييد كبير من سكان كل أقليم ( !! )
. فالإمبراطوية القديمة لم تكن دولة بالمفهوم الصحيح بل اتحادا فضفاضا كان يضم في
القرن الثامن عشر 1800 حاكم ( !! ) وكان بعضهم ملوكا ودوقات ومركيزات وكونتات
وبعضهم بطاركة واساقفة وما الى ذلك " ..
وفوق هذ الوضع المتردي " قد بلغت صراعات الحكام
الألمان حدا مزريا .. فلقد كان التعصب المحلي والتنافس بين الأقطار الألمانية
الكبرى .. وحتى بين الأقطار الصغرى .. أحد أهم اسباب تدهور الشعب الألماني
.. فقد كانت تنشأ الحروب بين الأمراء على اتفه الأسباب .. مثلا ..
أعلن أحد البارونات "بارون فلمنج " الحرب على دوقة " زاخن جوتا ويسنفلـز" ، لأنها أمرت
بذبح كبش في أراضي أقليمه بدون إذنه . وفي عام 1747 نشبت حرب بين " زاخن جوتا
" و " زاخن ماينتجن " بسبب شجار بين اثنين من النبلاء حول حق التقدم
في البلاط الملكي ... "
وعن حالة اليأس والانهيار يقول واصفا الوضع خاصة بعد
هزيمة المانيا : لم تكن الكارثة التي حاقت بالنضال الوحدوي الألماني هينة بعد
انهيار مؤتمر " فرانكفورت " .. انهارت الثورات الشعبية .. وانهار الحلم
الوحدوي .. وانهار أعز ما كان يحتضنه الآلمان في جوانحهم : إيمانهم بالوحدة ..
تعالوا نسمع ونقرأ .. ماكان يقال ويكتب بعد هزيمة مقررات
مؤتمر " فرانكفورت " الوحدوية ..
لقد ظن الكثيرون من رجال الفكر والسياسة في أوروبا
.. وفي ألمانيا بالذات .. أن فكرة الوحدة الألمانية قد " تلاشت "
.. نعم تلاشت .. بعد مؤتمر فرانكفورت .. وأن أحلام الوحدة الألمانية دخلت
حيز النسيان .. واعتبر الكثير منهم أنها وهم من الأوهام والأحلام لا يمكن أن تتحقق
في وقت من الأوقات .. .
وقد قال قيصر روسيا : ان فكرة الوحدة الألمانية .. ليست
إلا نوعا من أضغاث الأحلام التي تليق بالروايات الخيالية ..
أما ملك فورتمبرج فقال : ان فكرة الوحدة الألمانية من
أسخف الأوهام واضر الأحلام ...
وانبرت الصحف والمجلات الألمانية والأوروبية تكتب وتنشر
المقالات عن إفلاس فكرة الوحدة الألمانية .. وقد أخذ الكثيرون يسخرون منها بأحط
الألفاظ وأقسى العبارات .. فهذا يقول عنها
: خيال محال لا يؤمن به الا الشعراء .. وثان يقول : سراب خداع لا يسير وراءه الا
المغفلون وأصحاب الأطماع !! "
ولعل ما زاد
المشكلة تعقيدا ، هو اقامة سور برلين الذي قسم العاصمة الالمانية الى شطرين ، وأصبح
سدا منيعا ضد أي خطوة وحدوية بعد تقسيم المانيا الى دولتين عدوتين متصارعتين ..
الخ
هذه وقائع تاريخية لا تختلف في جوهرها عما يحدث في واقعنا العربي من صراعات
وفرقة وعوائق حقيقية أمام المشروع الوحدوي ، غير أن تجارب الأمم بكل ما فيها من
مرارة ، تكشف عن حقيقة ثابتة مفادها ان ارادة الشعوب لا تعرف المستحيل ..
والواقع ان الحركة القومية التي ساهمت ـ وهي مشتتة ـ منذ
عقود في مواجهة استبداد الانظمة العربية في مختلف الاقطار ، قد تمكنت فعلا ـ مع قوى وطنية اخرى ـ من تحريك الشارع حتى الوصول به الى تحقيق خطوة هامة ومصيرية بالنسبة لمستقبل الامة ، وهي الاطاحة بالديكتاتورية وتخليص الجماهير العربية من عقدة الخوف ، من خلال مشاركتها الواسعة في انجاز ثورتين
شعبيتين مهمتين هما ثورتي تونس ومصر ، اللتان يمكن ان تنتقلا تدريجيا الى حالة
ديمقراطية مساعدة على تحقيق هدف الوحدة .. الا انه أمام جسامة المرحلة الحالية بكل
ما فيها من اخطار داهمة ، ومن تهديد لمستقبل الامة في ظل تكالب القوى الاستعمارية ، وتأجيج الفتن
التي أصبحت تعصف بوحدة الوجود القومي ، لا يبقى أمام القوى الثورية الوحدوية الا
العمل من اجل تحقيق المهمّة الرئيسية القادمة : استرداد مصر ...
نعم مصر التي اكتشف فيها عبد الناصر بسهولة البعد القومي في أمنها واستقرارها ، وبقي
يتصرف طوال حياته على اساس مشروع الوحدة كما عاشه في الواقع وهو مسؤول على اكبر
دولة عربية : وحدة الجغـرافيا ووحدة التاريخ ، كاطار للوعاء الذي أصبح بالممارسة
الحية والجهد الخلاق يفيض بتلك الأفكار الرائدة للمشروع القومي الذي مثل فيه وعي
عبد الناصر الراسخ والعميق بالتاريخ والانتماء الحضاري والديني حجر الأساس .. وهو
ما اسهم فعلا في تحويل سياساته الى مهمات كبرى لا تخص مصر وحدها بل تهم أمة
بأكملها جمعها عبد الناصر حينما أحس وأدرك أن وحدتها تقوم على وحدة مشكلاتها
ومصيـرها ، مدركا في نفس الوقت الدور الريادي لمصر الذي حولها الى قاعدة متقدمة
للنضال العربي على مدى عقدين كاملين ..
استرداد مصر في المستقبل القريب يمكن ان يكون خطة استراتيجية مرحلية مهمّة
بالنسبة للحركة القومية .. ولا شك ان استرداد مصر لدورها القومي سيكون الشرارة
الاولى لميلاد الحركة العربية الواحدة ..
( القدس ) .
( القدس ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق