بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 أبريل 2016

الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (26) .


            الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (26) .

وثانيا : الأوهام ...

 لا يخفى على احد الآن ، أن هناك بعض وجهات النظر المطروحة تحمل افكارا مفادها ان بعض التوجهات  الحالية تسير في اتجاه التخلي ـ عمليا ـ عن اسلوب الحركة العربية الواحدة .. وحتى ان كان الموقف المعلن غير رافض من حيث المبدأ لهذه الفكرة ، الا أن هذه القناعة تبدو واضحة ـ لدى البعض ـ في أسلوب التعاطي مع القضايا القومية التي بدأت تتحوّل تدريجيا الى قضايا ثانوية ليأخذ نشاط بعض الفصائل ومواقفها طابعا اقليميا لا يتردّد في تغليب المصالح القطرية تحت حجج مختلفة : الصعوبات المادية ، مشاكل الارهاب ، التاثير السلبي للتجزئة ، انشغال المواطن العربي بمشاكله الخاصة ، الخ .. !!  
في حين أن بعض المواقف الاخرى المشكّكة في امكانية انجاز اي خطوة وحدوية ، تاخذ طابعا " واقعيا " في ظاهره ، رافضا التمسك بالمسلمات باعتبار عدم امكانية الترقب الى أجل غير محدود حتى تتهيا الظروف لبناء الحركة العربية الواحدة ، بينما هو في الجوهر يأخذ منحا تأويليا تعسفيا متناقضا سرعان ما يتحول الى منطق تبريري مضاد ومعادي صراحة للمشروع القومي فكرا وممارسة دون سند واقعي ..
وهو تأويلي تعسفي على وجهين :
* الوجه الأول يحمل تعسفا على الجانب النظري العام ، اذ ان الحديث عن دورالقوميين واسلوب عملهم في دولة اقليمية ديمقراطية غير الحديث عن دورهم في دولة اقليمية مستبدة ، أوفي طريقها الى الثورة ، او في مرحلة انتقالية لم تعرف الديمقراطية بعد على اسس سليمة .. ودورهم وهم مشتتون الى فصائل واحزاب متنافرة ، يختلف عن دورهم وهم تنظيما واحدا ديمقراطيا ولو في دول اقليمية متفرقة .. كما أن دورهم وهم في قيادة الدولة الاقليمية يختلف جذريا عن دورهم وهم في المعارضة أو خارج المشهد السياسي الخ ..
كل هذا مغيب في التحليل " النظري " المتعسف على واقع الحركة القومية بجميع جوانبه الذاتية والموضوعية .. ومثل هذا نجده في ما كتبه الامين البوعزيزي في مقال بعنوان " الحديث الآخر حول اسلوب الاعداد لبناء الحركة العربية الواحدة من وجهة نظر قومية تقدمية " .. انطلق فيه من العرض السريع للوقائع التاريخية والاحداث والملابسات التي انبثقت عنها الدعوة لفكرة الاعداد لبناء الحركة العربية الواحدة ، ثم قفز على الواقع العربي وواقع الحركة القومية قفزة نوعية عبر الزمن ، من الستينات الى  الالفية الثانية ليقول بأن مشروع الاعداد استنفذ وقته الافتراضي ، ولم تعد الحاجة اليه مطروحة بتلك الصورة التي وقع الحديث عنها في بيان طارق الذي كان أصلا خطة للستينات .. ليخرج بعد ذلك  بفكرة " التجديد عند الدكتور عصمت سيف الدولة " ، التي لم ينتبه اليها غيره ، وهو الذي اكتشفها وحده بعد مرور اكثر من ربع قرن عن صدورها ، حيث يذكر لنا تلك الفقرة من الدراسة المشار اليها سابقا (الحلقة 21) ، والصادرة سنة 1984 بعنوان الديمقراطية والوحدة العربية ، وهي التي بنى عليها ـ كما سنرى ـ فكرة الهدم للمشروع القومي جملة وتفصيلا .. ثم يمر بعد ذلك ليستشهد بفقرات مطولة من كتابات الدكتور الواردة في سياقات مختلفة  ، للاستدلال بها في تأكيد فكرة ، لم يكن الدكتور عصمت سيف الدولة ـ لو صح ذلك ـ ليذكرها كاشارة عابرة في أسطر قليلة آخر الدراسة ، ثم لم يعد اليها مجدّدا بعد ذلك وهي بتلك الأهمية كما يدّعي .. والواقع اننا اذا رجعنا الى المراجع الاصلية التي ذكرها في مقاله ، نلاحظ أن ما قصده الدكتور في كل مرة غير ما هو مقصود في سياق الاستدلال ..
* والوجه الثاني يحمل تعسفا على الجانب الخاص بتفاعل القوميين مع الواقع  ، اذ أنه لم يثبت أبدا ـ على المستوى النظري والفكري ـ أن هناك من ينادي بالانتظار وتعليق النضال حتى يتمكن " الاعداديون " من بناء الحركة العربية الواحدة ، والحال ان  فكرة الاعداد الفكري نفسها وقع طرحها في اطار رؤية استراتيجية ، من اجل بناء آداة الثورة العربية ، وبالتالي فان تلك المهمّة في حد ذاتها هي مهمّة ثورية لا يستهان بها ، ولا يمكن التقليل من شأنها مهما صاحبها من قصور في ساحة تونس على الأقل ، خاصة وانها تجربة لم تكن خالية تماما من طرح المهام النضالية والثورية على جميع المستويات ، وفي جميع المواقع ، سواء داخل الجامعة أو في الشارع ، او في العمل النقابي ، حيث كان الاعداديون يعملون على جميع الجبهات مثلما يعمل اي طرف سياسي في تلك المواقع ، بل ان كل التحركات تقريبا كانت تحدث بالاتفاق والتوافق أو الالتقاء على مهام نضالية لا تفوت القوميين اي مناسبة منها في اي مكان لهم فيه تواجد ..
كما أنه لم يثبت أبدا ـ على المستوى العملي ـ بأن هناك دعوة عامة أو اتفاق بين القوميين للتوقف عن القيام بتغيير الواقع حتى بناء الحركة العربية الواحدة ، والحال ان الهدف من الاعداد هو هدف سياسي بامتياز ، لا يمكن تحقيقه الا بخلق محاور نضالية ، ومناخ نضالي يسمح بطرح المقاربات واثارة الجدل الذي يمكن من خلاله التعريف بالفكر الطليعي ، وهو ما يسميه الاعداديون " الاشتباك مع الواقع " ، أي أن هذا الجانب ، لم يكن غائبا عن وعيهم في اي مرحلة من المراحل .. اما كون فترة الاعداد قد امتدت الى أكثر من عمرها الافتراضي فهذا جانب يمكن أن تقع فيه المراجعات أو التخلي او التعديل والتغيير دون أن يتحوّل الامر الى تهجم على المشروع القومي برمته .. !!  
وحتى فترة الركود التي عرفها التيار القومي في تونس ـ في أسوأ الحالات ـ هي  نتيجة لحالة الارتخاء التي تميزت بها حقبة التسعينات بسبب التفكك التنظيمي الذي تحوّل ـ على المستوى الفردي ـ الى عزلة ثم الى فراغ وجمود ، فيأس واحباط وتبرير للواقع ، تزامن مع حالة الانهيار التي مرت بها الامة العربية عموما ، بداية من العدوان الاطلسي على العراق ، وتغول القوى الرجعية أنظمة وأحزابا ، على رأسها التيارات الدينية التي انتعشت من حرب افغانستان وما صاحبها من تحالفات مع القوى الغربية في تلك الفترة ضد الاتحاد السوفياتي في الخارج ، وضد الانظمة القومية في الداخل ، مستغلة موجة الدعاية الفضائية الصاعدة بفضل التمويل الهائل المرصود لها لتوجيه الرأي العام العربي الى وجهة محدّدة .. وصولا الى حالة الضياع الكبير بعد سقوط العراق ، ومحاصرة المقاومة الخ  .. حتى بدى للبعض وكأن الطرح النظري وتلك الاحلام الوردية قد سقطت في الماء .. !!
والواقع ان حالة الضعف التي عاشها القوميون ليست حالة خاصة ، بل هي حالة عربية عامة عاشتها كل القوى المناضلة في تلك الفترة ، ساهم فيها الاستبداد المحلي مساهمة كبيرة جعلت البعض يتراجعون ، أو ينكفؤون ، أو يستسلمون .. أو ينقلبون على أعقابهم فيتحوّلون الى أعداء للفكر القومي ، أو الى انتهازيين الخ .. وكله طبيعي وممكن الحدوث دون حاجة الى التعميم أو الى التأويل التعسفي ، لأن ذلك من طبيعة البشر قبل كل شئ ، والقوميون أقدر على فهم هذه الظاهرة لانهم يدركون أكثر من غيرهم بان الناس متفاوتين في جميع القدرات الخاصة بحركات الجدل الاجتماعي ..
ثم هو تأويلي متناقض على عدة مستويات :
 في المستوى الأول يعتبر أن كتابات عصمت سيف الدولة المشدّدة على ادانة الاقليمية ، قد فهمها الاعداديون على أنها تجيز لهم محدودية الانخراط في العمل السياسي على المستوى القطري ، حتى لا يقعوا في شباك الاقليمية .. وهو ما جعل الدكتور عصمت سيف الدولة " يتفطن " ـ كما قال البوعزيزي في نفس المقال ـ  إلى كون مقولة ( إن الإقليمية عاجزة عن حل مشاكل الشعب العربي التي لا حل لها إلا الوحدة العربية ) " أصبحت مهربا يلتجئ إليه عديد المناضلون الوحدويون حتى لا يواجهوا مخاطر النضال الشعبي بين الجماهير في كل إقليم ، فكتب خطة جديدة ترسم مهام أنصار الطليعة في واقعهم الإقليمي المترافقة مع عملهم الدؤوب من أجل الإعداد البشري لبناء أداتهم التنظيمية " ...
ثم يقول بأن هذه الخطة الجديدة ( الواردة في الدراسة المذكورة ) " أغنى فيها نظرية الثورة العربية بإضافة نوعية حول أساليب نضال القوميين التقدميين لإنشاء أداتهم التنظيمية وبناء دولة الوحدة ورسم فيها مهام نضالية ينجزونها في ظل الواقع الإقليمي  " ..    
ووجه التناقض في هذا الجانب أنه عاد بعد ذلك ليستشهد بما كتبه عصمت سيف الدولة خلال الستينات والسبعينات على انه يتطابق مع تلك الخطة التي قال بانها جديدة ، ومتطوّرة ، فينقل فقرات طويلة ومتتالية من كتبه السابقة ومنها الكتابين السادس والخامس من " نظرية الثورة العربية " وكتاب " حوار مع الشباب العربي " ، دون أن يتفطن الى ما كان يناقض به نفسه حينما يستشهد بالقديم مما كتبه الدكتور لتدعيم فكرة يقول انها جديدة مثلما ورد في المقال المشار اليه .. وهو ما ينفي فكرة التطوّر و" التفطن " من أساسها .. بل بالعكس فان اتباع مثل هذا النهج الاستدلالي الذي يدعم فيه القديم الجديد ، انما يأكد على أن كل كتابات عصمت سيف الدولة هي استكمال لنفس المشروع الذي بدأه منذ الخمسينات ، وهو الذي يربطه خيط منهجي واحد هو جدل الانسان ، لذلك لا تخلو حتى المقالات والمحاضرات والحوارات الصحفية التي أجراها في فترات متفاوتة ، من هذه الخلفية .. بل ان مثل هذا أيضا نجده حاضرا حتى في مرافعاته القانونية المتعلقة بالقضايا السياسية الخ ..    
وهو تأويلي تبريري لأنه يعتمد في تهرّبه من المشروع القومي على مبررات ضعيفة ، ناتجة بالاساس عما  يُنسب للقوميين من عجز على تجاوز الواقع ، وليس من خلال اكتشاف تناقضات داخل المشروع الذي يعملون من أجله .. والهروب هنا أيضا تبريريا واهيا لأنه  لو صح في هذا ، لصدق على مثله كأن يتخلى المسلمون عن اسلامهم بسبب الفشل أو بسبب  التخلف أو بسبب الاستبداد الذي يعيشونه منذ الف عام .. !! 
ثم هو تأويلي مضاد لأنه صار يلتقي مع جميع التيارات الرجعية المعادية للمشروع القومي في شيطنة القوميين دون غيرهم من القوى .. فالقوميون هم المستبدون ، والانقلابيون ، والعسكريون ، والايديولوجيون .. الخ ، وقد تأكد هذا وتحوّل من حالات الوهم العابرة ، الى الحالة المرضية الدائمة حينما أصبح يتكرر بمناسبة وبدون مناسبة ، لعل آخرها ما كتبه في ذكرى ثورة يوليو على صفحات التواصل ونقله موقع (tunivers citoyen  ) تحت عنوان : " في ذكرى يوليو العسكر العربي " ، أعاد فيه نفس الفقرة ونفس الفكرة التي ختمها باسلوب يبطن التهجم ليس على الحكام القوميين في مرحلة معينة فقط ، بل على الحركة القومية ماضيا ومستقبلا  .. !!
والبوعزيزي الذي يعرّف نفسه دائما بانه باحث في الانتروبلوجيا الثقافية ، نجده يقفز قفزات طويلة على الواقع والظروف الاجتماعية وهو يشير في كثير من الاحيان الى ظاهرة الانقلابات العسكرية ليجعل منها ظاهرة عربية خاصة باصحاب النزعة القومية ، وهو في الواقع ابعد ما يكون ـ بهذا الاسلوب ـ عن البحث والفهم والاستنتاج الصحيح ، حيث ان ظاهرة الانقلابات العسكرية في كثير من الدول العربية والافريقية كانت ـ في ظروفها ـ حلا من حلول الضرورة للواقع المتردّي الذي لم يعد يقبل الانتظار ، والذي تتواجد فيه قوى سياسية يستحيل التعويل عليها في احداث هذا التغيير اذ هي أحزاب فاسدة بالاساس ، متعايشة مع الانظمة والاحتلال الاجنبي في نفس الوقت .. وهكذا يصبح القفز على هذه النواحي ، ضربا من ضروب الوهم والتخبط العشوائي الذي ينتقي الوقائع ليس من اجل تفسير الظاهرة تفسيرا موضوعيا وقد جاء بعضها بالخلاص للناس في تلك الظروف ، بل من أجل ادانتها في مطلق الحديث ..  وهو ما يجعل هذا المنطق في النهاية منطقا عدميا سفسطائيا لا يهدف الى توجيه النقد للتجارب القومية ، بل للاساءة اليها دون أي تنسيب موضوعي  ، ودون تمييز بين المدارس القومية وتجاربها المختلفة في السلطة أو خارجها ، وبين التجارب الحديثة القائمة على المراجعات والانتقادات للتجارب السابقة .. وهو ما يجعل تلك الاحكام فاقدة لاي معنى ، ومتطرفة في اتخاذها منحا هجوميا عدوانيا مشبوها على المشروع القومي باكمله ، دون التعرض ـ بأي نقد ـ لاي مشروع آخر من المشاريع الرجعية المطروحة على الساحة العربية ، سواء من جانب وقوفها على أرضية ايديولوجية هو لا يدين بها سوى القوميين ، او من جانب مضامين اطروحاتها الرجعية ، واللاديمقراطية ، في الفكر والممارسة ، لا نجده يخص بها الا التجارب القومية    ..
للحديث بقية .. 

( القدس ) .

***


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق