بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 يوليو 2013

الاحتلاف ومظاهر الاعجاز في القرآن .



                    الاختلاف ومظاهر الاعجاز في القرآن  .

ان من أكثر الدعاوي سببا في الفرقة والصراعات الدموية اليوم داخل الامة الواحدة ، صراعات ذات علاقة مباشرة بمفاهيم خاطئة عن القومية من ناحية ، والاسلام من ناحية ثانية .. وخاصة عند الذين يضعون الدعوة الى الوحدة القومية في عداد الدعوة المناهضة للاسلام .. بل ان الامر قد تطوّر بهم الى جعل الاسلام مرتبط بمفهوم واحد ثابت في الزمان ، هو اسلام الفرقة الناجية التي ترفض كل ما هو مختلف معها حتى في الفروع من دون الاصول .. في حين نجد ان الاختلاف في حد ذاته و في جميع مظاهره سنة الهية .. بل أن الاختلاف  قد يصبح  ـ في بعض مظاهره ـ آية من آيات الله ،  كما جاء في قوله تعالى : (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنـتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالميـن ) ( الروم / 22 ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو كيف يكون اختلاف الالسن والالوان آية أو معجزة من المعجزات ...؟؟
في الواقع ان المتأمل في هذه الآية  لا يجد فقط أنها قد دلت على ان اختـلاف الألسن والألوان يمثل آية فحسب ، بل يمثل آية تضاهي من حيث الاعجاز آية خلق السماوات والارض ، اذ  ورد  ذكـرهما مقـتـرنا بهما .. وقد تكـرّرت الاشارة الى الاعجاز في خلق السماوات والارض  في العديد من الآيات لما فـيهما من دليل على عظمة الله .. قال تعالى :  ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ (آل عمران / 189-190)   وقال : ﴿وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام  وكان عـرشه على الماء ليبلوكم أيكم احسن عملا   ( هود / 7 ) وقال :   ( الله الذي خـلـق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تـتـذكـرون)  ( يونس / 3 ) . وقال : ﴿ خلق السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين   (العـنكبوت / 44 ) وقال تعالى ( ومن آياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم اذا يشاء قدير ) ( الشورى / 29 ) .. 
 فسبحان الله ... 
لماذا اعـتبـر الله اختلاف الالسن والالوان آية تضاهي آية خلق السماوات والارض  وهما  يمثـلان الكون باكمله ، وبكل ما فـيه من كواكب سيارة وافـلاك ومجرّات  واشياء  محكمة لا نعلم عـنها الا القـليل فـيعجـز عـن وصفها اللسان ، كما يعجـز عـن تصوّرها العـقـل ؟ .. لماذا كل هذه المنـزلة لاخـتـلاف الالسن والالوان ونحـن نعـرف ان خـلـق السماوات  والارض قـد اقـتـضى مدة لا تقـل عـن ستـتة ايايم كاملة كما اخبـرنا بذلك مالك الملك ، وهو القادر على أن يقول للشئ كن فيكون ؟
من المؤكد ان صدق الجواب ومطلق الاجابة علمهما عند الله ... لكن الاجتهاد يمكن ان يقودنا الى أشياء ملموسة ..
 فلو نظرنا  أولا الى اختـلاف الالوان بين الناس لوجدنا وراء ذلك عوامل معـقدة  قد لا يتوقف تأثيرها على الفرد بل يتعداه الى المجتمع بأكمله ، منها العوامل الوراثية التي يحملها الانسان منذ الولادة ، فـتحدّد ملامحه وصفاته  لكنها سرعان ما تنتشر بين الناس من خلال قوانين الوراثة التي تسري بمرور الوقت داخل المجتمع .. ومنها كذلك التفاعل  بين الناس  والمحيط  بكل ما فـيه من عناصر بيـئية مؤثـرة ، الى جانب سلوكهم وعاداتهم الغذائية الخ .. حيث ينشأ التفاعل صامتا بين ما يحمله الفرد ومحيطه ، وبين الناس جميعا من خلال ظاهـرة التكاثـر، مما يجعـل الصفات الوراثية تنتقـل في سكون تام ، ليكتمل التاثـيـر والتاثر بشكل بطـيئ بين مخـتـلف هذه العوامل التي لا يقـتصر تأثيرها على القـلـّـة فحسب ، بل يشمل جميع الافـراد في المجـتمع ، لتتحدّد قسماتهم وسماتهم من خلال لون البشرة ولون الشعـر وبعض الملامح العامة مثل طول القامة وغيرها ...
كما أدّى انتشار الناس واختلاف بيئـتهم ، إلى جانب القطيعة الوراثية الحاصلة بسبب الحواجـز الطبيعية  والامتداد الجغـرافي  وغـيرها من العـوامل .. الى اخـتـلاف الطباع والألوان .. 
ولعل في  تشابه الصفات والالوان داخل المنطقة الجغـرافية الواحدة ، واختلافها في نفس الوقت بين الجهات المتباعدة جغـرافيا ما يفسر خلوها التام من الصدفة .. بل يدل على انضباطها بقوانين هي بمثابة المعجـزة الحقـيقـية التي تتحكم في حـركـتها قوانين وسنن الهـية محكمة يعرفها أهل الاختصاص في علم الوراثة والبيئة والانـتـروبلوجـيا ...
ثم اننا لو نظرنا الى اختـلاف الالسن ، لوجدنا كذلك سببا واضحا لهذه المنـزلة العظيمة ، متمثلا في اثر ذلك الاختلاف على مسيرة الحياة الانسانية كافة ، حيث تـتـعدّد المجـتـمعات وتـتغـيّـر بنيـتها خلال مسيرتها التاريخية ، فـتـكون اللغة عاملا أساسيا في تطوّرها وتـنوّعها ، سواء عـبــر مراحلها المتعاقـبة من العشيـرة إلى القـبيلة إلى الأمة ... أو في كل مرحلة  من مراحل تطوّرها .. حيث جعل الله الحياة على تلك الصورة .. قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خـلـقـناكم من ذكـر وأنثى وجعـلناكم شعـوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم ) ( الحجرات / 13 ) .
ان موضوع الخلق ، الذي ذكـره الله في جميع الآيات السابقة ، الخاصة بالكون أو بالمخلوقات ، يمثل في حد ذاته دليلا واضحا على عظمة الخالق .. لكنه من ناحية أخرى ينـفي أي نوع للصدفة عن الظاهرة ، ويعطيها صيغة الحتمية ، بحكم ان كل ما أوجده الله متحرك وخال من السّكون ، مما يجعله يخضع في حركـته الى قوانين حتمية لا تتبدل وهو ما يُعـرف في تراثنا بالنواميس والسنن الالهـية ، المشار اليها في العديد من الآيات الواردة في القرآن الكريم . قال تعالى : ﴿ سنة الله في اللذين خلوا من قبلكم ولن تجد لسنة الله تبديلا  ( الاحزاب / 62) ، وقال : ﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله  تبديلا ﴾( الفتح /  23 ) ، وقال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا )  ( فاطر / 43 ) ...
ان حتمية السنن الكونية كما ارادها الله سبحانه هي اعظم حكمة للوثوق في المستـقـبل ، ومعـرفة اتجاهه .. بمعـنى اذا كانت الشروط الموضوعـية التي تتحكم في فعالية القوانين معـروفة ، قد تكون النتائج معـروفة ، وهذا يمنحنا الثقة في أنفسنا أولا ، كما يمنحنا ثانيا امكانية توجـيهها أو توقع حدوثها ..  أما اذ أخطأنا ، فيكون السبب راجعا إلينا ، إما لقصور في المعـرفة أو في التـنـفـيـذ ...  وقد دعانا سبحانه لإدراك هذا التنظيم المحكم بالعـقل عـندما أشار في العديد من الآيات التي تحيل العاقل الى عقـله للتـفـكّـر والتدبـر واليقين بقوله : ( لآيات للعالمين ، لآية للمؤمنين  ، لآيات لاولي الالباب ، افلا تتذكرون ، افلا تعقلون  ، أفلا يسمعون ، افلا يوقـنون ....) . ومنها نتعـلم ان  كل الظـواهـر الانسانية خاضعة لسنن الله بما في ذلك ما يظهـر من اخـتـلاف في الالسن  والالوان بين البشر ..
 ولعل ما يدل فعلا على ان المجـتمعات تخضع في تطوّرها الى قوانيـن علمية محكمة ، هو انتاج نفس الظاهـرة عـبـرالمسيـرة الانسانية الطويلة ، حيث انتـقـلت المجـتمعات البشرية بشكل مماثل من الاسرة الى العشيـرة الى القـبيلة الى الامة .. رغم النشأة المخـتـلفة ، والبيئة المختلفة والطباع المختلفة .. 
ان البحث في الاسباب التي قادت الانسان الى انتاج نفس الظاهرة يمكن أن يكون من خلال التأمل في مضمون النشاط  الانساني الذي نراه يتجه دوما للتحرّر من قيود الحاجة المتجددة ، مستغلا قدرته الجدلية على تصوّر الحلول  لتحقيق حياة افضل .. و لما كان الانسان الفرد غـيـر موجود أصلا بمعـزل عـن المجموعة ، و ان الظروف التي كان يواجهها أكبر من طاقـته ، فانه انصرف يبحث عن الاطـر التي تحميه وتضمن له البقاء على قيد الحياة أولا ، ثم تتيح له امكانيات التطوّر بشكل افضل  ثانية .. وقد كانت الروابط الاسرية والدموية هي الحل الأمثل الذي يتحقق به مزيدا من الحرية للإنسان .. لذلك استمرت تلك الأطر على المستوى الانساني عامة ، وأدّى التفاعل البشري داخلها  إلى إبداع اللغة ..
ان الحصيلة الهامة المترتبة على اختلاف الألسن ، اذا تأمّـلنـاها ، تجعـلنا  ندرك بوضوح بان وجه الإعجاز قد يكون مرجعه الى ما يترتب على تعدّد الألسن من تعدد للأمم التي تملا الأرض قاطبة . فهي تتكون نتيجة مراحل طويلة من التفاعل البشري ، تمثل اللغة  أحد ابرز أدواته . وهي بهذا المعـنى معجـزة حقيقية ، قد تبدأ بالتفاعل والتواصل - قبل ظهور اللغة - عن طريق ما يجري على اللسان من أصوات غـريبة متبوعة بالإشارات  ، إلى أن يكتمل الإبداع الإنساني باكتمال رموز اللغة وأدواتها  ليكونوا بها أقدر على العـيش المشترك والتفاهم . ثم ان الناس وهم يعـيشون واقعهم المشترك ويتواصلون بلسانهم الواحد ، يسهمون معا في صياغة شخصيتهم الحضارية التي تميّـزها عاداتهم وتقاليدهم وثقافـتهم الخاصة ..
 فكيف يحصل كل هذا في الواقع ؟    
خلال المرحلة القـبلية لا تختص القبائل المرتبطة بروابط الدم الحقـيـقـية أو الوهمية  بالأرض . فهي متنـقـلة ، متصارعة ، متقاتلة على مصادر العيش مثل الماء والكلأ  وغيرهما .. ثم مستقـرّة الى ان ينضب عيشها  او ينحصر ، فـتـنازع غـيرها على ما يملك .. واحيانا تترك بعض القبائل الارض دون قتال اذا نضب مورد رزقها او اذا وجدت ظروفا أفضل للعـيش .. وبمثل هذا تقريبا تميّز تاريخ  جميع القبائل التي كانت تملا الارض قبل المرحلة الشعوبية ، فكانت حياتها عبارة عن " صراع الوحدة في مواجهة الاختـلاف " أي وحدة القبيلة في مواجهة القبائل الاخرى .. وهو صراع طويل مرير  تطور بمرور الزمن الى " صراع الوحدة في ظل الاختـلاف " أي التنافس بين القبائل في اطار القبول بالتعايش والتعاون .. فكانت اضافة رائعة تخـرج من رحم المعاناة ، و تؤسّس لمراحل اكثر تقدما ورخاء ... فكانت المرحلة الشعوبية هي المرحلة الأكثر تطورا من المراحل السابقة لسببين . السبب الاول يتمثل في تجاوز التعدّد . اذ ان القبائل المتصارعة لا تلبث ان ينهكها الصراع جميعا  حيث تبدأ القبائل الضعـيفة في التحالف مع من مثلها لتواجه عدوا مشتركا  يهدّد وجودها باستمرار ، فتتحالف وتتعاون وتصوغ فيما بينها علاقات شبيهة بالوحدة ولو ظاهـريا بيـنما لا تزال  مختـلفة ومتمايـزة بما يميـز القبائل  بعضها عن بعض  .. غـيـر ان هذه المصلحة المشتركة تمنحهم المزيد من التفاعل والتقارب الذي سيؤدي الى الانصهار التدريجي ... من خلال التفاعل المستمر الذي سيظهر اثـره في حياتهم بمـرور الوقت  ليشمل كل جوانب الحياة ، من اختلاط رموز اللغة القبلية الى العادات والتقاليد الخ .. وقد يتّسع التعاون والتعايش ليشمل قبائل متعدّدة تعاني من نفس المشكل ، فـيصبح التفاعل بينها قاعدة لحياة جديدة ، لان الغـزو قد ياتي ايضا من اطراف اخرى بعيدة عـنهم فيهدّدهم خطرها جميعا ، فيتوحدون ضدها ، مُـفسحين المجال لنشوء روابط جديدة واسعة ، يتحوّلون من خلالها بشكل بطئ الى شعـب .. وهكذا بمرور الوقت يبرز السبب الثاني متمثلا في ارتباط هذه القبائل الموحّـدة بالارض واستقرارها عليها .. حيث يكون اختصاصها  بها عـنـصـرا جديدا ،  ومهمّا ، لم يكن يميز التشكيلات السابقة التي تمثل الارض بالنسبة لها مجرد عـنـصر استغلال يمكن التخلي عنه  في أي وقت اذا أصبح عائقا امام تطوّرها ، كظهور خطر يهدد وجودها ، أو الوصول الى الندرة التي لا تفي بالحاجة .. في حين اصبحت الارض في هذه المرحلة عـنصرا من عـناصر الوجود ذاته .. يتم الدفاع عـنها من طرف الجميع ، فيقاتلون وينتصرون ويصوغون ملاحم مشتركة وبطولات .. لتتحول  - بعد ذلك  - انتصراتهم الى فن وشعـر وتمجيد الخ .. وقد زاد تطوّر المعـرفة باستغلال الارض وتظافـرالجهـود في حل مشكلة الندرة وقـلة الانـتاج ، في تحقـيـق اضافة رائعة منحتهم مزيدا من الالتحام  بالارض ... معلنة عن تحوّل القبائل المستقرّة الى شعب .. فكانت تلك المرحلة الشعـوبية عبارة عن مرحلة انتقالية من طور محدود الامكانيات ( الطور القبلي ) الى طور أكثر تقدما وتحرّرا (الطور القومي ) ، لان الحياة السابقة قد استـنـفـذت كل طاقـتهم ولم تعد تـفي بالحاجيات المتجددة والمتـزايدة  للامن والغذاء .. وأصبح في قـناعة الجميع ، ولو من خلال الصراع ، ان الظـروف الجديدة افضل بكثير لحل كل المشكلات السابقة ... وتلك هي مراحل الانتقال التدريجي والبطئ لتشكل الامة واكـتمال تكوينها بشطريها وشرطـيها : الارض والشعـب . حيث يكون لسان القوم أو اللغة اضافة انسانية رائعة ، يسهل بها تفاعل الناس وتواصلهم ، فتساهم في صنع استقـرارهم النفسي وقبول الاختلاف والتعايش بينهم حتى يثمر تفاعلهم الطويل في تكوين  تاريخهم المشترك ، وحضارتهم الخاصة .. فيكوّنون أمة مختلفة عما سواها بما يميز الامم  بعضها عن بعض .. لغة وفـنا وعادات وتقاليد وحضارة وتاريخا .. وبذلك كان اختلاف الالسن معجـزة فعلا وآية عظيمة من آيات الله .. حيث تؤدي وحدة اللسان أو اللغة الواحدة الى وحدة المجتمع ، في حين يؤدي اخـتلافها وتعدّدها الى تعدّد المجـتـمعات والأمم .. ولله في خلقه شؤون ..

 ( القدس عدد 80 ) .  





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق