بين منظومة الاستغلال والاجتهاد
في الاسلام ..
الثابت في ديننا ان الاسلام بُـني اساسا
على مقاصد تهدف لضمان المصلحة العامة قبل
الخاصة ، والاجتماعية قبل الفردية وهو ما يفسر ويبرر مبدأ الحلال والحرام في
الاسلام .. لان الفساد يبدأ عادة في مستوى ضيق ، يشمل فردا او مجموعة افراد ثم
يتـفـشى ويتـسع ليصبح ظاهرة اجتماعـية قد تصعـب مقاومتها عندما تتسع قاعدتها
وتنتشر بين الناس ، فتسبب خراب المجتمعات .. لذلك يأتي التحريم على المستوى الفردي
لمنع نشوء الظاهرة من اساسها .. والواقع فان الفقهاء والمجتهدين لم يختلفوا كثيرا
في هذه النواحي على مـر العصور.. غير ان مغادرة هذه الارضية التي تاخذ بتلك النظرة
الشمولية في علاقة الخاص بالعام ، يجعل الكثير من المجتهدبن قي عصرنا يغـلـّــبون
أحكاما خاصة بالفرد على مصلحة المجموعة على غـرار مسألة الملكية التي يعـتـرف فيها الاسلام بحرية التملك لكنه يجعل لها حدودا ، وهي ان
تكون ملكية غـيـر مستغلة .. فمالذي يدفع بعض
الشيوخ لرفض الاشتراكية كنظام اقتصادي لمجرد الاعتقاد بانها وافدة وملحدة ؟
ان الحديث في مثل هذه المسألة يزيح الغطاء
على الكثير من المسكوت عنه في ديننا . اذ ان المؤسف حقا هو ان العديد من رجال
الدين لا يعلمون ولا يفقهون شيئا في الاقتصاد وعلومه ، وتجاربه .. في حين تجدهم أكثر الناس سخبا ولغطا في مسائل
اظهر الواقع ذاته انها مصيرية وملحّة ، مثل العدالة الاجتماعية ومحاربة الاستغلال
..
والواقع إن رفضهم يقوم منذ البداية على اساس
الخلط الواضح بين مفهوم الاشتراكية والشيوعية من ناحية وبين الافكار الفلسفية
الالحادية والنظم الاقتصادية التي لا علاقة لها بالكفـر والايمان .. فاذا كانت
الاشتراكية ملحدة ، هل الاقطاع والرأسمالية منظومات واقعة في دائرة الايمان ؟ ألا
يوجد اقطاعيين أو رأسماليين ملحديـن ؟
ان أكثر ما يحاول رجال الدين المعاصرين توظيفه
لاسكات خصومهم هو التأويل الخاطئ لآيات
القرآن الكريم .. على غرار القول ان الاسلام هو البديل الذي يمكّـننا من استنباط
كل الحلول دون حاجة للنظريات الوافدة .. معتمدين
على قول الله تعالى : ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾
( الأنعام / 38 ) وقوله : ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾ (
النحل / 89) . والواقع فان مثل هذا القول
يبين الخلط الشديد بين أمرين :
أولا ان النظم الاجتماعـية هي مسالة متغـيـرة
ومتطورة حسب الظروف التي تتـغـيـر بدورها من عصر الى عصر لذلك ترك الاسلام فيها
مجالا للاجتهاد ، ولم يذكر حلولا جاهزة تماشيا مع سنة التطور .. وثانيا فان هذا التأويل
فوق ما تحتمله الآية ؟ فإذا كان الله سبحانه قد بين كل شئ في كتابه ، هل رجال الدين
مؤهلون على طول للوصول الى معـرفة كل شئ
معـرفة يقـينـيـة جازمة ؟
يقولون أن الإسلام لا يسمح بمس حقوق الفرد
في التملك والإرث ، وهو صحـيح . ولكن من غير الصحيح القول بان النظام الاشتراكي يمس بتلك الحقوق
الثابتة . لسبب بسيط هو أن الملكية ليست كلها مستغـلة .. وكل ما في الأمر أن بعض
الملكيات الكبيرة التي تتسبّب في بناء علاقات قائمة على الاستغلال تخضع لضوابط
تحدّدها الخطط الاقتصادية التي توظف
التملك لخدمة المجتمع وتوجّهه حتى لا يكون مستغلا كما أمر بذلك الشرع من خلال تحريم الاستغلال
ومنع الربا .. الم يقل النبي صلى الله
عليه وسلم ان ( الناس شركاء في ثلاثة : في الكلأ والماء والنار ) ، هل هذا يعني ان يبقى الناس الى يوم الدين شركاء في هذه
العناصر الثلاثة فقط ، ام اننا ننزّل هذه
الشراكة في واقعـنا ، و نقيس عليها ما يتفق مع ظروفنا وزماننا ، ومكاننا ..؟ الا
يؤكدون على اهمية القياس ؟
ثم لنتأمل ما جاء في كتاب الله أولا . قال تعالى : ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ﴾ ( البقرة /
275 ) وقال تعالى : ﴿يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما
بقي من الربا ان كنتم مؤمنين ) ( البقرة / 281 ) ، وقال : ﴿ يا
أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم
) ( النساء / 29 ) ، وقال : ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أموالكم
بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون ﴾ ( البقرة / 188 ) ، وقال : ﴿ واتبع الذين ظلموا ما
أترفوا فـيه وكانوا مجرمين ﴾ ( هود / 116 ) ..
أليس النظام الاشتراكي الذي يحارب كل هذه المظاهر الفاسدة التي حاربها
الاسلا م ، وحرّمها ، اقرب الى شريعة الله
الداعـية الى العدل والمساواة وصيانة الحقوق الفردية والعامة ، و اقرب الى
روح الدين ومقاصده التي لا تتبدل بتبدل النظم ؟ ثم هل دعى الاسلام الى
النظام الرأسمالي ، او الإقطاعي وهي نظم الاستغـلال ، والاستبداد على مدى التاريخ
؟ لماذ الدفاع عن هذه النظم التي جلبت الكوارث للبشرية ، وخرّبت القيم وهي قائمة
على المنفعة .. و الربح والاستغلال ..
ثم فلـنـنـظـر الى التوزيع العادل للفـئ في
الآية الكريمة ، قال تعالى : ﴿ و ما أفاء الله عـلـى رسوله من أهـل القـرى فللّه و للرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي
لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
واتقوا الله ان الله شديد العقاب ) ( الحشر/ 7 ) . فاذا
كان ما جاء من الفئ مقسم بهذه الطريقة العادلة على كل المستحقين في المجتمع ، اليس
ثروات الوطن التي يستأثر بها الخاصة أولى بهذا التقسيم ..؟
ان ما يجعـل امر الرفض يتحول الى التضليل
هو أن رفض هؤلاء للفكر الاشتراكي لا يقوم
على اساس انه اجـتهاد خاطئ ، بل على اساس
انه فكر الحادي وافد .. فلا يُـفـيـد
المتعصبون المجتمع أو الديـن في شئ لانهم ينصرون أطرافا ونظما استغلالية حاربها
الاسلام .. وهم في الواقع يرفضون ما لا
يفهمون ، فيحرّمونه دون سند شرعي .. قال تعالى : ﴿ ولاَ تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلا وهذا حرام لتفتروا عَلَى
اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْـتـرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ
يُفْلِحُونَ﴾ ( النحل / 116 ) . يقول ابن كثير: وَيَدْخُل فِي هَذَا كل من ابتدع بدعة ليس
له فـيها مستـند شَرْعِـيّ أَوْ حَلَّـل شَيْـئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه أَوْ
حَرَّمَ شيئا مِمَّا أَبَاحَ اللَّه بِمُجَرَّدِ رَأْيه وَتَشَهِّـيه .. " .
والله أعلم .
( القدس عدد 79 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق