بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 نوفمبر 2015

حقوق الانسان بين الشكل والمضمون ..

حقوق الانسان بين الشكل والمضمون ..

(1)

بدأت فكرة الحقوق في الظهور كمطلب مقترن بالدفاع عن كرامة الانسان ، منذ زمن مبكر في كل من بريطانيا اثر صدور ما يعرف بشرعة الحقوق سنة 1689 ، وهي وثيقة تطالب الملك وتلزمه بالكف عن ارتكاب التجاوزات ، وتضمن بعض الحقوق للمواطن البريطاني .. وفي الولايات المتحدة اثر صدور اعلان الاستقلال سنة 1776 ، الذي أكد على مبدأ حرية الانسان وتمتعه بالحقوق الطبيعية المتأصلة فيه منذ الميلاد .. ثم في فرنسا ابان الثورة الفرنسية التي صدر فيها اعلان حقوق الانسان والمواطن سنة 1789 ، وقد كان يتجاوز الوثائق السابقة ـ كما يقول الحقوقيون ورجال القانون ، في الوضوح ، والشمولية ، حيث لم يقتصر على حقوق الانسان في فرنسا وحدها ، بل اتخذ بعدا انسانيا عاما ليصبح القانون الفرنسي الذي تضمنه دستورالجمهورية الاولى سنة 1793  وما تلاه من الدساتير حتى الجمهورية الخامسة سنة 1958 ، ركيزة اساسية في جميع دساتير العالم الى الآن ، وخلفية حقوقية لكل المدافعين عن حقوق الانسان ، خاصة بعد صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تبنته الامم المتحدة سنة 1948 .. وهذا فضلا عن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من جهة ثانية الصادرين في 16 ديسمبر 1966 ..
والواقع ان كل هذه الحقوق والمكاسب تحققت بفضل التضحيات والنضالات التي خاضتها الشعوب في كل مكان لافتكاك الحقوق الفردية والجماعية التي لا تكتمل بدونها حرية الانسان وكرامته .. غير ان الذي يتأمل أغلب الفصول والقوانين المعلن عنها في تلك الحقبة والتي لا تزال سارية ومعمولا بها الى حد الآن ، ثم الى الاطراف التي صاغتها ، والى النقاشات والصراعات التي تواصلت على مدى اكثر من عامين داخل أروقة الامم المتحدة ، يدرك بسهولة ، ووضوح ، الخلفية التي صيغت بها تلك القوانين والمبادئ التي تحولت تدريجيا الى فلسفة شاملة ، ورؤى ، ومفاهيم عامة وأزلية لحقوق الانسان ، يتساوى فيها الناس في كل مجتمع وفي كل عصر  ..  ومن هنا تأتي الثغرات  ، والمغالطات أحيانا على يد الحقوقيين حيث يتم التأكيد على جوانب دون  أخرى ، فلا يكاد هؤلاء يلتفتون الى غيرها وهي لا تقل أهمية ، وقد يكون تأخر لائحة الحقوق الخاصة بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية الى سنة 1966 ، وامتناع دول الكتلة الشرقية عن التصويت سنة 1948 أكبر دليل على ذلك  .. هي اذن خطوات هامة ومصيرية حققتها الشعوب بانتصارها على القهر والاستبداد والظلم ، لكنها تظل منقوصة بدون قوانين عملية تضمن الحقوق الحياتية مثل الشغل ، والتغطية الاجتماعية والعلاج والتعليم المجاني ، الخ  ...  

(2)    

حين اراد جورج بوردو الحديث عن واقع الديمقراطية صنفها ـ كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة ـ الى نوعين : " ديمقراطية محكومة " و " ديمقراطية حاكمة "  ، وهذا وفقا للتقسيم الذي اعتمده بوردو للشعب ، وذكره أيضا الدكتور امام عبد الفتاح قال :  
 " أ ـ الشعب الذي يتالف من مجموع المواطنين ، وهم يتميزون بالغـربة الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية ، وهذا الفهم " للشعب " يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوّع ، والانقسام ، والتعارض ، كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والاذواق .. الخ  
ب ـ الشعب الذي يتألف من " الإنسان " كما هو في الواقع ، وفي الواقع لا يتميز الإنسان بجوهـره أو بعلاقته بنمط مثالي . انما بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي الذي يختلف عن وضع غيره من الناس . انه الإنسان الذي تقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدّده مهنته ، وأسلوبه ، ووسائل حياته الواقعـية ، وليس عن طريق التامل الميتافيزيقي في جوهره  . ويؤثر هذا الخلاف الجذري تاثيرا عميقا في نوع الديمقراطية 
فالمواطن يحمل في ذاته امتيازات اكتسبها من كونه انسانا ، أعني من طبيعته الانسانية .
أما الانسان " الواقعي " فهو يكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه ، وبمعنى آخر ليست هناك حقوق للانسان بما هو انسان : حق الحياة ، وحق الحرية وحق التملك ، والمساواة ، والتفكيـر والتعـبيـر عن آرائه ..الخ . فهذه كلها افكار " ميتافـيـزقية " ، فالقول مثلا أن الحرية هي أحد الخصائص الانسانية الاساسية أو أنها " ماهية " الانسان اذا فقدها فقد انسانيته معها هو قول " مثالي " " خيالي " ، تلك هي الحرية الميتافـيـزقية التي تعـتبـر الحرية جزءا من طبيعة الانسان اينما كان .. " أما حرية الانسان الواقعي فهي مفـتـقدة دائما بحكم ان احتيـاجاته متجدّدة أبدا .. لهذا نجده ينـزع للتحـرّر من أي علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلـية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزّاع دائما الى التغـييـر الاجتماعي .. "
ثم يضيف ناسبا الفكرة للدكتور عصمت سيف الدولة : " على هذا الأساس تفتـرق الديمقراطية المحكـومة عن الديمقراطية الحاكمة . فالأولى قائمة على أساس المفهوم الأول " الزائف " للشعب ويؤدّي الى الاستبداد " المتحضر " : نظام ديمقراطي كامل الشكل والمواصفات التقليدية حيث يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، لكنه " شعب زائف " ذلك لأن الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا الشعـب المثـالي . ومن ثم فان الديمقراطـية المحكومة ( أي الليبـرالية ) ليست سوى آداة استـبداد ( متحضّـر ) " بالشعب الحقيقي "، وبالرغم من كل ما يتوفـر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسمّاة ديمقراطية " ..  
وهكذا فان مأساة الديمقراطية عند أغلب الحقوقيين ، تكمن في مفهومها الهلامي المطلق ، من خلال ارتباطها بالحقوق الفردية ، ومضامينها البراقة ، كحقوق أزلية ثابة في الزمان والمكان ، مفرغة من اي مضمون اجتماعي لا يستوي فيه كل الناس ، فلا يستطيعون الاكتفاء بتلك الحقوق المتصلة بطبيعة الانسان وجوهره الثابت ، دون توفرالحد الادنى من حاجياته المتجدّدة أبدا .. 


( نشرية القدس عدد 201 ـ 202 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق