بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 نوفمبر 2015

عروبة فلسطين ..

                          عروبة فلسطين ..

( 1 ) .


نقرأ في كثير من الدراسات والكتب اجتهادات الكتاب والباحثين العرب والمسلمين في اثبات عروبة فلسطين من خلال سرد التاريخ القديم للجماعات التي عاشت وأسّست بعض الحضارات والدويلات منذ ما قبل المبلاد .. مع محاولات تبدو احيانا متعسفة على التاريخ ـ لدى البعض ـ من خلال التأكيد على نفي أي علاقة لليهود بفلسطين ، أو جعل تلك العلاقة عابرة ، لا أثر يذكر لها في التاريخ القديم .. وفي كثير من الأحيان نسمع التهجم على بني اسرائيل الذين عاشوا في تلك الفترة وكأن هؤلاء هم الذين اغتصبوا فلسطين اليوم .. وهذا كله مجانب للحقيقة .. وهو قائم على خلط كبير في فهم مراحل التطور التي مرت بها البشرية .... كما نجد قراءات تاريخية موضوعية تتحدث عن أحداث التاريخ على غرار ما ذكره الدكتور رأفت النبراوي ، العميد بكلية الآثار جامعة القاهرة ـ مجتهدا ـ في احدى الندوات المنعقدة في مصر تحت عنوان " القدس عربية " لاثبات عروبتها : (القدس شيَّدها الملك الصادق ، أحد ملوك اللوسيين الأوائل عام 3000 ق . م ، وهم إحدى بطون العرب في مدينة يوبوس ، وخضعت بعد ذلك لحكم فراعنة مصر خضوعًا تامًا عام 1479 ق . م ، وجاء المصريون القدماء وسموها « أورسالم » ، ويلفت إلى أن هذه الكلمة لها شقان هما « أورو» ومعناها مدينة و« سالم » ومعناها السلام ، فسموها « مدينة السلام » ، ومن هنا اشتقت عبارة «أورشاليم » ، وفي ذلك الوقت خرج بنو إسرائيل من مصر سنة 1292 ق . م متوجهين الى فلسطين فاستوطنوها واستولوا عليها وقتلوا 10 آلاف رجل وامرأة من سكانها ، ولم يرحموا كبيرًا ولا صغيرًا ثم تخلوا عنها وتركوها تحت ضغط اليبوسيين ، وجاء الكنعان في ذلك الوقت وترك اسمها «أورسالم » ولم يغيره وتم تشييد الهيكل المنسوب إليها عام 1007 ق .م .. ويواصل النبراوي سرد الوقائع للتأكيد على عروبة القدس بقوله : في عام 18 ق . م رمَّم الإمبراطور الروماني هيرودوس الهيكل ، ولكن تاتانيوس خرَّب بيت المقدس وأخلى القدس من بني إسرائيل ، وجاء أدرينانوس وأخذ عرش الإمبراطور وعقد العزم على القضاء على اليهود ، فشتتهم ودمَّر مدينة القدس بل حرقها تمامًا بما فيها ثم بنى بعد ذلك.. مدينة إيليا ، نسبة للأسرة الحاكمة ، ولا توجد. بقايا للدولة غير بقايا من هيكل سليمان المزعوم ، ولم يتبق لليهود شيء في القدس ، مما يجعل مزاعمهم لا تقوم على أساس من الصحة ومزاعم كاذبة .. " والواقع ان كل هذه الاجتهادات مفيدة وهامة ، بذل فيها المجتهدون جهدا يذكر فيشكر ، سعوا من خلاله لاثبات حق العرب في ارضهم التاريخية التي يحق لهم تعميرها. والاقامة عليها وحدهم لا ينازعهم فيها أحد من الغرباء ، الا في نطاق ما تسمح به القوانين المعروفة في شتى انحاء العالم .. بداية بالاقامة والشغل والتنقل والعبور .. وصولا الى قوانين الجنسية ، وحق المواطنة طبقا للشروط التي يحدّدها القانون الخ  ..
ولكن المشكل أن القرآن الكريم يذكر " بني اسرائيل " في العديد من آياته الصريحة المحكمة كما يذكر جوانب عديدة من حياتهم ، والانبياء الذين بُعثوا اليهم ، حتى أن الله يعتبر جزءا منهم من الصالحين ، قال تعالى في سورة الاعراف  :  وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك (168) " . بل يقول في سورة الجاثية  وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) ".. وهي معضلة حقيقية لا تجدي معها اساليب الانكار والنفي للوقائع التاريخية الثابتة بان بني اسرائيل عاشوا فعلا على ارض فلسطين .. وهنا يتوقف الفهم الصحيح للمشكل على المنهجية المتبعة في قراءة التاريخ ، والتي يجب أن تتطابق دائما مع الطرح القرآني .. قال تعالى متحدثا عن " اسرائيل وهو النبي يعقوب في سورة الاسراء : " ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)  .
ما المشكل اذن ان تكون قبائل بني اسرائيل المنحدرة من اصول عربية وانبياؤهم من الانبياء الصالحين الذين بعثهم الله للهداية والتوحيد مثلما بعث غيرهم من الانبياء ، قد عاشوا قبل الف ومائتي عام من ميلاد المسيح او أكثر على ارض فلسطين ، .. وما المشكل ان كان من بينهم قوم ظالون ذكرهم الله بمثل ما ذكر به أو اقل أحيانا اقوام سابقة عليهم واخرى لاحقة بهم من العرب انفسهم الذين تصدوا للاسلام ، وحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم الخ .. ولكن قد يكون من المهم ان نسأل : هل أن بنو اسرائيل الذين ذكرهم القرآن هم الصهاينة الحاليين .. ؟؟ هل هؤلاء هم الذين جلبتهم الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين بعد وعد بلفور، من روسيا ورومانيا والمانيا وافريقيا وامريكا وآسيا وغيرها ..؟
ابدا ...
فبنو اسرائيل الذين قصدهم القرآن هم شعوب المنطقة الاصليين الذين عاشوا في تلك الفترة وبعدها ، ودخل من دخل منهم في المسيحية ثم في الاسلام ، ومات من مات ، وتشرد من تشرد مثلما روى الدكتور النبراوي ، ثم تعرّب الباقون واصبحوا من اليهود العرب الذين شمل الرسول الكريم بعضهم بالمواطنة حينما ذكرهم في الصحيفة فاصبحوا يهودا عربا بغثهم وسمينم على غرار ما في العرب المسلمين من غث وسمين ..
والواقع ان المشكلة مع اليهود لم تكن لتطرح بمثل ما هي مطروحة عليه اليوم لولا اغتصاب ارض فلسطين من طرف الغزاة ، وهي التي تشهد السموات والارض بعروبتها .. لان بعد تلك الفترات القبلية التي ارادها الله مرحلة من مراحل تطور البشرية ، والتي كانت تتميز بالروابط الدموية والترحال الخ .. جعل سبحانه الانصهار والاستقرار عوامل جديدة لتكوين الشعوب ، قال تعالى في سورة الحجرات : " وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " . وهكذا فان فلسطين دخلت منذ الفتح العربي الاسلامي مرحلة التكوين القومي لتكون جزءا من الامة العربية ولم يعد ماضيها القبلي حجة على حاضرها ، مثلما يجري في جميع الامم ..


( 2 ) .

الصهانة يتكلمون عن الهوية الدينية للارض ، فيدّعون أن اقامة اليهود في فلسطين في عصر الديانة اليهودية يعطيهم الحق في اقامة دولة دينية يهودية ، بقطع النظر عن انتمائهم الى أمم وشعوب لا علاقة تربطها بفلسطين .. بل ويزيدون على ذلك كذبا وخداعا بان العرب هم الذين احتلوا فلسطين ودخلوها غزاة ، فيسمون احتلالهم لفلسطين وقتلهم للابراياء واغتصابهم للارض العربية منذ عشرينات القرن الماضي ، نصرا  وتحريرا .. كما يعتبرون قيام  دولة اسرائيل سنة 1948 استقلالا  .. متناسين أن ادعاءهم القائم على اسس دينية يسحب من تحتهم البساط لان فلسطين نفسها اصبحت بعد ذلك مهدا للديانة التي تلتها وهي الديانة المسيحية .. غير أن هذه الحجة لا يقبلها اليهود فهم لا يقبلون بغير الديانة اليهودية ، ولعل قصتهم مع السيد المسيح عليه السلام خير شاهد على ذلك ..
كل هذا ليس مشكلة ، لان الصهاينة يستطيعون ان يصوّروا الواقع كما يشاؤون ،  لو لا أن بعض العرب يواجهونهم بنفس الاسلوب الديني ، فيعطونهم المبرر للحديث بلغة دينية متعصبة ، تُحوّل الاديان الى مشكلة ، وهذا من طبع اليهود وحدهم ، في حين ينظر الاسلام  الى الديانات الاخرى نظرة اعتراف ، بل ويجعل الايمان بالرسالات السابقة والكتب السماوية جميعا ـ ومنها اليهودية ـ ركنا من أركان الايمان ..
وفي هذا الخصوص ، نجد اصحاب النزعات الدينية المتعصبة عندنا ،  ينفون الهوية القومية لفلسطين ، ويستبدلونها بهوية دينية ظنا منهم أنهم يخدمون قضيتها ، فيجعلون مشكلتهم مع اليهود مشكلة دينية ، في حين ان اليهودية ديانة فيها الصهاينة  وغير الصهاينة .. وفيها الصالحين وفيها الطالحين .. قال تعالى متحدثا عن بني اسرائيل ( اليهود ) في سورة الأعراف : وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ( 168 ) " .. كما أنهم يدّعون مواجهة اليهود بأسلحتهم  ، أي دين بدين ، فيقعون مثلهم بتخلفهم في الاساءة الى الاديان جاعلين منها مسرحا للصراعات الدموية  ، حينما يحوّلون مشكلة فلسطين الى قضية صراع ديني ، في حين ان هذا الصراع لم ينشئ بين المسلمين واليهود قبل اغتصابهم للارض العربية التي لم تكن خاصة بشعب فلسطين وحده لانها فـُصلت  عن جسد الامة العربية في اطار المخطط الاستعماري بعد سقوط الدولة العثمانية وصدور معاهدة سيكس بيكو سنة 1916 ، وبعدها وعد بلفور سنة 1917 ، ثم قيام الانداب البريطاني رسميا على فلسطين بقرار دولي  سنة 1922.. 
هذا فضلا على أن  الصهاينة كانوا منذ البداية يستهدفون الوجود العربي في فلسطين ، فكان من ضحاياهم كل من رفض الاحتلال وقاومه سواء كانوا متدينن أو رافضين للأديان ..
وهكذا قان مشكلة الصراع مع اليهود انطلقت منذ انطلق التخطيط لاغتصاب أرض فلسطين في أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا على يد ثلة من اليهود الصهاينة المتعصبين .. حيث جاءت النتائج محرّضة صراحة ومشدّدة على هذا النهج الذي يمكن تلخيصه بالقول أنه : " عدوان على الارض العربية والوجود القومي العربي ينتظر التنفيذ " .. وفي هذا السياق تؤكد التوصيات  الصهيونية في المؤتمر الصهيوني  الاول على  ضرورة اتخاذ خطوات عملية تقود الى اعتراف الدول الكبرى بالمشروع الصهيوني ، كما تشدّد هذه التوصيات على ضرورة احياء اللغة العبرية وانشاء صندوق خاص بشراء الارض من الفلسطينيين .. وكلها خطوات عملية لا علاقة لها بالدين ، بقدر ما تتجه الى الاستيطان واحتلال الارض ... ولعل ما يؤكد هذا الجانب العملي في التخطيط الصهيوني ، ظهور المنظمات الارهابية في فلسطين منذ العشرينات مثل الهاجانا والارجون والشتيرن وغيرها ..
 والواقع ان متابعة قرارات المؤتمرات الصهيونية وحدها ، كافية لازاحة اللثام عن طبيعة الصراع العربي الصهيوني كصراع وجود ، تدور رحاه على الارض العربية ومن أجلها ، اجابة عن السؤال : لمن تؤول .. ؟؟  كما يستطيع من يشكك في طبيعة الصراع على هذه الصورة الثابة ، أن يعود  أولا وقبل كل شئ ، الى آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن اليهود ، وعن اصولهم العربية القديمة ، ثم الى التاريخ ، ليتأكد أن اليهودية بكل ما فيها من خرافات وانحرافات هي في الاصل اساطير قبلية ، لا يجب الانجرار وراءها للرد عليها بمثل اسلوبها .. وهي تدل على تخلف اليهود الذين رفضوا الاندماج في القوميات الاخرى والامم التي عاشوا فيها ، وبقوا في عزلة " الجيتو " الذي بنو صرحه على الوهم والاساطير وهم يخلطون بين انتمائهم الديني وانتماءهم القبلي ، حتى جعلوهما شيئا واحدا ، فتحول ذلك الخلط الى عنضرية منعتهم من الاندماج  رافضين الديانات الاخرى والمجتمعات معا .. وهو ما كلفهم تلك المعانات التي يتحدثون عنها ، وهي في الأصل معاملة بالمثل ردا على عنصريتهم اولا وأخيرا .. وهكذا تطوّرت جميع الشعوب قوميا وبقى اليهود بانغلاقهم وتعصّبهم ، متخلفين قبليا .. حتى اصبحوا بالفعل عبءا على تلك الشعوب  والحكومات التي ضاقت بهم ذرعا وباسلوب حياتهم ، فكان مشروع الصهيونية حلا يخلصهم  من عنصرية اليهود أولا ،  ثم يخدم مصالحهم الاستعمارية ثانيا ، ويمنع تقدم الامة  التي يرغبون في نهبها ثالثا ...

( 3 ) .


كثيرا ما نسمع التركيز في وسائل الاعلام ، على مشكلة القدس من طرف االسياسيين ، داخل الجمعيات والأحزاب ونشطاء المجتمع المدني  باعتبار ما يتعرض له سكانها ، من حصار وممارسات عنصرية واعتداءات سواء على المصلين أوعلى المدنيين ، وباعتبار ما تتعرض له المدينة من محاولات تهدّد فعلا بهدم مقدساتها وتغيير معالمها عن طريق الحفريات ..  وهو عمل لازم ومطلوب في كل حين  لرفع المعاناة ، وحماية المقدسات بكل انواع المقاومة الشريفة .. غير ان ما يجب التفطن اليه هو الطرح الاجمالي والاطار  الذي يجب ان تتنزل فيه مثل هذه القضايا ، لان قضية القدس ليست مجرد قضية تهويد للمقدسات ، او منع للمصلين من آداء شعائرهم ، كما أن الحل المطلوب لا يتوقف على استرجاع القدس  باعتبارها قبلة ثانية للمسلمين ، ومسرى للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل لأنها فوق هذا ،  جزء من قضية مركزية تشمل القدس وغزة والضفة الغربية والجليل الاعلى وكل اراضي فلسطين الواقعة اليوم تحت السيطرة الصهيونية على سواحل البحر الابيض المتوسط ، وفي صحراء النقب ، وعلى كل شبر من فلسطين التاريخية قبل الانتداب البريطاني ، وقبل الغزو الصهيوني الذي انتهى  باقامة هذا الكيان العنصري سنة 1948 ..
 ان ما يحتاجه واقعنا اليوم هو تنزيل مثل هذه القضايا الجوهرية في اطارها الصحيح ، حينما تتقاطع ـ أولا ـ مع الاطار التاريخي الذي صنع هذه الأحداث  ، وحينما تلتقي ثانيا مع التحديات التي يطرحها المستقبل ، لعالم يتجه فيه ـ الكل ـ لبناء التكتلات التي لا مكان فيها لتلك  الكيانات القـزمية التي تسمى اقطارا في الوطن العربي ، الا محتمية ، تابعة ، خاضعة ، مستسلمة ، مستكينة ، مقهورة ، لا حول لها ولا قوة أمام من يقبل بحمايتها مقابل أن يراها دائما على تلك الصورة المذلة  ، وهو يوجّهها الوجهة التي يريد ، وينهب منها كل ما يريد ..
قد تكون القدس محطة من المحطات التي تدور فيها المعارك معزولة عن بعضها البعض ، وهو ما يجعل مأساتها تتواصل في ظل العجز العربي ، الناتج عن واقع العرب اليوم ، وهم أمة مجزأة ، تقع لقمة سائغة لكل الطامعين في اراضيها وثرواتها ، وفي ظل التخلف الذي يعيشه ابناؤها فلا يهتدون الى الحل القومي القادر وحده على تخليصهم من معاناتهم ، واخراجهم نهائيا من هذا المأزق التاريخي الذي وقعوا فيه  ..

( القدس عدد 201 ـ 202 ـ 203 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق