د.عصمت
سيف الدولة .
منذ اكثر من
نصف قرن تقوم في فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر . بدأت اختلاسا خفيا ثم
تحولت الى اغتصاب بالقوة . انها ليست احتلالا لفلسطين ارضا وبشرا تسخر به القوى المحتلة
كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم في بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل
سنة 1948 ، ولكنها محاولة بدأت قبل الاحتلال الانجليزي واستمرت في ظله وما تزال
باقية بعده ، فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ” خالية ” من
الشعب العربي وتوطين بشر اخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه
بما فعل المهاجرون الاوروبيون القدامى في امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر
ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفي سنة 1948 استطاعت الحركة
الصهيونية ان تقيم على ارض فلسطين دولة باسم “اسرائيل” اعترفت بها أغلبية دول
العالم وقبلت عضوا في هيئة الامم المتحدة ، ورفضت الدول العربية الاعتراف بها
واشتبكت معها في ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وما تزال اسرائيل باقية . وقد
عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية ، تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية
المختلفة ، وتغيرت من حولها الظروف الدولية ، وفي كل جيل ، وتحت كل نظام ، ومع كل
طرف دولي ، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات ، وقدمت لها عشرات الحلول ، وبذلت في
حلها عشرات المحاولات ، وكتبت عنها مئات الكتب … فلا تزد المشكلة الا حدّة
وان كادت كل تلك الاحداث والاجتهادات ”ان تخفي
الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التي تطرحها : ما هي حقيقة المشكلة ؟
وجاءت هزيمة
يونيو (حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا.
فمنذ عام 1967
جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف
الارض جميعا ، بحيث يمكن القول ـ بدون أية مبالغة ـ ان كل القوى النشيطة في العالم
أصبحت اطرافا ذات نشاط في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وحمل كل طرف “ قضيته
” ، معه ، بعدا جديدا ومضمونا مضافا ، الى ابعاد ومضامين المشكلة الاصيلة . وهكذا
اصبح الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين اطراف عدة على مضامين متعددة من
اجل غايات متباينة، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى آخر
الصواريخ والطائرات . ولم يعد احد يذكر حتى ذرائع القتال في يونيو (حزيران) 1967.
فقد عرّت الايام ما كان مستورا وكشفت نوايا كل الأطراف فبانت حتى لأقصر الناس نظرا
الاعماق الحقيقية للصراع. فلا هو صراع حول أمن اسرائيل ، ” المستضعفة ” ، في
مواجهة البغي العربي المتفوق عدة وعداء .. ، ولا هو صراع حول الملاحة في خليج
العقبة ، ولا هو صراع حول اسلوب الحياة في الارض العربية ، بل هو صراع يدور ـ بلا
موا ربة ـ حول ا لوجود والمصير. الوجود العربي ومصيره . والوجود الصهيوني ومصيره ،
والوجود الاستعماري ومصيره في الوطن العربي وربما في العالم. وهكذا يعرف كل
الشركاء والحلفاء في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم في مصير كثير
من العقائد (الايديولوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما
العالمية . وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما
سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه وفي نظمه وفي غاياته ، ومن هنا اصبح
المستقبل ” العربي ذاته ، مستقبل الامة العربية كلها ، موضوعا يدور من اجله الصراع
بين القوى المشتبكة في الصراع حول مستقبل فلسطين . ويعد له كل شريك في الصراع ،
وكل حليف لإحدى قواه ” الصيغة ” ، التي تتفق مع مصالحه . ويدفع بالصراع ذاته الى
الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد . يدفع بالصراع الذي يدور حول مشكلة
فلسطين الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد في الوطن العربي . وليست ”
النظريات ” ، التي كثرت اعلامها في سماء الوطن العربي منذ سنة1967 الا
الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهي تطرح على
الجماهير العربية لا بقصد تثقيفها أو تعريفها بالحقيقة كما لا بد يزعم دعاتها ولكن
للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .
في غمار هذا
كله يصبح من المهم لنا ان نعرف حقيقة مشكلة فلسطين ، وان نظل واعين حقيقتها ، والا
نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة ، فإننا لن نعرف قط الحل الصحيح لأية مشكلة
اذا جهلنا حقيقتها ، وعندما لا نعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد نعرف ان ” كل مشكلة
اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها و بصرف
النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح
واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطئ ، قاصر أو
متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن الا ان
يكون واحدا بحكم ان الواقع الاجتماعي واحد” (1) وعندما نطبق هذا على المجتمع القومي
(الامة) ننتهى الى ان ” للمشكلات الاجتماعية في الامة حلولا موضوعية يحددها
الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات
الاجتماعية لا يعني ان تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني
تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح .
وقد يكونون كلهم خاطئين ، ولكن الذي لا يمكن ان يكون ابدا ان يكونوا كلهم على حق
فيما يزعمون “ (2) .
فما هي حقيقة
مشكلة فلسطين وما هو حلها الصحيح ؟
لنبدأ بالوقائع
التاريخية وهي بسيطة: منذ الفتح الإسلامي والشعب العربي هو الذي يقيم ويعيش على
ارض فلسطين . ومن اجلها دارت اقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو
الصليبي واشترك كل الشعب العربي بأمواله وابنائه في تحرير فلسطين واستردادها من
الصليبيين . ومنذ ان انحسرت نهائيا موجات الغزو الصليبي لم يغادر الشعب العربي ارض
فلسطين الى ان طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور . ولم ينكر احد
حتى من الصهاينة ان الشعب العربي هو الذي كان يقيم ويعيش على ارض فلسطين منذ الفتح
الاسلامي حتى سنة 1948. وهكذا ندرك عدم جدوى كل ما كتب في محاولة اثبات ما لم
ينكره احد . انما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض
فيها يلي الموقف العربي القومي ثم الموقف الصهيوني قبل ان نعرض الحل
القومي للمشكلة .
الموقف
القومي :
الموقف القومي
من مشكلة فلسطين بسيط وواضح :
فعندما ننظر
الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل،
نفهم أن فلسطين ، ارضا وشعبا، قد دخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامي . لم تعد منذ
ذلك الحين موقعا للصراع القبلي بين الكنعانيين والاسرائيليين والرومان بل استقر
الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لا تخص الارض شعبا بعينه لتكون جزءا
مؤثرا ومتأثرا ، متحركا ، ومتغيرا ، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب التي وفر
لها الفتح الاسلامي اوسع فرص التفاعل التاريخي لتكون معا أمة عربية . واذا
كانت العلاقات العرقية (السامية) بين المقيمين في فلسطين والمقيمين في بقية انحاء
الوطن العربي قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ما ادى اليه التفاعل من تطور
تقدمي انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومي العربي واصبحت به
أمة واحدة . من هنا فانا لا نطرح مشكلة فلسطين ولا نفهمها ولا نحتج فيها استنادا
الى أية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومي . ولا نقبل من أحد ان يطرحها او
يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين ارضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين
التاريخي للامة العربية . ذلك لأننا كقوميين ، والقومية تقدمية، لا نحتج ولا نقبل
الاحتجاج على ثمرات التطور التاريخي بتاريخ البداوة الاولى.
فلسطين اذن جزء
من الامة العربية :
وبالتالي فان
محاولة طرد الشعب العربي واغتصاب الارض العربية لتوطين بشر مستوردين هو اعتداء على
الوجود القومي للامة العربية لا بد من أن يرد . هو انتقاص من المجتمع العربي لا بد
من أن يستكمل . هو فسخ لعلاقة تاريخية بين الشعب والارض لابد من ان يزول ليعود
الشعب الى الارض وتعود الارض الى الشعب فتبقى الامة العربية ” كما هي “ ،
لا اكثر . كل هذا بصرف النظر عن جنس أو ديانة أو لون او مبادئ أو نوايا المعتدين .
ان هذا مهم . لان الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو اضافة الى ، وليس انتقاصا من
، وجود الجماعات الانسانية الاخرى . وهكذا تكون القومية علاقة قبول واحترام للوجود
الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية ، وهذا يعني ، طبقا لنظريتنا القومية ، ان
حق الامة العربية في الوجود الكامل ، لا يتوقف على أحد . وبالتالي فان حق الشعب
العربي في استكمال وجود امته باسترداد فلسطين لا يتوقف على ما اذا كان المعتدون
يهودا أو غير يهود ، رأسماليين أو من الذين لا يملكون شيئا يخسرونه ، كما لا يتوقف
، على أي وجه وفي أي ظرف ، على موقف الدول من هذا الحق سواء كانت دولا كبرى
أو دولا صغرى ، منفردة أو مجتمعة ي منظمة هيئة الامم المتحدة . ان كل هذا الذي
يتصل بالمعتدين وحلفائهم والموقف الدولي من المشكلة قد يؤثر بشكل أو بآخر على
اسلوب حلها، اما حقيقتها القومية كما هي محددة بالوجود القومي العربي فلا تتأثر
ولا تتغير بمواقف القوى الاخرى معتدية كانت أو حليفة او صديقة . حتى لو كانت حليفة
او صديقة للشعب العربي نفسه .
تترتب على هذا
عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومي من مشكلة فلسطين .
أولاها :
ان الصراع الذي
تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين الشعب العربي وبين ، (اليهود) ، لانهم
يهود . هذا خطأ جسيم في فهم المشكلة . ان العروبة قومية
واليهودية دين ، فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة . القومية العربية
علاقة انتماء الى مجتمع قومي (أمة) والدين اليهودي علاقة ايمان بمقولات
ميتافيزيقية . وكما يكون العربي يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودي منتميا الى أي
واحد من المجتمعات التي تملأ الارض بدون ان يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعي
وايمانه الديني . ليس ثمة شيء ابعد عن حقيقة مشكلة فلسطين واكثر تشويها لها من
القول بانها مشكلة صراع ديني يحلها قبول التعايش بين الاديان على ارض فلسطين
. فيوم ان اغتصب الصليبيون المسيحيون ارض فلسطين قاتل العرب ، مسلمين ومسيحيين ،
الى ان استردوا الارض المغتصبة ، ومن قبل ان يبدأ العدوان الصهيوني على فلسطين كان
العرب من كل دين يعيشون في سلام على ارض فلسطين . ان مشكلة
فلسطين مشكلة ارض مغتصبة وليست مشكلة تبشير بأحد الاديان . مشكلة قومية وليست
مشكلة دينية . واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان
بنصوص من ، (التوراة) ، فذلك ما يقوله المعتدون أنفسهم لخدمة
اغراضهم أو لتبرير عدوانهم … وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة
المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولا نستطيع ان نحلها . وقد
نقع في الخطأ حتى بعيدا عن التصدي لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى
بعض المتفقهين ، الامة العربية التي ينتمون اليها، والواقع القومي الذي تثور
فيه المشكلة ، ويقدمون الدين بديلأ عن القومية ، أو عندما ينفعل “ المتعصبون ”
فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود ، لا يفعلون شيئا بتلك
الاخطاء الغبية المضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية
المعتدية . اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي بهم
الامر الى اقتسام الوطن العربي فيها بين الاديان الثلاثة على الاقل . وايا ما كانت
النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحي أن يخرج من ارض اليهود في فلسطين
. أي يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيوني الذي يظنون انهم يحاربونه بالتعصب
الديني .
فهل يقبلون ما
تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
النتيجة
الثانية :
هي ان الصراع
الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الارض العربية بين
الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث
الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيوني لفلسطين من “
الاشتراكيين ” بينما كان المدافعون عن الارض العربية ” اقطاعيين
” أو رأسماليين . وادى ذلك الى وقوع اكثر الناس ادعاء للفهم ” العلمي ”
للمشكلات في خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين باعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل فور
اعلان قيامها وانحياز الشيوعيين العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية .
ولم يلبث
التاريخ طويلا حتى كشف ذلك الخطأ ” العلمي ” جدا. اذ في مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة
الذين كانوا يوما من اعضاء ” البوند الماركسي “ ، حلفاء اوفياء للإمبريالية
الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الأرض العربية من التقدميين والاشتراكيين . وفي
الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع
قائما . وقد صحح الاتحاد السوفيتي ـ بقدرـ خطأه الاول . وصحح كثير من الماركسيين
العرب مواقفهم تصحيحا كاملا . ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحه
فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة اثارها اغتصاب الارض العربية .
والارض هي مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعي ، فاغتصابها من الشعب العربي
معوق لتقدمه فهو عدوان رجعي بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون . واذا كان
الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعي في الارض المغتصبة
وبين اسلوب الانتاج الفردي في الوطن العربي فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصيلة تحت
ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم في الارض المغتصبة . وهو تضليل لم يضلل
مثله احد من قبل يوم ان نشب الصراع المسلح بين الصين والاتحاد السوفيتي حول
بضعة اميال مربعة من الأرض على الحدود بين البلدين . لم يكن هناك شك في ان
الاشتراكية هي نظام الحياة الذي ينتظر تلك الارض سواء آلت الى الصين أو الى
الاتحاد السوفيتي . لم يكن أحد من الطرفين يشك في هذا ولم يثره أحد من الطرفين .
إنما كان الصراع المسلح الذي وصل الى حد القتال الفعلي بين الاشتراكيين من
الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء
المضللة التي تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية ادوات الانتاج في
الارض العربية . وهي اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف ـ غرورا ـ اضعاف الجبهة
الداخلية في اسرائيل أو حتى شقها . لأننا انما نضعف القوى المعادية لنمزقها
انتصارا لحقنا ولكن لا ندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها . ولا يجدينا شيئا ان
يتمزق المجتمع الصهيوني في اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض
المغتصبة منا . ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية في ذاته بديلة عن الغاية الاصيلة
فلن يزيد عن ان يكون انتقالا لأرض فلسطين من فريق صهيوني نقول انه رجعي الى فريق
صهيوني نقول ا نه تقدمي . وتكون المسألة كلها عبثا ؛ وعندما ينسى بعض المتشدقين
بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا … الى اخر هذه الكلمات الكبيرة ان
كل فلاح في اسرائيل يزرع ارض فلاح عربي ، وان كل عامل في اسرائيل محتل مكان عامل
عربي ، وان كل اسرة في اسرائيل تعيش في منزل اسرة عربية ، عندما ينسون ان كل خطوة
الى الامام في اسرائيل قد انتزعت الاقدام العربية من فوق طريق التقدم الاجتماعي ،
ثم يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين الغاصبين بدعوى
ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين ” الطبقات ” وليس صراعا
حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات ، فانهم لا يفعلون شيئا سوى دخول
معركة الصراع الاجتماعي بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، ويا
للسخرية ، من موا قع التشرد التي طردهم اليها الغاصبون . عندئذ يكون بعدهم عن فهم
مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة ، وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف
المطرودين أو التصدي المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض “أكلة” الكلمات
الكبيرة الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ،
ويقدمون “الاممية”، بديلا عن القومية انما يخذلون امتهم المعتدى عليها وينتصرون
للصهيونية المعتدية . اذ عندما تصبح الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة
فلسطين ينتهي الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج ”
بصرف النظر عن الانتماء القومي ” ، فيكون عليهم أن يقبلوا أن يزرع الفلاحون في
اسرائيل ارض الفلاحين العرب وان يحل العمال في اسرائيل محل العمال العرب، وان يكون
الفلاحون والعمال في الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض
وفرص العمل فاصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن،
الاحتياطي البشري تحت قيادة ” البروليتاريا ” الاسرائيلية في نضالها ” الثوري ” ، من
اجل الاشتراكية . فهل يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم ام هي اخطاء غبية ؟
النتيجة
الثالثة :
هى ان مشكلة
فلسطين ليست مشكلة دولية بمعنى انها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة
ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى . واذا كانت
الدول تتدخل في مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربي او دعما للعدوان الصهيوني فان
الذي يحركها هو مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمي هو مصلحتها الخاصة . واذا
كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التي تحركها كما نقيم وزنأ للسلام
العالمي فلإن لنا في هذا مصالح تحركنا . ذلك لأننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها
ولا نستطيع حتى لو اردنا أن نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففي نطاق المجتمع
الدولي نواجه حتمية القانون المعروف : ” كل شيء مؤثر في غيره متأثر به “. ولا شك
في ان مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر . ايجابيا وسلبيا. بأسلوب حلها .
وهو ما يعني ان نأخذ من كل دولة ، ومن المجتمع الدولي كله ، الموقف الصحيح ونحن
نحاول ان نحل مشكلة فلسطين . ولكن ما هو مقياس صحة الموقف ؟.. مقياسه
أن يكون مساعدا في حل المشكلة أو أن يكون حلأ لها . وهوما يعني ان لمشكله فلسطين
حقيقة نعرفها هي التي تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولي ، وان تدخل تلك
الدول ومجتمعها الدولي في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين لا يغير من حقيقتها التي
نعرفها ونلتزمها : ان ارضنا العربية في فلسطين مغتصبة.
فليكن السلام
العالمي . هو المثل الذي نضربه ، لان السلام العالمي غاية مشتركة بين البشر جميعا
. ان الحفاظ على السلام العالمي ـ طبقا لنظريتنا القومية ـ يتحقق باحترام الوجود
الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذي يقتضيه الحفاظ
على السلام العالمي . نريد ان نقول ان استعمال العنف لا يعني ـ دائما ـ ان ثمة
خطرا يهدد السلام العالمي . وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية
السلام العالمي . فنحن من موقفنا القومي لا نصدق ولا نفهم ادعاءات السلام التي
تتستر على الانتقاص من وجودنا القومي . ونرفض تماما ان ندفع أرض فلسطين أو اية ذرة
من الارض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لا لأننا لا نريد السلام العالمي
ولكن لأننا لا نفهم السلام العالمي الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجود الخاص
لكل المجتمعات البشرية .
ان الدول لن
تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة ، ولن تكف عن
طرحها كمشكلة سلام عالمي صادقة أو مخاتلة ، ولن تكف عن التدخل ، علنا أو خفية ، من
موقع التحالف معنا أو التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ما تريد
. وليس لنا ان نتوقع غير هذا ، وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق
غايتنا وسط كل هذه المؤثرات . لا شك في هذا ولا انكار له . ولكن عندما ننزلق الى
طرح مشكلتنا أو قبول طرحها على انها مشكلة فيها بين الدول الاخرى أو مشكلة السلام
العالمي انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية . وعندما ندفنها تغيب
عنا حقيقتها فلا نعرف كيف نحلها ، ثم يكون علينا ان نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم
كل منها على ضوء مصالحها الخاصة ، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمي كما يقدرها
القادرون على تدميره أو الخائفون من القادرين . وينتهي الامر بنا الى دفع ارض
فلسطين ثمنا من عندنا ، لا للسلام العالمي ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح
القائمة بين الدول .
وعندما نعرف ان
مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذي ذكرناه ، ولا ننسى انها مشكلة ارض
عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذي يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولي عندما
يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربية في فلسطين قد حلت منذ ان اعترف المجتمع
الدولي بدولة اسرائيل وقبلها عضوا في هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد
اصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة . ان فقه القانون الدولي مليء بالنظريات عن
الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة ، وبإثاره الملزمة فيما
بين الدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة . ولكن ليس في فقه القانون
الدولي ولا في قواعده ولا في تطبيقاته ما يجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية اثرا
ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ ان القاعدة الاساسية التي يقوم عليها كل بناء
القانون الدولي هي ان الدولة لا تلتزم الا بإرادتها الخاصة . فما الذي يعنيه
اعتراف كثير من الدول بإسرائيل ؟… يعني ان تلك الدول قد اصبحت ملتزمة بإرادتها بان
تعامل اسرائيل كدولة ما دامت قائمة ولا يعني شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية
المغتصبة لان القرارات التي تأخذها الدول ، كما يعرف كل الذين يعلمون المبادئ
الاولية في القانون الدولي ، غير قابلة لإحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم
الذي تنصب عليه سيادتها . وما دامت الدول التي اعترفت بإسرائيل ليست ذات سيادة على
اقليم فلسطين فان اعترافها يضفي الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لا يضفي
الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لا يحول الاغتصاب الى عمل مشروع . ان هذا يقع
خارج نطاق مقدرة الدول وهي تمارس سيادتها ، لا لأننا نريد ذلك ، ولكن لان تلك هي
احكام القانون الدولي الذي يحتجون به كثيرا. اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة
اسرائيل لا يتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها . والا لكان الاعتراف المشروع
دوليا حماية غير مشروعة . ومن هنا ندرك كم هي زائفة المقولة التي يهمس بها البعض
ويهددنا بها الاخرون : ما دامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فإنها لن تسمح
بزوالها أبدآ . فيوم أن تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذي
مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما
من اثار الاعتراف بها . سيكون حماية لمصالحها أيا كان مضمون تلك المصالح .
ان اعتراف كثير
من الدول ، اذن ، بإسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين
تلك الدول وبين اسرائيل . وبالتالي فان المشكلة ، كما هي على حقيقتها، ما تزال
قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل .
أما عن هيئة
الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة في المواد الاولى من ميثاقها تنكر
الشرعية على الاستيلاء على الارض بالقوة . وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرائيل
عضوا فيها ، قبل ان تجف دماء المذابح في الارض المغتصبة ، لم يكن الاعضاء الذين
قبلوا يفعلون شيئا أقل من خيانة ميثاقها . وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا
الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لأعضائها ولو مجتمعين
ان يخالفوا ميثاقها. وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته
فهى ليست حجة على الدول التي قبلت ان تكون اعضاء في هيئة الامم المتحدة على أساس
الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة ما لا بد ان يعرفه
العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذي وضعه ، وكيف وضع ، وفي اية ظروف
دولية وضع ، وما هي المصالح ” الحقيقية ” ، التي وضع لحمايتها. وبدون اثارة ما
يعرفه حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون من ان هيئة الامم المتحدة التي قبلت اسرائيل
وما تزال ترفض الصين ليست الا أداة في يد من يملك القوة فيفرض بها القرارات
الدولية (3).
والغريب انه
بينما يتردد الزعم في اطراف الارض جميعا بان اسرائيل وجدت لتبقى ، وبان مشكلة
اغتصاب الارض العربية قد حلت منذ اعتراف المجتمع الدولي بوجود اسرائيل ، يعرف
الصهاينة قبل غيرهم انها ما تزال قائمة لم تحلها اعترافات الدول فيقاتلون منذ
سنة 1948 حتى سنة 1967 . ويتشبثون بالأرض التي احتلوها أخيرا
في مواجهة كل الضغوط الدولية من اجل الاعتراف بوجودهم على الارض التي اغتصبت اولا
، من اجل فرض هذا الاعتراف بالقوة على الامة العربية .
هل تتغير حقيقة
مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت بإسرائيل احدى الدول العربية . أو الدول العربية
مجتمعة ، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة أو بدون دولة ؟
أبدا.
وهذا ينقلنا
الى الجانب ” الداخلي “، من المشكلة كما نفهمها على ضوء نظريتنا القومية ..
نعرف أن
المميز الاساسي للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة
المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية
الاخرى المشتركة فيما بين الناس فيها “. بقي أن نعرف الموقف القومي من مشكلة
فلسطين كما يحدده كون الارض العربية ” مشتركة “، فيما بين الشعب العربي . انه
يحدده من ناحيتين :
الناحية الاولى
:
لما كانت الامة
العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربي في الوطن العربي هو مشاركة
تاريخية بين الاجيال المتعاقبة. وهذا يعني انه ليس من حق الشعب العربي كله ، من
الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا في دولة الوحدة ، ان يتنازل عن ارض فلسطين أو
يقبل الوجود الصهيوني على الارض المغتصبة . ا نه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لأنه
ملك مشترك بينه وبين الاجيال العربية القادمة . ولو فعل لما كان ما يفعله حجة على
الاجيال القادمة من الشعب العربي .
الناحية
الثانية :
انه لما كانت
الارض العربية شركة بين الشعب العربي فليس من حق أي جزء من الشعب العربي ولو كان
شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلي على الارض
العربية المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لأنه ملك مشترك بينه وبين
باقي شعب الامة العربية. ولو فعل لما كان ما فعله حجة على الشعب العربي .
ان هذه الناحية
الثانية اكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لا تكتمل وجودا ما
دامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقي الوطن العربي . وانما أردنا أن ندفع بالفروض
الى نهايتها لنؤكد بأوضح ما يمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب
” العربي ” المتنازل ، ولو كان جيلا كاملا من الشعب العربي تمثله وتنوب عنه
دولة وا حدة تعترف بالوجود الاسرائيلي على أرض فلسطين . ان أي جزء من الشعب العربي
ممثلا في دولته أو الشعب العربي كله ممثلا في دولة واحدة ، أو شعب فلسطين ممثلا في
دولة أو بدون دولة ، يعترف بدولة اسرائيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه
بالتعامل معها كدولة ولكن مشكلة الارض المغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح
باقي الشعب العربي ولو اقتضى الامر تصفية المعترفين ، أو يحلها حلها الصحيح جيل
قادم من الشعب العربي يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع أحد أن يحتج على الذين
يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة بالاعتراف الصادر من غيرهم أو بالاعتراف
السابق على وجودهم ، لانهم كشركاء في الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما
فعله أو يفعله شركاؤهم الاخرون .
مشكلة فلسطين ،
اذن ، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتي من أي جانب عربي لانها مشكلة ارض
مغتصبة ، لا من أي جيل من الشعب العربي يملكها وحده فيملك التصرف فيها ، ولا من أي
جزء من الشعب العربي يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها ، بل مغتصبة من الامة
العربية واجيالها المتعاقبة . ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين في طرح مشكلة
فلسطين :
الخطأ الاول هو الزعم
بأن العدوان الصهيوني موجه ضد دولة عربية أو بضعة دول عربية ، وبالتالي تكون
المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة أو الدول . صحيح ان الصهيونية المعتدية
عندما استولت على الارض العربية كانت الارض التي اغتصبتها جزءا من اقليم (شبه)
الدولة التي كانت قائمة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني . وعندما اعتدت اسرائيل
مرتين سنة 1956 وسنة 1967، ومرات عدة فيما بينهما ، اصطدمت بالدول العربية القائمة
على الأرض المعتدى عليها. وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية أخرى لم يدركها
العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التي اغتصبتها الصهيونية أو احتلتها اسرائيل لم
تكن خالية من البشر ومن الدول . وان الارض العربية التي حددتها لتكون وطنا لدولة
اسرائيل ما بين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول ويثير كل هذا مشكلات
جديدة بين اسرائيل والدولة أو الدول العربية المعتدى عليها . مشكلات الاستقلال
والامن وضمان الحدود . وتضاف تلك المشكلات الى قائمة المشكلات القومية على أساس ان
كل مشكلة في الامة العربية هي مشكلة قومية . صحيح أيضا انه كلما تحرر الشعب العربي
في أية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال ، وكلما نمت مقدرة
الشعب العربي في أية دولة عربية على التقدم الاجتماعي ، انتبهت الصهيونية الى
المخاطر المقبلة التي تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو أن يبلغ غايته .
اولا : لأنه
بقدر ما يتحرر الشعب العربي بقدر ما يستطيع أن يحل مشكلة فلسطين .
وثانيا : لان
محاولات التقدم ولو في ظل الاقليمية لن تلبث أن تعلم الجادين فعلا في ممارسة
التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة في الامة
العربية وان ” التقدم لا يقوم على أساس التجزئة ” عندئذ يعرفون ان
مشكلة فلسطين هي مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلي قيد ثقيل على محاولات التقدم
الاجتماعي فيواجهون دولة الصهيونية بالإرادة التي لا تهزم : ارادة التقدم
الاجتماعي .
وثالثا : لان
التنمية في ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير، ومن هنا لا يكون غريبا ما نلاحظه
من أن مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت في الوطن العربي خطوة تحررية . وان
الصراع ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية . وان قواها
العربية تفرز وتتبلور . رويدا رويدا ، في القوى القومية التقدمية . ألم نر كيف
انها الآن سنة 1971 أكثر حدة من سنة 1948. وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذي
قبل . وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء في الجمهورية
العربية المتحدة ، حيث يعيش ثلث الامة العربية، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية في
البناء الاجتماعي . ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان
الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على أساس خطط التنمية في الجمهورية العربية المتحدة
. عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربي لإعادة البناء ويبذل في كل هذا
ما يتجاوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية ، وعندما يقارب البناء مرحلة
الاثمار، أي في تلك اللحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربي على وشك ان يذوق ثمار
جهده ، تختلق الذرائع ويأتي عدوان اسرائيلي جديد ليهدم … وهكذا. ألم نر كيف تحول الصراع
منذ سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات أو تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة أو موت
بيننا وبين اسرا ئيل . ولم تستطع اسرائيل ـ هذه المرة ـ أن تضرب ثم تعود فتسرح
قواتها وتعد نفسها لجولة قادمة . بل اضطرت للبقاء في ساحة المعركة والدفاع حتى
الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى
القومية في الوطن العربي مسيرتها التقدمية .
كل هذا صحيح
وواقعي .
ولكنه يقوم على
مستوى اسلوب الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة الاصيلة
، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه . فهو لا يطغى على مشكلة
فلسطين ولا يغير من حقيقتها ولا يقوم بديلا عنها . ولو كانت اسرائيل تعلم ، أو حتى
تتوهم ، ان التقدم الاجتماعي في أية دولة عربية ، لن يبنى لها من بين ما يبنى ،
القبر الذي تدفن فيه ، لما همّها في كثير أو قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية
تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات . أو لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء
التقدمي في الدول العربية . انما هي تهدم لأنها تعلم ان ذلك البناء أحد اساليب
النصر في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وهكذا تبقى مشكلة فلسطين ، كما هي ،
مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة أو الدول التي كانت قائمة ،
والقائمة ، والتي قد تقوم على تلك الارض . ذلك لان الأرض التي تقوم عليها الدول
العربية ليست أرضا خاصة بتلك الدول أو بشعوبها . ان للشعب العربي في كل دولة حقا
بينها مشتركا بينه وبين باقي ، الشعب العربي خارج حدودها السياسية . ومن هنا لا
نستطيع أن نفهم ، من الموقف القومي، كيف يمكن أن يكون اغتصاب أو احتلال أية ارض
عربية هو مشكلة ” خاصة “ بين المعتدين وبين الدولة أو الدول العربية التي تلقت ضربة
العدوان . فلا نفهم ان يكون اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض
والمياه الاقليمية في سنتي 1956، 1967 وما بينهما مشكلات اقليمية قائمة بين
اسرائيل والدول العربية ” المعنية ” كما يقولون . وعندما لا نفهم
المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض ـ من ناحية ـ ان تتنازل أية دولة عربية عن أرض
فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف بإسرائيل ولو في مقابل استردادها للأرض المحتلة
في سنة 1967. ونرفض ـ من ناحية ثانية ـ أن تتنازل أية دولة عربية عن ذرة من الارض
التي تقوم عليها لإسرائيل ولو في مقابل استرداد ما يتبقى من ارض محتلة . ونرفض ـ
من ناحية ثالثة ـ ان تكون مسؤولية تحرير الارض المحتلة والارض المغتصبة واقعة على
عاتق جزء من الشعب العربي دون الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج . كما نرفض
ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربي لتسترد جزءا منه ، نرفض ان
يهرب جزء من الشعب العربي من المعركة ليتحمل جزء منه مسؤولية الامة العربية
كلها .
مشكلة فلسطين
اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية .
واذا كان
الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولا يكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة
حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العربية فذلك ما يقوله
المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرائيل وليبدأوا بعده مراحل
بناء دولة الصهاينة ، حربا ، ما بين الفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن
مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب ارض فلسطين (أليس هذا بديهيا ؟…) ونطرحها كما لو
كانت مشكلة توسع على حساب دولة أو اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية
بما اغتصبت من الارض العربية قبل سنة 1967. وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية
التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات
العجماء ان لكل دولة ” عربية ” شعبها الخاص وأرضها الخاصة وتاريخها الخاص ومصيرها
الخاص … ويناقضون القومية بالإقليمية ، يناقضون الكل بالجزء ، يناقضون الشامل
بالمحدود ، يناقضون العام بالخاص ، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة ، انما
يخفون التناقض الحقيقي القائم بين الشعب العربي والوجود الاسرائيلي ، وينتصرون فيه
للصهيونية وحلفائها بترديد دعاواهم الزائفة . اذ عندما ينحرفون الى المواقع
الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا مستقلا يواجهون بأن
الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلال بالنفس عن الغير. والغير هنا هو شعب فلسطين
وارضه المغتصبة . ويصبح تدخلهم في مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو
تطفلا ، على استقلال الاخرين يستحق الردع أو يستحق السخرية . ويسخر العالم كله
فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم عن فلسطين ثم لا يتركون فلسطين
لمصيرها . وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لا يكون
امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التي تنظم علاقة الجوار فيها بين الدول :
الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسي ودعم الصداقة … أو ـ على الاقل ـ قبول
حماية الدول لحدود دولهم لتضيع أرض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود . فهل يقبلون
ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
الخطأ الثاني المتداول
فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا ” تطبيقا خاصا ” للخطأ الاول . انه الزعم بأن
مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذي كان
يعيش على الارض المغتصبة . وهو الذي طرد منها . وهو الذي ما يزال مشردا ” بدون أرض وبدون
هوية ” . وهو الذي سيعود الى الارض عندما تسترد . فهي مشكلته الخاصة . هل يستطيع
أحد أن ينكر أن اغلب الذين كانوا يعيشون على الأرض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالأمس
، المشردون خارجها اليوم ، العائدون اليها غدا ؟… لا أحد . ان احتجوا بالواقع غير
المنكور ترسي القومية له أسسه العقائدية : ” ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص
الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادا من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومي
لا تناقض ولا تلغى ولا تنفى ولا تحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن .
فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي ” . عودة المطرودين
المشردين الى الارض المغتصبة ليست ـ اذن ـ مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر
والمنازل ، ليست مجرد عملية انقاذ لسكان المخيمات ، انها اكثر من هذا عمقا وضرورة
. انها الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي . ومع هذا فليست مشكلة
فلسطين مشكلة ” خاصة ” بشعب فلسطين . اذ ان هذا هو الوجه الثاني من عملة الاقليمية الزائفة
فحيث لا تتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا ان مشكلة فلسطين ليست
مشكلتنا الخاصة ، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ ” مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب
فلسطين ” ويسترون هذا الخداع بأكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية
عن شعب فلسطين، عدم التدخل في شئون شعب فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ،
الحقوق ” القومية ” لشعب فلسطين ، التحالف مع شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين
… الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفية . اذ ان حصيلتها النهائية ان اذهب
شعب فلسطين وربك فقاتلا انا هنا قاعدون .
عندما يصدر هذا
كله أو بعضه من الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا
اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما . انها الاقليمية الهاربة من
الصراع من اجل استرداد ارض لا تعتبرها ارضها ، المتطلعة الى الافلات من مشكلة لا
تعتبرها مشكلتها . والتي لا مانع لديها في كل الحالات ان يقبل المطرودون التعويض
بدلا من العودة . ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل
. اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين أنفسهم فذلك أمر غريب مريب .
ان يقل المطرودون المشردون من الارض المغتصبة أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب
فلسطين لا يفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذي القته الاقليمية في افواههم
. ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للإقليميين بالهروب
من المعركة ، وصد القوميين عن الاسهام في المعركة ، ومحاولة استرداد الارض الخاصة
بهم من مواقعهم في الارض التي تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية المخاتلة تقول
لهم استردوا ارضكم كما تشاءون ولكن لا تمسوا سيادتنا على أرضنا ، وتدفعهم بالعطف
المخادع أو بالقوة الغاشمة الى أن يقبلوا جزءأ من الارض المغتصبة ليقيموا عليها ”
دولة فلسطينية ” تكون بمجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل … حينئذ
سيشعرون ببرودة الموت الذي دفعتهم اليه الإقليمية . فهل يقبلون ما تنتهي
اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟.
ليس ثمة أمة
تخلو من الخونة . ولكنا لا نستطيع أن نسند الخيانة الى أي عربي لا نملك على خيانته
دليلا غير قابل للشك . فقد علمتنا القومية أن مصيرنا مرتبط ـ بمصير أبناء امتنا
حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لا يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم
. كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، أو اغلبهم ، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة
دينية ، أو مشكلة نظم اجتماعية ، أو مشكلة دولية ، أو مشكلة اقليمية … لا يقبلون
الوجود الاسرائيلي في فلسطين ويجتهدون ـ بحسن نية ـ لحل مشكلة لم يفهموها فهما
قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا، فتأتي الحلول خاطئة . انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك
قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة ” عربية ” ويستغيثون بالمائة
مليون عربي بدون أن يقولوا انها مشكلة ” قومية ” ثم لا يفطنون الى ان العروبة التي
لا تعني الانتماء الاجتماعي والمصيري الى الامة العربية . هي كلمة ” فارغة ” من أي
مضمون لا يقوم عليها التزام بغاية . الا يقولون انه صراع ديني ولا يفطنون الى ان
الوطن العربي هو مصدر الاديان وان حركة التقدم العربي في تاريخها الطويل قد جمعت
الاديان جميعا . الا يتذكرون أن الصهيونية قد اعتدت أولا والنظم العربية عميلة
للاستعمار، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة ، واعتدت اخيرا والنظم العربية
تقدمية وفي كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين
النظم الاجتماعية ؟… الا يعرفون ان الدول الاستعمارية هي التي كانت وما تزال تصنع
القرارات الدولية ، بالقوة ، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية ؟… ألا يعلمون انه
عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض ، العربية واختارت فلسطين
بداية في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة أية دولة عربية قائمة في الوطن العربي ،
لا في فلسطين ولا في غير فلسطين ، بما تعنيه الدولة من سيادة على الأرض ، بل كان
الوطن العربي اما جزءا من الدولة العثمانية واما أجزاء يحتلها المستعمرون
الاوروبيون ، ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذي أو تلك من الدول العربية …
الا يرون أن ” الممارسة ” الفعلية للصراع بين الشعب العربي والحركة الصهيونية حول
الارض المغتصبة في فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية ، فتدخل حلبة الصراع
الذي تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربي ، من كل مكان في الوطن العربي ، من كل
دين ، من كل طبقة ، من كل دولة ، بدون توقف على القرارات الدولية .. ولا يسمح
الصراع ذاته لاي جيل عربي ، أو أي جزء من الشعب العربي ، أو أية ” طبقة ” أو أية
دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيوني واثاره المخربة كل مكان في الوطن
العربي لا يمنعه الهرب ولا تصده القرارات الدولية ؟… فلماذا هذا الاصرار الغبي على
انكار القومية وهي العلاقة الوحيدة التي تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من
النصر فيها فلا تخذلهم ولا تهزم غايتهم ان كانواـ حقا ـ لا يقبلون الوجود
الاسرائيلي في فلسطين ؟..
ان كان كل هذا
غائبا عن ” فطنة ” الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومي عن
ان ينبههم الى ما يخذلون به أنفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف
الصهيوني من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم ” عقائديا ”
من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لأعدائهم بعد أن يعرفوه ، ولو عرفوه ثم
أخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا أنفسهم في الموقف القومي وان كانوا قد وصلوا
اليه كرد فعل لا كفاعلين .
الموقف
الصهيوني :
نشأت الصهيونية
في اوروبا نتيجة عدة عوامل متفاعلة .
اولها : ان ”
التوراة ” التي يتداولها اليهود ، وهي كتاب ظهر لأول مرة في عهد الملك يوشا بعد
وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22) ، علمت وتعلم
اليهود انهم ” شعب الله المختار ” وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب
الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب ولذلك تحدد لليهود
مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم أقوى من غيرهم . ذلك لان الله قد اختارهم
واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسم ” اسرائيل ” على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو
في طريقه الى ارض كنعان وبين الله ذاته ، لم يهزم فيها يعقوب فاعجب به
الله وباركه واختاره (سفر التكوين 322 اية 25 - 29) وهكذا استقر في اذهان اجيال
متعاقبة من اليهود ، ” ايمان ” بانهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته
دون البشر اجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لا تلوث نقاءه .
” اني
ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردوهم من امامك . لا تقطع معهم ولا مع الهتهم عهدا.
لا يسكنوا في ارضك لئلا يجعلوك تخطئ ” (سفر الخروج ، اصحاح 33 آية
22 ، 23) . وقد ادت تلك الاساطير القبلية الى ان اصبحت اليهودية ، بالنسبة الى
المتدينين من اليهود ، تتضمن ” عنصرية ” مقدسة تجمعهم على عداء ” مقدس
” للشعوب .
ولم يكف كهنة
اليهودية عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين، فبينما تفرض على اليهود
التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم ان يعاملوا الشعوب الاخرى
بدون قيد اخلاقي أو اجتماعي . قال حكماء صهيون : ” اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم
لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا ، بيوتهم واهدموها . تسللوا الى
قلوبهم ومزقوها ” . أما ” يهو” الاله الخاص ببني اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بان
يقوده ” الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة
لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها ، ( سفر التثنية . اصحاح 6 اية
11) وتكمل الاساطير البناء الاجتماعي القبلي فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدي
وظيفتها في التضامن الاجتماعي الداخلي فتقول ان كل اليهود ، في كل مكان من الارض ،
ومن أي جنس، وأي لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب (اسرائيل) بن
اسحاق بن ابراهيم ، ووحدة الرمز (الطوطم) في جبل صهيون الذي دارت فوقه المصارعة
التي اثبتت قوة اسرائيل (يعقوب) التي لا تقهر .
اننا نتعرف في
كل هذا على خصائص الطور القبلي الذي مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص ، والاصل
الواحد ، والتضامن الداخلي ، والعدوان الخارجي ، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا
في جميع انحاء العالم يوم ان ظهرت التوراة لأول مرة في اوائل القرن الخامس قبل
الميلاد . وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا في تكوينهم ولا في
اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا في الصراع القبلي الذي كان يدور في كل مكان من الارض
والذي انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا
بالغزو الروماني وفكريا بظهور المسيحية . ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض
بالفتح الاسلامي فدخلت بقايا القبائل اليهودية في شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط
مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة التكوين القومي واصبحوا عربا . ولعل
مثل هذا التطور أن يكون قد حدث في كل مكان عاش فيه اليهود ، الا اوروبا .
ففي اوروبا عاش
اليهود قرونا منعزلين في احياء مقصورة عليهم عرفت باسم ” الجيتو ” حتى نهاية
القرون الوسطى . ولم يكن أي ” جيتو” الا مجتمعا قبليا مغلقا على
اصحابه حبس تطور الجماعات اليهودية في اوربا عند الطور القبلي لا يتجاوزونه .
وكان مرجع ذلك الى ان اليهود في اوروبا كانوا محاصرين بتعصب كنسي يظن ان له عند
اليهود ثأرا قديما : صلب المسيح . من اجله طردهم فيليب اوجست من مملكته . ومن اجله
أمر البابا أنوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم .. ومن اجله
احرقت كتب اليهود في الميادين العامة . وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح
الاستغلالي الفتاك الذي يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا ،
كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلي ، في تحرمه فيها بين اليهود وتبيحه إذا كان
ضحيته غير يهودي وعن طريقه موّل اليهود في اوروبا أمراء الاقطاع في حروبهم التي لا
تنتهي وفي ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد
الفعل تحديد اقامتهم في اماكن خاصة وتحريم كثير من أنواع النشاط المنتج
عليهم .
أيا ما كان
الأمر فان اليهود في اوروبا ظلوا حتى نهاية القرون الوسطى في الطور القبلي بكل
خصائصه التي عرفناها . ثم جاءت الثورة الليبرالية فأطاحت بالتعصب الكنسي ، وانهت
قضية الثأر القديم ، بل وأدت ، على المستوى الديني ذاته ، الى لقاء بين
المسيحية واليهودية في المذهب البروتستنتي ، وتجسد كل هذا في اعلان حقوق الانسان
الذي اصدرته الثورة الفرنسية التي حرصت على الغاء كلمة الدين من أية وثيقة دستورية
، وكانت في كل هذا نموذجا للثورات التحررية التي عمّت اوروبا وانهت عهد الاقطاع .
وهكذا ، بعد تخلف حضاري طويل ، فتح باب التطور واسعا امام اليهود ليغادروا
الطور القبلي ويندمجوا في المجتمعات الاوربية التي يعيشون فيها . وقد غادرته
الكثرة الغالبة منهم خاصة في اوروبا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين في
مجتمعاتهم ، وتخلفت عن الركب الحضاري قلة قبلية متناثرة في اوروبا الشرقية
المتخلفة بدورها . وقد كان من الممكن أن ينتهي الامر بتلك القلة ـ الى ان تتطور
وينتهي عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التي جاءت بالتسامح الديني في ظل
” الاخاء والحرية والمساواة ” قد جاءت أيضا بالنظام الرأسمالي .
بقانون
المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أي التزام من قبل المجتمع الذي ينتمون اليه . ثم
بعدم تدخل الدولة في النشاط الفردي على أساس ان ” مصلحة المجتمع ستحقق حتماً
وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته ” بحكم القانون الطبيعي . واخيرا بإباحة
الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادي والادبي طبقا
للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة : ” القانون لا يحمي المغفلين “. فأتاحت
الرأسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة اوسع الفرص لتجسد ـ ايجابيا ـ عداءها
القبلي ” المقدس ” للشعوب بوسائل اصبحت مشروعة في ظل الليبرالية . وتحول كل
“جيتو” الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعادٍ لكل ما ومن ليس يهوديا
. وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنية ” المؤمنين ”
بامتيازهم في مجتمعات يرفضون الانتماء اليها، في ظل نظم تبيح لهم الاستغلال،
ليفرضوا سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهي كل هذا
الى ان يصبح اليهود في المجتمعات الرأسمالية هم سادة ” المال ”
المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك . ان هذا أمر جدير بالتأمل . لماذا يفضل
اليهودي عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لو كان مثله الاعلى هو ”
تاجر البندقية ” ؟ .. ألأن تلك هي الصنعة التي احتكروها فأتقنوها في ظل الاقطاع ؟
أم لأن عنصر المال هو، في التحليل الاخير، مناط السيطرة في الاقتصاد الرأسمالي ؟…
أم لان ” الفائدة ” اكثر ضمانا من ” الربح ” ؟.. قد يكون السبب واحدا أو اكثر من
هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا في تقاليد ” حرفية ” كما كان الامر بالنسبة الى
الصناعات الاخرى في ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول ” حرفة
” واحدة يحتكرونها ويتوارثونها ، ولكنه ما بقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا
لأنه يتفق مع العنصرية القبلية الموروثة . ذلك لأن النظام الرأسمالي في نشأته كان
نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في اوروبا في قبله . وقد
استطاعت الرأسمالية أن تحول المجتمعات الاوربية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان
ترسي أسس حضارة مادية وعلمية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعي يمثل الجانب
الايجابي البناء من اثارها . ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التي كانت ثمرة
الجمود العنصري الذي تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود في اوروبا ، حالت دون ان
يجد اليهود في البناء الاقتصادي وما يصاحبه من تقدم اجتماعي ما ” يغريهم ”
فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا ” المصانع ” لأنها
أدوات البناء الاجتماعي . وسيختارون بعد ذلك ا لصحافة والاعلام عندما تصبح أدوات
للسيطرة . وسيختارون الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا
استعمال المال والصحافة والاعلام في المجتمعات التي عاشوا فيها . كل ذلك
لسبب بسيط هو انهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا في بنائها بل يعتبرونها
اعداءهم فعليهم بأمر “ يهو” أن يسيطروا عليها أو يخربوها . ان هذا يفسر ـ فيما
نعتقد ـ الصورة الاوربية لليهودي الجبان الذليل الخائن ..
وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأي دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا
على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجد العدوان ويقيم امتيازهم على
القوة الجسدية التي من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة
وقبول المذلة تعبيرا عن ـ رفض اليهودي مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من
اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوى ” قيدوا ارجلهم
وانتم راكعون ” . باختصار يلتزم اليهودي قيمه القبلية الخاصة ويرفض الالتزام بقيم
المجتمع الذي يعيش فيه فيبدو شاذا في مجتمعه لأنه يرفض الاندماج فيه ، ولا يرى هو
في موقفه شذوذا لان الانعزال عن ” الغرباء ” والعداء لهم فضيلة
قبلية .
على أي حال ،
عندما انتبهت الشعوب الاوربية الى الاستغلال الرأسمالي الذي ابتلع أو كاد المكاسب
التي كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك ” الطائفة
القبلية ” التي تقاوم التطور الحضاري وتجسد الكراهية .
والاحتقار لكل من لا ينتمي اليها ، وتتآمر خفية فتصنع لها لغات خاصة لا يعرفها
غيرها ( الييدش في شرق اوروبا وهي مشتقة من الالمانية واللادنيو في غرب اوروبا وهي
مشتقة من الاسبانية) ، وقبل هذا وفوقه تموّل النظام الرأسمالي وتدير حركته
الاستغلالية من مقاعدها في البنوك . وكان للمستغلين الرأسماليين من غير اليهود
مصلحة لا شك فيها في ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الرأسمالي
الاستغلالي فاشتركوا بوسائل شتى في تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ،
وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه الشعوب ، حتى
تخرج الرأسمالية بريئة . وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم
التي عرفت بـ ” معاداة السامية ” . اما لماذا السامية مع ان
يهود اوروبا ليسوا ساميين ، فلأنهم لو اسموها اسما ” معاداة اليهودية ”
لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التي تروجها الرأسمالية المنافقة . وهكذا نمت مشكلة
اليهود في اوروبا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الرأسمالية
المستغلة .
ولم يكن حل
المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة
القبلية واندمجوا في مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضي ان تتحرر الاقلية اليهودية من
اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلي لتندمج في المجتمعات التي تعيش فيها
كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية المطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع
عشر تمثل الامل الاجتماعي الذي تنتهي به ، والى الابد ، كل أنواع القهر . كان ذلك هو
الحل التقدمي لمشكلة اليهود في اوروبا ومشكلة المجتمعات الاوربية بما فيها
من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت اقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور
وتتحالف مع الرأسمالية الاستعمارية التي تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات
المتخلفة .
وشهد عام 1897
مولد منظمتين من العنصريين اليهود . كل منهما منظمة ” صهيونية ” . ستحاول المنظمة
الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم
الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنجح الى حين فتقوم في الأرض العربية دولة
عنصرية في سنة 1948.
أما المنظمة
الاولى فهي ” الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة ” ( البوند) . ويلاحظ
منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم في كل من روسيا وبولندة أي بدون اعتداد
بالانتماء القومي لأي من الامتين الروسية والبولندية لأنها تعتبر أن ” اليهودية ”
رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصري . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف
الاشتراكية وقد اصبحت جزءا . من “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ” القائم
على منطلقات فكرية ماركسية . فقد تشكل ” البوند ” سنة 1897 كواحد
من المنظمات العديدة التي كانت تكون ما عرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية
في شرق اوروبا . وقد اجتمعت تلك المنظمات في منسك سنة 1898 واتفقت على أن تتوحد في
” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي تم انشاؤه فعلا في المؤتمر
الثاني (التأسيسي) الذي انعقد في بروكسل ثم في لندن سنة 1903. وفي ذلك المؤتمر
التأسيسي اقترح ممثلو ” البوند ” أن يكون هو الممثل ” للبروليتاريا ”
اليهودية داخل اطار ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي يجب أن يقوم
على أساس فيدرالي . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى أن ”
الفيدرالية ” تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو ” البوند ” من المؤتمر، وحدث
الانشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكن البوند ، والبلشفيك، والمنشفيك ، كلهم
بقوا اعضاء في الحزب حتى المؤتمر الرابع (التوحيدي) الذي انعقد في استوكهلم سنة
1906. وفيه حصل ”البوند ” على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل
للماركسيين اليهود ، في ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و” الشلل ”
التي تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة ، وكان ” البوند ” واحدا
منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة أخرى لم تنتصر بعد في الصراع
الايديولوجي الذي كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ما عرف باسم ” المسألة
القومية ” . ولما لم تكن ثمة ” نظرية ماركسية في القومية ” (4) ،
وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن
يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا . ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضي وحدة كل
الماركسيين والاشتراكيين لأن الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهي
بالفشل سنة 1907. ولقد شن النظام القيصري ، بعد فشل الثورة ، حرب ابادة
وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها أو رحبوا بها . وكانت
مجزرة . هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه ثم يعود لينين
سنة 1917 ليقود الثورة مرة أخرى وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة
1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة أخرى من اليهود “ الاشتراكيين
”. اولئك الذين قدموا لنا امثال ويزمان وبن جوريون وشاريت . ولنا
هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ما قيل من أن حرب الابادة التي شنها القيصر بعد فشل
ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من أعداء السامية ، وهو غير صحيح .
فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا ” البوند ” نفسه هم
القوى الاساسية أو الوحيدة في ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى
التي هاجرت بعد فشل الثورة أو نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث
أن اجتمعت في ساحة ثورة 1917 المنتصرة ، الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند .
فما ان غادروا أرض الوطن حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا
مع القوى الاستعمارية . الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من
العنصرية الذين بقوا في الاتحاد السوفيتي بعد نجاح الثورة واسهموا في بناء
الاشتراكية قد اندمجوا في مجتمعهم بيسر ذي دلالة قوية على أن مشكلة اليهود في اوروبا
هي مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان
يتحرر اليهود من التخلف القبلي ويتحرر المجتمع من الاستغلال الرأسمالي حتى تنتهي
المشكلة . وليس ادل على هذا من ان الاتحاد السوفيتي يضم ” جمهورية خاصة
باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية . يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود في كل
مكان من الاتحاد السوفييتي بدون أن توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية
على اصحابها أفضل الحلول التي قدمتها اوروبا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان
العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين ، وكيف انهم في الارض المغتصبة يقيمون
المزارع الجماعية ، ويعيشون في جماعات متماسكة ، وينتهجون الاسلوب الجماعي في
الانتاج ؟… كيف يتفق أن يكونوا عنصريين ما يزالون في مرحلة الطور القبلي وهم ـ
فيما يبدو ـ ماركسيون أو اشتراكيون ؟…
هذه هي الخدعة
التي لا يمكن اكتشافها من منطلق مادي على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح
واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انساني قومي ” ينظر الى المجتمعات خلال حركتها
الجدلية التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ”. ان بين المجتمع القبلي العنصري
اليهودي والمجتمع الاشتراكي تقاربا في اسلوب الانتاج الجماعي . ولكن علاقات
الانتاج الجماعي مرتبطة بالطور الذي يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها .
والماركسيون أول من يجب أن يعرفوا هذا فعندهم يبدأ التطور الاجتماعي
بالشيوعية الاولى وهي أكثر مراحله انحطاطا وينتهي بالشيوعية الاخيرة وهي أكثر
مراحله تقدما . وفي كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع
ذلك لا ينخدع أحد في الفارق الحضاري بينهما . فاذا كان اليهود في الارض المغتصبة
يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون في جماعات متماسكة فلأن اسلوب الانتاج الجماعي هو
اسلوب الانتاج القبلي . ويمكن التمييز بين ما اذا كان اسلوبا قبليا أو اسلوبا
اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانغلاق
الداخلي والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردي ،
وعندما يكون انسانيا سليما فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردي الى الاسلوب الجماعي
الاشتراكي . طبقا لهذا المقياس لا نكون في شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة
في الارض المغتصبة ، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من ” الجيتو” الى أرض فلسطين
لتعيش ذات علاقاتها القبلية المتخلفة : التضامن بين
افراد القبيلة والعداء للآخرين . والكابوتز المسلح هو القبيلة التي ما تزال تعيش
في القرن العشرين . وفي افريقيا الاف من هذه الجماعات القبلية تعيش معا حياة اكثر
جماعية من اليهود في فلسطين ولا يقول احد بانها مجتمعات اشتراكية . ولا يغير من
هذا ان المجتمع القبلي في اسرائيل يستعمل ارقى أدوات الانتاج تطورا في هذا الزمان
. فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى أدوات القتال في زمانها ومع ذلك
ظلت في طورها القبلي . وتستعمل كل الشعوب ـ الان ـ أدوات انتاج متشابهة في تقدمها الفني
ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان ” كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي ”. ثم
ان ” التفرقة العنصرية ” المعترف بوجودها في مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى
ما وصل اليه العلم ليست الا المميز القبلي للمجتمعات التي تعيش في ذلك الطور
المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ان الجماعية ـ اذن ـ هي التي
كانت تغري كثيرا من العنصريين اليهود باعتناق الماركسية ، ولكن الماركسية ليست
عنصرية . وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل ماركسي أن ينظر الى
المجتمعات نظرة اشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته ، عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين
في الارض العربية المغتصبة يعيشون في الطور الاجتماعي اللاحق للشيوعية البدائية
وليس الطور الاجتماعي السابق على الشيوعية الاخيرة ، وانهم ـ بالتالي ـ عندما
يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالي . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان
دليلأ واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية . وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم
من الاحزاب وهو ما نلاحظه في مراحل الليبرالية الاولى ، ويدخلون مرحلة الرأسمالية
وآيتها التحالف الذي يزداد يوما بعد يوم مع الرأسمالية الغربية وهذا لا ينفي ان
جماعات من الرأسماليين المتحررين من القبلية اليهودية تعيش في اسرائيل أو تحالف
الصهاينة خاصة منذ ان اصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا .
ولكن ان يكون ـ في الارض المغتصبة عنصري واشتراكي معا ، أو ان يعيش الاشتراكيون في
ظل الروابط القبلية التي نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لا تستحق الا
السخرية .
المهم ان
الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي قدمت للعنصريين اليهود افضل الحلول التقدمية
ليغادروا الطور القبلي . قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع .
فرفضوها . لماذا ؟
هنا يأتي دور
المنظمة الثانية التي ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية . انها
المنظمة ” الصهيونية ” التي تأسست في مؤتمر بال وحددت هدفها
بانه اقامة دولة لليهود في فلسطين ، وجمعت العنصريين اليهود في اوروبا الغربية .
وهي المنظمة التي سينضم اليها اصحاب تجربة ” البوند ” والتي ستحقق نجاحا مطردا في
مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل في سنة 1948 ، انها المنظمة
التي جمعت شتات ” القبائل ” اليهودية لتقيم منهم دولة قبلية على ارض فلسطين .
واول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت ؟.. وقبل ان نجيب ينبغي أن نذكر
ان المجتمعات الاوربية بالرغم . من تقدمها ما تزال عامرة بالجماعات المتخلفة التي
لم تتجاوز الطور القبلي . لا نضرب قبائل الغجر مثلا ، بل نضرب مثلا قبائل اللابيين
الذين يعيشون في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة في كل
الامم ولنا منها نصيب لا ينكر . ومصير كل هذه الجماعات المتخلفة ان
تدرك تطور مجتمعاتها . اذن ، فمهما تكن اساطير العنصرية اليهودية كان التطور
الاجتماعي في اوروبا كفيلا في النهاية بان ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق
بمجتمعاتها ، لولا ان ” قوى ” أخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه . تلك هي
القوى الاستعمارية .
ففي اواخر
القرن التاسع عشر كان الاستعماريون قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة
المحافظة على مواقعهم فيه . ومن اجل هذا انعقد في لندن سنة 1907 مؤتمر استعماري
ليوصي بما يراه كفيلا بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية . وقد قدم عدة توصيات كان
نصيب الوطن العربي منها ما يلى : ” ان اقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي
يربط اوروبا بالعالم القديم ويربطها معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل في هذه
المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة ، وصديقة للدول
الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملي للوسائل والسبل المقترحة ” .
وفي سنة 1937
نشر في فرنسا كتاب تحت عنوان ” الله اكبر” يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة
الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه : ” ان خلاصة
الاسباب الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره
في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة
عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق الى الهند . أما اذا ظلت
فلسطين مستقلة ، أو اصبحت دولة يهودية ، فإنها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه
الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين ـ ان دولة
صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر
الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى … ان توازن القوى حول
قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربي . يتوقف على دولة في
فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما
مع طموح الاستعمار اليهودي، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا
الاستقلال وليس العرب ، اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة
عربية كبرى (5). وهكذا حالت القوى الاستعمارية دون أن تذوب العنصرية اليهودية في
حركة التطور الاجتماعي في اوروبا ، وغذت تلك العنصرية بأدوات القوة وسهلت لها ان
تغتصب ارض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت
صفحات التاريخ اكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون
ارض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوربية ولكن بمساعدة الدول الاوربية و خدمة
لمصالحها .. ابعد ما يكون عن الحقيقة اذن ان يقال ان اليهود ما جاءوا الى فلسطين
الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه . انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا
دولة حارسة للمصالح الاستعمارية تحول دون أن تحقق الامة العربية كل ما هي قادرة
عليه من تطور اجتماعي في ظل دولة الوحدة . جاءوا بمساعدة القوى التي لا تريد لهذا
الشعب العربي أن يعيش بما يملك . لم يجيئوا لانهم يهود ، ولا لانهم
اشتراكيون ، ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لأن المجتمع
الدولي كان في حاجة ـ حتى يسود قانونه ـ الى وجودهم في فلسطين ، بل ليقيموا على
الارض العربية مخفرا مسلحا يكرس تخلفها ويمنع وحدتها .
هذي هي
الصهيونية كما نراها من الموقف القومي وطبقا لنظريتنا القومية . ولو كنا قد
استوعبنا نظريتنا هذي لادركنا من ابعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة اكثر مما
يدرك سوانا . انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التي
علمنا أن الامة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل
منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة
وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكون وتحدد خصائصها
خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . اذن ، ولينتبه الشباب العربي ،
أن الصهيونية تحاول منذ 1948 أن ” تصنع أمة ” من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ على
ارض تكون خاصة بها . ولا بد لكي تنجح من أن ” تستقر” على الارض “
وتختص ” بها فترة زمنية كافية تبني فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها أمة . وقد كان
عام 1948 هو البداية ولكن الزمان أمامهم ما يزال طويلا ، فان الامم لا تتكون في
عشرات السنين فلا نجزع . ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ما تزال ، منذ
الاستقلال ، أمة في دور التكوين ولكن الصهاينة دائبون على تنفيذ مخططاتهم، ولقد
اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها . وعلى أرضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربي
واكثر فهي ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق . ولكنهم
على أي حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فأصبحت لهم لغة مشتركة . ولو سمح الشعب
العربي للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة
، فانهم سيصبحون أمة ، شاء الشعب العربي أم لم يشأ ، لان فعالية قوانين التطور
حتمية ولا تتوقف على رغبات أحد ، والماضي يمتد تلقائيا في المستقبل اذا لم يتدخل
الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع أحد ان
ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا أن يكون واضحا . فانه يحدد لنا التزامات عينية
داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل أن تزول دولة اسرائيل . هذا ما نقوله
نحن .
فماذا تقول
الصهيونية عن نفسها ؟.
اذا كنا سنعود
الى الاساطير الخرافية مرة أخرى فلعل هذا لا يصدم المعجبين ” بالتقدم الحضاري ” لإسرائيل
ذلك لأننا لا نسند الى الصهاينة غير ما يقولون . ولا نستند من بين ما يقولون الا
الى الصهاينة العلماء ، الماديين ، الذين لا نظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودي .
انهم ـ كما لا بد نتوقع ـ لا يقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة
. بل يقولون انها حركة قومية . والصهيونية هي ذاتها القومية . اما الامة فهم
اليهود في كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لا ينكرون ان ليس
لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة ، ولم يشتركوا
في بناء حضاري واحد . كل هذا لا ينكرونه . ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة .
فالنظرية الصهيونية في الامة والقومية تقوم على أساس ان وحدة الثقافة ، والتاريخ
الثقافي هو المميز الاساسي للأمة . فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا في كل
ثقافات العالم ، وكل منهم اسهم بقدر ما استطاع في ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه ، قالوا
ان العبرة بالاتصال التاريخي للثقافة وهذا متوافر في الثقافة الدينية لليهود منذ
الشتات الى الان ، فهم ـ اذن ـ امة . هل هي أمة ممتازة ؟.. لا . ان تعبير ” شعب
الله المختار” هو للتمييز وليس للامتياز . فليكن . فليس لكل هذا من آثار فيما
يعنينا في هذا الحديث . اذ ان الذي يعنينا هو عنصر الارض .
ان كنتم أمة
الآن ، وكنتم دائما أمة ، وأنتم تعيشون فعلا على الأرض وسط مجتمعاتكم فلماذا
تتركون " أوطانكم " ؟..
لأن تلك
المجتمعات لم تقبلنا قط ، انها رفضت انتماءنا اليها وما تزال ترفض وقد تعرضنا في
تاريخنا الطويل لكل أنواع الاضطهاد الظاهر وما يزال هذا الاضطهاد مستمرا . حتى
الذين اندمجوا ـ كما يقال ـ في مجتمعاتهم يشعرون بالغربة واذا كانوا يرفضون
الانتماء علنا الى الحركة القومية (الصهيونية) فلأنهم يخشون أن ينفجر العداء
الكامن ضدهم فهم يساعدونها خفية أو علنا تبعا للظروف . واذا كانت الحركة الصهيونية
لا تضم الا القلة من اليهود فلأن تلك هي القلة الواعية انتماءها القومي فهي
الطليعة المنظمة التي تقود الحركة القومية ، وآجلا أو عاجلا ، سينضم اليها كل
اليهود .
اذا كان الأمر
كذلك فلماذا لا تقاومون الاضطهاد في مجتمعاتكم ولو بالتحالف مع باقي المضطهدين
هناك بدلا من الفرار ؟..
لا فائدة أن
الحل الوحيد أن تكون لنا أرض خاصة نقيم عليها مجتمعنا ونعيش فيها حياتنا .
لماذا اذن لم
تقبلوا الاقامة في الأرض الخالية التي عرضت عليكم في أوغندا ؟..
لأننا نريد أرض
فلسطين .
لماذا فلسطين
بالذات ؟ ...
هنا يعود
المثقفون العلماء ، المتحضرون ، الماديون ، التقدميون الى الأساطير . اننا نلخص ما
قالته نخبة مختارة من هؤلاء جميعا ونشره سارتر في عدد خاص ( 991 صفحة ) من مجلة
الأزمنة الحديثة في يونيو سنة 1967 . قالوا ان الثقافة اليهودية التي هي مناط
التكوين القومي للأمة اليهودية قائمة على عدة أساطير دينية وميتافيزيقية . هذا
صحيح . ولسنا نحتج بصحتها العلمية . انما نحتج بالآثار الاجتماعية التي أحدثتها
تلك الأساطير في الجماهير اليهودية وصاغت بها تكوينها الاجتماعي . فمثلا تلقى
اليهود من الله وعدا بأن تكون لهم أرض فلسطين . هكذا جاء في التوراة " لنسلك
أعلى هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " ( سفر التكوين ،
اصحاح 15 ، آية 18 ) . ومنذ ذلك الحين انقضت عشرات القرون . لا ننكر أننا خلالها
لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وأن شعبا عربيا هو الذي كان يعيش عليها ، ولكن هذا
لا يغير من الواقع شيئا . والواقع أنه طوال تلك القرون يعيش اليهود في الشتات على
امل العودة الى أرض " الميعاد " كأثر من آثار ايمانهم الديني بأن تلك هي
الأرض التي وعدهم الله بها . وبصرف النظر عن الجانب اللاهوتي فان الأثر الاجتماعي
كان وما يزال قائما يصوغ حياة اليهود نفسيا واجتماعيا ويرددونه في اجتماعاتهم وفي
صلواتهم ، ويذكرون به في كتبهم ، ويقوم محورا في ثقافتهم القومية : ان أرضا تمتد
من الفرات الى النيل هي أرضهم . هذا هو الذي أبقاهم أمة لم يذوبوا في الامم الأخرى
بالرغم من توالي الأجيال وهم في الشتات . وهذا هو الجانب المهم من الأسطورة ،
لأننا قد نكذب الأسطورة ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أثرها الاجتماعي . وقد
أخذ علينا الناس ما قاله بعضنا من أن فلسطين أرض بلا شعب فلا بد من أن تعطى لشعب
بلا أرض . ولو فهمونا لما أخذوا علينا ما نقول . فالعبرة عندنا ليست بالصلة
المادية التي تتمثل في اقامة شعب " غريب " في أرضنا ولكن العبرة بالصلة
الروحية بيننا وبين الأرض . ومهما تكن الأرض عامرة بمن يقيم فيها فإنها خالية
بالنسبة الينا الى أن نعود اليها نحن أصحابها . ان تلك الصلة لم تنقطع أبدا فلم
ينسى أي يهودي أرض فلسطين والعودة اليها . ولا يقال لنا أن ذلك ايجابا ذاتيا من
ناحيتنا فان القبول الذي يتم به الصلة قد جاء من الأرض ذاتها . فلو راجعنا التاريخ
لتبين لنا على وجه لا يمكن انكاره حتى لو لم يستطع العلم اثباته أن أرض فلسطين لم
تمنح كل عطاءها الا لنا نحن اليهود الموعودين بها . وهكذا لن تستطيع الأمة
اليهودية أن تسهم بكل ما هي قادرة عليه في التقدم الحضاري الا على ارض فلسطين ،
ولا تغني عنها ارض أخرى . كما أن أرض فلسطين لن تقدم كل ما تنطوي عليه من عطاء الا
للشعب اليهودي ، ولا يغني عنه شعب آخر . انما تثور المشكلة لأن الدول العربية لا
تريد أن تقبل المهاجرين من أرضنا في أراضيها الواسعة التي هي في أشد حاجة الى مزيد
من البشر . وبدلا من هذا تبقي عليهم في المخيمات ، وتستعملهم " كورقة سياسية
" في مناوأة دولتنا لأنها لا تريد أن تعترف بوجودنا في حدود آمنة وفي ظل
علاقة جوار نتبادل خلالها الخبرات لنحقق التقدم الاجتماعي في " منطقتنا
" .
وما هي حدود
دولتكم طبقا لدستورها ؟
صمت مطبق . لأن
اسرائيل " الدولة العلمانية المتحضرة " .. تستغني بالتوراة عن الدستور .
وهي دولة مسالمة فلا تريد أن ترسم لذاتها حدودا اكتفاء بما نقلته على جدار الكنيست
من اساطير التوراة " من الفرات الى النيل ". أما عن مهمة خدمة المصالح الاستعمارية
والتحالف مع الامبريالية ، فان الصهيونية تتحالف مع من يحالفها مرحليا ولكنها لا
تخدم الا غاياتها ولولا عناد الدول العربية ورفضها الاعتراف بإسرائيل وتهديدها بإلقاء
اليهود في البحر لما استمر تحالف اسرائيل مع الامبريالية . فما على العرب الا أن
يعترفوا بإسرائيل ويقبلوا التعامل معها حتى تستطيع " القوى التقدمية "
فيها أن تحرر اسرائيل من ذلك الحلف لتتحالف مع القوى التقدمية العربية في سبيل
مستقبل أكثر تقدمية للجميع .
هذه الخلاصة
الأخيرة منقولة مما كتبه الذين يدعون الاشتراكية هناك .
هذا ما يقوله
الصهاينة " العلمانيون " بعد عشرين عاما من قيام اسرائيل على الأرض
العربية . أما ما يقوله الصهاينة المتدينون فهو أقل علما بكثير . ومع هذا فهم لا
يختلفون جميعا فيما يهمنا .. وما يهمنا هنا هو أن نعرف نوايا الصهاينة بالنسبة ،
الى أرضنا العربية ، فكلاهما يرى :
أولا : ان
اليهود في جميع أنحاء العالم أمة ، وأن الصهيونية قومية ، وأن الحركة الصهيونية
حركة قومية غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربي ، ويكون علينا أن نستنتج
أنهم يريدون الأرض خالية من البشر لأنها لازمة لإقامة الشعب اليهودي . وهذا مارسوه
فيما اغتصبوه من ارض حتى الآن . وهم يريدونها لاستقبال الشعب اليهودي كله الذي
يبلغ 12 مليونا . وهذا ما أرسوا قاعدة ممارسته بقانون "العودة " الشهير
الذي يمنح كل يهودي الجنسية الاسرائيلية بمجرد الاقامة في اسرائيل . وبالتالي فهم
يريدون أرضنا خالية من البشر تتسع لسكنى الشعب اليهودي كله فهي لابد أن تمتد الى
أضعاف أضعاف أرض فلسطين . وهذا يمارسونه بقدر ما يستطيعون . ولما كانت الأرض التي
يريدونها ليست محددة بقدرتها على استيعاب الصهاينة الذين يهاجرون الى اسرائيل ولكن
محددة على أساس أنها " الوطن القومي " للأمة اليهودية فان حدودها لا بد
من أن تكون مطابقة " للحدود التاريخية " لأرض اسرائيل . وهذا ما
سيمارسونه مرحلة ولن يتوقفوا دونه قط طالما كانوا قادرين . نريد أن نقول أنه طبقا
لذات " النظرية " الصهيونية التي يلتقي عليها الصهاينة ويلتزمون بها في
الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف ويثيرون تحت لوائها مشكلة فلسطين ، فان
مشكلة فلسطين ، كما ينبغي أن نفهمها حتى من نوايا أعدائنا ، هي مشكلة أرض عربية
يريدونها خالية من الفرات الى النيل .
ثانيا : ان الطرف
الاصيل الذي نصارعه ليس هو اسرائيل الدولة ، بل هو الصهيونية المنظمة . وليست
اسرائيل الا الآداة الرسمية المنفذة لإرادة المنظمة الصهيونية . وبالتالي لا ينبغي
أن نعول كثيرا على القرارات والمواقف التي تأخذها اسرائيل والتي قد تضطر اليها تحت
تأثير المجتمع الدولي . ان تلك القرارات قد تلزم دولة اسرائيل التي كانت قائمة يوم
أن قررتها ، ولكنها لا تلزم المنظمة الصهيونية التي لن تكف عن محاولة اقامة
اسرائيل أخرى . اسرائيل الكبرى .
ثالثا : ان الحركة
الصهيونية ذات منطلقات خاصة وغايات خاصة وأساليب خاصة . ولكنها بحكم تخلفها القبلي
تفضل القوة وتمجد العنف فهي عدوانية من حيث هي عنصرية . ومع هذا فمما يدخل في نطاق
اساليبها أن تتحالف مع القوى التي تتفق معها في الغايات ولو مرحليا . وهي القوى
العنصرية . أو الاقليمية . أو الاستعمارية ، طبقا لما يخدم غايات الصهيونية .
ولكنها تظل مستقلة بمنطلقاتها وغاياتها عن تلك القوى مستعدة دائما الى الاحتكام
للسلاح . فاذا كانت قد تحالفت مع القوى الاستعمارية المتفوقة ، مع ألمانيا أولا ،
ثم مع بريطانيا ، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، فلأن ألمانيا كانت ذات مطامع
استعمارية في الشرق العربي ، لم يمنعها الا الاستعمار البريطاني الذي حلت محله ـ
بالاتفاق ـ الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الأوروبية الثانية . ان العداء
للأمة العربية وتحررها ووحدتها وتقدمها ، هو الذي يجمع بين الصهيونية وحلفائها في
حلف تلتقي فيه المصالح ويتم من خلاله تبادل الخدمات ولكن يبقى لكل حليف قدر من
استقلاله . فلا الصهيونية اداة للاستعمار الامريكي ، ولا الاستعمار الامريكي أداة
للصهيونية . انهما عدوان متحالفان ضد عدوهما المشترك : الأمة العربية . وهذا الحلف
يتسع لكل قوى أخرى بقدر ما تشترك معه في غايته حتى لو كانت قوى عربية لها
منطلقاتها الخاصة ولها غاياتها الخاصة ، ولكن تلتقي مع الصهيونية ـ مرحليا ـ في
موقفها المعادي لحرية الامة العربية ووحدتها القومية وتقدمها الاجتماعي .
فهل يرى الذين
يشوهون مشكلة فلسطين الى أي منزلق ينزلقون ؟
الحل
القومي :
استرداد الأرض
العربية للشعب العربي . كل الأرض العربية لكل الشعب العربي . أما كيف فهذا سؤال
يتصل بالأسلوب وسنعرف الاجابة عليه فيما بعد . المهم هنا أن ندرك بأكبر قدر من
اليقين بان حل مشكلة فلسطين هو استرداد الارض المغتصبة من قبضة الصهيونية التي
تسميها “اسرائيل ” واعادتها الى الشعب العربي . لو بقيت
دولة للصهيونية ولو في ” تل ابيب ” وحدها فإن المعركة لن تكون قد انتهت لأن
منظمة القوى المعاد ية ما تزال هناك في اوروبا والولايات المتحدة واطراف كثيرة من
الارض . ومن تل ابيب ستعود فتنقض . هذا بالإضافة الى أن كل ذرة تراب من الارض
العربية هي ملك للشعب العربي لا بد من ان تسترد . وعندما تسترد الارض ، كل الارض ،
ستحل مشكلتنا ومشكلة اليهود معا . نسترد نحن أرضنا ونضعهم هم أمام الحل الصحيح
لمشكلتهم . ولا شك انهم عندما يعرفون بالرغم من كل شيء أن الصهيونية حركة فاشلة
سيعيشون في مجتمعاتهم ويندمجون فيها ويتطورون . وهكذا يكون استرداد الارض العربية
هو الحل التقدمي الصحيح لمشكلة فلسطين المغتصبة ومشكلة اليهود الهاربين من
مجتمعاتهم .
أليس هذا
تبسيطا للأمور؟
ان في اسرائيل
جيل سابق على قيام الدولة لم يعرف له وطنا الا فلسطين . وفي اسرائيل جيل ولد بعد
قيام الدولة لا يعرف له مجتمعا الا اسرائيل . فما الذي سيكون من أمر هؤلاء فيما لو
استردت الارض المغتصبة ؟… كثيرون يشغلون انفسهم بالإجابة على هذا السؤال كما لو
كان سؤالا جادا . وينفعلون في الحديث ويسودون الكتب ويقترحون ” فلسطين الديمقراطية
” كما لو كانت الصهيونية قد انهزمت ودولتها قد زالت ، وعاد الاباء الى
اوطانهم وبقيت مشكلة الجيل الجديد من ابنائهم ؟.. ومع ذلك فعلينا ان نجيب . فلعل
للسؤال وجها جادا نراه من الموقف القومي ولا يراه السائلون . بمجرد أن نكون
قوميين نتطهر تماما ، فكريا وحركيا ، من خطيئة التمييز العنصري ونسترد كامل
انسانيتنا ، ويعود إلينا الوضوح في رؤية المشكلات ، أية مشكلات ، وحلولها الصحيحة
. عندئذ سننسى ” حتما ” كلمة يهودي ونتحرر نحن أولا من رد فعل عنصري تحاول أن
توقعنا في شباكه المضللة الحركة الصهيونية فتجرنا من حيث لا ندري الى منطلقاتها
ومواقفها . لو فعلنا لرأينا ، الحل القومي واضحا صريحا . فالقومية لا تقبل
الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية . وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان
في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم
مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت والارض المغتصبة وقد
زرعت ، والاموال المنهوبة وقد اصبحت اموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان
وعيشوا “ ديمقراطيين ” كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . القومية
لا تقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة
الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . وسيكون من شأن دولة الوحدة
أن تعترف بالمواطنة أو بالإقامة لمن يريد أن يقيم في رحابها ممن لا ينتمون اليها
أصلا كما تفعل كل الدول بدون أن يكون في هذا مساس بسيادتها. هذا من ناحية . ومن
ناحية أخرى فان للأمة العربية أبناء من اليهود في فلسطين وفي كثير من الارض .
اولئك العرب اليهود . انهم لسبب أو لآخر . يحملون الهوية الاسرائيلية أو هويات
أخرى اجنبية . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الوطن العربي الى
اماكن أخرى وبعضهم مجندون في المنظمة الصهيونية أو في قوات اسرائيل المسلحة
. كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . وأسلاف كل هؤلاء عاشوا عربا
واسهموا بما استطاعوا في تطوير أمتهم العربية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا
في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي ” المشترك ” في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل
هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الأمن
واسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لأمتهم وان
يرتفعوا بوعيهم إلى مستوى المسؤولية القومية وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي جزء من
وطنهم العربي الكبير وأن لهم حق الإقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل أو كانوا
وافدين إليها من أقطار عربية أخرى وأن من حقهم أن يعودوا إليها أو إلى أي مكان في
الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع
اخوتهم العرب الذين اكرهوا على مغادرة فلسطين لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بقدر
ما يجسد فكراً ومسلكاً ولاءه القومي لأمته العربية . حتى الذين تورطوا منهم
فوجدوا أنفسهم في مواقع الخيانة لأمتهم . ويقتلون أخوتهم العرب طاعة لسادتهم
الصهاينة ، فإن جزاءهم سيكون معادلاً لما كان لهم من حرية الاختيار وعلى ما يكون
لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الصهيونية المغتصبة . وقد تغفر لهم
أمتهم كل ما تقدم لو حرروا أنفسهم من سيطرة الغاصبين الاجانب لجزء من وطنهم العربي
فاسهموا في استرداده وتحريره . ولكنهم في كل الأحوال لن يكرهوا على مغادرة الارض
العربية ولن يفتقدوا رعاية دولة الوحدة .
هكذا نرى الحل
من الموقف القومي . من موقف تتسق صلابته وانسانيته مع انتمائنا إلى أمة
عريقة ذات قيم حضارية لا يمكن أن يتدنى أبناؤها إلى القيم القبلية التي تجسدها
الصهيونية . اننا أمة وهم مجتمع قبلي فلا ينبغي لنا أن نفهم المشكلات كما يفهمون
أو أن نحلها كما يريدون أو أن تكون مواقفنا ردود أفعال لمواقفهم . اننا ، باسم
القومية العربية ، نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة وطنهم العربي وما على
الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولياتها فتحمي ابناءها اليهود من التعصب ضد
السامية .
ان نظريتنا
القومية ، اذن ، تحملنا مسؤولية تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض
عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولية عودة اليهود العرب الذين غادروا وطنهم
العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية .
أما الذين
خانوا اوطانهم فهجروها وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض
العربية . وعليهم ان يلحقوا بأممهم حيث كانوا. ولسنا مطالبين أن ندفع لهم ثمن
الخيانة أو ان نقدم لهم مكافأة على العدوان . لسنا مسؤولين على أي وجه عن ارضاء
التعصب الاوربي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا ، بأن نقيم للصهيونية
دولة في ارضنا سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا
أحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه .
ومشكلة فلسطين
هي النموذج لكل مشكلة اغتصاب ارض عربية ، أيا كان المغتصبون .
(كتاب
الغايات) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق