ديمقراطية
السيجة
قراءة في كتاب
مذكرات قرية للدكتور عصمت سيف الدولة .
أحمد خالد
.
مجلة
العربي / العدد 184 – 30 سبتمبر 2000
كيف تصبح لعبة صعيدية
بسيطة مثل "السيجة" مناسبة هائلة ورائعة للحديث عن كل المذاهب السياسية
والاجتماعية التي عرفها العالم؟
وكيف تدخل السيجة في
مقارنة مع الشطرنج لنكتشف بعد قليل أنها مقارنة بين الديمقراطية والارستقراطية ،
ولنكتشف أكثر أن السيجة هي ابسط دعوة للمساواة بين الناس ؟
يبدو الأمر بعيدا عن
التصور ، بل مثيرا للسخرية والاتهام بالسذاجة والادعاء .. حتى تقرأ ما كتبه المفكر
القومي د. عصمت سيف الدولة في الفصل الثاني من كتابه الرائع "مذكرات
قرية" الذي يسرد فيه قصة قريته "العقال" في اسيوط بتاريخها وناسها
الذين تحدوا ذات يوم إرادة الخديوي إسماعيل ، وقاموا سنة 1864 بأبرز حركة احتجاج
اجتماعي قي ذلك الوقت ، تقوم بها قرية مصرية ضد باشوات مصر . صحيح أن الحركة تم
قمعها بعد قليل ، الا أنها ظلت علامة فارقة في حياة القرية وما جاورها حتى الان .
يسرد المفكر القومي
تاريخ القرية وناسها ومن ثم عاداتهم وتقاليدهم وظروف حياتهم البسيطة بما فيها
الألعاب وسيلتهم الوحيدة في الترفيه ، بما في ذلك لعبة "الكحريتة" التي
تشبه لعبة "البلياردو" لو لا أنها تُلعب بالبيض وعلى ارض منحدرة يفوز
فيها من يصيب بيض الاخر . ولعبة "العضمة" التي تشبه لعبة كرة القدم
الأمريكية ، ومساجلات "التحطيب" وغيرها من الألعاب التي لا يراها د.
عصمت سيف الدولة مجرد ألعاب ، بل دلالات على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للقرية
المصرية . ثم يجيء د. عصمت ليتحدث عن السيجة ويعقد بينها وبين الشطرنج المقارنة ،
لنكتشف شيئا فشيئا أننا أمام قضايا فلسفية وفكرية كبيرة المسمى والمعنى . ولا أريد
أن أطيل عليكم ، انما أدعوكم لتشاركوني المتعة التي لا تحتاج الى شرح أو تعليق .
يقول د. عصمت سيف الدولة
في كتابه البديع "مذكرات قرية" :
بعد صلاة العصر يكون
الملل قد بلغ غايته فيتنادى شيوخ القرية والكهول ذوو الولد الكثير – الذين لا
يعملون – الى لعب السيجة . والسيجة لعبة يتبارى فيها فردان ، يظاهر كل واحد منهما
أعوان يشيرون عليه ويرشدونه ويهللون لانتصارهم اذا انتصر ، ويعايرونه بالهزيمة اذا
انهزم . وهي بعد لعبة ذكاء وتربية .
يتحلق منهم الكثير جلوسا
على الأرض حول وسادة مربعة من التراب الناعم تحفر فيها حَفرا هيّنا مواقع متجاورة
سبعة طولا وسبعة عرضا لتنتهي الى تسعة وأربعين موقعا يسمونها "عيونا" .
يجمع أحد الفريقين قطعا صغيرة من الحجر فيجمع الفريق الاخر قطعا صغيرة من
"الاجر" ليكون اختلاف اللون مميزا لما أعد كل فريق ، تسمى تلك القطع
"كلابا" . العين الوسطى من مربع السيجة تترك فارغة ، ثم تبدأ المباراة
بأن يضع أحد المتبارين قطعتين "كلبين" في عينين يختارهما ، ويليه الثاني
بقطعتين في عينين ، وهكذا حتى تأخذ الكلاب أماكنها في العيون فتمتلأ ، الا العين
الوسطى ، ومنها تبدأ الغارة .
يغير أولا من لم يكن له
امتياز اختيار موضع كلابه أولا ، والكلب لا يتحرك الى أعين فارغة طوليا أو عرضيا ،
فتكون البداية بالضرورة انتقال الكلب الى العين الوسطى مخليا مكانه لينتقل اليه
كلب غريمه . ولا تلبث عيون أخرى كثيرة أن تخلو ، ذلك لأن أية حركة تؤدي الى أن
يصبح كلب الخصم محصورا بين "كلبين" تعني أن الكلب المحاصر قد
"مات" ، فيلقى خارج رقعة السيجة ، وبالتالي يخلو مكانه . فتزداد فرص
المناورة ، ويكون مناط المهارة فالتفوق ، فالانتصار هو "اماته" أغلب
"كلاب" الخصم واخراجها من رقعة الميدان عن طريق محاكمتها بالتحكم في سير
اللعب ، ولكل لاعب استطاع بحركة أن يميت كلبا ويخرجه أن يستمر في اللعب بشرط أن
يكون ذلك حصارا جديدا لكلب جديد . وهكذا يستطيع اللاعب الماهر أن يحاصر كلبا اثر كلب
الى أن يفتك بخصمه أو كلاب خصمه ..
وبعد أن يسرد د. عصمت
سيف الدولة طريقة لعبة السيجة وقواعدها بهذا الشكل الذي ينبئ عن ارتباط عميق
بالقرية المصرية ، ومدى توغلها في مشاعره ووجدانه ، يبدأ في عقد مقارنة عميقة بين
لعبتي السيجة والشطرنج ، تعد أول مقارنة بين لعبتين ، وما تشير اليه كل واحدة
منهما سياسيا واجتماعيا لدرجة أننا نشعر في بعض الأحيان بانه لا يقارن بين لعبتين
بقدر ما يقارن بين مذهبين فكريين .
يقول د. عصمت :
كل كلاب السيجة متساوية
في مقدرتها على الحركة واتجاهها ، وفي هذا تختلف السيجة عن الشطرنج ، لكن أية قطعة
في السيجة لا تنقل الا نقلة واحدة الى عين خالية مجاورة لها على المحور الطولي أو
المحور العرضي ، لا تنحرف ، وفي هذا تختلف السيجة أيضا عن الشطرنج .
الخلاف في هذين الوجهين
بان السيجة ابسط من الشطرنج ، وأقل اقتضاء للجهد الذهني ، الامر كذلك بوجه عام ،
ومع ذلك فان السيجة ليست بسيطة ، وهي تحتاج الى جهد ذهني مضاعف ، لأنها تتضمن مرحلة
من الصراع لا يتضمنها الشطرنج .
في الشطرنج يبدأ الهجوم
أو يبدأ اللعب ، والقطع كلها في مواقع ثابتة معينة سلفا يعلمها الطرفان ، وهي
مواقع مفروضة على الطرفين ، ويفتح مجال المهارة في الشطرنج ببداية اللاعب ، وتدور
المهارة على خطط نشيطة هجومية أو دفاعية . الأمر في السيجة مختلف . ففيها يبدأ الصراع
والرقعة خالية ، ويكون على كل لاعب أن يختار المواقع التي ستساعد خطط الهجوم أو
الدفاع المتوقعة . ويدخل في الاختيار ، توقع خطط الخصم من رصد وتحليل المواقع التي
يختارها ، وقد يختار لاعب مواقع لصف ما لديه من أحجار منقيا لكل حجر موقعا يرشحه
لمعركة الطرف الاخر للخطة ، ويتصور الأماكن التي ستكون معرضة للحصار فيتجنب وضع
أحجاره فيها أو يسد الطريق اليها ، ثم يختار المواقع التي تفشل خطة خصمه . وكثيرا
ما يؤدي هذا الى انهاء الجولة بالتسليم قبل أن تبدأ المعارك حين يفطن واحد الى أن
كل الخطط التكتيكية لنشر قواته على مسرح المعركة قد أصبحت فاشلة في تحقيق الهدف
الاستراتيجي فيقبل الهزيمة وهو بعد في مرحلة الحشد والتعبئة .
فاذا عرفنا أن النشاط
الحربي يتم على مرحلتين ، مرحلة تعبئة القوات وانتشارها على ارض المعركة ، ومرحلة
الالتحام والمناورة في ميدان القتال يمكن أن نقول ان السيجة هي في الأساس مباراة
في تعبئة القوات وانتشارها على أرض المعركة واحتلال المواقع التكتيكية على ضوء
استطلاع ما يقوم به الخصم من تعبئة القوات ومواقع انتشارها . ولا يكون اللعب بعد
ذلك الا محكا للمباراة الأساسية ، ليعرف كل واحد ما اذا كان منتصرا أو منهزما فيها
. وان كان هذا لا يمنع أن مهارة قيادة المعركة قد تعوض القصور في الاعداد لها ،
فتحوّل الهزيمة الى نصر قتالي .
أما الشطرنج فهو في الأساس
مباراة في إدارة المعارك القتالية انطلاقا من مواقع وقوات متكافئة . وقد يمكن
القول ان السيجة مران ذهني على "حرب العصابات" في حين أن الشطرنج مران
ذهني على "الحرب النظامية" في اسلوبها القديم ، حيث تواجه الجيوش يعضها
بعضا قبل أن تسقط الفروسية ويؤدي الجبن الى أن يضغط "معتوه" على
زرار في طائرة فيقتل 750000 انسان في ومضة
قنبلة ذرية كما حدث في هيروشيما ، ويقول غير اهل القرى : بقد كانت حربا مشروعة وهي
عند أهل القرى لا أخلاقية .
ثم يزيد د.عصمت المقارنة
وضوحا ويعطيها بعدا أعمق في التدليل السياسي والاجتماعي ويحول اللعبة الى نظرية
سياسية كاملة وهو يقول :
الذي لا شك فيه أن
السيجة لعبة ديمقراطية ، ومران عليها ، وأن الشطرنج لعبة ارستقراطية وممارسة لها .
ليس مرجع هذا الى أن السيجة يلعبها الفلاحون بقطع من طوب أو حجر على رقعة من تراب
وهم جلوس على الأرض ، بينما يتفنن لاعبو الشطرنج في اختيار رقعة وقطعة من بين انواع
الخشب الثمين أو العاج ، وهم جلوس على المقاعد المريحة ، لا ، انما تبرز ديمقراطية
السيجة وارستقراطية الشطرنج من قواعد اللعبة ذاتها . ففي السيجة تتساوى كل القطع
في القيمة ، وفي مجال الحركة اذ كلها
احجار أو طوب أو كلاب . أما في الشطرنج فثمة الملك والوزير والفارس والفيل ، ثم
أخيرا الجند الذين يرصونهم أمام الارستقراطيين وفرسانهم وطوابيهم وافيالهم ،
ليلقوا عنهم مخاطر القتال المبكر . ويتمتع الملك بامتياز الحركة الى أي اتجاه ،
ولو هربا ، ويتمتع وزيره بامتياز الحركة الى أتجاه والى أي مدى ولو منحرفا .
وتزداد قيود الانضباط على حركة كل قطعة كلما نزل مستواها الاجتماعي الى أن تفرض
على الجندي حركة واحدة ويحرم من التراجع ولو دفاعا عن نفسه .
ليس هذا كل الخلاف .
أكثر منه دلالة على ديمقراطية
السيجة وارستقراطية الشطرنج أن كل القوى في الشطرنج مسخرة لحماية الملك . ولا يهزم
لاعب الا اذا مات ملكه حتى لو كان قد فقد كل جنده وخيله وطوابيه .
النصر والهزيمة في
الشطرنج مرتبطان بوجود الملك أو عدمه . ولكي تكتمل طقوس النفاق الارستقراطي ، لا
يجوز قتل الملك الا بعد تنبيه جلالته الى الخطر "كش" لعل جلالته أو أحد
رعاياه يجد له مخرجا أو يفديه ، أما كل من هم غير الملك بمن فيهم الوزير فيموتون
اغتيالا .
أما في السيجة فكل القطع
يساند بعضها بعضا . تتعرض كل قطعة للمخاطر ذاتها التي تتعرض لها القطع الأخرى ،
وتحل كل قطعة محل أية قطعة أخرى في أداء وظيفتها ، ومن يموت يفتدي من يعيش ، ثم لا
ينهزم الا من يفقد أغلبية قواته ، وحكم الأغلبية على أساس المساواة بين البشر .
واذا انعدمت المساواة فلا تبقى من الديمقراطية الا كلمة ساخرة من عقول مسخرة
لاستبداد الذين يعشقون الكلمات الفارغة من الليبراليين الذين يتحدثون كثيرا عن
الديمقراطية ولا بأس بعد ذلك من توزيع السلطات على الصفوة من الأقلية المتحكمة من
ملوك ووزراء وفرسان وافيال وطوابي ، لانهم كما يزعمون يمثلون الأغلبية وينوبون
عنها ، لأن اغلب مواطنينا لا تتوافر لهم من المعرفة ، والوقت ما يلزم ليريدوا أن
يقرروا بأنفسهم في المسائل العامة . وبالتالي فان رأيهم أن ينيبوا عنهم من هم أقدر
منهم بكثير في اتخاذ القرارات كما قال أستاذ النفاق وفيلسوف الاستبداد في كل
العصور البارون ورثه عن أبيه ، البارون ورثه عن عمه شارل لوي مونتسكيو .
السيجة تربي الناس منذ
الصغر على المساواة بين البشر . كذلك يفعل اهل القرية . يدربون أولادهم على سيجة
صغيرة من تسع اعين ، ثم يلحقون الصبية منهم "مدرسة المساواة" سيجة من
خمس وعشرين عينا . فاذا أضيف الى تلك المدرسة التربوية ممارسة المساواة التي
تفرضها الوحدة في النسب والوحدة في الفقر ، والوحدة في الوطن ، فلا يكون خطأ أن
يقال ان المساواة قيمة أصيلة من قيمة القرية .
أي ابداع هذا ، وما كل
هذه المتعة التي لا تحتاج الى شرح وتعليق . عن نفسي لو أنني رشحت نفسي في الانتخابات
القادمة لاتخذت من السيجة شعارا لها ، ولأسست على قواعدها حزبا يحقق المساواة بين
المصريين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق