بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

حوار مع جريدة الوطن (2)

 

د.عصمت سيف الدولة في حوار مع جريدة الوطن (2)

بتاريخ 5 / 4 / 1985 .

الوطن : هل لازلت تعتقد بأن على منظمة التحرير دورا قوميا في تحرير الأراضي العربية كما جاء في أحد كتبك عندما طالبت المنظمة أن تمزق الإقليمية على الرغم من ابعاد المنظمة ومقاتليها عن الأراضي العربية المحاذية لفلسطين ؟

د.عصمت : الان وقد تداخلت الأحداث وتعقدت المشاكل فالأفضل أن نتذكر أن منظمة تحرير فلسطين مؤسسة سابقة على الثورة الفلسطينية الأخيرة وقد بدأت الثورة في أول يناير سنة 1965 بعيدا عن المنظمة وخارجها كمؤسسة ومن غير المنتمين اليها . تذكّر هذه المفارقة التاريخية على اكبر جانب من الأهمية الان ، لأن الدول العربية قد وجدت أن الثورة الفلسطينية ستتحول عاجلا أو اجلا الى ثورة عربية شاملة وذلك بحكم الظروف الموضوعية التي وضعت الثوار خارج الأرض المحتلة وداخل أراضي الدول العربية ، وهذا أيضا ما كنت أراه ، وكنت أعلنه شرط إصرار الثورة الفلسطينية على النصر ، أي مع استبعاد احتمال الاستسلام ، تلافيا لهذا التحول ، فلنقل التطور الثوري حمل الدول العربية منذ البداية على دفع الثورة بعيدا عن كياناتها وسياساتها ومصالحها . وتم ذلك تحت ثلاثة شعارات نفذت جميعا . وهي : وحدة منظمة التحرير الفلسطينية وكان الوصول الى هذا واحدة من أمرين ، اما بوضع المنظمة تحت قيادة الثورة أو جعل الثورة تحت قيادة المنظمة . فاختارت حلا ثالثا هو دمج الثورة في المنظمة أو تحويل الثورة الى منظمة ، وذلك بإسناد رئاسة المنظمة الى قيادة الثورة ، وإدخال فصائل الثورة في اطار المنظمة والاعتراف بالمنظمة عضوا في الجامعة العربية أي تحويلها الى دولة تخضع حركتها لما تخضع له الدول العربية فلا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية ولا تتدخل الدول العربية في شؤونها .

الشعار الثاني كان مسؤولية الشعب الفلسطيني عن تحرير فلسطين ، فعندما رُفع هذا الشعار لم يكن الشعب العربي الفلسطيني هاربا من المسؤولية حتى يحتاج الى من ينبهه لهذه المسؤولية ، بل كانت الدول العربية تريد أن تهرب من مسؤولية المشاركة في معركة تحرير فلسطين فألقت كل المسؤولية على الشعب العربي الفلسطيني حتى لا تكون هي مسؤولة عن شيء ، وقد تولّد من هذا الشعار تلك السياسة المعلنة من الكثير من الدول العربية التي تقول "اننا نقبل ما تقبله منظمة التحرير" .

الشعار الثالث المكمّل للشعار السابق وهو استقلالية القرار الفلسطيني ، وهذ الشعار سلاح ذو حدين يستعمل حد منه ضد أعداء الثورة والحد الثاني ضد حلفاء الثورة ، ويتوقف الخيار على الموقف من الثورة ذاتها . وأعني أن الثورة هي التي تحدد مضمون استقلال القرار الفلسطيني ، فالقرار الفلسطيني غير قابل للاستقلال عن القرار القومي لأن فلسطين جزء من الامة العربية وللقضية القومية ، والقرار الفلسطيني غير قابل للاستقلال عن الشعب العربي الفلسطيني وقواه الثورية ، لأن هذه هي قضيته . والقرار الفلسطيني غير قابل للاستقلال عن مصدر شرعيته والمصدر هو تحرير فلسطين .

في كل هذه الأحوال وغيرها لا يجوز للقرار الفلسطيني أن يكون مستقلا بمعنى أن يصدر دون تقيّد بمنطلقات الثورة وغايتها ومصادر قوتها واسبابها وانتصارها ، ولكنه يرفع وبحزم ضد أعداء الثورة .

وتابع د.عصمت يقول لي مؤكدا :

أكرر أن الدول العربية هي التي خططت منذ البداية عن طريق الاغراءات والإغواءات والتنظيمات المتداخلة في الثورة والاشادة بالثورة وقيادتها وطرد الثورة من الأرض اذا لزم الأمر ، أي بكل الوسائل لترفع الثورة نفسها هذه الشعارات وتمارسها وتقيد نفسها بها . وقد كان ذلك اقصى نجاح وصلت اليه الدول العربية حينما بدأت المنظمة – ولا أقول الثورة – تعتبر هذه الشعارات دستورها .

وقد كان كل ما كتبته منذ 1968 حتى الان وما نشر منه في كتاب "التقدم على الطريق المسدود" هو تحذير للثورة ودفاعا عنها ضد هذا التخطيط للدول العربية الإقليمية ، ومع ملاحظة أن اغلب هذه الدول لا تعمل لحسابها بل تحت توجيه قوى أجنبية وكان التحذير ذا شعبتين ، الشعبة الأولى : تحذير الثورة من القوة الإقليمية خارجها ، والشعبة الثانية : تحذير الثورة من الاتجاهات الإقليمية داخلها . ثم أنذرت بأن الطريق الذي تسير عليه الثورة أو تُدفع عليه سينتهي عند سُدّ تكون الثورة مطالبة بان تدفع "الأرض ثمنا للأرض" .. ولم يكن هذا نبوءة ، لكنها كانت النتيجة المنطقية كما يراها أي انسان من موقف قومي من قضية قومية لا يمكن فهمها فهما صحيحا الا من هذه الزاوية .. ولعل كل الذين يشكُون من الوضع الان أن يدركوا لماذا رفضت بعض الرموز – القيادات الفلسطينية شنة 48 "الأرض مقابل السلام" شعار التقسيم ، شعار مقايضة أرض عربية مقابل ارض عربية ، بل شعار مقايضة أرض فلسطينية بارض فلسطينية .. نابلس مقابل حيفا ، ورام الله مقابل يافا وهكذا .. لقد كانت المسيرة كلها خاطئة الرؤية وفي عنق المسؤولين عن النتيجة ، استعلاءهم على محاولة معرفة الحقائق .. لا يعني هذا أن الثورة قد اسقطت عنها قشورها الإقليمية ، لقد انتهى وسينتهي كل الإقليميين ، فلسطينيين أو غير فلسطينيين وتحت سمعهم جميعا أو بصرهم تتحول الثورة العربية من صيغتها الفلسطينية الى صيغ أخرى كمرحلة انتقال الى صيغتها القومية ولكنهم لا يرون شيئا فقد تعودوا أن ينظروا الى العالم من خلال نظرتهم الإقليمية الضيقة .

الوطن : ركزت في نفس هذه القضية على "فتح" كحركة تحرير عربية تأمل منها أن تتحول الى تنظيم عربي .. ولكن الوقت الحاضر كشف عكس ما كنت تتمنى وتتفاءل "لفتح" .. فقيادة المنظمة التي تسيطر عليها رموز فتح هي المنفذ لهذه الشعارات من خلال سياساتها مع الدول العربية .

ويجيب د.عصمت سيف الدولة :

لقد كانت حركة فتح هي الفصيل الذي بدأ النشاط الثوري في اول يناير 1965 وبحكم هذا الميلاد والظروف التاريخية راهنتُ على فتح وربطني بقيادتها أوثق الروابط والمودة ، وبدون انكار لحقهم في النصيحة امتنعت عن التشهير بما كنت اعرفه من أخطاء داخلية لأني كنت أعلم أن فتح تواجه أو ستواجه حصارا إقليميا من الدول العربية الإقليمية التي هي في رايي كانت ولا تزال المسؤولة الأولى عن احتلال فلسطين 1948 وما أدى اليه بعد ذلك من توسع ، وكان أهم ما يميز فتح في نظري هي انها الفصيل الثوري الذي التقى على غاية محددة هي تحرير الأرض التي احتلت سنة 1948 ، اذ الواضح أنه عند نشأتها لم تكن الجولان أو الضفة أو سيناء قد احتلت ، فلما احتلت سنة 67 وأصبح لكثيرين قضايا متصلة بقضية فلسطين هي قضية "ما اقتطع من اقليمهم" أو ما كان خاضعا لهم من ارض فلسطين ، لم يكن عندي أي شك في استعداد الدول العربية للمساومة مع العدو الامبريالي الصهيوني ، ومحاولة استرداد ما اخذ منهم سنة 1967 مقابل اعترافهم بحق الصهيونية في إقامة دولة على الأرض التي احتلت سنة 1948 .. وكنت أتصور أن هذا ممكن أعني المساومة لكل المشاركين في "معركة إزالة اثار العدوان" كما اسموها .

ولكنه مستحيل على فتح "الا اذا انتحرت فتح" وكل القوى الأخرى فلسطينية او غير فلسطينية .

أما الفصيل الذي اجتمع مؤسسوه وتعاهدوا واقسموا على ان تكون غاية منظمتهم تحرير أرض 1948 بالثورة المسلحة ، فما كان يمكن تصور أنهم يلتمسون لمواقفهم أعذارا ، مما طرأ في سياق الثورة ، اذ الخضوع للهزائم والنكسات المرحلية ما بين منطق الثورة وغايتها – هو الاستسلام بدون شبه – ولا اعرف منظمة فلسطينية غير حركة فتح ربطت مصيرها بمصير الأرض المحتلة سنة 1948 ربطا مصيريا منذ البداية .. وبالتالي كانت فتح أولى المنظمات بالتأييد الجماهيري والمراهنة عليه ، وكنت أتوقع أن منظمات كثيرة ودولا كثيرة سينتهي دورها وقد تنقلب على الثورة ، وان هذا غير وارد بالنسبة لفتح ، ونشرت هذا بالتفصيل سنة 1969 في مجلة الآداب البيروتية وحددت على وجه التحديد من هي القوة التي ستستمر الى النهاية ، ومتى ستغير كل قوة مواقفها وانتهيت الى أن القوة التي ستستمر لا بد أن تكون قومية ، ومن هنا توقعت أنه من خلال حتى التجربة والخطأ ، للإصرار على النصر ولا شيء غيره ستتحول "فتح" الى قوة قومية .. الا اذا اختارت الهزيمة ، فلم تكن المسالة مراهنة على رموز فتح ولكن توقعا لما سيتطور الصراع داخل وخارج فتح بين قوة تريد ان تتوقف عند نهاية تحرير للأراضي سنة 1967 .. وهؤلاء على سبيل القطع وطبقا للمعيار الموضوعي ليسوا فتحاويين وان كانوا في قيادة فتح .. أما الذين سيقاتلون وستستمر الثورة بهم حتى النصر النهائي فهم الفتحاويون ولو لم يكونوا أعضاء بحركة فتح .. ذلك ان فتح هي رمز "ثورة حتى النصر"  ، ونصر فتح هو النصر الذي قامت من أجل تحقيقه في بداية سنة 1965 وليس النصر في معركة إزالة اثر العدوان .

الوطن : ما رايك د. عصمت بالتحركات الأخيرة واثرها على مستقبل الثورة الفلسطينية ؟

د.عصمت : تحركات الدول العربية الأخيرة التي انتقلت من فاس الى عمان لمحاولة تسوية "مشكلتهم" مع إسرائيل طبقا للمبدأ الجديد "الأرض مقابل السلام" تحركات متوقعة منذ البداية .. أقول منذ سنة 1948 حيث أخذ الشكل الأول الهدنة في "رودس" والهدنة كما هو معلوم سلام مؤقت ولكن تستطيع كل الدول العربية التي تتحرك الان أن تجاهر بهذا الموقف خاصة في مرحلة المد الثوري العربي ، الذي بدأ منذ سنة 1955 عندما دخلت ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر معركة الدفاع عن الوطن العربي ضد الأحلاف الأجنبية فدخلت الجماهير العربية معركة الدفاع عن مصر سنة 1956 .

ومازالت الدول العربية بعد ذلك تضمر نواياها وتدعي ما هو ليس فيها الى أن فتح لها السادات الطريق واسعا ، هذا الطريق الواسع هو الذي يصل بين كل دولة عربية وما يحقق مصالحها الخاصة ولو على حساب قضية فلسطين . فالذي يطرح السلام الان على إسرائيل مقابل الأرض يأخذ السلام لدولته ويعطي السلام للأرض الفلسطينية وليس لدولته . أقول .. وحسنا فعلت الدول العربية عندما تحركت أخيرا فقد ظلت دهرا تستجدي تأييد الجماهير العربية والثورة الفلسطينية برفعها أعلام التحرير ، وعندما أقول أحسنت فاني أعني أن وضع قضية تحرير فلسطين الان افضل من أي وضع سبق منذ سنة 1948 ، فكل الذين كانوا على استعداد لبيع الأراضي الفلسطينية يطرحون الان بيعها وسيترتب عليها حتما فرز هائل بين القوى في الوطن العربي وسنجد الامبريالية والصهيونية ، والدول العربية المتحركة صفا واحدا وستبقى قوة الثورة أقل عددا ولكن أكثر مقدرة بما يتوفر لها من نضج ورؤية .. من هم أعداؤها ؟ ومن هم حلفاؤها بدون تزييف ؟

ومن هنا يمكن القول أن الثورة أخيرا قد انفصلت عن أعدائها وانفصل عنها أعداؤها ، أي ملكت الامكانية الموضوعية للاستمرار حتى النصر سواء كان جندها هم الجند الحاليين أو جيلا اخر من الثوار . المهم الان أصبحت الثورة أكثر نقاء ومنطلقا وغاية واسلوبا وهذا فضل كبير .

أما الذين يتصورون أن مواقفهم غير الثورية ستنهي الثورة أو أنهم بقراراتهم واتفاقاتهم سينهونها فهم مخطئون خطأ جسيما . ان الثورة في صيغتها الفلسطينية ليست الا المرحلة الأولى من الثورة العربية القومية الشاملة ، ولو انتهت فلسطينيا فإنها ستأخذ صيغا أخرى ربما في أماكن أخرى وبقوة أخرى .  

الوطن : هذا كلام يبدو غامضا ، فماذا تقصد ؟

ويجيب د.عصمت سيف الدولة : أنا لا أستطيع أن افسره أكثر من ذلك ، يكفي أن اذكّر ضيّقي الأفق أن ثورة 23 يوليو في مصر قد بدأ التخطيط لها في قلب معركة فلسطين . على أي حال فان من يعنيهم الامر لن يخطئوا فهم ما أقول ..

وهم وحدهم يستحقون معرفة الجواب ..

الوطن : رفضت أن تعتبر مشكلة فلسطين دولية كما جاء في كتابك نظرية الثورة العربية وكتابك الطريق المسدود ، واعتبرت التدخل الدولي هنا نابعا من مصالح خاصة بهذه الدول ، والان وقد أصبحت المشكلة تضم أطرافا أخرى من خارج المنطقة العربية كالسوق الأوربية المشتركة وأمريكا وغيرها .. فهل ترفض حتى حق الحوار معها على الأقل للحد من تدخلها وكشف مصالحها ؟

د.عصمت سيف الدولة : ان مشكلة فلسطين هي مشكلة أرض عربية مغتصبة ، وتحرير فلسطين يطرح مشاكل أخرى كمشكلة من هم المغتصبون ومن هم حلفاؤهم ؟ وما هي مصادر قوتهم ؟ هنا تبدأ العلاقات الدولية ومصالح الدول والراي العام الدولي وحتى القانون الدولي تظهر كعوامل مساعدة أو معوقة لحركة التحرير ، ويكون على قوى التحرر أن تتعامل مع كل هذه العناصر المؤثرة سلبا أو إيجابا لتنمي العلاقات المساعدة وتضعف او تزيل العلاقات المعوقة .. وقد تضطر قوى التحرر أن تداور وتناور وتتخذ مواقف تكتيكية أو مرحلية وقد تضطر ان تتراجع على هدف تظن أنه قابل للتحقيق لتلتف حوله عن طريق جديد .. كل هذا وارد ولا يمكن لأحد يعلم أن الدنيا ليست خاضعة لقرار قوى التحرر أن يلزمها بموقف تكتيكي أو مرحلي واحد أو نمطي تستعمله في كل الحالات .

وهنا تبدو أهمية المحافظة على المبدأ ، أعني المحافظة على غاية الثورة التحررية .. أما الاحتجاج بالمشكلات المعقدة التي تحيط بقضية التحرير من طبيعة العلاقات الدولية أو التي تصطنعها بعض الدول العربية لإحباط حركة التحرير وذلك بالتنازل عن مبدأ التحرير ذاته ، فهو انهزام واستسلام ، ومن هنا قلت في اخر ما كتبت عن هذا الموضوع تحت عنوان هذه الدعوة للاعتراف المستحيل أن المحرم هو الاعتراف وغيره مباح تقديره لقادة حركة التحرير ، فلا تجاهل للعلاقات الدولية وأثرها على حركة التحرير .. أما عن حقيقة القضية باعتبارها أرضا مغتصبة ستبقى كما هي ، ولا توجد دولة في العالم لها متر مربع من أرض فلسطين ، وبالتالي يجب أن نفهم أن موقفها لن يكون معنيا بالحفاظ على هذه الأرض . وليست مسؤولة عن الحفاظ عليها ، ولن تلتفت الى المحافظة عليها الا اذا كان ضياع متر سيؤدي الى ضياع كيلومتر من أرضها .   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق