هل يجوز عزل التعويضات عن تحقيق اهداف الثورة ..؟
يدور الحديث هذه الايام حول موضوع التعويضات بين مشهّر ومبرر ، بينما المشكلة في حد ذاتها ليست في التعويض وجبر الضرر بل في مغالطات المؤيدين حينما يستشهدون بما ورد في آليات تمويل صندوق الكرامة باعتبار ان الدولة لا تدفع الا 10 % ، او في القول بان جبر الضرر حق مشروع لكل من تعرض للانتهاكات والممارسات التعسفية خلال فترة الاستبداد دون وضعه في اطاره الصحيح المتمثل في مسار العدالة الانتقالية باكمله ، ودون افصاح بان التعويض عن طريق الصندوق ليس الطريقة الوحيدة لجبر الضرر كما تم منذ 2012 وكما تبين القوانين الصادرة في الغرض .
فجبر الضرر جاء في اطار مسار ومفهوم كامل للعدالة الانتقالية لذلك الاستشهاد بتلك الفقرة حول التعويضات وتمويل الصندوق دون استحضار لهذا المسار وخارج مفهوم العدالة الانتقالية يتضمن مغالطة كبيرة وتضليل للراي العام يتجاهل الاهداف التي قامت من اجلها الثورة ، اذ في هذه الحالة يبدو كأن الثورة قد قامت من اجل التعويضات .. !! وهذا الفصل من القانون عدد 53 لسنة 2013 الخاص بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها يبين الاطار الذي يجب ان يتنزل فيه جبر الضرر :
- الفصل الاول : العدالة الانتقالية هي مسار متكامل من الاليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان .
هذا هو المسار المتكامل الذي يجب ان يشمل العديد من الشروط التي ضبطتها بقية الفصول في هذا القانون واهمها :
- تفعيل الوسائل والاجراءات والأبحاث المعتمدة لفك منظومة الاستبداد ( الفصل الرابع ) .
- تفعيل المساءلة والمحاسبة عن طريق الآليات التي تحول دون الافلات من العقاب او التخلص من المسؤولية ( الفصل 6) .
- تعهد الدوائر والهيئات المختصة بالنظر في الانتهاكات المتعلقة بتزوير الانتخابات والفساد المالي والاعتداء على المال العام ( الفصل الثامن ) .
- جبر الضرر نظام يقوم على التعويض المادي والمعنوي ورد الاعتبار والاعتذار واسترداد الحقوق وإعادة التأهيل والإدماج ويمكن أن يكون فرديا أو جماعيا ويأخذ بعين الاعتبار وضعية كبار السن والنساء والأطفال والمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والفئات الهشة ( الفصل 11 ) .
- توفر الدولة العناية الفورية والتعويض الوقتي لمن يحتاج إلى ذلك من الضحايا وخاصة كبار السن والنساء والأطفال والمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والفئات الهشة دون انتظار صدور القرارات أو الأحكام المتعلقة بجبر الضرر ( الفصل 12 ) .
- اصلاح مؤسسات الدولة الهادف الى تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات ( الفصل 14 ) .
- تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعية وبناء دولة القانون ، ولا تعني المصالحة الافلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات ( الفصل 15 ) .
- النظر في جميع الانتهاكات الحاصلة منذ جويلية 1955 ( الفصل 17 ) .
- صياغة التوصيات والاقترحات المتعلقة بالاصلاحات السياسية والادارية والامنية والقضائية والاعلامية والتربوية والثقافية وغربلة الادارة وغيرها من الاقتراحات لتجنب العودة الى القمع والاستبداد ...
- صياغة التوصيات والمقترحات والاجراءات التي تعزز البناء الديمقراطي وتساهم في بناء ودولة القانون ( الفصل 43 و 67) .
هذا هو السياق العام الصحيح الذي يجب ان تتطرح فيه مسالة التعويضات ، وهو تمشي كامل لهدم منظومة الاستبداد وبناء الاسس السليمة لدولة القانون والمؤسسات والديمقراطية .. في حين ان ما نراه هو العكس تماما ، وهو السعي الى بناء دولة التمكين والمحاصصة ووالولاءات الحزبية باشكال واساليب وممارسات متعفنة تفوق الممارسات التجمعية والنوفمبرية التي ادت الى تشييد دولة الاستبداد والنهب والمافيات والعصابات التي ثار عليها الشعب في 17 ديسمبر ، علما ان جبر الضرر كما نص عليه الفصل عدد 12 من هذا القانون الخاص بالفئات الهشة الاكثر حاجة للمساعدة من كبار السن والمعوقين وذي الاحتياجات الخصوصية والمرضى قد بدأ فعلا ، بل ان تطبيقه قد كان على نطاق أوسع من ذلك بتدخلات عاجلة من الدولة حتى قبل تسوية بقية الملفات وفرزها وعرضها على المحاكم المختصة ، منذ صدور القوانين الخاصة بالمنتفعين بالعفو التشريعي العام ، حيث شهدت التشريعات المتعلقة بالانتداب تباعا صدور العديد من القوانين الاستثنائية التي تعطي اولوية الانتدابات للمنتفعين بهذا القانون ومنها :
- القانون عدد 4 لسنة 2012 الوارد تفصيله بالامر عدد 833 المؤرخ في 20 جويلية 2012 في فصليه السادس والسابع القاضيان من ناحية بفتح انتدابات مباشرة لفائدة جرحى الثورة واهالي الشهداء والمنتفعين بالعفو التشريعي العام وفقا لاحكام المرسوم عدد 1 لسنة 2011 كأول قانون يؤسس بعد الثورة للتعويض وجبر الضرر ، وذلك بطاقة استيعاب تصل في حدها الادنى الى 70 % من الانتدابات المباشرة والبقية اي 30 % لعموم ابناء الشعب عن طريق المناظرات ، ومن ناحية اخرى لعدم اعتبار السن القصوى للمنتفعين بالقوانين الاستثنائية .
- الامر عدد 3256 المؤرخ في 13 ديسمبر 2012 القاضي باجراءات العودة الى العمل وتسوية الوضعية الادارية للمنتفعين بالعفو التشريعي العام كما جاء مفصلا في العديد من الفصول ومنها :
• اعادة ادماج الاعوان العموميين المنتفعين بالعفو التشريعي العام طبقا لاحكام المرسوم عدد 1 لسنة 2011 ضمن اسلاكهم ، وعودتهم الى العمل مهما كانت وضعياتهم الادارية ولو كانوا بصفة زائدة ، وينتفعون بالتدرج والرتب التي تمتع بها نظراؤهم منذ الانقطاع عن العمل الى تاريخ ارجاعهم ( الفصل 1 و 2 ) .
• تنطبق احكام الفصلين السابقين على الاعوان الذين تعذر ادماجهم او الذين ادمجوا في غير اسلاكهم ( الفصل 3) .
• تتم احالة الاعوان الذين تعذر ادماجهم في اسلاكهم الاصلية او في غيرها على التقاعد طبقا للتشريع الجاري به العمل ( الفصل 3 ) .
• ينجر عن العودة الى العمل الحق في المرتب بعد اعادة ترتيب المسار الوظيفي ابتداء من تاريخ المباشرة الفعلية ( الفصل 6 ) .
- امر عدد 2799 المؤرخ في 9 جويلية 2013 المتعلق بضبط صيغ واجراءات النظر في مطالب التعويض ذات الصبغة الاستعجالية ، القاضي من خلال فصله التاسع بان " تقترح اللجنة الخاصة بهذا الامر مبلغ التسبقة على التعويض في شكل مبلغ سنوي يقع دفعه صبرة واحدة او على دفعات بحسب ما تقترحه اللجنة ووزير حقوق الانسان ، وتراعي اللجنة عند اقرار المبلغ الجملي حالة المعني بالامر الجتماعية والمدنية والصحية ..
الا يعني هذا ان مسار جبر الضرر بالنسبة لضحايا النهضة قد بدأ فعلا منذ سنة 2012 وقد اشرف على الانتهاء ولم يبق منه الا التعويض على ما فات وهو آت ، فاين جبر الضرر بالنسبة للآخرين من اليوسفيين وغيرهم ؟؟ واين جبر الظرر لبقية ابناء الشعب وللجهات المحرومة طوال فترة الاستبداد ؟؟ وأين نحن من المؤسسات السيادية للدولة الديمقراطية وعلى راسها المحكمة الدستورية ، واين الهيئات المستقلة التي اصبح وجودها صوريا ، واين قانون تحصين الثورة ، واين المحاسبة للفاسدين ، واين كل الشروط والضمانات الواردة ضمن سياق العدالة الانتقالية كما نصت عليه القوانين لبناء دولة ديمقراطية سليمة ..؟؟؟
اما بالنسبة لصندوق الكرامة ، وحتى ان كانت مصادر التعويضات مختلفة كما جاء في القانون عدد 53 لسنة 2013 ، اي 10 % من الدولة والبقية من الهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة فهي معضلة اكبر تجعل مصادر التمويل غير معروفة وغير موثوقة ومعرضة لكل الشبهات التي لا يمكن مراقبتها في ظل دولة ما فيوزية مثل الدولة الحالية ..
فهل ما يجري فعلا هو المسار الحقيقي للعدالة الانتقالية كما جاءت به روح القوانين وكما ينتظره التونسيون ضمن الاهداف الكبرى التي قامت من أجلها الثورة ..؟؟
( القدس )