عودة الى حزب الضرورة ..
في ظل اكراهات الواقع الإقليمي العربي الغارق في مشاريع التصفية للوجود القومي ، برز للوجود ما يسمّى في قاموس القوى الوحدوية في الوطن العربي بـ " حزب الضرورة " .. حيث لا بد لكل مرحلة من ضرورات .. ولا بد لكل مشكلات من حلول ضرورية .. عملا بمقولة " من الممكن الى ما يجب أن يكون " ..
هناك ضرورة لحزب قومي ، لا خلاف في هذا ، وقاعدتها ما رشح من تجارب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الوحدوية وهو ما دعاه بداية الستينات لتحريض الجماهير العربية على بناء الحركة العربية الواحدة ، ثم ما جاء في كتابات عصمت سيف الدولة - بعد دراسة علمية معمقة - من بيان للأسس والمهام العملية للتنظيم القومي كآداة وحيدة كفيلة بحل مشاكل التنمية والتخلف في الوطن العربي ، حينما قال محوصلا ما جاء في أطروحاته حول مشروع دولة الوحدة : " لقد كان كل ما سبق من حديث بياناً لنظرية الثورة العربية من اجل تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية . وقد حددت لنا النظرية دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية غاية نثور من اجل تحقيقها لحل مشكلة التخلف : عجز الشعب العربي عن توظيف كل الإمكانيات المتاحة في أمته العربية من اجل إشباع حاجاته الثقافية والمادية المتجددة أبدا . ولكن ذات النظرية قد ألزمتنا غايات أخرى نعيدها هنا ليتصل آخر النظرية بأولها فتكون بناء فكرياً واحداً متماسكاً ، يقبل كله او يرفض كله .. إن حل مشكلات التنمية هو الأصل لأن التطور هو الأصل في حركة المجتمعات بحكم حتمية القوانين الموضوعية التي تضبط حركتها من الماضي الى المستقبل . فهي مشكلات مستمرة ومتجددة ومن حلولها المستمرة المتجددة تنمو المجتمعات وتتقدم . اما مشكلات التخلف فطارئة وبالتالي مؤقته وهي تعوق التطور ولكنها عندما تحل تطرد حركة التطور التقدمي من خلال الحلول الجدلية لمشكلات التنمية . ومن هنا فإن وجود التناقضات التي تثير مشكلات التخلف في المجتمع لا تلغي نهائياً حركة التطور الحتمية إنما تضعفها . ففي ظل مشكلات التخلف تظل مشكلات التنمية قائمة ومتجددة يحلها الناس ولكن بما هو متاح في مجتمعهم ( فقرة 36 / كتاب الغايات ) . و هنا وهناك على امتداد الوطن العربي ، في مواقع العمل أو في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين الواقع الاجتماعي وما يريده الشعب العربي . وهي كلها مشكلات تقدم وتنمية . فيها يحاول العاملون من أبناء الأمة العربية ان يغيروا بالإنتاج واقعهم ليشبعوا حاجات الشعب العربي المتغيرة المتنوعة المتجددة أبدا . في ظل الاستعمار وفي ظل الحرية ، في ظل الإقليمية وفي ظل الوحدة ، في ظل الاستغلال وفي ظل الاشتراكية ، لا تتوقف محاولة التطور ولا يكف الإنسان العربي عن محاولة حل مشكلاته عن طريق تغيير واقعه ليشبع حاجاته . ليحقق إرادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم … فلنعش مع الشعب العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة ولنعرف ما هي مشكلاته ولنكتشف حلولها الصحيحة ثم نحولها الى خطط انتاج يومي ننفذها في الواقع … ( فقرة 37 ) .
تلك هي الغاية الأصيلة للحزب القومي التقدمي الديمقراطي الاشتراكي . وذلك هو الميدان الأصيل الذي يعبر به عن ولائه لأمته العربية عن طريق معايشته الشعب العربي وحل مشكلاته اليومية .
ولكننا عندما نحاول انجازها في ظل الاحتلال او الاستعمار او التجزئة او الاستقلال سنكتشف ان ثمة في الواقع العربي ما يحول بين إرادتنا التقدم وبين التقدم . ما يحول بين إرادتنا التطور وبين الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في امتنا العربية … ( فقرة 37 ) . عندئذ لن ينسى الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي لماذا يثور من اجل دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، وتصبح معاناته اليومية لحل مشكلات الشعب العربي غذاء يومياً لمقدرته الثورية . ومهما تعقدت المشكلات واختلطت الأمور فإن المدخل الى الموقف الصحيح : حتم على الإنسان أن يستهدف دائماً حريته " ..
كل هذا يندرج ضمن الضرورات الملحة لقيام تنظيم " الضرورة القومي " . أي حل مشكلات التنمية والتخلف معا والتي لن تكتمل حلولها الصحيحة الا بتحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في اطار استراتيجيتها المتكاملة منطلقا وغاية واسلوبا .
أما في غياب هذا التنظيم ـ الضرورة ، فان سعي الناس لتلبية احتياجاتها لن يتوقف أبدا ، لأن مشكلات التنمية مشكلات متجددة بشكل مستمر دائم .. لأن الإنسان العربي ـ كأي إنسان في العالم ـ لن يستطيع أن يكف نفسه " عن محاولة حل مشكلاته عن طريق تغيير واقعه ليشبع حاجاته . ليحقق إرادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم ".. فمهما " تعقدت المشكلات واختلطت الأمور" لن يتغير من الحقيقة شيئا : " حتم على الإنسان أن يستهدف دائما حريته .. " .. وهكذا ، على امتداد كل المراحل السابقة على وجود التنظيم القومي يقوم " مبرر ـ ضرورة " يسمح بقيام حزب الضرورة الإقليمي ، ليس كبديل عن التنظيم القومي ، وإنما من أجل حل مشكلات التنمية في الأقطار العربية والمساهمة الجدية في تصفية القوى الإقليمية الرجعية التي تقف في وجه المشروع القومي ..
أجل تصفية الاقليمية ، وقد لا يكون بمنطق تصفيتها على طريقة التنظيم القومي التي حدثنا عنها الدكتور عصمت سيف الدولة حين قال : " وإن بعض هذا ، وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب العربي اعداءه بأسمائهم ودولهم ونظمهم ، وبأن يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقاً ، إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق الوحيد المفتوح إلى التحرر والوحدة والتقدم ثم الرخاء " ..
لكن بمنطق عصمت سيف الدولة نفسه حينما يكون الوضع في جزء من الوطن العربي شبيها بوضع ما قبل ثورة يوليو 52 التي حدثنا عنه محرضا على قيام تنظيم ناصري في مصر يقوم بنفس المهام التي قامت من أجلها الثورة حين قال في كتابه عن الناصريين واليهم :" ارتد أنور السادات بمصر الدولة عن الاتجاه القومي لثورة يوليو الناصرية . أصبح إيقاف الردة وإنقاذ مصر من التردي الإقليمي بعد أن كانت مركز قيادة الحركة القومية ، أصبح هدفاً قومياً وأصبحت به مصر القضية المركزية للنضال القومي . هذا قلناه . ما لم نقله ، أن تحقيق هذا الهدف أصبح متوقفاً على حجم وتنظيم ونشاط القوى الجماهيرية التي تناضل من أجل تحقيقه . وقد استطاع فعلاً أن يستقطب الى ساحته قوى شعبية كثيرة ومتنوعة وإن لم تكن منظمة . كما استطاع ان يكسب مواقف بعض الأحزاب الرسمية . ولم يكن ذلك كافياً لإيقاف اندفاع دولة السادات الى الهاوية الفرعونية . كانت أعرض القوى وأكثرها مقدرة على التأثير فيما لو التحمت تنظيمياً . فناضلت هي القوى الناصرية ..".
أو حينما يكون الوضع في الكل والاجزاء مهيأ للثورة العربية التي توفرت شروطها الموضوعية ولم تتوفر شروطها الذاتية مثلما بين لمحاوره في جريدة الرأي التونسية منتصف الثمانينات : " إن الشروط الموضوعية للثورة العربية كما عرضتها في نظرية الثورة العربية متوفرة في الوطن العربي وفي مصر باعتبارها جزء من الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . والواقع أن انتباه كثير من الكتاب والمفكرين والقادة العرب الى محاولة الإجابة على كيفية وشروط نجاح الثورة العربية منذ نحو ثلاثين عاما ، كان يعني وعيا بأن الظروف الموضوعية للثورة متحققة .. وأعني بالظروف الموضوعية تحول الواقع الى عقبة في سبيل التقدم الاجتماعي في الوطن العربي .. كان واضحا للكافة بأن تطور الحياة في الوطن العربي تطورا متكافئا مع الإمكانيات المتاحة فيه للشعب العربي أمر غير ممكن بفعل الاستعمار الخارجي والتجزئة الإقليمية والاستبداد والقهر الاقتصادي والسياسي داخليا . ولم يكن أحد يناقش في انه لا بد من ثورة عربية أولا ، بل كان الحوار دائرا حول كيف تقوم الثورة العربية وتنجح ..؟ وقد بلغ نضج الظروف الموضوعية حدا حمل المؤرخ الانجليزي " تونبي " على إبداء دهشته البالغة من أن الأمة العربية لم تتوحد رغم ضرورة هذه الوحدة ، وأنها ممكنة .. بل بلغ نضج الظروف للثورة العربية أن القوى التي كانت مرشحة لتقوم الثورة ضدها لتصفيتها تبنت هي شعارات الثورة وتصدرت بأساليبها التحقيق السياسي لمطلب ثوري. وأعني بتلك القوى الدول العربية ذاتها .. اذ هي المستهدفة كعقبة من الثورة العربية الوحدوية .. وقد كان كل ما كتبته منذ عشرين عاما يستهدف حل إشكالية كيف الثورة ..؟ وقد انتهيت في هذا الى أن ما يعوق الثورة العربية هو غياب الشروط الذاتية وليس الموضوعية لقيامها .. بمعنى فشل القوى المرشحة موضوعيا لإشعال الثورة العربية الشاملة وقيادتها في القيام بهذا الدور التاريخي .. أول عناصر الفشل الذاتي ، أن الثوار العرب أي المرشحين موضوعيا لقيادة الثورة لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها ..".
وكذلك حينما يكون الوضع امام القوميين شبيها بأوضاع الهزيمة سنة 67 لازالة آثار العدوان التي جعلت موقف عصمت سيف الدولة ينتقل فورا من الدعوة "لأنصار الطليعة" الاعدادي الى الدعوة "لكتائب الانصار" المقاومة حين قال في رسالته الى الشباب العربي : " حذار من المثالية . إن تصفية الإقليمية واجب قومي حتى لا تجر أمتنا مرة أخرى للهزيمة والقتل والتدمير والألم والحزن والعار ، ولكن ليس الآن وقت تصفية الإقليمية . ليس هذا أوان البحث عما يجب أن يكون والتخلي عن الممكن المتاح ، إنما هو أوان استعمال الممكن الى أقصى حدود إمكانياتنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . إن المعركة عامل ضغط قوي لتتخلى الإقليمية عن وجودهـا المحتضر ، وعودة الجمهورية العربية المتحدة بالذات عامل حاسم في قلب موازين المعركة ، ويمكن للشباب العربي أن يحقق من هذا وذاك ما تتطلبه إزالة آثار العدوان ، ورد الثقة إلى الجماهـير العربية في مقدرتها على تحقيق النصر من قلب الهزيمة . ولكنه على أي حال ليس أوان الانقضاض علي الإقليمية وسحقها أو إسقاطها بما يتطلبه هذا من صراع في الجبهة العربية . كما أنه ليس وقت تلفيق وحدة عربية بمنطق الإقليمية والإقليميين تحت ضغط الخطر القائم لتنفصل بعد زواله . وغدا أو بعد غد ، طال الزمان أو قصر ، سيصفي الشباب العربي حسابه مع الإقليمية المدمّرة . أما الآن فلتكن الدول الإقليمية أدوات في أيدي الشباب العربي لتكون لهم المقدرة بعد تصفية آثار العدوان على تحطيمها . إن الدول الإقليمية ـ الآن ـ هي الأدوات المتاحة في معركة لا تزال محتدمة ، فلتبق أدوات ولكن لتكن الإرادة للشباب العربي . إرادة الصمود . إرادة الاستمرار في المعركة . إرادة إزالة آثار العدوان . وليفرض الشباب العربي هذه الإرادة على الأعداء والمتآمرين والمتخاذلين والمنهزمين جميعا . إن هذا يقتضي أن تتحول أيديهم المتعددة إلى قبضة ضاربة واحدة ، وأن تتجسد إرادتهم العديدة في أداة مريدة وان تتكامل جهـودهم في تنظيم قومي ثوري واحد يمثل إرادتهم ويفرضها . فما العمل ؟
مرة أخرى ـ ودائما ـ من الممكن إلى ما يجب أن يكون . من الواقع إلى المستقبل . إن التخلي عن الاشتباك مع العدو في المعركة التي تدور الآن لمحاولة خلق تنظيم قومي يحقق الوحدة ليتدارك ما فات مثالية عقيمة . إن كثيرين من الانهزاميين سيفرّون من المعركة بحجة التحضير للجولة القادمة . إن هـذا هروب لأن الجولة القائمة لم تنته بعد والمعركة لا تزال مستعرة . وكل ما يتمناه أعداؤكم الآن أن تتخلوا عن الاشتباك معهم ولو عدتم إلى ما استنفدتم فيه وقتا غالياً وبددتم فيه جهدا ثمينا : الحوار مع الإقليمية دولا وأحزابا وأفكارا حول كيفية تجسيد وحدة الثوريين العرب في تنظيم قومي واحد . لقد كان على الشباب العربي ـ دائما ـ أن يكفّوا عن وهم الوصول إلى اتفاق مع الإقليميين من خلال الحوار . كان عليهم دائما أن يعرفوا أن أحدا من أعداء الأمة العربية لن يسمح لهم غالباً بأن يوحدوا إرادتهم في تنظيم قومي واحد ليوحدوا وطنهم في دولة عربية واحدة . لقد كان ذلك وهما قبل المعركة ، أما الآن فهو هروب من المعركة .. أيها الشباب العربي ، لا تهربوا من مسؤولياتكم وراء التساؤل الكبير . إن القادرين على النصر مسؤولون عن الهزيمة فأنتم المسؤولون . وأن تخذلوا أمتكم بدلا من أن تنصروها فلن يجديكم شيئاً أن تتهموا العاجزين عن النصر أو المخربين . إنكم لستم أول أمة خاضت معارك التحرير . إن وحدة العدو، ووحدة الساحة ، ووحدة المرحلة تفرض عليكم أن تكونوا جبهة واحدة مع كل الذين يقاتلون . والذين يقاتلون فعلا فئتان مفرزتان عقيدة وغاية فلا تختلطان . أنتم القوى القومية التي تخوض في الأرض المحتلة معركة التحرر العربي في سبيل الوحدة . والقوى الإقليمية التي تخوض المعركة من أجل إزالة آثار العدوان أو من أجل تحرير فلسطين ثم لا يزيدون . أولئك حلفاء المرحلة رضيتم أم أبيتم وإن أبيتم فإنكم لا تخذلون سوى أمتكم ولا تعزلون سوى قوتكم و لن تجديكم عزلتكم فتيلا . والحلف غير الوحدة فلا يجديكم في المعركة شيئاً أن تطلبوا وحدة المقاومة مضمونا وتنظيما . تلك وحدة تنطوي على أسباب الفرقة فلن تلبث حتى تمزق الصفوف كرة أخرى . إنما هي الجبهة العربية الموحدة بين القوى القومية والقوى الفلسطينية المقاتلة . كذلك فعل كل الذين أحرزوا من قبل النصر في معارك التحرير .." .
ثم ، ومن زاوية نظر المرحوم عصمت سيف الدولة دائما ، حيث تستطيع القوى القومية - وهي في السلطة - من تحويل دور الدولة الاقليمية من لعب دورها الجغرافي الاقليمي في المحيط العربي الى لعب دورها التاريخي القومي من خلال اضعاف جبهة الاقليميين ، وربط سياساتها واهتماماتها بالقضايا القومية وهو على قدر كبير من الاهمية في الظروف التي تشهدها الامة العربية بعد الارتداد عن الدور القومي لثورة يوليو ..
حتم على الانسان ان يستهدف دوما حريته .. وكل افتعال لمعركة في غير وقتها هروب من معركة حقيقية .. لذلك لكل مرحلة ضروراتها بشرط أن لا تكون أدوات المواجهة الاقليمية المفروضة بديلا للوسائل القومية الغائبة أو على حسابها ..
) القدس ) .