بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

نظرية الثورة العربية : في المنهج .


نظرية الثورة العربية : في المنهج . 


" كل مذهبين مختلفين اما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أن يكونا جميعا كاذبين ، واما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف " .
                                                     ابن الهيثم .



-1-

مشكلة المنهج .



1 ـ  ما النظرية ؟

عندما اثبتت هزيمة يونيو ( حزيران ( 1967 جسامة المخاطر التي ينطوي عليها الاسلوب التجريبي أصبح مسلماً أن مواجهة المستقبل العربي بغير ” نظرية ” حماقة خرقاء . فقد كنا صادفنا النجاح الذي تصادفه التجربة احياناً فأغرانا نجاحنا العرضي بالإصرار على عدم الالتزام العقائدي ، وألهانا عن المخاطر التي كانت تنتظر مسيرتنا ، فإذا بنا نتبين ، في أسوأ الظروف ملاءمة للتراجع ، أنه كان نجاحاً مؤقتاً ومحدوداً وأن الحساب الختامي للمسيرة غير العقائدية كان خسارة فادحة .
وهكذا اصبح من الممكن أن يدور حوار بناء بين كثير من المشغولين بالمستقبل العربي انطلاقاً من مسلمة أولى هي ضرورة ” النظرية ” لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله . غير أن هذه البداية المشتركة تستدعي مباشرة أدق الأسئلة وأكثرها غموضاً . ذلك هو السؤال : ما النظرية التي نريد ؟
وهو سؤال مبرر علمياً وتاريخياً .
ذلك لأن كلمة ” نظرية ” كلمة مضللة ، إذ هي تطلق على مفاهيم جد مختلفة ، من أول المقولات الميتافيزيقية المجردة إلى آخر الاساليب الفنية في التطبيق . إن مقولة ” الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين ” بدهية ” يعرفها تلاميذ المدارس الثانوية . وهي ايضاًنظرية أساسية في الهندسة . ومع هذا فهي لا تعني شيئاً في النضال العربي . والذين يدرسون القانون يعرفوننظرية الحق ” و ” نظرية السبب ” و ” نظرية البطلان ” و ” نظرية سلطان الارادة ” و ” نظرية السيادة ” و ” نظرية فصل السلطات ” … الخ . وفي الاقتصاد ” نظرية السوق ” و ” نظرية القيمة ” و ” نظرية الريع ” و ” نظرية السكان ” و ” نظرية المنفعة ” … الخ . وعلى مستوى النظم هناك النظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية ، وكل منهما تتضمن عشرات النظريات المتميزة . وعلى مستوى مناهج المعرفة هناك ” نظرية المنطق ” لأرسطو ، و” نظرية الجدل ”  لهيجل ، وثمة نظرية القانون الطبيعي والنظرية الوضعية والنظرية الرياضية والنظرية الاحصائية والنظرية التاريخية ونظرية المادية الجدليةالخ . ومع أن النظريات في المنهج بعض من نظريات الفلسفة إلا أن في الفلسفة حشداً اكبر من النظريات التي تنسب الى اصحابها أو إلى مضمونها كالمادية والمثالية والوجودية … الخ .
وكلها نظريات .
فبأي مفهوم ” للنظرية ” تكون النظرية التي نريد ؟
إن إحدى العقبات الاساسية ، التي تعترض الحوار الفكري وتحول دون وصوله الى الالتقاء على ” نظرية ” ، هي ان مفهوم ” النظرية ” التي يراد الاتفاق عليها غير متفق عليه بين المتحاورين . وهذي عقية لايمكن تجاوزها إلا بالإفلات من التضليل التي تثيره كلمةنظرية ” بغير تحديد ، وذلك بتحديد مفهوم ” النظرية ” التي يدور حولها كل حوار على حدة ، حتى لاتختلط في اذهان المتحاورين دلالات مختلفة لكلمةنظرية ” وهم يتحدثون عن ” نظرية الثورة العربية ” مثلاً . إن هذا التحديد لازم لأي حوار غايته أن يؤدي الى اتفاق .
والسؤال : ما النظرية ؟ … مبرر تاريخياً . ذلك لآن الانجازات التي حققها الماركسيون خلال أكثر من نصف قرن في أماكن كثيرة من العالم ، وعلى وجه خاص في ” اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ” قد رشحت ” الماركسية ” نموذجاً لنظرية النضال الثوري في المجتمعات المختلفة . ولا شك في أن كثيراً من الشباب العربي يلتمسوننظرية ” لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله ويتحدثون عن ضرورةالنظرية ” وفي اذهانهم نموذج من الماركسية . إن هذا لايصدق على غير الماركسيين فقط بل وعلى الذين يرفضون بعض او كل المضامين الفكرية الماركسية . أولئك يبهرهم ما يبدو من شمول الفكر الماركسي وإحكام مقولاته ولغته الثورية فيبحثون عن نظرية غير ماركسية ولكن على الطراز الماركسي . وقد أدى هذا التأثر ” السلبي ” بالفكر الماركسي إلى أن صد بعض الشباب العربي أنفسهم عن كثير من الاجتهادات الفكرية ، لا لآنها غير صحيحة ، أو لآنها لاتصلح أساساً للنضال العربي أو حتى لمراحله الملحة الأولى ، بل لأنها ليست ، أو لاتبدو لهم ، في مثل شمول واحكام وثورية الفكر الماركسي . وهكذا انقلب الأمر عندهم من محاولة استكمال الأسس الفكرية للنضال العربي الى تحريض على الدخول فيمباراة فكرية مع الماركسيين . وقد دخل كثير من المفكرين العرب ” المباراة ” حتى منتصف الشوط ، أي حتى على مستوى نقد الفكر الماركسي . وكان ذاك سلباً لا عطاء فيه . غير ان من المفكرين في الوطن العربي من اجتهد فطرح وجهات نظر أو نظريات غايتها خدمة النضال العربي وليس مجرد نقد الفكر الماركسي ، وإن كانت قد تضمنت نقداً لا مفر منه للماركسية . والواقع ان الفكر الماركسي على قدر من الجدية والتأثير في الواقع بحيث  لا يمكن لمفكر جاد يستهدف خدمة نضال مؤثر في المستقبل العربي أن يتجاهله . ومن هنا، فانه بصرف النظر عن مدى التوفيق فيما طرح من وجهات نظر أو من نظريات ، فان طرحه كان يعني أن نقد الفكر الماركسي الذي صاحبه كان جزءاً من عملية بناء فكري ايجابي وليس مجرد عملية هدم للفكر الماركسي . إلا ان رد فعل كثير من الماركسيين ، ومنتحلي الماركسية ، في الوطن العربي كان متطرفأ وغير موضوعي وغير علمي معأ . فقد رفض كل الاجتهادات الفكرية غير الماركسية، وأدان الاجتهاد ذاته ، لا لأن حصيلته غير صحيحة أو لأنها غير صالحة كأساس للنضال الاشتراكي في الوطن العربي ، بل لمجرد انها تضمنت نقداً للماركسية . وقد كان هذا يعني تجميد الفكر الماركسي وهروبأ من المباراة الفكرية على وجه بدا فيه الأمر كما لو كنا أمام خيار لا مخرج منه : إما أن نقبل الفكر الماركسي نظرية للستقبل العربي وإما ألا نفكر على الاطلاق . وعندما يكون الأمر كذلك نكون قد غادرنا جميعا ميدان الحوار العلمي .
أيأ ما كان الأمر فما يزال مستقراً في أذهان بعض الشباب العربي انهم في حاجة الى ” نظرية ” ثورية على طراز الماركسية. وانهم لا يقبلون الحركة بغير هذا المنطلق . فيقطعون الحوار على وجه يبدو منه كما لو كانوا لا يبحثون عن نظرية للنضال العربي بل يبحثون عن مهرب من متاعب النضال العربي بحجة البحث عن نظرية . ولو كان الأمر على غير هذا لاكتشفوا بأنفسهم أن الفكر العربي ، الذي استفاد بكل ما هو متاح من الفكر الانساني بما فيه الفكر الماركسي ، يقدم إليهم ما يفي بحاجتهم لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله ، وما يتجاوز الفكر الماركسي ذاته . وانهم ليسوا في حاجة حقأ إلا إلى أن يتعبوا أنفسهم قليلأ في الإحاطة به واستيعابه. ولو اتعبوا انفسهم أكثر قليلأ في الاحاطة بالفكر الماركسي واستيعابه لتبينوا بيسر أن مايسمونه ” النظرية الماركسية ” غير قائم إلا في أذهانهم .
فالواقع انه في حدود البحث عن مفهوم ” للنظرية ” يصلح محوراً يلتقي عليه المناضلون العرب ، لا يصح الاحتجاج بما يسمى ” النظرية ” الماركسية . لأن ما يسمى بالماركسية ليس نظرية واحدة بل عديداً من النظريات والأفكار التي لا تصل الى مستوى النظرية .  فأسس الماركسية التقليدية (ماركسية ماركس وانجلز) تتضمن ثلاث نظريات متميزة . أولاها ” النظرية المادية ” في الفلسفة ، تلك التي تجيب عن السؤال : أيهما وجد أولأ الفكر أم المادة ؟ .. والثانية ”  نظرية المادية الجدليةفي المعرفة ، تلك التي تتضمن ” نظرية الحتمية ” و” نظرية الضرورة ” ونظرية التناقض” و” نظرية الطفرة “… الخ . والثالثة ” نظرية المادية التاريخية ” في التطور، تلك التي تتناول ” نظرية الصراع الطبقي” و “نظرية الثورة ” و” نظرية اضمحلال الدولة” و ” نظرية الشيوعية “.. ا لخ .
وقد ازداد الأمر ثراء وتعدداً وتعقيداً معاً بدخول الماركسية مرحلة التطبيق فأصبحت منذئذ ” ماركسية- لينينية “. ولينين لم يكن مجرد ماركسي يصنع الثورة على ما قال استاذه ، بل كان فيلسوفاً منظراً للثورة وقائداً لها . وقد بدأ مسيرته الثورية بابداع فكري أصيل برر به الثورة الاشتراكية في مجتمع متخلف لا تتوافر فيه الظروف الموضوعية للثورة كما قال بها الاستاذ . ولم تكن تلك إلا بداية ” وجاءت اللينينية متضمنة مجموعة متميزة من ” النظريات ” اوالآراء ” في الدولة وفي الثورة وفي الديكتاتورية وفي الاشتراكية … الخ ابدعها لينين خلال الممارسة الثورية. ونذكر انه لمدة ثلاثين عامأ تقريبأ كانت الماركسية تقدم الى الناس مصوغة بقلم ستالين . وكان اسمها حينئذالماركسية- اللينينية- الستالينية” ، لتتميز عن اجتهادات الماركسي تروتسكي التي أطلق عليها اسم ” التروتسكية ” وأدانها ستالين بخروجها على اسسالماركسية - اللينينية ” . ثم اعلن بعد وفاة ستالين أن كثيراً من النظريات التي صاغها لم تكن من الماركسية في شيء وأن ” الستالينية ” افكار خاصة بستالين . يقول الذين يدافعون عنها انها “نظريات” ابدعها ستالين الماركسي خلال تجربة بناء الاشتراكية في دولة واحدة محاصرة بالعداء الامبريالي فهي الماركسية منظوراً اليها في ظروفها التاريخية. ويقول الذين يرفضونها انها مناقضة ” للماركسية ـ اللينينية ” فهي غير مقبولة او هي غير مبررة . وقبل ان يموت ستالين كانت “عصبة الشيوعيين اليوغسلاف ” تناضل تحت لواء نظرية ماركسية قيل حينئذ انها تحريف للماركسية ويقال اليوم انها تطوير للماركسية . ومنذ وفاة ستالين وإدانة ” الجمود الستاليني ” لم يكف الماركسيون في جميع انحاء العالم عن ابداع  نظريات ” ماركسية ” ايضاً وان كانت متعددة ومتميزة ومختلفة ومثيرة للصراع في بعض الاوقات بين المدارس الماركسية .
ولعل النظرية الوحيدة الباقية بدون مراجعة فكرية شاملة هي ” المادية الجدلية “. وأغلب الماركسيين ، في الوطن العربي خاصة، يعتبرون أنفسهم ماركسيين لمجرد انهم يقبلون ” المادية الجدلية دليلاً في الممارسة ولولم يلتزموا كثيراً غيرها من النظريات الماركسية . وقد يكون هذا كافيأ ليكون الانسان ماركسيأ على المستوى الفكري ، ولكنه ليس كافيأ لتمييز الموقف الماركسي في الممارسة . ذلك لأن الممارسة ـ كما سنرى ـ تجري في كل مكان ، وفي الوطن العربي خاصة ، على غير قوانين المادية الجدلية . نعني ممارسة الماركسيين  قبل غيرهم . وهكذا لم نعد امام ” نظرية ماركسية تحتذى بل نحن أمام تراث ماركسي بالغ الخصوبة والثراء . وقد كان يمكن ان يقال للشباب العربي المنبهر بالتراث الماركسي  ان عليهم ان يصبروا على أنفسهم وعلى التاريخ حتى يصبح لهم تراث خاص خصيب وثري ليكتمل لهم النموذج الماركسي . ولكنه قول غير لازم وغير مفيد بل هو قول ضار . ذلك لأن للشباب العربي تراثأ فكرياً عربيأ لا تنقصه الخصوبة ، ولهم في الوقت ذاته تراث فكري انساني لا ينقصه الثراء ، ثم ان لهم التراث الفكري الماركسي ذاته كواحد من أخصب وأثرى مصادر المعرفة والثقافة. والعبرة بكيفية الاستفادة من كل هذا وليس بمحاولة تقليده
على أي حال يبدو غير واقعي وغير علمي القياس على نموذج يقال له ” النظرية الماركسية “ .  وان كان ما يزال قابلأ للفهم تحديد النموذج الماركسي الذي يعنيه كل متحدث أو يريد اتخاذه طرازاً لنظرية  الثورة العربية . تحديد مستواه من النظريات الماركسية التقليدية . وتحديد مضمونه من المقولات الماركسية المتعددة . وتحديد موقعه من المدارس الماركسية المعاصرة . اما الدخول في الحوار “ بالماركسية ” هكذا بدون تحديد فانه لم يعد كافياً للالتقاء الفكري او الثوري . وهو كفيل بأن يقطع الحوار دون غايته . وهو يقطعه كل يوم حتى بين الماركسيين أنفسهم .
من أين نبدأ الحديث إذن ؟
الحديث الذي يكون مدخلأ الى تحقيق الوحدة الفكرية بين الشباب العربي كمقدمة لازمة لوحدة حركية قادرة على مواجهة مشكلات الواقع ومستقبله .
من ابسط المنطلقات . أو حتى من البدهيات. المهم أن تكون بداية غير منكورة . والبداية البسيطة ، البدهية ، التي لا نعتقد أن أحداً قادراً - بحق - على انكارها هـي أننا نبحث عن نظريةلتغيير” الواقع العربي . ان هذي تبدو بداية مجردة . هـي كذلك . ولكنها بداية سنرى كيف تكسب مضمونها الحي من خلال الحوار ذاته . والحوار يعني أن باب الاجتهاد لم يغلق . وهل يملك أحد حق اغلاقه ؟… وان لكل محاور مجتهد ان يقدم ما يراه  نظرية لتغيير الواقع فيحدد لنا : المنطلق والغاية والاسلوب . إذ تلك هي العناصر الثلاثة لنظرية تغيير الواقع .
من هنا نبدأ . 

2 ـ  مشكلة المنهج : 

 

يبدو أن الأمر قد أصبح سهلأ . فما علينا إلا أن نحشد مجموع الوقائع التي نعرفها ونسميها منطلقاً ، ثم نحشد مجموع احلامنا لتكون غاية ، ثم نحشد مجموع الخطط التي نتصورها لتكون اسلوباً . ولوفعلنا لكان الأمر كله عبثاً . لأن بحثنا عن ” نظرية تغيير الواقع ” يفترض اننا لا نريد ان نهدر طاقاتنا - مرة اخرى - فيما لا جدوى منه . واننا حريصون ـ هذه المرة ـ على تجنب الفشل وتوفير ضمانات النصر . وهي لا تتوافر لأي نضال الا إذا كانت نظريته صحيحة ، وبقدر ما تكون صحيحة . صحيحة في المنطلق وفي الغاية وفي الاسلوب جميعاً . فليس كافيأ لحل مشكلة ” نظرية تغيير الواقع ” انتقاء نظرية ، أية نظرية . لا بد لنا من ان نعرف اولاً كيف اهتدينا الى تلك النظرية ، والى تلك النظرية بالذات دون غيرها . نحن إذن في مواجهة مشكلة ” المنهج ” التي لا بد من حلها ، قبل حل مشكلة النظرية. ومع ان كل مقولة في المنهج هي ايضاً نظرية ، الا اننا سندخر- بقدر ما يمكن-  كلمة نظرية للتعبير عن المقولة التي تحدد لنا منطلق وغاية واسلوب تغيير واقعنا ، مكتفين بكلمة منهج للتعبير عن المقولة التي تحدد لنا قوانين التغيير ذاته أو ” منطق ” التغيير .

الواقع ظاهره ونحن نريد ان نغيره . فهل هذا ممكن ؟

هذا سؤال أولي لا تخفى خطورته . إذ لو كان الواقع غير قابل للتغيير فان أي حديث عن تغييره لا بد من أن ينقطع . أما اذا كان الواقع قابلأ للتغيير فهنا فقط يصح الحديث عن منطلق التغيير وغايته وأسلوبه . بدهي . ومع هذا فانه اكثر الاسئلة تجاهلأ في الكتابات العربية العامرة بما يجب ان يكون من تغيير في الواقع العربي بدون بيان لماذا اذا كان الواقع العربي قابلاً للتغيير أم لا ، ولمـاذا  هو قابل للتغيير . ومنهم من يدعون الى التغيير على اسس فكرية لو صحت لكان التغيير مستحيلاً كما سنرى . وما دمنا في نطاق البدهيات الأولى ، التي نتجاهلها كثيراً ، فينبغي ان نقول ان التغيير لا يعني قبول او متابعة التحولات التي يقدمهما الواقع تلقائياً ، بل يعني تحقيق مضامين نريدها ونعمل على تحقيقها لانها غير متوقعة الحدوث في الواقع بدون تدخلنا . بدهي ايضاً . ومع هذا فانه اكثر الامور تجاهلاً في الكتابات الماركسية العامرة بالحديث عن التطور الحتمي وقوانينه بدون تفرقة بين التغييرات التلقائية التي تحدث في الواقع ولا يتوقف حدوثها على ارادة الناس وعملهم وبين التغييرات التي ما كانت لتحدث لولا أن أحدثها الناس بارادتهم وعملهم .

على أي حال فمهما يكن مضمون التغيير الذي نريد أن نحدثه في الواقع فهو إضافة ليست قابل للتحقق تلقائيأ بدون عمل الانسان . أو هذا هو ما نعنيه بعملية تغيير الواقع . فهي قطع للاستمرار التلقائي للواقع ولو لم تكن إلا كلمة نقطع بها الصمت أو ثورة نقطع بها العبودية . من هنا نكتشف انه مهما يكن ما نريد أن نحققه فانه لا يتحقق إلا في المستقبل . بعد الواقع ولو بلحظة من الزمان لا بد منها لتتحول الفكرة في رؤوسنا إلى كلمة على ألسنتنا، أو ما هو دون هذا زماناً . بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر الزمان في الحركة نلتقي بأول وأخطر شروط التغيير . إذ ما دمنا نبدأ من الواقع لنغيره في المستقبل فإن إمكان هذا التغيير لا يكون متوقفاً على مجرد إرادتنا وعملنا بل ـ قبل الإرادة والعمل ـ على ما إذا كانت الأشياء والظواهر التي يتكون منها الواقع منضبطة في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية أم لا . إذا لم يكن الكبريت قابلاً للاشتعال حتماً في الظروف التي تتفق مع مادته لما استطاع أي واحد منا أن يقول انه سيشعل عودأ من الثقاب وأن يشعله فعلاً . ولو لم يكن كل شيء خاضعاً في حركته لقوانين أو نواميس حتمية لما استطاع الناس أن يعدوا بالنزول على سطح القمر وان يصمموا ويصنعوا  أداته المتفقة مع ظروفه وأن ينزلوا عليه في الموعد الذي حددوه … الخ . وهكذا يكون انضباط الأشياء والظواهر في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً ” لإمكان ” تغيير الواقع . نقول شرطاً ” لإمكان ” تغيير الواقع ولا نقول سبباً لتغييره حتماً . ذلك المفهوم الفج  الذي يحاول البعض الصاقه بالحتمية  لتبدو كما لو كانت نوعاً من ” الجبرية ”  تغير الواقع حتماً سواء أراد الناس وعملوا  أم لم يريدوا و لم يعملوا . إن حتمية القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الاشياء والظواهر لا تعلمنا أكثر من انه ” إذا حدث كذا…حدث كذا ” أو ” إذا لم يحدث كذا … لا يحدث كذا “. وهو أمر يعرفه الفلاحون الذين يعملون اليقين انهم إذا لم يرفعوا الماء من النهر إلى مزارعهم جفت الأرض ، وإذا جفت الأرض مات الزرع ، وإذا مات الزرع لا يحصدون شيئاً ، وإذا لم يحصدوا جاعوا… الخ . هذه الحتمية لازمة ليتصور الناس المستقبل الذي ينتظرهم ” إذا ” لم يتدخلوا في تغييره ، وليغيروا شروط فعاليتها ليحققوا المستقبل الذي يريدون . أما أن يقع هـذا المستقبل فعلاً أو لا يقع فذاك متوقف على عملهم واحترامهم حتمية تلك القوانين او النواميس . المهم انه بدون وجود علاقة حتمية تؤدي بالسبب إلى النتيجة وتربط بين العلة والمعلول ، لا يمكن لأحد أن يغير من الواقع شيئاً مهما كان ضئيلاً . ولما كان تاريخ التقدم الانساني كله هو تاريخ نجاح الناس في تغيير واقعهم، كما ان كل الانجازات العلمية ليست إلا حصيلة اكتشاف واستخدام القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الاشياء والظواهر استخداماً قائماً على التسليم بحتميتها فلا بد أن كل شيء منضبط بقوانين تحكم حركته حتماً، سواء عرفنا كل تلك القوانين أو النواميس أم لم نعرف إلا بعضها . وبالتالي فهو قابل للتغيير . وبقدر ما نعرف وما نحترم حتمية القوانين أوالنواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع ان نغيره .. فإن عجزنا عن معرفة كيف نغيره لا نتراجع بل نبذل جهداً آخر حتى نعرف فنريد فنعمل فنغيّر .

أما الذين لا يعرفون تلك القوانين أو النواميس ، أو الذين لا يحترمون حتميتها، فسيبذلون جهودأ عشوائية لتغيير واقعهم أو يستسلمون لقدرهم . وإذا كان الاستسلام للمصير الذي يؤدي اليه الواقع تلقائيأ لا يغير من الواقع شيئاً ، إلا ان محاولات التغيير العشوائية قد تصيب وقد تخيب . ومن المهم ان نلاحظ انها قد تصيب . أي قد تتحقق الغاية بدون ان يعرف أحد كيف تحققت ولماذا تحققت . ذلك لأنه من بين عديد من المحاولات العشوائية قد تأتي إحدى المحاولات متفقة مع القوانين ين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهر فيتحقق الأثرصدفة ” . والصدفة لا تعني  ان الأثر قد  تحقق بالمخالفة للحتمية أو استثناء منها بل تعني العكس تمامأ . تعني ان النتيجة الحتمية للمؤثر قد تحققت بدون توقف على معرفة الناس كيف تحققت . وهكذا تكون الصدفة تأكيداً للحتمية. ومنها نتعلم أمرين هامين لإمكان تغيير الواقع  :

الأمر الأول هـو أن وجود القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهـر . وحتميتها ، لا يتوقفان على معرفتنا .. انها موجودة ” موضوعياً ” سواء عرفناها أم لم نعرفها . وحتميتها موضوعية أيضاً لا نستطيع أن نلغيها حتى لو أردنا . ومن هنا تكون مهمتنا مقصورة على اكتشافها واستخدامها لا أكثر .

الأمر الثاني هو ألا ننخدع في مقدرتنا على تغيير الواقع عندما نجد ان بعض ما كنا نريده قد تحقق عن غير الطريق الذي أردناه . أي نتعلم كيف نحذر من النصر يأتي مصادفة حيث لا نتوقعه . ان النصر يأتي مصادفة يكشف لنا، من ناحية ، اننا كنا أبعد ما نكون عن النصر يوم أن تحقق .

ويكشف لنا ، من ناحية أخرى ، أن الظروف الموضوعية كانت ناضجة لتحقيقه بدون ان نعرف . ناضجة الى درجة أن قد تحقق حيث لا نتوقعه.

عندما نلتزم النظرة الموضوعية الى الأشياء والظواهر ، ونفلت من خديعة النصر يأتي مصادفة ، يصبح انتصارنا في تغيير الواقع إلى ما نريد متوقفاً على مدى علمنا بالقوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع ، وشروط فعاليتها ومقدرتنا على استخدامها استخداماً صحيحاً . ولو عرفنا كل هذا ومارسناه لحققنا ما نريد حتماً .  

 

3 ـ مشكلة الانسان :

 

 إذا كان كل هـذا ـ فيما يبدو ـ  صحيحا فلماذا يفشل بعض الناس في تغيير واقعهم ؟ .. هناك ، أولاً ، قصور المعرفة بالقوانين أو النواميس التي تضبط حركة كل الاشياء والظواهر . فمع أن محاولات اكتشاف تلك القوانين أو النواميس قد شغلت الانسان منذ أن وجد على الأرض ، وما تزال تشغله ومع أن تقدم البحث العلمي قد كشف عن القوانين أو النواميس ” النوعية ” لكثير من عناصر الطبيعة ، إلا أن الطبيعة ما تزال عامرة بقوانين أو نواميس لم تعرف بعد . آية هذا أن العلم يكتشف كل يوم جديداً كان مجهولاً .. وآيته الثانية أنه يصحح في كل يوم ما اكتشفه من قبل . وهكذا بينما يستطيع بعض الناس ، اليوم ، تغيير الواقع كل يوم كما يريدون تماماً في مجالات عديدة ، ما يزال كثير مما يريدون تغييره بعيداً عن متناول مقدرتهم . ويتخذ بعض الناس من هذا القصور الجزئي المؤقت حجة للزعم بعدم انضباط حركة الاشياء والظواهر بقوانين أو نواميس حتمية . ويقولون ان العالم  لا متحدد ” وانه لاشيء في الوجود حتمي . وهي حجة داحضة لأنها قائمة على ان مالا نعرف قانون حركته تكون حركته غير خاضعة لقانون .

غير ان هناك ، ثانياً ، المشكلة الاساسية التي يطرحها تغيير الواقع الاجتماعي .

فالواقع هنا ظاهرة . ولكنها ظاهرة من بشر . عنصرها المميز هو الانسان ، والانسان متميز عن غيره من الكائنات بأنه كائن ذكي . له مقدرة خاصة به على إدراك الواقع وعلى تصور المستقبل وعلى إرادة التغيير وعلى اختيار ما يريد وعلى العمل لتحقيق ما أراد واختار . ومع تفرّد كل واحد من البشر بالذكاء والمقدرة على العمل تبدو محاولة اخضاع البشر في حركتهم من الماضي الى المستقبل لقانون او ناموس حتى غير متفقة مع حرية ارادة الانسان . ومن هنا يقبل الكثيرون حتمية القوانين او النواميس التي تحكم حركة الاشياء والظواهر المادية ولكنهم لا يقبلون أن يكون الانسان منضبطاً في حركته بقوانين أو نواميس حتمية ، ويعتبرون هذا نوعاً من ” الجبرية ” التي تهدر حرية الناس في الاختيار . ولا شك في ان هذا اعتراض على قدر من الجدية . فمقدرة الانسان على الاختيار أمر لاشك فيه . ثابت بالملاحظة ويمكن اثباته بالتجربة والاختبار . ومن ناحية اخرى قد عرفنا أن التغيير هو تلك الاضافة التي يحدثها الناس في الواقع رفضاً لما هو متوقع منه . فتغيير الواقع الاجتماعي ذاته يفترض المقدرة على الاختيار بين ما هو كائن وما يجب ان يكون . وهذا غير ممكن إلا بتدخل ايجابي من إنسان ” حر ” . فحتى لو صح ما قلناه من أن اول وأخطر شروط التغيير هو أن تكون الاشياء والظواهر منضبطة في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين او نواميس حتمية ، ولو صح بالاضافة الى هذا أن الاشياء والظواهر منضبطة حركتها ، فعلاً ، بتلك القوانين أو النواميس الحتمية ، فإن كل هذا لن يعني شيئاً ذا قيمة في تغيير الواقع الاجتماعي إذا صح ـ بالمقابل ـ إن الانسان غير قابل للانضباط في حركته بقوانين أو نواميس حتمية . إذ تستحيل ـ حينئذ ـ معرفة ما إذا كان سيغير الواقع أم لا ، ومتى يغيره ، وما هو مضمون التغيير الذي سيحدثه . كما يستحيل على أي إنسان أن يثق بتغيير الواقع على ما يريد لأنه لا يستطيع أن يتوقع ما يريده أو يفعله الناس الآخرون . ولما كان المجتمع ، أي مجتمع ، هو من ناس يعيشون معاً فإن مستقبل التغيير الاجتماعي يكون غير قابل للمعرفة وبالتالي تستحيل معرفة نظرية تغيير الواقع : منطلقه وغايته واسلوبه . ولا يبقى إلا أن يترك لكل انسان أن يفعل ما يشاء على ما يريد وأن نقبل مصيرنا التلقائي ونكف عن المحاولات العقيمة لمعرفة كيف يتغير الواقع الاجتماعي او عن محاولات تغييره .

غير ان جدية الاعتراض لا تخفي ما ينطوي عليه من تهافت . إذ يبدو به كما لو كان كل هذا الوجود من اول الذرات ، الى الجماد ، الى النبات ، الى الحيوان ، الى الارض ، الى السماء ، الى الكواكب والشموس والمجرات … ، كل هذا ، منضبطأ في حركته بقوانين حتمية أو نواميس لا تتبدل ، معروفة أو تمكن معرفتها ، ثم يأتي هذا الكائن المسمى ” انساناً ” استثناء شاذأ من حركة الوجود كله . كما لو كان الانسان هو ” الفوضوي ” الوحيد في كون محكم النظام . اذن لسقطت دلالة اطراد التقدم الاجتماعي الذي يمثله، تاريخ البشرية منذ البداوة  الأولى حتى عصر الفضاء والعقول ” الالكترونية “. إذ أن هذا الاطراد يشير ـ على الأقل ـ الى أن ثمة قانونأ ” ما ” يحدد اتجاه التغيير الاجتماعي ويجعل منه عملية نمو واضافة مستمرة . والواقع ان الذين يقبلون هذا الاعتراض ويستثنون الانسان عن الانضباط بقوانين أو نواميس ـ حتمية لا يفعلون شيئأ سوى العودة الى تلك المقولة الخاطئة : ما لا نعرف قانون حركته تكون حركته غير خاضعة لقانون . او انهم يفعلون ما هـو اكثر من هذا غرابة . انهم يجردون كل ما يقولونه عن تغيير الواقع الاجتماعي من أية قيمة . وهذا أولى بالانتباه في الكتابات العربية بوجه خاص . حيث ترفض الحتمية بتسرع ثم يسرع رافضوها في الدعوة الى تعبئة الجماهير وتحريضها على الثورة من أجل ” الوحدة العربية ” مثلأ . إن الدعوة هنا تبدو عابثة. إذ كيف يمكن- بدون عبث- ان نحرض الناس على الثورة من أجل غاية اجتماعية نحددها إذ كنا مدركين منذ البداية أن تحقيقها - ولو بالثورة - ليس حتميأ . على أي اساس توقعنا النصر إذن … اذا كانت حتى الثورة ، ذلك العمل الإنساني الجبار، غير قابلة لحتمية النصر ؟.. إن الثورة هنا تبدو مخاطرة أو مغامرة ما دام دعاتها لا يستطيعون أن يتوقعوا نهايتها . وهم لا يستطيعون إلا إذا كانت مسيرتها الانسانية قابلة منذ البداية للانضباط بقوانين أو نواميس حتمية تكفل لها توقع النهاية . بل كثيراً ما يتجاوز الأمر حدود العبث الدعائي لينتهي بأصحابه الى منزلق خطير . لأن الاصرار على التغيير الاجتماعي مع التسليم ، في الوقت ذاته بأن حرية الانسان في الاختيار غير قابلة للانضباط بقوانين أو نواميس موضوعية ، معروفة أو تمكن معرفتها ، يحيل  حرية الناس ” عقبة أساسية على طريق التغيير الذي يريده أصحابه ويصرون عليه . وفي مواجهة الخوف من أن يختار الناس غير ما اختار القادة يكون هم القيادة هو كيفية ضبط حرية الناس حتى لا يختاروا لأنفسهم غير ما اختير لهم . وبدلاً من القوانين الموضوعية المنكورة تقوم القوانين الوضعية الملزمة بحكم القهر البوليسي . وتلك هي ” النظرية ”  او إحدى النظريات الكامنة وراء الاستبداد والديكتاتورية . ومنها نعرف اننا عندما نتحدث عن ” الحتميةلا نطرح قضايا فكرية مجردة بعيدة عن واقع الحياة ، بل نعالج واحدة من أخطر القضايا التي تمس الحياة . وانه لابد من حل مشكلة المنهج قبل حل مشكلة النظرية .

كل أي حال فان كثيرين ايضأ يرفضوناللاحتمية ” في عالم الانسان . ولا يقبلون ان يكون الانسان شاذآ عن نظام الكون واحكامه . ويرون انه ، كأي كائن آخر في الوجود الذي يشمله ، لا بد له من أن يكون منضبطأ في حركته بقوانين أو نواميس ، إن لم تكن معروفة  فهي قابلة للمعرفة . ومن هنا اتجهت جهود العلماء والمفكرين منذ وقت مبكر الى محاولة اكتشاف تلك القوانين . واسفرت جهودهم عن مجموعة كبيرة من النظريات التي رأينا أن نسميها ” مناهج ” للدلالة على أنها نظريات في حركة الاشياء والظواهر والمجتمعات او ” منطق ” حركة الأشياء والظواهر والمجتمعات . وقد أصبح نجاح او فشل اية محاولة تغيير في واقع أي مجتمع متوقفاً الى حد كبير على صحة او خطأ المنهج الذي تهتدي به كل محاولة ، أي على صحة أو خطأ معرفتها قوانين تغيير الواقع في المجتمعات الانسانية . أما الباقي فيتوقف على ما يبذله أصحاب كل محاولة على حدة في تغيير الواقع في مجتمعهم .  


4 ـ تعدد المناهج :  


ولسنا نريد أن نعرض كل ما نعرفه من مناهج التغيير ، فتلك معرفة تلتمس في مصادرها المتخصصة . انما نريد أن نشير إلى ما يهمنا منها للوصول بهذا الحديث الى غايته . وغايته ـ حتى لاننسى ـ أن نعرف نظرية تغيير الواقع العربي . واول ما يهمنا من المناهج ان نعرف انها متعددة . متعددة بقدر تعدد اجتهادات الناس في حل مشكلة تهمهم جميعاً . ومع تعددها تنقسم الى مناهج علمية ومناهج غير علمية .

أما المناهج العلمية فهي التي كانت حصيلة بحث علمي أي وصل اليها أصحابها عن طريق مراقبة الظاهرة الاجتماعية ، ورصد حركتها ، واستخلاص قانون تلك الحركة من اطرادها على قاعدة واحدة في الظروف المتماثلة . واما المناهج غير العلمية فهي التي لم تكن محصلة بحث علمي في ذات الظاهرة فهي تسند حركة الظواهر الاجتماعية الى قوة غير قابلة للمعرفة عن طريق التجربة والاختبار .

ثم يكون المنهج العلمي صحيحاً أو غير صحيح . مع ملاحظة أن نصيب كل منها من الصحة أو الخطأ قد لايكون كاملاً . بمعنى انه لايلزم أن يكون المنهج صحيحاً كله أو خطأ كله . إذ المنهج يتضمن قانوناً أو اكثر من قوانين الحركة . وقد يصدق الاكتشاف في قانون ولا يصدق في قانون آخر . والغالب أن يتضمن كل منهج قدراص من الصواب وقدراً من الخطأ يتفاوتان من منهج الى منهج تبعاً لصحة البحث العلمي الذي أدى اليه والذي يتأثر بدوره بنمو المعرفة العلمية على المستوى الانساني . وقد تظل نظرية في المنهج مأخوذة على انها صحيحة سنين طويلة الى أن يتقدم البحث العلمي فيكتشف أنها قاصرة او خاطئة. والمحك في النهاية هو صدق النتائج التي يؤدي اليها المنهج في الممارسة . صدقها مع المنهج ذاته. إذ الممارسة هـي اختبار مستمر لصحة النظرية . فاذا جاءت حصيلة الممارسة متفقة مع المتوقع كما حدده المنهج الذي نتخذه دليلأ صح المنهج . أما إذا جاءت حصيلة الممارسة مختلفة كلياً ، أو جزئياً ، عن المتوقع كان المنهج الذي اتخذناه دليلاً غير صحيح كلياً او جزئياً . وهذا يعني أن ثمة حاجة الى مزيد من البحث العلمي لتصحيحه . ولكنه لا يعني ـ على أي وجه ـ انه ليس منهجاً علمياً . غذ ليس كل ما يؤدي اليه البحث العلمي يكون صحيحاً . نقول هذا وننبه اليه بقوة حتى لا نلغي تاريخ التقدم العلمي الذي هو ـ في الوقت ذاته ـ تاريخ تصحيح واستكمال الاخطاء العلمية وقصور المعرفة عن طريق مزيد من البحث العلمي . وحتى نفتش في كل فكرة عن القدر الصحيح ونقبله ولا نصد أنفسنا عنها لأن فيها قدراً من الخطأ . وحتى لا نحيل كلمةالعلم ” أو ” العلمية ” شعاراً كهنوتياً يحتكره كل واحد لمذهبه . وحتى نتعلم التسامح في ميدان البحث العلمي من ناحية ولا نشل مقدرتنا عليه خشية الخطأ من ناحية أخرى . ذلك لأنه من الخطأ أن نخلط بين اسلوب المعرفة وبين ما يصل اجتهاد الناس الى معرفته عن طريق هذا الاسلوب . وأن نتعصب لما نعرف فنهرب من اختبار صحته الى الترديد ” الببغاوي ” : ما دامت أفكارنا علمية فهي صحيحة . أو نهرب من الالتزام المحدد فننسب أفكارنا الخاصة إلىالنظرية العلمية ” بدون بيان لماهية تلك النظرية العلمية كأن ليس في التراث الانساني إلا نظرية علمية واحدة . ولو كان كل العلماء في التاريخ قد اتخذوا هذا موقفاً لما تقدم العلم خطوة واحدة ، ولأبقانا التعصب في جاهلية البداوة الأولى . ولو اتخذناه اليوم موقفاً لجمدنا في مواقفنا ، ولما أجدانا شيئاً ان نتهم ركب التقدم الذي يتركنا وراءه بأنه ركب غير علمي . ولكان علينا عندما نفلت من الجمود ان نلهث وراء الذين لم يوقفهم التعصب فسبقونا . وكثيراً ما يكون اللحاق بهم ـ حينئذ ـ قد فات أوانه .

ان هذا لايعني أن نشك دائماً في صحة أفكارنا ، بل يعني ان نكون قادرين دائماً على اكتشاف الخطأ فيها وتصحيحه . فلا نقع في التناقض الطفولي ، باسم العلم ، فنظن ان كل شيء متغير إلا أفكارنا فهي خالدة لا تتغير . وكم من نظريات علمية سادت قروناً ولم يكتشف الناس قصورها إلا بعد قرون . سنتحدث فيما يلي عن بعض منها وان كان غيرها كثير . ونبدأ بواحدة منها كانت أعمقها أثراً في تاريخ البشرية . وما يزال الحديث عنها متردداً في كل بحث يدور حول تغيير الواقع الاجتماعي ونظرياته  . تلك هي الليبرالية .  

ـ 2 ـ
المنهج الليبرالي .

5 ـ الليبرالية :

الليبرالية فلسفة ومنهج ومذاهب عدة . لا نعرف كلمة عربية تؤدي ـ تمامأ ـ مفهومها كمنهج وان كانت أقربها كلمة : التلقائية . في الليبرالية نلتقي بتلك العلاقة التي نصادفها كثيراً فيما يدور من حديث حول نظرية تغيير الواقع العربي أو نظرية الثورة العربية . نعني بها الرابطة بين الفلسفة كفهم معين للوجود بما فيه الواقع العربي، والمنهج كمعرفة لقوانين معينة لتغيير ذلك الواقع ، والنظرية كتحديد لمنطلق التغيير وغايته وأسلوبه . تلك الرابطة التي يعنيها المتحدثون عادة عندما يتكلمون عن ضرورة ان تكون للثورة العربية نظرية ” متكاملة .
يكفي الآن ان نعرف ما يهمنا من أمر الليبرالية كمنهج .
عرفنا (فقرة 3) ان المشكلة الأساسية التي يطرحهـا تغيير الواقع الاجتماعي هي قابلية ، او عدم قابلية، الانسان للانضباط في حركته من الماضي الى المستقبل  بقوانين او نواميس حتمية، معروفة او تمكن معرفتها. وان مصدر المشكلة هو ما يبدو من تناقض بين هذا الانضباط بقوانين حتمية و حرية الارادة الانسانية . وقلنا ان عدم قابلية حركة الانسان للانضباط  يؤدي الى أن يكون مستقبل التغيير الاجتماعي غير قابل للمعرفة وبالتالي تستحيل معرفة نظرية تغيير الواقع : منطلقه وغايته وأسلوبه .
وقد قدمت الليبرالية حلاً لهذه المشكلة .
كان الحل وليد الثورة العلمية التي كشفت عن كثير من قوانين او نواميس الطبيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر وكانت مقدمة للثورة الصناعية في اوروبا . ويمكن اعتبار الكشوف الرياضية  والفيزياثية التي قام بها اسحاق نيوتن بالذات قاعدة علمية للفكر الليبرالي سيظل حاملأ طابعها حتى النهاية. فقد أدت تلك المعرفة الوفيرة ، والمبكرة ، بمدى ما في الكون من حركة منضبطة ونظام محكم الى انهاء الشك في أن تكون حركة الظواهر الاجتماعية خاضعة  لقوانين تحكمها . ولم يكن باقيأ إلا اكتشاف تلك القوانين . وذلك ما حاولته جماعة من أكثر أبناء البشرية نبوغأ في زمانهم . مبتدئين من مقولة بسيطة وواقعية معأ ، هي ان ” الانسان اجتماعي ولكنه حر “. فاكتشفوا فيما قالوا - كل واحد بطريقته - قانون حركة المجتمعات الذي يوفق بين حتمية التغير الاجتماعي وبين حرية الارادة الانسانية في الوقت ذاته . وأسموه ” القانون الطبيعي ” . والقانون الطبيعي فكرة ـ ككل الأفكار الأوروبية ـ ذات جذور في الفلسفة الاغريقية . ولكنها تحولت على أيدي مفكري الليبرالية الى قانون . وهو قانون حتمي . اما ” انه طبيعي ” فلا يعني انه احد قوانين الطبيعة المادية، انما يعني انه ذو فعالية تلقائية لا تتوقف على ارادة الانسان . أما مضمون هذا القانون كمنهج للتغير الاجتماعي فيمكن تلخيصه مركزاً في كلمات قليلة : ” ان مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتماً من خلال عمل كل فرد فيه على تحقيق مصلحته الخاصة ” . ورتبوا على هذا ان افضل طريق على تحقيق الصالح الاجتماعي هو أن يكف المجتمع ( ممثلاً في الدولة ) عن التدخل في المحاولات الفردية لتغيير الواقع ، وان تبقى الدولة في حدود وظيفتها ” الطبيعية ” وهي حراسة القانون الطبيعي من أية محاولة لتعويق فعاليته وذلك بأن توفر للناس في المجتمع الأمن الخارجي والأمن الداخلي وتنفذ ما يصل اليه الناس بإرادتهم الحرة .
كلمات بسيطة كانت تبدو محكمة . ساندتها أكثر الافكار خصوبة خلال قرنين أو أكثر . وكان وراءها ألمع المفكرين والباحثين والعلماء ( فولتير ، لوك ، جوته ، روسو ، هيوم ، كانت ، آدم سميث ، ريكاردو ، مالتس .. الخ ) وهي كلمات ثورية أيضاً نقلت الأوروبيين من ظلمات القرون الوسطى الى مشارف القرن العشرين . وغيرت وجه الحياة في العالم كله ، وكانت محركاً لكل الثورات الكبرى من أجل الحرية خلال تلك الحقبة من التاريخ . وهي كلمات خلاقة . فقد كانت الاساس الفكري لكثير من النظريات في الدولة وفي الحكم وفي الاقتصاد وفي القانون وفي الاجتماع وفي الأدب وفي الفن وفي الاخلاق .. الخ . بل منها انبثقت مذاهب جديدة في الدين المسيحي ذاته ..
وقبل قرن ونصف كانت مسلمّة تبدو عصية على النقد. فاحتاج البحث العلمي إلى قرن من الزمان ليكتشف الخطأ فيها ، ويكتشف معه كم دفع البشر من ثمن دموي فادح لهذا الخطأ . ذلك لأن المنهج الليبرالي ليس سوى الأساس الفكري الذي قام عليه المذهب الرأسمالي . واغلب ما قدمه الاشتراكيون من دراسات وأبحاث كان منصباً في الأساس على كشف الخطأ العلمي في ذلك المنهج حتى لو كان قد تناول واحدة أو أكثر من النظريات القائمة على أساسه . يحركهم في هذا ما لمسوه من واقع مجتمعات أوروبا في القرن التاسع عشر من فشل النظام الرأسمالي في أن يحقق مصلحة المجتمع ككل من خلال محاولة كل فرد فيه تحقيق مصالحه الفردية الخاصة . فقد بدأ قانون المنافسة الحرة يقضي على حرية المنافسة ويؤدي الى الاحتكار . وقدم البؤس الاجتماعي الذي تعانية اغلبية الناس في المجتمع الرأسمالي دليلاً من الواقع على ان ترك كل واحد يفعل ما يشاء يؤدي إلى أن كثيراً من الناس لا يستطيعون ان يفعلوا ما يشاءون .
ومع محاولة الليبراليين الدفاع عن واقعهم ذاك بنسبة الخطأ الى الممارسة على وجه يمكن تصحيحه بمزيد من التنظيم الرأسمالي ، ومحاولة بعض الرواد الاشتراكيين اكتشاف الخطأ في النظرية الرأسمالية على وجه يمكن تصحيحه بمزيد من التدخل الحكومي أو النقابي في النشاط الاقتصادي ، كان آخرون من بينهم كارل ماركس- يحاولون اكتشاف الخطأ في مستويات أعمق من الممارسة ومن النظرية . فانتبهوا الى خطأ المنهج الليبرالي ذاته. وقد اتبع كارل ماركس في هذا اسلوباً فذاً ، هو دراسة النظام الرأسمالي كما هو، ومحاولة تحليل علاقاته، وتتبع تطوره في المستقبل طبقاً ، لذات قوانينه الليبرالية ، ليثبت أنه نظام سيؤدي في النهاية، حتما وبدون توقف على نوايا الرأسماليين ، إلى تجريد الأغلبية الساحقة في المجتمع ( البروليتاريا الطبقة التي ستفرزها الرأسمالية حتما) من مصالحها واستئثار قلة من الناس (الرأسماليين) بكل المصالح في المجتمع . أي حاول ماركس كشف خطأ المنهج الليبرالي عن طريق الوصول به الى غاية منطقه وذلك من خلال تحليل النظام الرأسمالي ليثبت بهذا كيف أن الممارسة ستكذب ما يتوقعه المنهج، وكان كل هذا هو جوهر موضوع  كتابه ” رأس المال ” . ولم يكن كارل ماركس إلا واحداً من ” مدرسة المتشائمين ” التي كانت قد نشأت قبل أن يكتب ماركس كتابه . ولكنه واحد متميز . فمن قبله كان مالتس الاقتصادي الرأسمالي ـ مثلاً ـ قد انتهى الى ” التشاؤم ” من مستقبل النظام الرأسمالي وهو يدرس نظرية السكان بمنهج ليبرالي ولكنه لم ير في مشكلة السكان مشكلة النظام كله . أما ماركس فقد حكم على النظام الرأسمالي كله بمستقبل شؤم على الناس وعلى المجتمعات فوجه بذلك طعنة نافذة الى الليبرالية فلسفة ومنهجاً ونظرية .
وغير ماركس ومالتس كثيرون . بصرف النظر عن مدى التوفيق الذي أصابه كل منهم في أبحاثه ، فان الممارسة ـ محك اختبار النظريات ـ لم تلبث ان اثبتت خطأ الليبرالية . فقبل ان ينتهي القرن التاسع عشر كانت ضرورة تدخل الدولة في النشاط الفردي ، لتصحيح القانون الطبيعي ، مسلمّة في كل المجتمعات الرأسمالية ومن أغلب مفكري الليبرالية . ويزداد نطاق هذا التدخل يوماً بعد يوم ، ويمتد من مجال الى مجال . واضمحلت حتى انتهت ، أو كادت أن تنتهي ، أحزاب ” الأحرار ” التي كادت يوماً ان تكون دولية ” وكانت تقيم من أنفسها حراسة جماهيرية لفاعلية القانون الطبيعي ضد تدخل الدولة . ومهما يكون ـ اليوم ـ من خلاف بين الرأسماليين او بين مفكري الليبرالية حول مدى تدخل الدولة أو مجاله فإن قوانين الليبرالية قد فقدت حتميتها . وعندما يفقد القانون حتميته لا يصبح قانوناً . وهذا ما يحاول مفكرو الرأسمالية ـ الآن ـ المناقشة فيه . فمع علمهم بأن الواقع الرأسمالي قد كذّب حتميته القانون الطبيعي كانوا أمام أمرين : إما الاعتراف بخطأ المنهج الليبرالي والنظرية الرأسمالية التي قامت على أساسه وهو ما يعني إدانة النظام الرأسمالي ، وإما إنكار الحتمية على قوانين الحركة الاجتماعية لتظل الرأسمالية قائمة في الواقع بعد أن سقط أساسها الفكري . فاختاروا الثانية حفاظاً على مصالحهم وحماية للرأسمالية من رياح التغيير . واصبح مفكروا الرأسمالية هم أشد الناس نقداً ، ورفضاً ، لنظرية الحتمية . وهم المصدر الأساسي للنظريات البديلة : اللاحتمية ، والاستاتيكية ، والوضعية …الخ.
مؤدى هذا كله أن النظرية الرأسمالية وكل النظريات في الدولة وفي الحكم وفي القانون وفي الاجتماع وفي الأدب وفي الفن …الخ التي قامت على أساس المنهج الليبرالي قد فقدت أساسها الفكري عندما كذبت الممارسة ما وعد به المنهج وتوقعه . ويمكننا أن نقول أننا في عصر يدافع فيه الليبراليون عن مواقعهم ولكنه عصر زوال الليبرالية وكل ما قام على أساسها من نظريات . غير أن هذا ذاته قد عاد بنا من جديد فوضعنا أمام مشكلة منهج تغيير الواقع الاجتماعي .

 6 ـ قصور المنهج الليبرالي :

والواقع أن الليبرالية لم تكن من قبل قد حلت المشكلة إلا جزئياً .
كانت قد تقدمت خطوة اساسية نحو الحل الصحيح عندما انطلقت في فهم تغيير الواقع الاجتماعي من انضباط حركة الانسان بقوانين حتمية . وعلمت الناس بهذا ان واقعهم قابل للتغيير وان مايحول دون تغييره هي القيود المفروضة على فعالية القوانين الطبيعية التي تضبط حركته . وان عليهم أن يحطموا تلك القيود حتى يتغير الواقع . علمتهم أن التحرر” لازم لإمكان تغيير الواقع الاجتماعي . وكان هذا الجانب الصحيح من المنهج كافياً ليتمرد الناس على سادتهم وان يسقطوا وصاية الكنيسة وامتيازات الملوك والنبلاء وأمراء الاقطاع ويمزقوا العلاقات الاقطاعية ، الاقتصادية والاجتماعية والقانونية ، ثم ينطلق كل منهم محاولاً أن ” يفعل ما يشاء ” تحت شعار الليبرالية : ” دعه يعمل دعه يمر  .
وكان ذلك كسباً عظيماً للتقدم البشري .
غير أن الليبرالية التي اكتشفت ان للواقع الاجتماعي قوانين حتمية تضبط حركته لم تكتشف ماهية تلك القوانين . وتعبير ” القانون الطبيعي ” يدل بذاته على أن ثمة قانوناً أو قوانين موضوعية ، وليست وضعية ، ولكنها غير معروفة . ولما كانت معرفة القانون وشروط فعاليته ( إذا حدث كذا … حدث كذا ) لازمة لإمكان استخدامه عن طريق التحكم في تلك الشروط لتغيير الواقع الاجتماعي فإن الناس لم يعرفوا من الليبرالية كيف يغيرون مجتمعاتهم فتركوها تتغير . علمتهم الليبرالية كيف يتحررون ولكنها لم تعلمهم ماذا يفعلون بالحرية . بل زادت فعلمتهم ألا يشغلوا أنفسهم بالتغيير الاجتماعي أو يحاولوه اتكالاً على “غائية ” ميتافيزيقية نسبتها الى قوانين الحركة . خلاصتها انها تتجه بالنشاط الفردي الى تحقيق مصلحة المجتمع ، وحتماً . وتلك هي الثغرة الكبرى في الفكر الليبرالي . لأن القوانين ضوابط حركة يستخدمها الانسان الواعي لتحقيق غاية ، وليست القوانين قوة واعية بغاية تستخدم الانسان لتحقيقها . إذ الانسان هو الكائن الذكي الوحيد . ولقد كان هذا القصور كافياً ليقف الليبراليون من تقدم مجتمعاتهم مواقف سلبية ، ولكي تكون المجتمعات في الليبرالية قوى خاملة متروكة لمصيرها التلقائي ، تحت شعار : ” دعها تتغير ” المعادل الاجتماعي لشعار الحركة الفردية  : ” دعه يعمل ” . اما تتغير الى ماذا ؟ فذاك ما حال المنهج الليبرالي دون معرفته بل ” حرم ” محاولة معرفته مكتفياً بتأكيد أنه سيكون في صالح المجتمع . وبهذا كانت ” الليبرالية ” وما تزال ، تمثلجبرية ” اجتماعية لا مفر منها لأنها ” طبيعية ” بالرغم من أن الانسان ـ طبقاً لها ـ حر بطبيعته .
وهكذا كان الحل الليبرالي لمشكلة التغيير الاجتماعي متضمناً معرفة أكثر بفعالية الانسان وغير متضمن شيئاً يذكر عن فعالية المجتمع . وسيظل هذا القصور في المنهج حائلاً دون ان يكون للمجتمع ـ في الفكر الليبرالي ـ أثر ايجابي في تحديد منطلقات أو غايات أو أساليب التغيير الاجتماعي . وستظل كل نظريات التغيير الليبرالية نظريات فردية . كما ستظل ” الفردية ” ذات دلالة صحيحة على الذهنية الليبرالية .
وقد انعكس هذا كله ـ ايجابياً وسلبياً ـ على كل التغيرات الاجتماعية التي تمت في ظل الليبرالية .
ففي ظلها استطاعت مجموعات الافراد ، الرواد ، العباقرة أو المغامرين ، يكاد التاريخ ـ من قلتهم ـ أن يحصي اسماءهم واحداً واحداً ، استطاعوا أن يكتشفوا العالم وان يقهروا الطبيعة بالعلم وأن يحققوا الثورة الصناعية وان يرسوا قواعد حضارة الرخاء المادي ( الحضارة الأوروبية المعاصرة ) وان يستهلكوا في سبيل هذا اعداداً لا حصرلها من البشر . ومع هذا فإن كل ذلك الرخاء ظل ” ملكية خاصة ” لأصحابه وهم قلة يكاد التاريخ أن يحصي اسماءهم واحداً واحداً بدون ان يستفيد منه أحد غيرهم . بل كان بالنسبة الى غيرهم فقراً على فقر وعبودية ليست أفضل من عبودية القرون الوسطى . وبقيت المجتمعات ( الشعوب ) محرومة من ثمار التقدم في ظل الرأسمالية ( النظام الليبرالي في الاقتصاد ) إلى ما قبل قرن أو أكثر قليلاً . أي إلى أن اكتشف الناس خطأ الاتكال على تلقائية التغيير الاجتماعي فبدأوا يتصدون ايجابياً للواقع الرأسمالي محاولين تغييره . وكان أول ما غيروه ، وبدون تغييره ما كانوا ليغيروا شيئاً ، هو منهج التغيير الاجتماعي ذاته : رفض ما علمتهم الليبرالية من ان مصالحهم ستتحقق حتماً بحكم فعالية ” القانون الطبيعي ” . وهكذا كان التحرر من خطأ الليبرالية أول خطوة في سبيل تغيير الواقع في المجتمعات الرأسمالية . وسيكون الخطوة الأولى في سبيل تغيير أي واقع اجتماعي . تغيير لا تغير .
ولم يكن قصور المنهج الليبرالي ذا أثر مقصور على الحياة الاقتصادية . بل لقد اثرت الليبرالية ـ ايجابياً وسلبياً ـ في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والادبية والفنية . وعلامتها في كل ميدان واحدة : التقدم ولكن للخاصة . ثم انها قد أثرت ـ ايجابياً وسلبياً ـ في واحدة من أهم القضايا التي تهمنا في الوطن العربي ونعني بها : القومية .
فمن الدارج فيما يكتب عن الأمة وعن القومية انها ذات صلة ” خاصة ” بالرأسمالية وان الحركات القومية حركاتبرجوازية ” أخذاً بظاهر تاريخ الحركات القومية في أوروبا ونقلاً في أغلب الحالات عن الفكر الأوروبي . ومع أن أوروبا ليست هي المكان الوحيد من الأرض الذي وجدت فيه الأمم حتى تكون الأمم الأوروبية نماذج لأمم الأرض ، وبالرغم من أن اغلب ما قدمه الفكر الأوروبي عن القومية مليء بالخلط الخاطيء بين الأمة والشعب والدولة ، وبين القومية والحركة القومية إلا ان ما يهمنا ـ هنا ـ هو ان نعرف من أين جاءت تلك الاخطاء في فهم القومية.
والمسألة ببساطة هي أن الليبرالية كانت قد علمت الناس في أوربا أن يتحرروا من كل ما هو مفروض عليهم وان يعودوا الى كل ما هو طبيعي ، ثم ان يتركوا الامور تجري إلى غايتها الطبيعية غير المعروفة. كذلك فعلوا في ميدان النشاط الاقتصادي وكذلك فعلوا في ميدان النشاط القومي . فبالعودة الى الطبيعة اكتشف كل واحد منهم مجتمعهالطبيعي ” الذي ينتمي اليه . اكتشف كل واحد ” أمته ” وهـذا يعني أنه لم يوجدها بل كانت موجودة فعرفها . وعرف من هذا انتمائه اليها فعرف القومية . فلما أراد أن يتحرر من الكيانات السياسية المفروضة عليه ليقيم بدلا منها دولة ” طبيعية ” وجد ان الدولة القوميةهي الدولة التي تتفق في عنصريها : البشر والوطن ، مع المجتمع الطبيعي فكانت الليبرالية منهجاً صالحاً وكافياً لنشوء الحركات القومية التي اسقطت امارات الاقطاع في أوروبا وحققت الوحدة القومية .
ثم … وقف الأمرعند هذا الحد . فالأمة - في الليبرالية - وجود اجتماعي طبيعي يعرف من أوصافه. والواقع ان الفكر القومي الليبرالي كله ليس الاتعريفأ وتوصيفا وخلافاً حاداً حول تعريف وتوصيف الأمة. والقومية ـ في الليبرالية ـ علاقة طبيعية بين أبناء الأمة الواحدة . ولكنها علأقة سلبية لأنها مجرد انتماء لا يتضمن التزاماً بشيء الا لاحفاظ عليه . والحركات القومية نضال فكري وسياسي وثوري في بعض الاوقات ضد التجزئة ومن أجل الوحدة القومية لا أكثر .
وستظل كل الكتابات الليبرالية التي صدرت منذ القرن السابع عشر حتى الآن ، عن الأمة و عن القومية، وعن الحركات القومية، وعن الوحدة القومية مطبوعة بالطابع الليبرالي ايجابياً وسلبياً ، فهي تعترف بالوجود القومي (الأمة) وتصفه وتعدد مميزاته بدون ان تبحث في تاريخه لتعرف لماذا وجد، وبدون أن تتابع مصيره لتعرف ماذا سيكون . وهي تشيد بالقومية وتتعصب لهـا بدون أن تعرف في القومية التزامأ بغير الابقاء على ذاتها دفاعأ عن الوجود القومي . وهي تدعو الى الوحدة القومية ولكن الوحدة في دعوتها مجرد تجسيد سياسي للواقع مقطوع الصلة بالمستقبل .
ان هذا لا يعني ان الأمة وجود عقيم ، أو ان القومية رابطة سلبية، او ان الوحدة القومية غـير ذات  مضمون ، ولكن يعني ان هكذا نفهم الأمة والقومية والوحدة اذا كان دليلنا في المعرفة منهج الليبرالية. وهكذا فهم الليبراليون اممهم وقومياتهم ومارسوا حركاتهم القومية لأن الحل الليبرالي ، لمشكلة التغيير الاجتماعي يتضمن معرفة أكثر بفعالية الانسان ولا يتضمن شيئأ يذكر عن فعالية المجتمع  .
وكان من أثر هذا ان ” المسألة القومية ” كما تسميها الكتابات الاوروبية لم تدرس ، وبالتالي لم تفهم، الا خلال الصراع من أجل الوحدة وللفترة التي استغرقتها الحركات القومية حتى أقامت دولها القومية . ثم اعتبرت مسألة منتهية ، لا يدرسها أحد ولا يحاول فهمها إلا اذا ثار نزاع حول الحدود . وهذا يفسر كيف ان ما يردده الليبراليون  حتى اليوم عن الأمة وعن القومية هو ذات ما قاله فلاسفة ومفكرو الليبرالية منذ ثلاثة قرون . وسنرى أثر هذا عندما تعود ” المسألة القوميةفتطرح ذاتها بقوة على الماركسيين في مطلع القرن العشرين .
المهم ان نفطن هنا ، وقبل أن ننهي حديثنا عن الليبرالية ، الى أثرها في حركات التحرر في الوطن العربي . فقد بدأت تلك الحركات ” قومية الاتجاه اقليمية القوى ” مع مطلع القرن العشرين ايضاً ، كرفض ومقاومة للتسلط الطوراني داخل دولة الخلافة تستهدف الاستقلال عنها دولة عربية تضم الشرق العربي . ( ثورة 1916 ) . وبعد الحرب الأوروبية الأولى ( 1914 ـ 1918 ) وتجزئة باقي الوطن العربي الى دول ودويلات أصبحت حركات تحررية وحدوية تستهدف التحرر من الاستعمار الاوروبي وإقامة الدولة القومية : دولة الوحدة . وبقيت كذلك الى ما قبل خمس عشرة سنة تقريباً . وطوال تلك الفترة ، أي على مدى نصف قرن تقريباً ، كانت حركات ليبرالية خالصة . كان اساتذة الفكر القومي ودعاة الوحدة والمناضلون في سبيلها يطرحون قضيتهم كما طرح الليبراليون قضاياهم القومية ، وينقلون عنهم ، ويستمدون من اقوالهم ما يدافعون به عن الوحدة العربية ، ويحلمون بيوم يرون فيه ” بسمارك ” العرب يقيم دولة الوحدة . وساد في الوطن العربي تيار قوي يرى الأمة قدراً والوحدة مصيراً بدون ان يعرف لماذا كان القدر قومياً ولماذا يكون المصير في الوحدة ، وماذا تفعل دولة الوحدة في المجتمع القومي الموحد . كانت الوحدة هدفاً في ذاتها مفرغة ـ كما نقول اليوم ـ من أي مضمون اجتماعي .
ولم يكن مرجع ذاك القصور الى أن اساتذة الفكر القومي في الوطن العربي ورواد النضال من أجل الوحدة العربيةبورجوازيون ” يبحثون عن وحدة السوق ليوزعوا فيها منتجات مصانعهم الرأسمالية التي لا وجود لها ، وإنما جاء القصور من انهم كانوا يفهمون الأمة ، ويعرفون القومية ، ويناضلون من أجل الوحدة بمنهج ليبرالي . والليبرالية تعلم الناس ” كيف يتحررون ولكن لاتعلمهم ماذا يفعلون بالحرية  
ثم تنتهي الحرب الاوروبية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) ويبدأ النضال من أجل التحرر يأتي ثماره وتتحرر أقاليم عدة من الاستعمار الظاهـر . ويصبح المنتصرون في معارك التحررمطالبين بأن يستفيدوا من التحرر الذي كسبوه في تغيير الواقع العربي ، المجزأ سياسياً ، المتخلف اقتصادياً . وتصبح أهم الأسئلة المطروحة عليهم دائرة حول العلاقة بين الوحدة والتغيير الاجتماعي  فتنشق الحركة الى جناحين متميزين :
الجناح الأول يفهم الأمة والقومية والوحدة فهماً ليبرالياً ، فهو لا يعرف علاقة بين الوحدة والتغيير الاجتماعي . بل يرى ان اقحام القضايا الاجتماعية على القضية القومية يشوه نقاءها ويصد عنها كثيرين فيمزق  قواها ويعوّق الوحدة العربية. وهو يدعو الى تأجيل . كافة القضايا الاجتماعية الى ما بعد الوحدة. ويزعم أن كل شيءبعد الوحدة ” سيسير سيرأ طبيعيأ . كيف ؟… لا يعرف . اما عن مشكلة التخلف فان رفع القيود عن النشاط الاقتصادي واطلاق المجال امام المبادرات الفردية سيؤديان الى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي . كيف ؟… لا يعرف ايضأ . إنما له هنا حجة من تاريخ الرأسمالية الاوروبية . ولكن الممارسة لا تلبث ان تكذب دعاوى الليبرالية في الوطن العربي على وجه لم يعرفه الليبراليون من قبل . ذلك لأن الليبراليون العرب دخلوا ميدان المنافسة الرأسمالية بدون رصيد علمي أو مالي أو مادي او بشري في وقت كانت الرأسمالية العالمية قد قضت فيه على حرية المنافسة وتحولت الى نظام احتكاري عالمي . فكانت عوامل الفشل مضاعفة . ولم تكن امام الرأسماليين العرب أية فرصة ليؤدوا الدور الخلاق الذي قام به  رواد الرأسمالية في اوروبا . فاحتوتهم الاحتكارات العالمية . تقدم اليهم خبرتهم ورؤوس أموالهم وتقيم لهم المنشآت ثم تستخدمهم في ادارتها فإذا هم تابعون ثقافياً ومالياً ومادياً وإدارياً للقوى الاستعمارية ، فيفقدون خفية الحرية التي كسبوها علناً . ويعود الاستعمار من جديد في شكل جديد الى المواقع التي غادرتها جيوشه . وتؤدي الليبرالية الى تجريد القومية حتى من مضمونها التحرري فيموت هذا الجناح . يموت كجناح من الحركة القومية وان بقي أفراداً وجماعات من العملاء أو التابعين للاحتكارات العالمية ، يناهضون القومية بكل الطرق بما فيها ادعاء القومية ويروجون لوحدة تضع الوطن العربي كله في قبضة استعمارية واحدة .
أما الجناح الثاني فقد بقي وحده يمثل الحركة القومية وان ظلت قواه متفرقة . فهو يكافح كفاحاً مستميتاً لانجاز مرحلة التحرر القومي والحيلولة دون عودة الاستعمار في شكلة الخفي الجديد . وهو يدعو الى الوحدة ويعمل على تحقيقها . وهو يحاول تجاوز مرحلة التخلف في الأرض المتحررة . كل هذا معاً . وهو ما يزال يفهم الأمة والقومية فهماً ليبرالياً موروثاً ، ولما كان هذا الفهم الليبرالي للقومية لا يقدم له معرفة تذكر بكيفية التغيير الاجتماعي وعلاقته بالوحدة القومية فقد لجأ الى منهج ” التجربة والخطأ ” وادان بقوة ، ولفترة طويلة ، الالتزام العقائدي وأسماه جموداً ، واصطناعاً وادعاءاً … وجرب ما شاء ، واضاع في التجارب جهوداً وطاقات وفيرة الى أن اهتدى الى الحل الاشتراكي ” كضرورةفرضها عليه التخلف الاقتصادي وفشل تجارب التنمية عن طريق الرأسمالية . فطرح على الحركة القومية التي أصبحت ممثلة في هذا الجناح السؤال القديم بصيغة جديدة . لم يعد سؤالاً عن علاقة الوحدة بالتغيير الاجتماعي ، بل أصبح عن العلاقة بين الوحدة والاشتراكية على وجه التحديد .
وفي الإجابة على هذا السؤال نجد أنفسنا أمام تيارين داخل الحركة القومية العربية . أحدهما تيار سائد والاخر تيارصاعد . وهما تياران مختلطان ، لا منفصلان ، ولامفرزان ، ولامتضادان . السائد منهما يمثل
الحركة القومية بسماتها العامة والصاعد يمثل ذات الحركة في تطورها نحو النضج والبلورة . السائد هو التجربة كما هي والصاعد هو خلاصة التجربة وعبرتها . أو نقول أن التيار الصاعد هو ابن تجربة التيار السائد وخلقها ، لم يوجد من خارجها بل هي التي أوجدته من معاناتها النضالية.
أما التيار السائد فما يزال يفهم الأمة أو القومية كما تعلمها من أساتذة الفكر القومي الأوائل فهي سلبية بالنسبة الى مشكلات التغيير الاجتماعي . ومن هنا تبقى الوحدة مطلباً قومياً يصر عليه ويبرره ليبرالياً وان كان لايعرف علاقته بالاشتراكية . اما الاشتراكية فقد عرفها بالتجربة كضرورة لتخطي مرحلة التخلف الاقتصادي . فهي مطلب قائم على أساس مستقل . وهما معاً مطلبان كان من حظنا التاريخي ان نحتاج اليهما معاً . فيكفي ألا يكون بينهما تناقض ولكن لايلزم على أي حال أن تقوم الوحدة والاشتراكية على أساس فكري واحد . والعبرة بما نحققه في الممارسة بغير قيد من النظريات مع الحفاظ في كل خطوة على المكاسب التحررية .
والواقع انه تيار عريض تنتمي إليه قوى كثيرة قد لا يكون هناك شك في اخلاصها للحرية والوحدة والاشتراكية ، وقد لا يكون فيما تبذله من جهد قصور عن امكانياتها المتاحة ، ولكن ثمة شك كبير في معرفتها كيف تغير الواقع العربي على وجه تتحقق  به شعاراتها . فهي تنتقل من نجاح إلى فشل ، ومن صعود إلى نكسة ، ومن نصر إلى هزيمة . وهي تحاول تصحيح مسيرتها المضطربة بنسبة الخطأ إلى الممارسة على وجه يمكن تصحيحه بمزيد من التنظيم أو إلى القومية على وجه يمكن تصحيحه بتأجيل الوحدة أو إلى الاشتراكية على وجه يمكن تصحيحه بالتراجع عنها . التراجع عنها ولو عن طريق “ اليسار الطفولي” . وفي كل يوم لها موقف تجريبي جديد وإن كانت ما تزال صامدة في موقفها من قضايا التحرر .
أما التيار الصاعد، في قلب الحركة القومية العربية، فيرى أن الحساب الختامي لأية مسيرة غير عقائدية خسارة فادحة . وأنه ما دامت حركة المجتمعات منضبطة بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها ، وأن معرفة تلك القوانين وشروط فعاليتها لازمة لإمكان تغيير الواقع الاجتماعي ، فإذا كنا قد فشلنا مرة ، ومرة ، ومرات فأن هذا لا يعنى أن نصر على التجريب في حياة الناس بل يعني أن علينا أن نبذل جهدآ أكبر في معرفة كيف نغير واقعنا . وأن المصدر الأساسي للفشل لم يكن خطأ الممارسة أو خطأ في القومية أو خطأ في الاشتراكية ولكن مرجعه أن الفهمالليبرالي ” للقومية لا يعلمنا العلاقة بين الوحدة والاشتراكية ، فيبقى الموقف القومي من الاشتراكية مفتقدآ أساسه الفكري ، وأن المنهج ” التجريبيفي الاشتراكية لا يعلمنا العلاقة بين الاشتراكية والقومية فيبقى الموقف الاشتراكي من الوحدة مفتقداً أساسه الفكري . وان هذا القصور في ” النظريةقد سمح بأن تختلط بالقوى القومية التقدمية ، داخل الحركة القومية ، قوى رأسمالية متراجعة أو لا قومية متراجعة أو انتهازية ترفع جميعاً شعارات واحدة وتحتفظ كل منها بفهم خاص وتفسير خاص للشعارات الموحدة . فإذا بالحركة القومية ” المنتفخة ” بقواها غير قادرة على أن تحقق شعاراتها أو حتى أن تجمع في قوة واحدة جماهيرها العريضة . وأن الفشل المتكرر يعني أن ثمة خطأ ما في المسيرة كلها لا يكفي لتصحيحه مجرد الجمع في شعار واحد بين الحرية والوحدة والاشتراكية . فلا بد لنا من ” نظرية ” لتغيير الواقع العربي أكثر وضوحاً وأكثر بلورة وأكثر مقدرة على فرز القوى المختلطة داخل الحركة القومية . نظرية نلتقي بها في قوة واحدة ولو كانت أقل عدداً . ونلتزم فيها بخطة واحدة ولو كانت أطول مدى . وتقود خطانا ولو كانت أبطأ حركة . فإننا حينئذ سنتقدم تقدماً مطرداً بدلاً من أن نقفز إلى الأمام لنعود فنقفز الى الخلف ولا نتقدم الا قليلاً . وأن علينا أن نهتدي الى هذه النظرية ولو اقتضى هذا أن نراجع كل ما نعرف عن القومية وكل ما نعرف عن الاشتراكية . وما دمنا نريد أن نغير واقعنا العربي المجزأ سياسياً المتخلف اقتصادياً فلا ينبغي لنا أن نسلم بنظرية في القومية لا تعلمنا كيف نحقق الاشتراكية أو نظرية في الاشتراكية لا تعلمنا كيف نحقق الوحدة . وإذا اقتضى الأمر نبحث في مستوى أعمق من هذا لعلنا نعرف لماذا تفشل تلك النظريات في تعليمنا كيف نغيّر واقعنا العربي فتفشل مسيرتنا بالرغم مما نبذل من جهد وما نقدم من تضحيات . وأول ما يجب ان نعرفه هو كيف عرف أصحاب تلك النظريات في القومية أو في الاشتراكية أن القومية أو الاشتراكية هي ـ حقيقة ـ على الوجه الذي قالوه وتعلمناه منهم . فلعلنا أن نعرف من حقيقة القومية أو الاشتراكية غير ما يعرفون . أي أن علينا أن نعرف ونختبر مناهجهم قبل أن نقبل أو نرفض نظرياتهم ، وقبل أن نمارسها أو نجربها في تغيير الواقع العربي . وهذا لا يتأتى لنا إلا إذا كنا قد تعلمنا كيف يتغير الواقع الاجتماعي عربياً كان أو غير عربي . ومهما يكن الوقت أو الجهد الذي نبذله لنتعلم فإن مسيرتنا ستكون مسيرة منتصرة . ومهما أدى هذا الى كشف الاخطاء التي عشنا أو نعيش تحت تأثيرها فإن تلك ثورة ثقافية لا بد لنا من أن نقبل ما تؤدي اليه ليكون التقاؤنا في الممارسة التقاء عقائدياً فننتصر .
لا يعني هذا أن نتوقف عن مواجهة المشكلات التي يطرحها واقعنا العربي ونكف عن معالجتها بما هو متاح إلى ان نهتدي الى نظرية ، بل يعني ان نضيف الى جهدنا في التقدم بما هو متاح جهداً آخر في سبيل التقدم بما يجب أن يكون .
في خدمة هذا التيار الصاعد في قلب الحركة القومية العربية اجتهادات فكرية كثيرة ينتمي اليها هذا الحديث . وقد عرفنا منه ـ حتى الآن ـ أنه لكي نعرف نظرية تغيير الواقع لا بد لنا من أن نعرف منهج تغييره ( فقرة 1 ) . وان معرفة ذلك المنهج ممكنة لأن كل الاشياء والظواهر منضبطة في حركتها بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها ( فقرة 2 ) ، وان ذلك مسلّم بالنسبة الى الطبيعة المادية ولكنه يصطدم في التغيير الاجتماعي بما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التغيير الاجتماعي وحرية ارادة الانسان ( فقرة 3 ) وأن ثمة محاولات عديدة لاكتشاف حل لذلك التناقض ( فقرة 4) وأن الليبرالية كانت واحدة مبكرة من تلك المحاولات ( فقرة 5 ) وان المنهج الليبرالي لم يصدق في الممارسة التي تمت على هديه ( فقرة 6 )  .
وعندما نتحرر من الليبرالية نعود مرة اخرى ونجد أنفسنا أمام مشكلة المنهج .

ـ 3 ـ

مناهج التطور .

7 ـ مناهج التطور : 

منذ بداية هذا الحديث ونحن نتكلم عن تغير ” أو ” تغيير ” الواقع ، ولم نذكر كلمة ” تطور ” أو ” تطوير ” مع أنها كلمة دارجة ومألوفة . ولقد كنا في هذا عامدين ، لأننا لم نشأ أن نزج في الحديث بتعبير يحتاج هو ذاته إلى حديث خاص لكي نعرف دلالته . لم نكن نريد ان نسبق ” تطور ” الموضوع الذي نعالجه . ذلك لأن تعبير ” التطور ” لم يصبح ذا دلالة خاصة بالحركة إلا في وقت متأخر من القرن الثامن عشر ، بعد ان كانت الكشوف العلمية قد وصلت بالانسان إلى قدر متفوق من المعرفة بالطبيعة . أما قبل ذلك فقد كان عمر العالم الذي يحاول فلاسفة الليبرالية معرفة قوانين حركته لا يزيد عن ستة آلاف سنة . هذا ما كان يعرفه مفكرو أوروبا كما تعلموه من ” التوراة ” ( العهد القديم ) التي أرخت لهم الوجود منذ : ” في البدء خلق الله السموات والأرض ” .  ولم تكن ستة آلاف سنة كافية ليبحث الناس عن أثرها في واقعهم . كانت زمانأ غير ذي دلالة . غير أنه مايكاد الفكر الأوروبي يدخل القرن التاسع عشر إلا ويكون قد عرف من الكشوف العلمية في الجيولوجيا والوراثة وأصل الانواع … الخ . ان العالم كان موجوداً قبل ستة آلاف سنة بمئات الألوف من السنين وان الجماد والحيوان قد سبقا الانسان وجوداً . وأن الواقع ليس إلا الحصيلة الأخيرة لتغيرات لم تتوقف منذ أن وجد العالم وأنه لن تكون الحصيلة الأخيرة وان حركة الأشياء والظواهر من الماضي الى المستقبل ليست انتقالاً في الزمان بل نمواً عبر الزمان . وهكذا عرفالتطور ” بمعنى النمو خلال الحركة ، أو التغير النوعي خلال الحركة . وإن كان هذا التعبير الأخير لا يفي بدلالة التطور لأن التطور ليس مجرد تغير نوعي بل تغير نوعي إلى ما هو أرقى . على أي حال ما أن ينتصف القرن التاسع عشر حتى تكون نظريات داروين في ” التطور” قد حلت محل نظريات نيوتن في الحركة . ونصبح أمام مجموعة من القوانين الكلية الي تخضع لها كل الاشياء والظواهر أولها الحركة الدائمة وثانيها التأثير المتبادل وثالثها التغير المستمر ثم اضيف اليها ” التطور ” وبقي ان نعرف قانونه . ولما كان التطور يعني أن لكل شيء أو ظاهرة تاريخاً نامياً فقد علم الناس درسين هامين : أولهما أن كل ظاهرة اجتماعية هي ابنة واقعها التاريخي . حتى النظريات والافكار ما كان لها أن تكون على ما كانت عليه إلا ان الواقع الاجتماعي الذي ولدت فيه كان في حاجة اليها ليحل مشكلات واقعية . وبالتالي لا تفهم إلا منسوبة الى واقعها الاجتماعي ولا ينبغي أن نتوقع لها ” الخلودالذي يتجاوز بها مرحلتها التاريخية . كما يطبق هذا على الليبرالية التي كانت نظرية التحرر من الاقطاع في أوروبا والتحرر من القهر الطوراني في الوطن العربي ، سينطبق على الاشتراكية الماركسية التي كانت نظرية تحرر البروليتاريا في أوروبا المتقدمة صناعياً ، والاشتراكية الوطنية التي هي نظرية تحرر المجتمعات النامية والاشتراكية القومية التي هي نظرية تحرر الأمم المتخلفة المجزأة …الخ . ثانيهما : إن للتاريخ اتجاهاً تقدمياً عاماً تعوقه الأحداث أو تنشطه ولكن في المدى الطويل تنتصر حركة التطور على ما يعوقها وهو ما يعبر عنه بحتمية التطور .
تحت تأثير هذا الدرس الثاني اتجهت محاولات اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي الى التطور التاريخي للمجتمعات ، فيعرض لنا منهج جديد هو المنهج التاريخي .   

8  ـ المنهج التاريخي :
 
تقوم مزاعم المنهج التاريخي على ملاحظة تطور المجتمعات الانسانية ورصد حركتها واستخلاص قوانين تلك الحركة من ايقاعها المطرد ثم يعود ويستعمل تلك القوانين في تعيين المستقبل الذي يتجه اليه التطور الاجتماعي . وفي الأدب القومي دراسات عديدة قائمة على المنهج التاريخي . نعرفها من نوع الأدلة التي تتضمنها كإجابة عن السؤال : لماذا الوحدة العربية ؟ … فالوحدة فيها حتمية ” تاريخية ” . اما الأدلة على هذا فهي أحداث التاريخ القديم أو المعاصر أو الدراسة المقارنة لتاريخ الشعوب والأمم .
ولا شك في أن التاريخ ، باعتباره ممارسة بشرية متراكمة ، يصلح محكاً لاختبار مناهج المعرفة ، إذ الممارسة هي محك اختبار النظرية . ولكن المسألة هي ان المعرفة بالتاريخ قد لا تكون صحيحة أو كاملة . إذ التاريخ لم يكتب إلا في مرحلة متأخرة منه . وفي كل يوم تضاف اليه احداث كانت مجهولة . وتصحح حوادث لم تكن معروفة على وجهها الصحيح . ولعلنا نذكر كيف بدأ ماركس وانجلز ” البيان الشيوعي ” ( 1847 ) بالقول الواثق الحازم : ” ان تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ الصراع الطبقي ” . وبعد ثلاثين عاماً فقط ( 1877 ) اكتشف مورغان ان البشرية كانت قد مرت بفترة طويلة في حالة “شيوعية ” خالية من الملكية الخاصة وبالتالي خالية من الصراع الطبقي ونعرف من تاريخنا المعاصر إن ” اسرار ” التاريخ المحجوبةعمداً ” عن الناس أكثر، وأصح ، مما يعرفه الناس من ظاهر الأحداث . من هنا لا يكون الاحتجاج بالتاريخ مقبولاً على اطلاقه . وهذه حجة قوية على قصور كثير من الكتابات العربية بوجه خاص ، حيث نجد الكتاب يكررون بدون ملل ، وبإصرار عجيب أن ” التاريخ يؤكد …” بدون ان يذكروا الأحداث التاريخية التي أكدت ” لكي تمكن مراجعتها واختبار صحة الاستقراء منها . ثم إن التاريخ غني بأحداث وحوادث لا حصر لها ولن يكون صعباً على أي متحدث عن منطق التاريخ ان يجد في كتب التاريخ أحداثاً ينتقيها ليؤكد الرأي الذي أراد هو ـ منذ البداية ـ أن يقنعنا به . ثم إن التطور ذاته يلغي أية قيمة للمنهج التاريخي وذلك من ناحيتين . الناحية الأولى هي ان التطور التاريخي يعني ان الظاهرة الاجتماعية تنمو خلال حركتها عبر التاريخ وبالتالي فهي لا تتكرر ـ كما هي ـ في مرحلتين من تاريخها . ومن هنا يصبح مستحيلاً إعادة الظاهرة التي عرفنا ” القانون التاريخي ” من حركتها ، إعادتها كما هي ، لنختبر فيها صحة القانون الذي عرفناه . ومن ناحية أخرى فإننا قد نعرف من التاريخ كيف بدأت الظاهرة وتطورت إلى أن وصلت الى الواقع ولكنا لا نستطيع أن نعرف منه ما سيضاف اليها فتتطور به لأن هذا حدث غير مسبوق في التاريخ ، ثم عن معرفة اتجاه التاريخ لا تكفي لنعرف ما يجب ان نفعل لتطويره في هذا الاتجاه . إذا قيل ، مثلاً ، إن الوحدة العربية حتمية تاريخية فإننا نعرف من هذا القول أنه في ” يوم ماستقوم دولة الوحدة في الوطن العربي . ولكن هذا لايكفي لنعرف متى ستقوم ، وكيف ستقوم ، وما الذي علينا ان نفعله في الواقع العربي حتى تقوم . بل لعل هذا ان يكون ادعى الى تجنب النضال من أجل الوحدة اتكالاً على ان الوحدة آتية وان المسألة مسألة وقت لا أكثر ، ولو انتظرنا على التاريخ فسيتم كل شيء على ما نريد . إننا لا يمكن أن نخطىء ” الجبرية ” التاريخية التي يتضمنها المنهج التاريخي ، حيث الماضي الذي لا يد لنا فيه يحدد لنا المستقبل حتماً . والغريب أن يصل البعض إلى هذه ” الجبرية ” انطلاقاً من الاشفاق على الانسان من أن تنضبط حركته بقوانين حتمية . ثم اننا لا يمكن ان نخطيء الذهنية الليبرالية المختفية وراء هذا المنهج . فالحتمية التاريخية هنا هي تلقائية التطور هناك . والقانون التاريخي يساوي القانون الطبيعي في غربته عن الانسان ، أو هو القانون الطبيعي بعد ان حمل اسماً جديداً .
ثم ـ أخيراً ـ هناك فهم التاريخ ذاته . إن التاريخ مجموعة من الحوادث والأحداث الماضية . ولنفترض أنها معروفة وأن معرفتها صحيحة . ونريد أن نفهمها لنكتشف ” منطقها ” . إن هذا سيتوقف على ” منطق ” كل واحد منا في فهم الحوادث والاحداث الاجتماعية . إن دلالة الحوادث تختلف عند ماركس عنها عند فرويد . وكل منهما قادر على أن يقدم لها تفسيراً طبقاً لمنهجه . والعبرة ليست بالمقدرة على تفسير حوادث التاريخ بل العبرة بصحة فهم التاريخ وتفسيره . وهو أمر يتوقف على المنهج . ومن هنا نعرف أن وراء كل منهج تاريخي منهجاً في معرفة التاريخ وان ما يسمى المنهج التاريخي لا يحل مشكلة معرفة كيف يتطور الواقع الاجتماعي . وعلينا أن نعرف هذا أولاً ، لنستطيع بعد ذلك ان نعرف كيف تطور واقع اجدادنا فنفهم التاريخ فهماً صحيحاً ونختبر فيه صحة منهجنا معاً .
إذن ، فبرغم مزاعم المنهج التاريخي ، ما تزال مشكلة المنهج قائمة . 
  
9 ـ الجدلية :

لقد طرحت نظرية التطور أمام الباحثين عن معرفة قوانين حركة المجتمعات مشكلة جديدة . إذ لم يعد كافياً ان نعرف أن المجتمعات ” تتطور ” خلال حركتها من الماضي الى المستقبل بل اصبح لازماً أيضاً ان نعرف ” كيف ” تتطور . ما هو القانون الذي يضبط حركة النمو هذه . وهو لازم لنستطيع ان نتوقع المستقبل التلقائي ثم نستخدم قانون التطور ذاته ” لتطوير ” الواقع إلى المستقبل الذي نريد .
وقد كانت الجدلية ، او المنهج الجدلي ، إجابة على هذا السؤال الجديد . والجدلية معقدة في كتب الفلسفة التي تحاول أن تثبت صحتها ولكنها ـ كخلاصة ـ مقولة بسيطة .
يتحاور اثنان فيختلفان في موضوع واحد . كل منهما يحاول أن ينفي رأي الآخر . وينتهي هذا النفي المتبادل باجتماعهما على راي واحد . ليس هو رأي أي منهما كما كان . ومع هذا فهو حصيلة الصراع بين راييهما المتناقضين . ويتميز عنهما بأنه أكثر صحة من كل رأي كان على حدة . هذه هي الدلالة الأصيلة لتعبير ” الجدل ” وعلى هذا الوجه كان الجدل معروفاً من قبل أن نعرف التطور . ولكنه كان في حاجة الى عبقريةهيجل ” ليكتشف فيه قانون التطور . فها هنا رأي جديد أكثر نمواً يولد من الصراع بين رأيين متناقضين . ويصوغ هيجل هذا القانون في نظرية متكاملة يستخدمها في تفسير حركة كل الاشياء والظواهر ببراعة الفيلسوف المتمكن ونعرف منها أن التطور لا يتم بالانتقال الميكانيكي من العلة الى المعلول بل عن طريق الصراع بين المناقضات الكامنة ” في الشيء ” ذاته والذي ينتهي بأن يخرج الى الوجود ـ طفرة ـ ” شيء ” جديد مختلف عن النقيضين وإن كان هو ذاته يحتوي على بذور تناقض جديد لا يلبث أن يصبح صراعاً ينتهي بطفرة إلى خلق جديد … وهكذا في سلسلة من النمو الدائم خلال الصراع الجدلي .
هل هذا كل شيء ؟
لا . إنها الاضافة الجديدة إلى ما كانت الكشوف العلمية على عهد نيوتن ومن بعده قد علمتنا إياه : وهو أن الأشياء والظواهر (1) يؤثر بعضها في بعض (2) خلال حركتها التي لاتتوقف (3) فتلحقها تغيرات مستمرة . إلى أن اضيف قانون الجدل لنعرف منه (4) أن هذه التغيرات المستمرة هي تطور نام يتم من خلال الصراع بين المتناقضات الكامنة في ” الشيء ” ذاته . وأُسمي كل هذا ” الجدلية ” أو المنهج الجدلي .
ولهذه الملاحظة عن الاسم مبررات تهمنا .
ذلك لأننا كثيراً ما نجد في الكتابات العربية عن العلاقات الاجتماعية والتطور الاجتماعي استعمالاً مرسلاً لتعبير ” الجدل ” و ” الجدلية ” و ” العلاقات الجدلية ” … الخ . ويقصدون بها الحركة أو التاثير المتبادل أو التغير . وهذا الاستعمال يصبح مفهوماً من الذين يقبلون قانون الصراع بين المتناقضات قانوناً للتطور . لأنهم حينئذ يستعملون المنهج بكامل قوانينه . ولكنه يصبح غير مفهوم من الذين ينكرون ان التطور يتم خلال الصراع بين المتناقضات . إذ بمجرد أن نرفض قانون ” التطور من خلال الصراع بين المتناقضات ” لا تبقى لنا إلا قوانين الحركة والتأثير المتبادل والتغير . وتلك قوانين ميكانيكية وليست قوانين جدلية . وإنما تصبح بعض قوانين المنهج الجدلي وينسحب اليها اسمه عندما يكون هذا المنهج محتفظاً بالقانون الذي يميزه : قانون الجدل . أو قانون الصراع بين المتناقضات . إن هذا يفيدنا في ” ضبط ” بعض المغالطات فيما يكتب عن التطور كما يفيدنا في ضبط أفكارنا فلا نغلط .
على أي حال فإن الجدل بمعنى التقدم من خلال الصراع بين المتناقضات قانون مسلم به في المناهج القائمة على أساس ان حركة الأشياء والظواهر منضبطة بقوانين حتمية وتحاول ـ في الوقت ذاته ـ تفسير الاضافات التي نما بها التطور الاجتماعي فانتقلت به المجتمعات من البداوة الأولى إلى واقعها الحضاري الراهن في حكة مطردة التقدم والنمو . وسيظل قانون الجدل في ايدينا حتى النهاية . ويبقى ان نعرف إلى أي مدى حل اكتشافه المشكلة الأولى : التناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية .  

10  ـ فشل الميتافيزيقا :

نتوقع الآن ، وقد عرفنا القوانين التي تضبط حركة التطور ألا نختلف في كيفية تطوير الواقع . أليس هذا هو الذي نبحث عنه منذ وقت طويل ؟ … ومع هذا فإن اكتشاف قوانين الجدل قد أدى إلى خلاف جديد ، أكثر عمقاً وأشد حدة من أي خلاف سابق ، بين الذين يبحثون عن حل لمشكلة ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية .
ذلك لأن هيجل ـ صاحب النظرية الأول ـ لم يكن فيلسوفاً ودارس تاريخ فحسب بل كان قبل هذا وربما فوق هذا فقيهاً مسيحياً . وفلسفته كلها تقع في نطاق الاجتهاد الديني . فهو منذ البدايةيؤمن ” بان ثمة قوة خارج الاشياء والظواهر تحركها حركة ” واعية ” . تسمى في الشروح الهيجلية الفكر المطلق أو العقل الكلي ، أو الروح . والواقع أن هيجل ـ كما يقال ـ استعمل في التعبير عنها كلمة ألمانية يمكن ان تعني الفكر كما يمكن أن تعني الروح . وتبسيطاً للحديث سنكتفي بأن نسميها ” فكراً ” إذ أن ما يعنينا هنا هو أن نعرف أثرها في الجدلية ولا يعنينا أن نخوض في تعقيداتها الفلسفية .
خلاصة رأي هيجل أن الفكر هو الوجود الأول . أما الأشياء والظواهر فهي تجسيد له . هذه الأولوية للفكر على المادة هي ما يسمى ” بالمثالية ” . ومع ان ثمة نظريات مثالية كثيرة إلا أن مثالية هيجل جدلية . أي انها تتضمن منهجاً للتطور وهو ما يهمنا . وطبقاً لها . إذا اردنا أن نعرف كيف تتطور المجتمعات فيجب ان نبحث في تطور الفكر. إذ كما يكون الفكر تكون المادة . الفكر يتطور اولاً والمادة تتبعه إلى حيث هو متطور . وفي كل لحظة يكون الواقع هو التجسيد الصحيح لمرحلة التطور التي وصل اليها الفكر . وقد يبدو اننا بهذا قد حللنا مشكلة ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية ، وإن المثالية تنحاز الى حرية الانسان . ولكن هذا غير صحيح . لأن الفكر ، الموجود الأول ، المتطور جدلياً ، ليس هو فكر الانسان بل هو الفكر المطلق أو العقل الكلي أو الروح . وبهذا كان الحل المثالي للمشكلة هو إخضاع المجتمع والانسان كليهما ” لجبرية ” قوة ليس للموجودات جميعاً ، بما فيها الانسان ، إلا تجسيدها . ببساطة أكثر : إن هيجل قد حل ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين الحركة الاجتماعية وحرية الارادة الانسانية بإخضاع المجتمع والانسان معاً لقوة ثالثة فوقهما هي الي تتطور جدلياً وهما يجسدان تطورها . وإذا بالمثالية تهدر أي قيمة لاكتشاف قوانين التطور الجدلي . لأن الانسان فيها لا يملك المقدرة على استخدام تلك القوانين لتحقيق ما يريد بل هو يخضع لها لتذهب به الى حيث يتجه تطور الفكر .
كان كارل ماركس ـ تلميذ هيجل ـ من الذين ادركوا أن المثالية قد جردت الجدلية من أية قيمة كمنهج للتطور الاجتماعي . وأنكر بشدة وجود تلك القوة الفكرية التي كان هيجل يؤمن بها . فأخذ المنهج الجدلي عن هيجل ـ كما هو ـ ثم أقامه على قدميه بعد أن كان قائماً على رأسه ، كما قيل . فقد كان ماركس ” يؤمن ” بان المادة هي الوجود الأول . أما الأفكار فهي تجسيد لها . هذه الأولوية للمادة على الفكر هي ما يسمى ” بالمادية ” . ومع أن ثمة نظريات مادية كثيرة إلا أن مادية ماركس مادية جدلية أي أنها تتضمن منهجاً للتطور وهو ما يهمنا . وطبقاً لها ، إذا أردنا أن نعرف كيف تتطور المجتمعات فيجب أن نبحث في تطور المادة . إذ كما تكون المادة يكون الفكر . المادة تتطور أولاً والفكر يتبعها إلى حيث هي متطورة ، وفي كل لحظة يكون الواقع هو التجسيد الصحيح لمرحلة التطور التي وصلت اليها المادة . وقد يبدو اننا بهذا قد حللنا مشكلة ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية وان المادية تنحاز الى المجتمع . ولكن هذا غير صحيح . لأن المادة ، الوجود الأول ، المتطور جدلياً ، ليست هي المجتمع بل أدوات الانتاج . وبهذا كان الحل المادي للمشكلة هو اخضاع المجتمع والانسان كليهما ” لجبرية ” أدوات انتاج الحياة المادية فليس للمجتمع او للانسان إلا أن يعكس حركتها . ببساطة اكثر : إن المادية قد حلت ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين الحركة الاجتماعية وحرية الارادة الانسانية بإخضاع المجتمع والانسان معاً لقوة ثالثة تحتهما هي التي تتطور جدلياً وهما يعكسان تطورها ، وإذا بالمادية تهدر أي قيمة لاكتشاف قوانين التطور الجدلي . لأن الانسان فيها لا يملك المقدرة على استخدام تلك القوانين لتحقيق ما يريد بل هو يخضع لها لتذهب به الى حيث يتجه تطور المادة .
عندما لايكون الانسان هو المحرك القائد لعملية التطور يكون التطور مفروضاً عليه من خارجه وتلك هي ” الجبرية ” . ولقد تعمدنا ان تطرح المثالية الجدلية والمادية الجدلية ” معاً ” ، في هذه الفقرة ، ليتضح لنا ـ أكثر ـ وجه الشبه بينهما في هذه ” الجبريةالتي تفرضانها على حركة التطور الاجتماعي . إن كلاً منها منهج ” تغيربمعنى اننا نتعلم منهما أن المجتمعات تتغير في حركتها من الماضي الى المستقبل طبقاً لقوانين حتمية . ولكن أياً منهما ليست منهج ” تغيير ” لأن الانسان فيهما يتغير مع غيره في سياق حركة المجتمع . ويستطيع إن كان واعياً حركة التغير تلك أن يتبعها ويلائم بين ارادته واتجاهها . ولكنه لا يستطيع ـ على أي وجه ـ ان يتحكم في حركتها أو يغير اتجاهها أو ان يعطيها مضموناً يريده إذا كان ذلك المضمون لا يتفق مع درجة تطور الفكر كما تجسده الدولة (عند هيجل) أو درجة تطور المادة كما تجسدها ادوات الانتاج ” عند ماركس  .
من أين جاءت هذه الجبرية ؟
إن الاجابة على هذا السؤال ذات أهمية خاصة . فمنها نتعلم درساً يجب ألا ننساه أبداً . ومنها نفهم ما سيصيب المنهج الجدلي من تصحيح للافلات من الجبرية . ولنتذكر أننا نسأل عن مصدرالجبرية ” في نظريتين تسلّمان بالحتمية وبالحركة وبالتغير وبالتأثير المتبادل بين الاشياء والظواهر ثم بالجدل كقانون لحركة التطور . وتسلًم كل منهما بأن تلك جميعاً قوانين كلية تضبط حركة كل الاشياء والظواهر والمجتمعات بما فيها الانسان نفسه . إذن ، فطبقاً للمنهجين ، وفي نطاق التأثير المتبادل بين كل العناصر المادية والفكرية والبشرية المكونة للمجتمع ، ليس ثمة ما يبرر أن يكون عنصر منها هو المحرك القائد ، لحركة التطور كلها ، ما دامت كل العناصر تتحرك طبقاً لقوانين جدلية واحدة . ومع هذا فإن كلاً من النظريتين تعيّن عنصراً بذاته ليكون سابقاً الى التطور ، ليكون المحرك الأول ، بحيث تتبعه العناصر الأخرى في حركتها الى حيث يتجه تطوره . وقد عرفنا ان هذا العنصر هو ” الفكر ” في المثالية الجدلية وهوالمادة ” في المادية الجدلية .
فكيف اختار هيجل أو ماركس عنصره القائد ؟
اختاره فلسفياً . أي بالتأمل والاجابة على سر الوجود والحركة . وليس بالبحث العلمي . أي بملاحظة حركة التطور واكتشاف قوانينها . ذلك لأن هيجل بدأ من ” فرضية ” ان الفكر هو الموجود الأول ورتب عليها أنه المحرك الأول . وبدأ ماركس من ” فرضية ” ان المادة هي الموجود الأول ورتب عليها أنها المحرك الأول . وهكذا أصبحت صحة المقولة بأن الفكر أو المادة هو المحرك الأول متوقفة على صحة ” الفرضيةان المادة أو الفكر هو الموجود الأول ولما كانت كل من أولوية الفكر أو أولوية المادة ، في الوجود ، فرضاً ميتافيزيقياً لا يمكن اثباته عن طريق البحث العلمي لأنه خارج نطاقه ويقع في نطاق الايمان الغيبي ، فإن ” أولويةأي منهما كمحرك للتطور هي أيضاً فرض ميتافيزيقي لا يمكن اثباته عن طريق البحث العلمي . وسنرى فيما يلي كيف كانت محاولة تطهير المنهج الجدلي من جرثومة الميتافيزيقيا التي تسربت اليه وإلى أي مدى نجحت .
وابتداء من هنا سنكون حذرين ، جد حذرين ، من الادعاءات الميتافيزيقية ونحن نحاول أن نعرف كيف تتطور المجتمعات أو ونحن نحاول أن نطور مجتمعنا العربي .. ونتعلم منه درساً فكرياً هو : أنه إذا كانت مشكلة المنهج لا بد من أن تحل قبل حل مشكلة النظرية ، فإن حل مشكلة المنهج ( أي معرفة القوانين التي تضبط حركة الوجود كما هو ) لا تستلزم حل مشكلة ” سر ” الوجود ، كيف خلق ، ومن خلقه … الخ . ثم نتعلم منه درساً حركياً هو أنه إذا كان الاتفاق بيننا على منهج التطور الاجتماعي لازماً لإمكان الالتقاء على نظرية لتغيير الواقع تحدد لنا المنطلق والغاية والاسلوب ، فإنه ـ ايضاً ـ كاف للالتزام وفي غير حاجة الى الاتفاق على المقولات الميتافيزيقية … وان الاحراج الذي يبدأ مناقشة قضية التطور الاجتماعي بالقول : إما أن تكون مادياً وإما أن تكون مثالياً ليس إلا سفسطة ميتافيزيقية.

11 ـ تطور المنهج الجدلي :

لا نستطيع أن نتحدث عن تطور المثالية لأنها في الواقع – قد تطورت على يد ماركس لتصبح ” المادية الجدلية ولنرى الان كيف تطورت ” المادية الجدلية ” كمنهج وإلى أين انتهت .
الجزئية التي نتتبعها من ذلك الميراث الميتافيزيقي الذي ورثه المنهج من الفلسفة المادية ونعني به : ” أن المادة هي المحرك الأول ” . وترجمتها الاجتماعية هي : تتطور المجتمعات تبعاً لتطور أدوات الانتاج فيها . ويتحدد موقف كل واحد من التطور تبعاً لموقعه من علاقات الانتاج .
طبقاً للتحليل النظري على ضوء هذا المنهج : لا يمكن أن تتحقق الاشتراكية إلا في مجتمع رأسمالي متقدم . وبقيادة الطبقة العاملة . الصناعية (البروليتاريا) . خلال صراع طبقي بين قوتين مفرزتين تبعاً لموقعهما من علاقات الانتاج . إحداهما أغلبية تعمل ولا تملك ( البروليتاريا ) والثانية أقلية تملك ولا تعمل ( الرأسماليون ) . أما القوى الأخرى فهي مترددة مذبذبة تحالف إحدى القوتين الى حين ولا تذهب في تحالفها الى حد تصفية الملكية الخاصة ( البرجوازية الصغيرة وتشمل كل الذين لا ينتمون الى الرأسماليين أو إلى الطبقة العاملة ) . هذا بالنسبة الى اتجاه التطور الاجتماعي . أما عن إطاره ، أي عن المجتمع الذي يعنينا تطوره فهو المجتمع الانساني كوحدة بشرية . فطبقاً للتحليل النظري على ضوء هذا المنهج ايضاً ، حيث يكون المحرك الأول للصراع الطبقي هو التناقض في اسلوب الانتاج ، ويكون موقع كل واحد من علاقات الانتاج هو الذي يحدد موقفه من الصراع ، يكون الانتماء الطبقي هو العلاقة التي تفرز على اساسها القوى بصرف النظر عن انتماءاتها القومية . وتلك هي الأممية . وهي نظرية خالصة النسبة الى منهج المادية الجدلية .
ونعرف جميعاً أن ذلك كله هو خلاصة الماركسية التقليدية : ماركسية ماركس وانجلز ومن تبعهما يوم أن كانت الماركسية مجموعة من المقولات الفكرية محكمة الصيغة لم تدخل بعد ساحة التجربة . ومع هذا فثمة إضافة لابد من ذكرها إنصافاً لقائلها . فمنذ وقت مبكر وقبل أن توضع النظرية موضع الاختبار في الممارسة اعتذر انجلز عن نفسه وعن ماركس بأنه لم يتوافر لهما الوقت ولا الفرصة لإبراز أهمية العناصر الأخرى ( غير المادية ) في حركة التطور الاجتماعي ( رسالة الى بلوخ في 21 . 9 . 1890 ) ،  إلا أن الماركسية ستظل ماركسية إلى أن يظهر لينين فتوضع النظرية موضع الاختبار في ممارسة ثورة البلاشفة في روسيا القيصرية .
لينين إنسان . والبلاشفة حزب من الاقلية ، وروسيا القيصرية مجتمع متخلف لم تتطور فيه ادوات الانتاج الى الدرجة التي يتطلبها المنهج المادي لقيام الثورة الاشتراكية . ومع هذا فإن البلاشفة ، بقيادة لينين ، طوروا ـ بالثورة ـ المجتمع السوفيتي وحققوا الاشتراكية . واليوم أصبح مسلماً بان الاشتراكيين يستطيعون ان يطوروا مجتمعاتهم ، لاقبل أن يستنفذ النظام الرأسمالي غاية تطوره فحسب ، بل عن غير الطريق الرأسمالي أصلاً . وتشيد الكتابات الماركسية بمقدرة الانسان ، وتعول في انجازاتها على “الوعي ” الطبقي وعلى صلابة الحزب . ومنذ ماركس وحتى الآن واغلب القادة الاشتراكيين من غير الطبقة العاملة . إنهم برجوازيون صغار لو اخذنا المادية الجدلية مقياساً لانتماءهم الطبقي . وفي الصين أنجز الفلاحون الثورة الاشتراكية قبل أن تتطور أدوات الانتاج . وقاد ماو تسي تونغ المثقف الصيني الثورة بنجاح فائق . ثم جاء التقاء الماركسيين بالقومية . وادين تروتسكي عندما تمسك بحرفية النظرية وأراد ان تستمر الثورة لتحتفظ بإطارها الأممي . واليوم تتعدد النماذج الاشتراكية تبعاً لتعدد الأمم . ويواجه الماركسيون بعضهم بعضاً من مواقع قومية وإن أخفوها دفاعاً عن مصالح قومية وان انكروها . والأمر اكثر وضوحاً في الوطن العربي . ففي الوطن العربي وحده ـ على ما نعرف ـ توجد تلك المحاولات الفكرية الطموحة لتنظير القومية ماركسياً أو لتعريب الماركسية . وبعض الماركسيين في الوطن العربي يخالفون قطاعات كبيرة من الماركسيين في العالم حول ” الوجود الاسرائيلي ” ويحتجون بأنها أرض عربية ، ويستفيدون من الفشل في الممارسة السابقة فيرفعون شعار الوحدة العربية . وهكذا تثبت الممارسة في العالم كله ، وفي العالم الثالث بوجه خاص ، أن التطور تم ، ويتم ، بنجاح ، على غير ما يقتضيه ذلك القانون الجزئي من منهج المادية الجدلية : ” إن المادة هي المحرك الأول ” ..
تلك هي الممارسة ، ممارسة الماركسيين أنفسهم ، ابتداء من لينين حتى اليوم . وفيها حقق الماركسيون كل الانجازات التقدمية التي حققوها . وهي انجازات لا يمكن التفريط فيها . ومن التفريط ألا نتعلم منها ما تدل عليه دلالة واضحة . دلالتها الأولى هي : مقدرة الانسان على التصدي للواقع الاجتماعي ، أياً كانت درجة تطور أدوات الانتاج فيه وتحقيق الاشتراكية . ودلالته الثانية : أن القومية تفرض ذاتها على الممارسة كإطار ووعاء للتقدم الاشتراكي . ودلالتها الثالثة ـ المكملة ـ هي ان ” المادية الجدلية ” كمنهج لا تفسر ولا تبرر ” كل ” ما انجزه الماركسيون في الواقع .
لماذا نقول ” كل ” ما أنجزه الماركسيون في الواقع ؟ لأن المادية الجدلية كمنهج مجموعة من القوانين التي تضبط حركة الاشياء  والظواهر والمجتمعات . وقد تعلم منها الماركسيون الحتمية والحركة والتغير والتاثير المتبادل واستفادوا منها فائدة قصوى في تطوير الواقع . وهم في هذا يتفوقون على كثير غيرهم من الحركات غير العلمية . ولكن قيامهم ـ هم ـ بتسخير تلك القوانين لتحقيق ما يريدون هو تكذيب واقعي من جانبهم لجبرية المادية الجدلية . تكذيب للجزئية التي تقول : إن المادة هي المحرك الأول .
إن الرد على هذا نعرفه : يقال أحياناً إنما الظروف قد تغيرت من عهد ماركس إلى عهد لينين وهي متغيرة أبداً . هي كذلك لا نختلف . على ألا نختلف على أن اختلاف الظروف يؤثر في النظرية ( منطلق التغيير وغايته وأسلوبه ) ولكن المفروض ألا يؤثر في المنهج ( القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ) لو كان المنهج صحيحاً . وغايةالمنهج أن يسلحنا بالمقدرة على مواجهة الظروف المتغيرة ، لأنه هو هو قانون تغير الظروف الذي يضبط حركتها في كل حالاتها . فإن تغيرت الظروف على وجه لم يعد المنهج قادراً على تفسيره كان ذلك دليلاً حاسماً على عدم صحة المنهج . ويقال دائماً أن الماركسية حية متطورة . هي كذلك لانختلف . على ألا نختلف على أنها كسبت نلك الحيوية والمقدرة على التطور من خلال الممارسة وعلى غير ما تقتضيه أو تتوقعه ” المادية الجدلية ” . وإذا كانت المقدرة الحية على التطور أمراً عزيزاً ، وهو عزيز ، فلا بد من تصحيح المنهج الذي تجاوزه التطور الحي ، فيما تجاوزه ، حتى لايبقى التطور منوطاً ” بالتجربة  .
ولقد فتح لينين باب الاجتهاد في الماركسية عندما قال : ” اننا لا نعتبر النظرية الماركسية شيئاً كاملاً لا يمكن المساس به . إننا مقتنعون بأنها ارست حجر الزاوية للعلم فقط وانه يجب على الاشتراكيين ان يتقدموا في كل الاتجاهات إذا أرادوا أن يحفظوا للحياة تقدمها ” . وقد حفظ كثير من الماركسيين هذه الوصية فتقدموا فعلاً في كل الاتجاهات ، ومن بينها الاتجاهات الفكرية . وكسبت الماركسية من الممارسة ذلك الثراء والتعدد في الأفكار والنظريات الذي أشرنا إليه في مطلع هذا الحديث .
فإلى أين وصل الاجتهاد الفكري لتصحيح المادية الجدلية حتى تلائم الممارسة ؟
لقد فصلت الميتافيزيقا عن المنهج ، وفي كتاب ” اسس الماركسية اللينينية ” ( 1962 ) تأكيد على ان مفهوم الميتافيزيقا كما هو مستعمل في الفكر الماركسي لا يعني ما وراء الطبيعة وما هو الموجود الأول وكيف وجد … الخ ،  وإنما يعني نظرة الى حركة التطور وقوانينه ، والميتافيزيقا بهذا المعنى المقصود في الكتابات الماركسيةالآن ” هي الفهم غير الجدلي لحركة التطور الاجتماعي ( صفحة 60 ) . ومع هذا فقد عرفنا من قبل أن ” افتراض ” أولوية وجود المادة هو الذي أدى إلى فرض أنها المحرك الأول . فكيف يبقى هذا الفرض الأخير بعد التخلي عن الافتراض الذي قام عليه .
لم يبق . بل تغير قليلاً فأصبح :
 المادة ليست هي المحرك الأول بل هي المحرك ” الأساسي ” للتطور الاجتماعي  .
هذا التطور في المنهج بالغ الأثر في فهم تطور الماركسية على المستوى الفكري وعلى مستوى الممارسة أيضاً . وهو تطور لا مبرر لإنكاره . فعندما يقول لنا بعض الماركسيين أن دليلنا ومنهجنا قائم على أن تطور أدوات الانتاج هو العامل ” الأساسي ” في التطور الاجتماعي ، وعندما يقولون لنا أنه مع التسليم بفعالية العلاقة القومية إلا أن العلاقة الطبقية هي العامل ” الاساسي ” في الصراع وان وعي الانسان مؤثر فعال في التطور إلا أن موقعه من علاقات الانتاج هو العامل ” الاساسي ” في تحديد موقفه … الخ ، عندما يقولون لنا هذا فلا ينبغي أن نظل مصرين على ما جاء ويجيء في بعض الكتابات الماركسية التقليدية او التي تنقل عنها . أي لا ينبغي لنا أن نحتج على الماركسية المتطورة بالماركسية المتجمدة حتى لانسهم من جانبنا في تعويق حركة التطور في الفكر الماركسي . والتزاماً بهذا الموقف يجب ان نعفي الماركسية من تهمة السلبية بالنسبة الى فعالية إرادة الانسان في التطور الاجتماعي . وان نقبل انها ـ بهذه الصيغة ـ لا تنكر تلك الفعالية . كل مافي الأمر انها تعلمنا أن العامل ” الاساسي ” في تحديد مضمون إرادة الانسان ، وبالتالي موقفه من التطور الاجتماعي ، هو موقعه من علاقات الانتاج كما يحددها تطور أدوات الانتاج . فها هنا الانسان يصنع تاريخه ولا يكتفي بان يأخذ موقعه في حركة تاريخية تجري تحت انفه ـ كما قال البيان الشيوعي من قبل ـ وإن كان يصنعه على الوجه الذي يحدده تطور أدوات الانتاج .
غير أن مشكلة المنهج لم تحل بعد وإن كانت قد اقتربت من حلها الصحيح .
ذلك لأنه عندما يكون تطور أدوات الانتاج هو ” العامل الأساسي ” في حركة التطور الاجتماعي ” دائماً، ويكون الموقع من علاقات الانتاج هو الذي يحدد مضمون الارادة الانسانية ” في كل الظروف ” ، فنحن ـ من ناحية ـ ما نزال في إطار قوانين التطور وحتميتها التي لا تتغير في الزمان أو المكان . ونعرف أننا في كل زمان ومكان تكون خطوتنا التالية تطوير أدوات الانتاج ، والتي بعدها مزيد من تطوير أدوات الانتاج ، إتكالاً على يقين المعرفة العلمية بأنه ” إذاتطورت أدوات الانتاج فكل شيء سيتطور إلى ما نريد حتماً ، واننا نفشل حتماً إذا اردنا ان نتقدم إلى ما يسبق تطور أدوات الانتاج . ولكننا لو أخذنا تعبير ” الاساسي ” بهذا المفهوم المطلق لأهدرنا ـ من ناحية ثانية ـ كل ما تعلمه الماركسيون من الممارسة ، وكأن كلمة ” الأساسي ” هي كلمة ” الأول ” ، ولعدنا الى ” الجبرية ” مرة أخرى ، ولاصطدمنا بما اثبتته الممارسة من ان تطور أدوات الانتاج في الاتحاد السوفييتي ، وفي الدول النامية ، لم يتم إلا بعد تغيير علاقات الانتاج ، وإن تطور أدوات الانتاج في الولايات المتحدة الأمريكية لم يغيّر واقعها الرأسمالي بل جعله أكثر ضراوة ، وإن عدم تطور أدوات الانتاج في العالم الثالث لم يحل دون مقدرة بعض الدول المتحررة وبين التحول الاشتراكي عن غير الطريق الرأسمالي ، وان تطور ادوات الانتاج في اسرائيل لم يغير طبيعتها كاستعمار استيطاني ، وان التحرر قد يقتضي تدمير أدوات الانتاج كما فعل العبيد في عهد العبودية وكما ينبغي ان نفعل بالمؤسسات الاستعمارية في الوطن العربي … الخ ، ثم لا نفهم كيف تبقى المجتمعات في العالم الثالث متخلفة وتتفاوت فيما بينها نظماً وفي درجات التخلف مع أنها تستعمل أدوات الانتاج موحدة الطراز المستوردة من البلاد المتقدمة .
فلنقل اذن ، وهذي خطوة ثانية في تصحيح المنهج الجدلي ، إن تطور أدوات الانتاج عامل مؤثر دائماً في حركة التطورالاجتماعي بحكم حاجة الانسان الدائمة للانتاج لكي يعيش وشبع حاجاته المادية المتزايدة ، وانه في ميدان التطور الاقتصادي ( التنمية ) يصبح هوالعامل الأساسي ” من بين قوى الانتاج الذي يجب أن نطوره لننجح في التطور الاجتماعي . وهذا غير منكور . ونتعلم منه أنه لايجوز لنا أن نغفل في أي وقت عن أسلوب الانتاج وأدواته وعلاقاته . وإننا عندما نتصدى لتغيير واقعنا الاقتصادي يجب أن نتعرف على اسلوب الانتاج فيه ومدى تطور ادوات الانتاج ، والعلاقات التي تجسده والصراع الذي تثيره تلك العلاقات … وانه في كثير من الظروف التاريخية التي يمر بها مجتمعنا يصبح نضالنا من أجل تطوير اسلوب الانتاج وأدواته وعلاقاته هو المهمة الأساسية التي نغيّر بها واقعنا الاجتماعي
لاخلاف على هذا أبداً .
ولكن هذا لا يعني أن تطور أدوات الانتاج هو ” العامل الأساسي ” في حركة التطوير الاجتماعي دائماً وإن موقع كل منا من علاقات الانتاج هو الذي يحدد موقفه من التطور في كل الظروف . فيبقى أن نعرف مى يكون تطوير أدوات انتاج الحياة المادية هو العامل الأساسي لنجاحنا في التطوير الاجتماعي ومتى لايكون ؟ .. وعندما لايكون هو العامل الاساسي ماذا يكون ـ إذن ـ العامل الأساسي ؟ .. وكيف نعرف كل هذا معرفة علمية فلا نختلف ؟ ..
لعلنا أن نكون قد أدركنا الآن كم هي خطيرة مشكلة المنهج ، إن معرفة ماهو ” الأساسي ” هنا هو تحديد أولوية المشكلات التي يطرحها الواقع ، وتحديد لبداية نضالنا في سبيل حلها ، وتحديد لأفضلية الأساليب التي يمكن أن تتبع ، واختيار لأكثر الوسائل فعالية . وتلك هي الأسئلة التي يختلف عليها الناس ويتمزقون بالرغم من اتفاقهم على الغاية النهائية للتطور الاجتماعي . وتلك هي الاسئلة التي يتوقف النجاح والفشل على صحة الاجابة عنها بالرغم من كل النوايا الصادقة والجهود التي تبذل ثم تفشل .
وهي اسئلة تضعنا مرة أخرى أمام مشكلة المنهج .
ذلك لأننا لا يمكن أن نغفل عن أن طرحها يعني اننا نفتقد ” حتمية ” القوانين التي تضبط حركة التطور الاجتماعي وإننا ، ونحن نبحث عما هو ” العامل الأساسي ” ، قد أصبحنا في ساحة التجريبية من جديد .
لقد تعلمنا حتى الآن أن الوجود كما هو منضبط في حركته من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية . عرفنا منها أن كل شيء في الوجود في حركة مستمرة وتغير لايتوقف وانه خلال حركته مؤثر في غيره متأثر به . وعرفنا أنه في نطاق هذا التأثير المتبادل تتم حركة التطور الاجتماعي طبقاً لقانون الجدل . وكان هيجل قد علمنا أن قانون الجدل هو ضابط حركة الفكر الذي يقود حركة التطور . فعلمنا ماركس أن هيجل قد أخطأ وأن قانون الجدل هو ضابط حركة المادة التي تقود حركة التطور ، وعرفنا منه أن المادة ، على هذا ، هي المحرك الأول . ثم عرفنا من الماركسيين أنها العامل الأساسي . ثم عرفنا من الممارسة أنها ليست العامل الأساسي في كل الظروف . فبقي علينا ـ حتى نستطيع أن نجيب إجابة موحدة على الأسئلة التي طرحناها ـ أن نعرف ما هو العامل الأساسي في حركة التطور الاجتماعي في كل الظروف . وعندما نعرفه يبقى علينا أن نعرف ما هو القانون الذي يضبط حركته . وحينئذ فقط نكون قد حللنا مشكلة المنهج .
باختصار ، عندما يقال لنا أن الماركسية ليست نظرية جامدة بل هي مجرد دليل عمل نصبح في حاجة ملحة الى معرفة القوانين التي تضبط حركة ” الانسان ” الذي يتخذها دليلاً لعمله ، إن ما يهمنا ، وما نبحث عنه ، ليس هو ” الاعجاب ” بمدى المرونة التي تسمح لنا بها النظرية لنخفي مواقفنا الليبرالية . ولكن ما يهمنا ، وما نبحث عنه ، هو معرفة القوانين التي تضبط حركة المجتمعات من الماضي الى المستقبل ، حتماً ، لنستطيع ان نستفيد من حتميتها في تطوير مجتمعنا إلى ما نريد ، وفي هذا نحن ي حاجة إلى أكبر قدر من اليقين العقائدي ولسنا في حاجة الى المرونة الفكرية .. في حاجة الى معرفة محددة نحتكم اليها فلا نختلف ولسنا في حاجة الى نظرية فضفافة نأخذها ستاراً لعودتنا الى منهج التجربة والخطأ ، وننسب اليها أفكارنا الخاصة . ولننظر في الوطن العربي كم من الناس يخفون مواقفهم وأفكارهم في خباء الماركسية الفضفاض .
لنضرب مثلاً محدداً .
عندما نكون في ساحة النضال من أجل الاشتراكية ، حيث يكون اسلوب الانتاج وأدواته وعلاقاته عوامل أساسية لابد من تطويرها حتى تتحقق الاشتراكية ، تبدو ” المادية الجدلية ” دليل عمل صالح لاستقامة نضالنا على قاعدة عقائدية صلبة في معركتنا ضد الرأسمالية والامبريالية . ولكن عندما يطرح علينا الواقع الاجتماعي مشكلات أخرى غير مشكلات الانتاج واسلوبه وأدواته وعلاقاته نفتقد مباشرة تلك القاعدة وندخل في متاهات التجربة والخطأ . وذلك ما يوحد الماركسيين جميعاً في مواقعهم ضد الرأسمالية ويجعل منهم جميعاً اشتراكيين واضحي الرؤية في قضايا التحول الاشتراكي .. ثم يفرق بينهم افراداً وجماعات وأحزاباً ودولاً في مواقفهم من قضايا أخرى أهمها ما يسمونه ” المسألة القومية  .”
ولنبدأ اولاً بان ننفي عن الماركسيين تهمة ” العدمية القومية ” . إنهم يعترفون بوجود الأمم ، ويعرفون الرابطة القومية ، ويعلمون تاريخ الحركات القومية في أوروبا ، ولا يجهلون الوجود القومي والقومية والحركات القومية المعاصرة . ولكنهم يختلفون في مواقفهم من هذا الواقع الذي يعرفونه ولا ينكرونه . ولقد كانت ” المسألة القومية ” بالذات وراء أغلب الانشقاقات التي حدثت في صفوف الماركسيين ، الموقف من القومية كان سبباً للخلاف بين الماركسيين الروس والماركسيين في النمسا ، وبينهم وبين الماركسيين في ألمانيا وفي بولندا . وهو الذي أدى إلى انشقاق البوند ( الماركسيون الصهاينة ) فانشق الحزب الى بلاشفة ومناشفة ، وهو الذي أثار الخلاف بين لينين وبين ” استاذه وقدوته ” المرتد كاوتسكي . وهو الذي أدى إلى انهيار الدولية الثانية وفي آخر لحظات لينين كاد الانشقاق أن يحدث بينه وبين ستالين حول الموقف من القوميات ، ولم يحل دون ذلك إلا وفاة لينين وهو يكتب آخر ما كتبه وكان عن المسألة القومية . ثم كان الموقف من القومية وراء الانشقاق بين الحزب الشيوعي السوفييتي وعصبة الشيوعيين اليوغسلاف . وهو الآن وراء الانشقاق بين الماركسيين السوفييت والماركسيين الصينيين . أما في الوطن العربي ، حيث المسألة القومية حاضرة دائماً وملتهبة من حين الى حين ، فقد اختلف موقف الماركسيين من القضية القومية عدة مرات ، وكان سبباً لانشقاق الماركسيين ، وللانشقاق عن الماركسيين خاصة منذ سنة 1947 عندما صدر قرار تقسيم فلسطين ، ثم في سنة 1958 عندما قامت الوحدة بين مصر وسورية ، ثم في سنة 1959 عندما تحرر العراق وطرحت قضية الوحدة الثلاثية ثم في سنة 1961 عندما وقع الانفصال ، ثم الآن 1970 والمعركة محتدمة بين العرب والصهاينة على الأرض المحتلة يقف الماركسيون جميعاً ضد الغزو الامبريالي وأداته اسرائيل ، ولكنهم يتوزعون آراءً ، وفرقاً ، وأحزاباً ، ومنظمات ، كلها ماركسية ، ولكنها مختلفة على الموقف من طبيعة المعركة أو قواها أو مداها ، لأن الموقف من كل هذا لابد له من أن يتضمن موقفاً من ” القومية ” . وهم لا يتفقون في مواقفهم من القومية كما لم يتفقوا قط .
إن هذه الظاهرة لايمكن تفسيرها بمجرد اتهام الماركسيين بأنهم غير قوميين ، أو بمجرد اتهام هذا الجانب ، أو الجانب الآخر ، أو الآخرين ، بأنهم ” منحرفون ” كما يقول الماركسيون بعضهم عن بعض . وليس من المقبول ان يكون تغيير لينين نفسه لموقفه من القومية عدة مرات خلال حياته راجعاً إلى عدم معرفته الماركسية كما لا يكفي لتفسيرها التفتيش في التراث الماركسي ، بالغ الخصوبة ، عن أقوال لماركس أو أنجلز أو لينين أو غيرهم لتبرير هذا الموقف أو ذاك من القومية . ذلك الجهد الكبير الذي يبذله بعض الكتاب في الوطن العربي لمحاولة تجميع نصوص من التراث الماركسي تؤيد ” ما يريدون هم ” أن يكون الموقف من القومية . البحث في النصوص ، وكشف الغطاء عن خطابات متبادلة بين فلان الماركسي وعلان لايؤدي إلى شيء مفيد غير تجميع النصوص وهو عمل مفيد . لأننا إذا كنا غير مهتمين ابتداء بالدفاع عن الماركسية أو بالهجوم عليها ، أي إذا كنا نحاول أن نعرف الحقيقة بدون تعصب مع الماركسية أو ضدها فإن السؤال الذي يهمنا أن نعرف الاجابة عليه هو : لماذا لا يتفق الماركسيون على موقف موحد من القومية كما هم متفقون على الاشتراكية. ولماذا لم يكونوا دائماً واضحي الرؤية بالنسبة الى النضال القومي كما كان شأنهم بالنسبة الى النضال الاشتراكي؟
نحن نقول : لأنهم بينما يعترفون بالوجود القومي لا تعلمهم ” المادية الجدلية ” كيف يتعاملون معه . فلم يستطع الماركسيون أن يلتقوا على نظرية واحدة في القومية . فكانت مواقفهم من القومية والحركات القومية وليدة ” التجربة والخطأ ” خلال الممارسة ، آناً تصيب وآناً تخيب وتختلف من مكان الى مكان .
آية هذا أن الفكر الماركسي يطرحالمسألة القومية ” كما طرحها الليبراليون ، ثم ينتقدها بعد ذلك . ومع أنهم يعرفون أن الفهم الليبرالي للظواهر والأشياء والمجتمعات فهم خاطىء ، وقد قدموا بدلاً منه فهماً جديداً للواقع وضوابط حركته ، إلا انهم في شأن القومية بالذات لم يقدموا هذا البديل . وجاءت الماركسية خالية من ” نظرية ماركسية ” في القومية . وكل ما قاله ستالين وغير ستالين عن القومية والحركات القومية كان تأصيلاً ، وتحليلاً ، وتفسيراً ، للنظرية الليبرالية في القومية . الاضافة الوحيدة التي قدمها الفكر الماركسي هي التفرقة بين الأمم المسيطرة التي تستغل الشعوب وبين الأمم المقهورة التي تكافح من أجل التحرر . إدانة الأولى وتاييد الثانية . وهي إضافة ذات أثر كبير في تحديد الموقف الماركسي من حركات التحرر القومي . ولكن هذه الاضافة لم تكن وليدة فهم جديد للأمة وللقومية بل كانت تطبيقاً للموقف الماركسي من الحركات البرجوازية . أو من البرجوازية الوطنية ودورها الايجابي في معارك التحرر الوطني كما تعلم الماركسيون من الممارسة . من هنا يمتد تأييد الماركسيين إلى كافة حركات التحرر من الاستعمار الرأسمالي سواء كانت قومية ، ام شعوبية ، ام اقليمية ، أم قبلية ، ويسمونها جميعاً حركات تحرر ” وطني  . وليس هذا الموقف في حاجة الى نظرية في القومية لتبريره بل هو مبرر من منطلق اشتراكي معاد للامبريالية معروف ويلتقون فيه بكافة القوى المناضلة من أجل التحرر . ولكنه لا يتضمن تعديلاً لموقف الماركسيين الفكري من القومية والحركات القومية . فستبقى الحركات القومية ، في الفكر الماركسي ، حركات برجوازية ولو كانت تحررية ، ينبغي التحالف معها في معركتها من أجل التحرر الوطني لا أكثر .
هل ثمة أكثر من هذا ؟
في الوطن العربي أمثلة كثيرة منه . أولها الموقف من الوحدة العربية . إنها مقبولة إذا ، وعندما ، وبالقدر ، الذي يحتاجه البناء الاشتراكي ومتطلبات التحول اليه في ” الدولة الاقليميةالتي ينتمي اليها كل ماركسي على حدة . فالوحدة العربية ينظر اليها ماركسياً من زاوية اقليمية جزئية ومرحلية . ولما كانت الدول العربية متفاوتة في طور التقدم الاقتصادي فإن موقف الماركسيين في الدول العربية من الوحدة يتفاوت تبعاً للدول التي ينتمون اليها سياسياً . يقبلها بعضهم ويرفضها بعضهم تبعاُ لما يقدر من فائدة تحققها ” للطبقة العاملة ” فيبلده ” وبقدر ما تحقق بدون اعتداد بوحدة الطبقة العاملة في الأمة العربية أو شعور بالمسؤولية قبلها . والذين يقبلونها لا يطلبون لها الصيغة الدستورية التي تجسد وحدة الأمة بل يقبلونها بالصيغة التي تجمع ” قوى الشعوب العربية ” ” جبهة ” واحدة في معارك التحرر ضد الامبريالية . ثانيها تحرير فلسطين إنها معركة ضد الامبريالية والصهيونية المتحالفة معها أو العميلة لها . وفيها يقف الماركسيون موقفاً متسق الصلابة مع تطورات الصراع العالمي ضد الامبريالية . اما الاستيطان البشري ، أما وجود دولة اسرائيل ، أما مصير الأرض المتحررة ، أما علاقتها بالوحدة العربية ، فتلك قضايا يقف منها الماركسيون في كل دولة عربية على حدة الموقف الذي يثبتالواقع الملموس ” واقعهم الجزئي المحدود ، إنه الموقف الصحيح . ولما كان الواقع الملموس يتغير كل يوم فإن مواقفهم من تلك القضايا تختلف من يوم الى يوم تبعاً لحصيلة ” التجربة والخطأ ” خلال الممارسة ، وفيه يختلفون .
أكثر من هذا دلالة على سلبية الفهم الماركسي للقومية هو ما تنطوي عليه التفرقة بين ” الحركات القومية ” التي تسيطر على الشعوب وتستغلها و ” الحركات القومية ” التي تكافح من أجل التحرر الوطني . إذ عندما يفهم الماركسيون أن ” القومية ” يمكن ان تكون عدوانية كما يمكن ان تكون تحررية يجردونها هي من اية فعالية خاصة بها . أي لا يفهمون لها اثراً خاصاً في صنع المستقبل وتبقى الأمة مجرد وجود يعرف ويوصف بأنه ” جماعة من الناس تكونت تاريخياً … الخ ” ، بدون ان يعرف أثره في حياة الناس ، وتبقى القومية ” انتماء ” سلبياً لا يتضمن أي التزام . وهي ذات النظرية الليبرالية في القومية(فقرة6) .
يفتقد الفكر الماركسي إذن نظرية ماركسية في القومية . ويأخذ الماركسيون مواقفهم من الحركات القومية طبقاً لما تمليه ضرورات الممارسة وتطورات المعارك ضد الرأسمالية . ولما كانت أغلب الحركات القومية في العالم الثالث تناضل فعلاً في معارك التحرر ضد الاستعمار الامبريالي فإن الماركسيين حلفاء موثوقون للقوى القومية في معارك التحرر . ولكن مواقفهم ستظل سلبية دائماً بالنسبة الى القومية على المستوى العقائدي . سلبية الى حد الادانة . أو سلبية الى حد التجاهل . أو سلبية بمعنى التحالف مع الحركات القومية مرحلياً ومؤقتاً . أو سلبية بمعنى انها ” ضرورة واقعية ” لابد من الافلات منها في اقصر وقت ممكن . والماركسيون لا يستطيعون غير هذا الموقف التجريبي من القومية . لأنالمادية الجدلية ” قاصرة عن ان تعلم الماركسيين حقيقة القومية وعلاقتها بالتطور الاشتراكي .
وما يزال هذا القصور الفكري يحد من انطلاق كثير من الماركسيين الى الالتقاء الكامل في إطار القومية وغعطاء اممهم ، والأمة العربية المجزاة خاصة كل ماهم قادرون عليه من طاقات نضالية . بل ما يزال يغذي جذور الريبة في مواقفهم من القضايا القومية ويعوق قبولهم فصيلة مناضلة من فصائل القوى القومية التقدمية في الوطن العربي . ذلك لأن الالتقاء في ساحة الممارسة المرحلية ، أو الجزئية ، ضد عدو مشترك قد يكفي للتحالف في جبهة متعددة القوى ولكنه لا يكفي لوحدة القوى الثورية ولا تقوم الوحدة الثورية إلا على وحدة عقائدية . فمثلاً نرى ان التقاء الماركسيين ، ايجابياً ، بالقوى العربية التقدمية ما تم ، ولا يتم ، إلا في ساحة معارك التحرر حيث يواجه القوميون الاشتراكيون مع الماركسيين عدواً مشتركاً هو الامبريالية وحلفائها . ولكن ما إن تنتهي معركة ـ ولو بهزيمة كما حدث من قبل ـ حتى ينحاز الماركسيون الى القوى الاقليمية المعادية للحركة القومية . ويقدمون لها الفكر الماركسي ذاته غطاء لاستغلالها الاقليمي . ويلتحقون بأجهزتها ليخدموا مخططاتها . ويبررون لها مواقفها الانفصالية باسم الاشتراكية … إلى أن تلتهب معركة ” عربية ” أخرى ضد الامبريالية أو حليفتها الصهيونية فيعودون جميعاً الى الالتقاء في رحاب القومية ويتذكرون فجأة أننا امة عربية واحدة ذات مصير واحد .
أليس غريباً ، في أمة مجزأة ، أن يخلو الفكر الماركسي كله من دراسة واحدة في ” الاقليمية ” ، وان تخلو قواميس الماركسيين ، وافرة المفردات ، من تعريف لمفهوم الاقليمية ، والا يحاول أي ماركسي أن يفهم ، أو يشرح ، ظاهرة الاقليمية التي تلعب أكثر الأدوار تخريباً في المسيرة نحو الاشتراكية ، ولا نقول نحو الوحدة ؟ .. أليس غريباً ألا يفطن الماركسيون في الوطن العربي إلى أن الاقليمية التي تعني ، فيما تعني ، استئثار جزء من الشعب العربي بجزء من مصادر وأدوات الانتاج في الوطن العربي ، دون بقية الشعب العربي ، هي شكل من اشكال الاستغلال لا يجهله الذين يحاربون الاستغلال في كل أشكاله ولا يحصرون أنفسهم في الأشكال التي عرفوها من أوروبا الغربية فقط . أليس من الغريب أن تعيش الاقليمية تحت سمع وبصر الماركسيين بدون تقييم ؟… لا . ليس غريباً . لأن المادية الجدلية ، منهج الماركسيين ، الذي لم يعلمهم ما هي القومية لا يمكن ان يعلمهم ما هي الاقليمية كقوة هدم رجعي إلا إذا عرفنا القومية كقوة بناء اشتراكي .
إن هذا ” الفراغ ” الفكري الذي يعانيه الماركسيون في الوطن العربي خسارة كبيرة . خسارة قومية . يحس بها القوميون الذين يعتبرون الماركسيين أبناء لهذه الأمة ، ويرونهم – من المنطلق القومي – رفاق مصير واحد ، سواء عرف الماركسيون هذا أم لم يعرفوه ، اعترفوا به أم أنكروه . ونحن نعرف أن تحالف القوى في معارك التحرر من الاستعمار والصهيونية كسب كبير يجب دعمه مهما يكن موقف بعض المتحالفين فيه من القومية . ولكن هذا لايعني أن نتجاهل أن انحياز كثير من الماركسيين إلى جانب الاقليمية في الوطن العربي كانت له آثار معوقة لم يستفد منها أحد سوى أعداء حرية الانسان العربي . وكما عوّق الوحدة العربية عوّق بذات القدر ، وأكثر ، النضال من اجل الاشتراكية .
ولا يمكن تلافي هذا ، وتحرر الماركسيين من عزلتهم الجماهيرية التي طالت في الوطن العربي بالرغم من تضحياتهم الكثيرة ، إلا إذا التقى الماركسيون بالقومية العربية التقاء عقائدياً وليس التقاء مرحلياً وتكتيكياً . ولا طريق الى هذا ـ فيما نرى ـ إلا بأن يراجعوا منهجهم الخاطىء ( المادية الجدلية ) الذي لا يعلمهم كيف يقفون موقفاً ايجابياً واحداً وعقائدياً من الحركة القومية . أي لاطريق اليه إلا بحل مشكلة المنهج قبل أن نحاكم الممارسة .
من أجل هذا نتحدث عنه في هذا الموضوع من الحديث .
إن هذه ” ثورة ثقافية ” سبق أن خاضها القوميون مع أنفسهم يوم ان التقوا بالاشتراكية فأصبحوا بها ” عرباً اشتراكيين ” وحرقوا فيها المفهوم الليبرالي للقومية كما كانوا قد تعلموه سنين طويلة من اساتذة الفكر القومي الأوائل . فإذا كانت مثل هذه الثورة ستؤدي بالماركسيين إلى أن يصبحوا ” اشتراكيين عرباً ” ويحرقوا فيها المفهوم المادي للاشتراكية كما تعلموه سنين طويلة من اساتذة الماركسية الأوائل ، فإن عليهم أن يقبلوا هذا التطور الثوري . والتطور الجدلي قانون لايمكن أن يفلت منه الماركسيون وأفكارهم . فلا بد من الاعتراف بأن الماركسية قابلة للتجاوز حتى لو اختلفنا على ما إذا كان قد تم تجاوزها أم لا . ونحن نرى أن تطوير الماركسية لم يعد يحتمل أن تضاف إليه كل يوم افكار جديدة مناقضة لمنهجها ثم يقال إنها أفكار ماركسية لمجرد الفرحة بالانتماء إلى تراث فكري غني . ونضيف إن من الماركسيين أنفسهم من تجاوز في الممارسة النظرية الماركسية . وليس في هذا ما يعيب الماركسيين إلا ” تهيبهم ” التطوير الثوري للنظرية ، أي تجاوزها نوعياً إلى ما هو أكثر منها صحة وتقدماً ، حتى تظل الممارسة دائماً مستندة إلى نظرية ، وحتى يتحرروا من مخاطر التجربة والخطأ .
وتجاوز الماركسية لا يعني على أي وجه الاستغناء عن التراث الماركسي حتى لمن يريد أن يطورها ثورة إلى ما يتجاوزها . بل إن المصدر الأساسي للخطأ وهو ” المادية الجدلية ” ليست خطأ كلها . فهي صحيحة من حيث هي جدلية ولكنها ليست صحيحة من حيث هي مادية . دون أن يعني هذا انها لابد أن تكون مثالية لتكون صحيحة . ذلك لأن الحل الجدلي الصحيح للتناقض بين المادة والفكر هو الانسان . حيث يكون ” الانسان ” ، ذلك الكائن المنفرد بأنه ” وحدة نوعية من الذكاء والمادة ” ، هو العامل الأساسي في التطور . والواقع من الأمر أن كثيراً من الماركسيين ، منذ لينين ، يمارسون نضالهم على اساس من التسليم للانسان بهذا الدور القائد لحركة التطور الاجتماعي . فلا يبقى إلا تصحيح المنهج ليصدق مع الممارسة ، وذلك بأن نعرف القانون الذي يضبط حركة الانسان نفسه ، وحتماً .
وهو أمر سنعرفه بعد قليل .
وقبل ان نعرفه لابد لنا من ان نواجه سؤالاً انتظر أكثر مما يستحق .  

- 4 -
المنهج الاسلامي .
 
12 ـ مقدمة عن التراث : 

عندما نتحدث عن المناهج والنظريات ونطرح ما نعرفه عن الحتمية ، والليبرالية ، والجدلية ، والمثالية ، والمادية … الخ في محاولة لمعرفة كيف تطوّر واقعنا الاجتماعي ، يترّحم بعض الناس على الذين فقدوا جذورهم وتجاهلوا تراثهم فذهبوا يلتمسون المعرفة عند مفكري الغرب ، ويستوردون منهم أفكارهم ، وينسون أن الأوروبيين هم الذين استعمروا بلادهم واذلوا أمتهم وحطموا حضارتهم عامدين . وان مفكري الغرب قد أضلوهم أولاً ، ويضللونهم اليوم ، ولن يكفوا عن تضليلهم إلى يوم يبعثون . لأنهم بهذا التضليل سادوا ، وبهذا التضليل يحافظون على سيادتهم أو يحاولون استردادها ، وان السادة لايصدقون مع العبيد أبداً .  ونواجه بدعوة عاطفة حيناً ، عاصفة حيناً آخر ، غاضبة في كل حين : أن عودوا إلى تراثكم تعرفوا كل شيء فقد سبق أسلافكم الغرب إلى معرفة ما تحاولون معرفته لو كنتم تعقلون .
تلك دعوة لها في الأمة العربية أنصار كثيرون فلا يتجاهلها إلا الذين يخادعون أنفسهم وكأنهم يخاطبون بما يقولون مجتمعاً غير هذه الأمة . ونحن لا ينبغي لنا أن نخادع أو نخدع أو ان نستعلي على الناس في أمتنا فنتجاهل دعوة لها بين الناس أنصار كثيرون . بل ننتبه فنجتهد فنجيب
ولنتفق ، أولاً ، على اننا راغبون في أن نعود إلى تراثنا ، لا لنعرفه فقط بل لننميه . وهل يستطيع أحد حتى لو رغب أن يجتث جذوره وينسلخ عن تراثه ؟ .. قد يغالط نفسه ولكن تراثه يبقى فيه. ولنتفق ، ثانياً ، على أن الأوروبيين المستعمرين الذين الذين قضوا قروناً طويلة في ” عزّ ” السيادة على العالم سيحتاجون الى وقت طويل ، وغلى دروس صارمة ، ليتعلموا المساواة بين البشر . وأن مرض ” تفوق الرجل الأبيضما يزال في دمائهم ، وهم يتلقون الآن الدروس الصارمة في معارك التحرر التي تخوضها الشعوب في بقاع كثيرة من الأرض وفي قلب المجتمعات الأوروبية نفسها . ولنتفق ، أخيراً، على أن بعض القضايا الفكرية التي تحدثنا عنها قد طرحها وناقشها أسلافنا من العلماء والمتكلمين على أوسع نطاق قبل بداية الألف الميلادية الثانية ، وكانت لهم فيها مذاهب ومدارس وصراعات وصلت إلى حد القتل والقتال انتصاراً للفكرة . ونعرف أن كثيراً من اسلافنا قد سبقوا كثيراً من مفكري أوروبا إلى كثير من الأفكار والنظريات . نعرف أن محي الدين بن عربي سبق اكهارت إلى معرفة ” وحدة الوجود ” . وان الغزالي سبق دافيد هيوم إلى معرفة ” السببية ” . وان ابن رشد سبق وليم جتنر إلى معرفة ” المنفعة ” . وان ابن جيبرول الاندلسي سبق سبينوزا إلى معرفة ” وحدة المادة والروح ” . وان الفارابي سبق داروين إلى معرفة ” التطور ” . وان ابن سينا سبق ديكارت إلى معرفة ” الآنية ” . وان ابن خلدون سبق ماركس إلى معرفة ” المادية التاريخية ” …  الخ . ونعرف انه منذ القرن التاسع الميلادي ، وقبل أن يسجن الأوروبيون جاليليو بسبعة قرون ، كان كل من ابن خرداذبة ، وابن رسته ، والمسعودي قد اكتشف أن الرض كروية ، واستنبط ابن سينا فكرة عن الجاذبية ، وتولى البيروني قياس حيط الأرض هندسياً … الخ . ونعرف أن اسلافنا قد اخترعوا الرقاص ، ورسموا الخرائط ، وانشأوا صناعة الطب والصيدلة وابتكروا الصفر ، وعلموا الناس الجبر واللوغرتمات … الخ . بل نعرف أن ” اخوان الصفاكانوا في دراساتهم الفلكية قد أسموا يوم الأحد ” يوم الشمس ” ، ويوم الأثنين ” يوم القمر ” ويوم الثلاثاء ” يوم المريخ ” ، ويوم الأربعاءيوم عطارد ” ، ويوم الخميس ” يوم المشتري ” ، ويوم الجمعة ” يوم الزهرة، ويوم السبت ” يوم زحل ” ، فترجمها الاوربيون واطلقوها أسماء لأيام الاسبوع ، ولم تزل .
كل هذا نعرفه جيداً ويعرفه بعض الأوروبيين ويعترفون به .
ولكن المسألة كلها ليست هنا . إنما المسألة هي اننا كما حملنا بذور المعرفة عمن سبقونا ، ونميناها ، ثم نقلناها إلى أوروبا ، تلقاها الأوروبيون فنموها ، فإذا بنا نلتقي بها مرة أخرى متطورة ، مصقولة ، مبلورة ، مرتبة ، مبوبة ، أغنى في المضمون وأتقن في الصنعة . نحن اذن لا ننهل من مورد للمعرفة متطفلين عليه ، بل نحن مثل كل الأمم التي اسهمت في التقدم الحضاري شركاء في التراث الانساني ، ومن حقنا ان نستفيد منه إذا أردنا ان نعود إل تراثنا لننميه ، ثم نقدم إلى البشرية مرة أخرى إضافة إلى ما يقدمه الآخرون . فعلى الذين يعتقدون اننا بعدنا عن تراثنا أن يعلموا جيداً اننا نضيف اليه ، الآن ، وننميه ، منطلقين من آخر طور انتهت اليه تلك السوابق التي كان اسلافنا من روادها .
هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فإن العودة الى تراثنا ليست كلمة تقال ، بل جهداً يبذل في معركة ضارية نخوضها ضد الذين يريدون ان يقطعوا جذورنا وان يسلخونا من ذلك التراث . والعبرة هنا ليست بالمقدرة على اجترار التراث ولكن بالمقدرة على إنمائه . وتلك معركة لن ننتصر فيها إلا بذات الاسلحة متقنة الصنع ماضية الأثر التي تدور بها معارك العصر . إن اعجابنا ببطولة المبارزين يلتحمون في قتال مباشر لا يعني ان نواجه طائرات الفانتوم بالخناجر . كذلك إذا كنا نريد ان نحافظ على تراثنا وننميه فإننا لن نستطيع هذا بالهروب إلى مخازن السلف الصالح بل نستطيعه فقط عندما نقبل التحدي الحضاري ونخوض صراعاته بأدواته .
ولسنا ننكر أن للمسألة وجهاً آخر .
وهو وجه مريض ” بمركب النقص ” الذي ورثناه من عهود المذلة تحت السيطرة الاستعمارية . فمع اننا نفضنا ، إلى حد كبير ، قيود العبودية المفروضة علينا من الخارج إلا أن كثيراً منا ما يزالون عبيداً . إن عقولهم ما تزال مكبلة بقيود الثقافة التي صاغها المستعمرون . فهم يتهمون تاريخهم الذي لا يعرفون من أمره إلا ما علمهم سادتهم ، ويخجلون من تراثهم الذي لا يعرفون منه شيئاً حتى لو كانوا قد عرفوا منه ما علمهم المستشرقون . ولا يقبلون الفكرة إلا مكتوبة بحروف لاتينية أو مترجمة عنها ، ويتخذون مما قاله المفكرون في أوروبا نموذجاً لما يقولون كان القول ما قاله الأوربيون . إن التحرر هنا يبدو خرافة مضللة . إذ أن محاولتنا تغيير واقعنا الاجتماعي بذهنية العبيد سيؤدي بنا ـ بدون ان ندري ـ إلى ان نعد القيود لمن يستطيع أن يضعها في أيدينا ، وأن نجهز عرش السيادة لمن يستطيع أن يفرض علينا إرادته . ولن يغير من أمرنا شيئاً ، حينئذ ، أن تكون قيودنا من صنع ايدينا أو ان يكون سادتنا من بني أمتنا ، فسنظل عبيداً لأننا عبيد .
هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فإذا كان اقصى طموحنا من وراء تغيير واقعنا الاجتماعي أن ننضم إلى قافلة الحضارة الأوروبية ونصبح مجتمعاً أوروبياً فأولى بنا أن نعفي أنفسنا من عناء المحاولة . ولنضع مصيرنا في أيديهم ، ولو استأجرنا من بينهم قادة نترك لهم أمر صياغة مجتمعنا كما صاغوا مجتمعاتهم ، فهم أكثر دراية بما يفعلون . وتبدو الحرية هنا كذبة كبيرة . إن كفاحنا من اجل ان نغيّر ” نحن ” واقعنا الاجتماعي يعني أن قيامنا ” نحن ” دون غيرنا بهذا التغيير يتضمن شيئاً أكثر من عملية التغيير ذاتها ، وأكثر من تكرار التاريخ الأوروبي بكل ايجابياته وسلبياته في الوطن العربي . يتضمن استجابة تجسد ذواتنا كبشر لا يستطيعون أن يكفوا عن الخلق . ويتضمن اختياراً لما نريد من بين ما انجزوه ثم اضافة من عندنا على ما نريد . وذلك هو مبرر إصرارنا على ان نكون نحن المريدين البنائين لمصيرنا . وتتوقف تلك الاضافة ، قبل كل شيء ، على اقتناعنا بأن لدينا ما نضيفه إلى التقدم الانساني ، وإننا قادرون على إضافته لو حطمنا قيود السيطرة والتخلف التي شلت مقدرتنا زمناً طويلاً . وهو اقتناع يبدو مستحيلاً إذا أفرغنا تاريخنا من مضامينه الحضارية ، واجتثثنا جذورنا ، وتجاهلنا تراثنا أو جهلناه ، ثم بقينا معلقين كالطفيليات بالذين ندعي أننا نرفض ان نكون لهم تابعين .
لا كهانة ، إذن ، ولا ضياع .  

13 ـ الدين والعلم :   

بعد هذه المقدمة الخاصة نعود إلى مشكلة المنهج لنطرح السؤال الذي انتظر طويلاً .
ماذا كانت تفعل أمم الأرض قبل القرن السادس عشر ؟ وكيف طور الناس مجتمعاتهم قبل أن يعرفوا ما يسمى بالليبرالية ، والجدلية ، والمثالية ، والمادية … الخ . إن كانوا قد طوروها إلى ما نعرف من حضارات غير منكورة بدون منهج فذاك تكذيب من الممارسة لما زعمناه منذ البداية من ضرورة المنهج لتطوير الواقع . وإن كانت ثمة مناهج قادت خطاهم إلى التقدم الحضاري فما الذي قاد خطاهم ؟ ..
الاجابة هي : الدين . قبل العلم كان الدين .
ولقد كانت الاديان ، كل الاديان ، إجابات عن أسئلة ” علمية ” طرحها تغيير الواقع . فمن خلال الممارسة بدون منهج ( التجربة والخطأ ) عرف الناس منذ البداية أن لكل شيء سبباً . وعرفوا أسباباً كثيرة لنتائج كثيرة . واستخدموا معرفتهم بنجاح في إشباع كثير من حاجاتهم . ومنذ البداية حتى الآن ومعرفتهم تنمو من خلال الممارسة . غير أنه منذ البداية أيضاً لاحظوا أشياء وظواهر تحدث بدون أن يعرفوا لها سبباً ، فآمنوا ” بأن وراءها قوة ، أو قوى مسببة لها ، وأسموا تلك ” القوة ” أوالقوى ” ما شاءوا من أسماء .
فكانت الاديان منذ البداية تأكيداً لوعي الانسان على الحتمية كما عرفها من الممارسة اليومية .. هذا المفهومالعام ” للدين ما يزال حتى اليوم جزءاً من فكر كل إنسان . ويمكننا أن نؤكد أن لكل انسان على الأرض ديناً بهذا المفهوم . ويستطيع من يريد أن يختبر هذا التأكيد في نفسه أو فيمن يشاء .
ذلك لأنه بالرغم من التقدم المذهل في معرفة القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ، وبالرغم من زحف العلم بمعدل فائق السرعة لاكتشاف مزيد من تلك القوانين ، وبالرغم من السيطرة القديرة التي يمارسها الانسان على الطبيعة استخداماً للقوانين التي اكتشفوها ، فإن السؤال الذي شغل الناس منذ البداية عن ماهية ” القوة ” التي تحرك الاشياء والظواهر ما يزال يفتقر إلى إجابة علمية . إجابة قابلة للإثبات او النفي بالتجربة والاختبار . نحن نعرف كثيراً من ضوابط الحركة في الكون ، واتجاهاتها ، ولكنا لانعرف شيئاً ، معرفة علمية ، عن كيف بدأت الحركة وكيف تنتهي . أي ما يزال للميتافيزيقا عالم . وهو عالم وإن كان يضيق كلما اتسعت المعرفة العلمية إلا أنه لم يزل . وقد انفصلت الميتافيزيقا عن العلم عندما قبل الناس أن يتعاملوا مع الوجود ” كما هو ” وأن يحاولوا اكتشاف قوانين حركته ، ووجدوا في هذا ما يكفيهم لتحقيق ما يريدونه في المستقبل ، بدون حاجة إلى البحث في الماضي عن القوة التي حرّكت الوجود أولاً . وكان هذا الانفصال مقدمة لانطلاق العلم إلى مزيد من المعرفة . ولكن الميتافيزيقا لم تزل باقية تشغل الناس . ولكل إنسان ، أعلن هذا أو أنكره ، إجابة خاصة ، علنية أو خفية على ما تطرحه الميتاقيزيقا من أسئلة أو على ما يطرحه على نفسه من أسئلة عن “سر الوجود ” . إن لديه ” قوة ما ” مهما يكن اسمها ، فهو يسند إليها ما لا يعرف سببه . وهو ” يؤمن ” بصحة اسناده ايماناً غيبياً لأنه لايستطيع أن يثبته علمياً ، وفي مشكلة الألوهية بالذات ليس الملحدون أقل إيماناً من غيرهم . غيرهم ” يؤمن ” بأن الله موجود . وهم ” يؤمنون ” بأن الله غير موجود . وكلهم عاجزون عن اثبات ايمانهم بالاختبار والتجربة العلمية. وكلهم فيما يؤمنون متدينون ، وأقلهم وعياً بمدى تدينه ، أو بمدى ” تعصبه الديني ” أولئك الذين يوهمون أنفسهم بأنهم قد حلّوا مشكلة الدين عندما أنكروا وجود الله .
بعد هذا لاتستوي الأديان في أحكامها التي تتصل بنظم الحياة وتطورها وهو ما يهمنا في هذا الحديث . فلا ينبغي أبدأ أن نتحدث بعد هذا عن ” الدين ” إطلاقاً بدون أن نحدد عن أي دين بالذات نتحدث . ونحن نتحدث فيما بعد عن الاسلام على وجه التحديد . لا لأننا نعرف عنه ما يسمح لنا بالحديث فحسب ، بل لأن للإسلام علاقة تاريخية بالواقع العربي الذي يشغلنا امر تغييره ، وهي علاقة كان جهلها أو تجاهلها حاجزأ كثيفاً بين جماهير هذه الأمة المؤمنة وبين الذين يخاطبونها من واقع الغربة عنها أو الاستعلاء عليها . سنعرف من أمر تلك العلاقة الكثير ويكفي أن نعرف منها الان  أن العرب قد طوروا مجتمعهم ، ومجتمعات كثيرة ، وبنوا حضارتهم وأسهموا في الحضارة الانسانية ، وتحولوا هم من قبائل وشعوب مختلفة إلى أمة واحدة ، خلال قرون من النضال الثوري بدأ واستمر وأنجز ما أنجز باسم الاسلام وتحت رايته .
والسؤال الذي لامهرب منه لأحد من الإجابة عليه هو : كيف أنجزوا ما أنجزوا قبل أن يعرف أحد تلك النظريات التي نزعم أن معرفتها لازمة لتطوير مجتمعنا العربي ، وإننا لانستطيع ان نلتقي على غاية تطوره إلا إذا عرفناها ؟ ..
وفي الإجابة على هذا السؤال نجتهد فنقول :

14 ـ المنهج الاسلامي :

إن في الاسلام ذلك الجانب الميتافيزيقي الذي يتصل بمشكلة الالوهية . وفيه ذلك الجانب من أحكام التعامل بين الناس في شؤون دنياهم الذي يتصل بمشكلة النظرية . إذ النظرية هي التعبير الحديث عن المذهب كما نعرفه في التراث الفكري الاسلامي . وكلاهما لايدخلان في نطاق الحديث عن المنهج . إنما نحاول فيما يلي أن نعرف من الفكر الاسلامي منهج المسلمين في التطور الاجتماعي أو ” منطق ” التطور الاجتماعي في الفكر الاسلامي .
أولى مشكلات المنهج كما عرفنا هيالحتمية ” . انضباط حركة الاشياء والظواهر بقوانين حتمية . ولنلاحظ من الآن أن تعبير ” القوانين ” كما نستعمله يساوي في دلالته تعبير ” النواميس ” أو تعبير ” السنن ” كما هي مستعملة في الفكر الاسلامي . وعليه فإن “الحتميةفي الاسلام لايمكن لمسلم أن ينكره ويبقى مسلماً . فقد اتخذ الاسلام من انضباط نظام الكون وثبات نواميسه حجة على الذين لايؤمنون . ودعا الناس إلى أن يتأملوا ما في الكون من آيات أوسنن لا تتبدل . ” سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا ” ( الاحزاب : 62 ) . ” ولا تجد لسنتنا تبديلا( الاسراء : 77 ) . ” أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ، والأرض مددناها والقينا فيها رواسي ، وانبتنا فيها من كل زوج بهيج ” ( ق : 6 ، 7 ) . ” انظروا الى ثمره إذا أثمر وينعه ” ( الانعام :  99  )  . ” فالق الاصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ( الانعام : 69 ) .” ” قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون . قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ” ( القصص : 71 ، 72 ) . ” وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونحيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ” ( الرعد 4) . ” ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم ” ( الروم : 22 ) . ” ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود ، ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك ” ( فاطر : 27 ، 28  )  .  إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم ” ( الجاثية :  43 )  .   إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ” ( البقرة : 164 ) . ” وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم ” ( الذاريات : 20 ، 21 ) . ” سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم ” ( فصلت : 53 ) . ” كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ” ( البقرة : 242 ) … الخ . وهكذا نجد أن جانباً كبيراً من آيات القرآن يكاد يكون مقصوراً على تعليم الناس ، بصيغ شتى ، مدى ما في الكون من اتساق ونظام محكم . وهو يأخذ من هذا دليلاً على وجود الله وعلى وحدانيته أيضاً : ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )الانبياء : 22 ) . 
وبعض كتّاب الفكر الاسلامي يرفضون النظريات التي قيلت في الحتمية لا لأنهم ينكرون انضباط حركة الاشياء والظواهر بقوانين حتمية أو نواميس لا تتبدل لأنهم ينكرون مصدر الحتمية كما تقرره تلك النظريات ليحتفظوا بإسناد الحتمية إلى الله باعتبارها آيته في خلق الكون . ولما كنا ـ هنا ـ لا نناقش هذا الجانب اللاهوتي من الفكر الاسلامي ، كما إننا قد تخلينا من قبل عن مناقشة التبريرات الميتافيزيقية للحركة ، فإننا نستطيع أن نترك لكل أن يسند الحتمية إلى المصدر الميتافيزيقي الذي ” يؤمن ” به ، ثم نلتقي على أن المنهج الذي كان دليل المسلمين في التغيير الاجتماعي يتضمن قاعدة اولى هي أن ثمة قوانين أو نواميس أو سنناً تضبط حركة الاشياء والظواهر ” حتماً ” بمعنى أن فعاليتها لا تتبدل .
وفي نطاق هذا التسليم بالحتمية تصدى مفكروا الاسلام خلال القرون الأولى بعد الهجرة لاستكمال منهجهم في معارك فكرية بالغة الخصوبة والعنف أيضاً دارت حول المشكلة التي تشغلنا منذ بداية هذا الحديث : ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية . وقد عرفت في تاريخ الفكر الاسلامي بمشكلة الجبر والاختيار وقسمت الفقهاء والفلاسفة والمتكلمين إلى مدارس عدة.
أما أنصار ” الجبرية ” فقد ألغوا حرية الارادة الانسانية واستندوا في هذا إلى العديد من آيات القرآن قالوا أنها تسند الإرادة والفعل كليهما إلى الله وتحيل الانسان أداة لا إرادة لها ولا خيار. ” والله خلقكم وما تعملون ” ( الصافات : 96 ) . ” ان هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله ” ( التكوير : 27 ، 28 ، 29 ) ” إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله ” ( الانسان : 29 ) ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ” ( يونس : 99 ) . ” ختم الله على قلوبهم ” ( البقرة : 7 ) … الخ .
أما أنصار ” القدرية ” ( قدرة الانسان على الفعل والاختيار ) فمع تسليمهم بانضباط الوجود بسنن محكمة لا تتبدل أسندوا الإرادة والفعل إلى الإنسان واستشهدوا على هذا بعديد من آيات القرآن التي تضع الإنسان أمام مسئولية الاختيار بين أمرين أو أكثر وتحمّل كل إنسان مسئولية ما يختار ويفعل على أساس أن الحرية في الاختيار هي مناط المسئولية . ” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” ( الكهف  :  29) .   إنا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً . إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ” ( الانسان : 2   3 )  .  ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ” ( البقرة : 7 ، 8 )  .  من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نوءته منها ( الشورى : 20 ) . ” اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ” ( غافر : 17 ) . ” كل امريء بما كسب رهين ” ( الطور : 21 ) . ” لايكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ” ( البقرة : 286 ) . ” ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ” ( يس : 54 )  
وإزاء صراحة النصوص لايكون عسيراً أن نهتدي إلى الوضع الصحيح للمسألة : فهم حرية الارادة الانسانية في نطاق حتمية سني الله ونواميسه . فهم الخاص في نطاق العام ، أو فهم الحرية في نطاق الضرورة كما يقول المحدثون . فكان الرأي هو أن المقدرة الالهية كما تجسدها سنن الوجود التي لا تتبدل هي الشرط الأول لمقدرة الناس على أن يختاروا وأن يفعلوا . والله على هذا الوجه هو خالق ما يفعلون . أما الناس ، فوثوقاً منهم بثبات ذلك الشرط وعدم قابليته للتبديل ، يختارون ما يفعلون على مسؤوليتهم عن الاختيار والفعل . وبقدر ما يلتزمون سنن الله بقدر ما يوفقون في تحقيق ما يريدون .
لو شئنا أن نصوغ هذا الرأي باللغة التي يجري بها هذا الحديث لقلنا : ” (أن) الحتمية لازمة ليتصور الناس المستقبل الذي ينتظرهم ” إذا ” لم يتدخلوا في تغييره ، وليغيروا شروط  فعاليتها ليحققوا المستقبل الذي يريدون ، أما أن يقع هذا المستقبل فعلاً أو لايقع فذلك متوقف على علمهم واحترامهم تلك القوانين أوالنواميس ، وبقدر ما نعرف وما نحترم القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع ان نغيّره وهو ما قلناه فعلاً من قبل ، فإن كان قد قاله غيرنا من مفكري الغرب بعد أن اكتشفوه عن طريق البحث العلمي بدون اسناد إلى الدين، فلا يهم مصدر المعرفة ، المهم أن هذي قاعدة ثانية من منهج المسلمين .
ثم تأتي المشكلة الثالثة التي عرفناها من الحديث عن تطور المنهج الجدلي وهي : في نطاق التأثير المتبادل بين الأشياء والظواهر ماهو العامل الأساسي في التطور ؟
إن ” الجبرية ” كما قال بها بعض المجتهدين في الفكر الاسلامي ” تقابل ” أو تقارب “ المثالية ” عند هيجل ، وباستبعاد ” الجبرية ” لايمكن ان تنسب المثالية إلى المنهج الاسلامي . وهو أمر لايفطن إليه الذين يساوون بين الأديان في المثالية . غير أنه إذا كان المنهج ليس مثالياً فهو قاطع في رفض المادية . والمقولة التي تزعم أن المادة ، أو الطبيعة ، أو أدوات الانتاج المادية ، هي ” العامل الأساسيفي حركة التطور الاجتماعي مقولة مناقضة للمنهج الاسلامي ذلك لأن الفكر الاسلامي مستقر منذ البداية ، وحتى الآن ، على أنه في نطاق التأثير المتبادل بين الإنسان والطبيعة المادية يكون الإنسان هو الفاعل الصانع المغيّر “المطوّر ” .. وتكون الطبيعة المادية موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير ” السخرة ” للدلالة على هذه العلاقة . وهو تعبير قوي الدلالة على أن الانسان هو صانع واقعه المادي والقادر المسؤول عن تغييره . ” ألم ترى أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ” (الحج :65) ”  . هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً ” ( الملك : 15 ) . ” وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار” (ابراهيم : 32) .” وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ” ( ابراهيم : 33 ) . ” وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلياً تلبسونها ” ( النحل :  14 )  . ” وسخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعاً ” ( الجاثية : 13)الخ . ويقطع القرآن في ان شيئاً من الواقع لن يتغير إلا إذا تغير الناس . ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ” ( الرعد :  11 ) .   وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون ” ( هود : 117 )  . ومن هنا ذلك الاهتمام الفذ الذي يوليه القرآن للإنسان في آيات آمرة ، ناهية ، مرشدة ، مذكرة ، محذرة ، تستهدف جميعاً تقويم الإنسان ليكون ” صالحاًلدور القائد لحركة التطور الاجتماعي على الأرض التي ” استخلف فيها . ”
ذلك هو المنهج الاسلامي ويمكن تلخيصه في ثلاث قواعد :
أولاهما : إن كل الأشياء والظواهر منضبطة حركتها بقوانين أو نواميس حتمية .
ثانيهما : في نطاق هذه الحتمية يكون الانسان حراً في تغيير واقعه .
ثالثهما : الانسان وحده هو القادر على التغيير والمسؤول عنه .
في هذه القاعدة الثالثة يتجاوز المنهج الاسلامي المنهج الليبرالي الذي عرفنا أنه يكف الناس عن التدخل في حركة التطور الاجتماعي اتكالاً على غائية ميتافيزيقية ينسبها إلى ما أسماه القانون الطبيعي . وفي الفكر الليبرالي أقوال كثيرة في أن القانون الطبيعي هو إرادة الله . أياً ما كان من تفسير لتلك الغائية فقد عرفنا أن المنهج الليبرالي يمثل جبرية اجتماعية لا مفر منها لأنها جبرية طبيعية ( فقرة 6 ).  والجبرية غريبة على المنهج الاسلامي .
المهم أنه على هدي هذا المنهج المتميز أساساً بكشفه وتأكيده دور الانسان في تطوير الواقع ، وانفراده وحده بهذا الدور ، ومسؤوليته عنه ، استطاعت قلة من المسلمين أن يبدأوا واحدة من أعمق الثورات الاجتماعية أثراً في تاريخ البشرية . واستطاعت شعوب بكاملها أن تنتقل من بداوة الجاهلية الأولى إلى بناء حياة حضارية كانت في ظروفها التاريخية تفوقاً فذاً . وخلال قرون طويلة من الممارسة استقر المنهج في وعي الناس فأصبح ” قيمة ” تضبط مواقفهم بدون حاجة إلى إسناد ديني ، ومنه استمدت الحضارات التي قامت في ظل الاسلام ذلك الطابع الانساني المميز الذي لايخطىء الباحثون الاهتداء إليه . ومنه نعرف كيف كانت تلك ” القيمة ” مشتركة بين أناس صنعوا تاريخهم الحضاري معاً مع انهم ليسوا جميعاً مسلمين . التقوا في ممارسة الحياة على صحة المنهج الانساني فكانوا شركاء فيما أنجز على هديه بدون أن يؤثر في هذا اللقاء ، أو المشاركة ، اختلافهم في مصادر معرفته .
ونتعلم من ذلك التاريخ الغني أنه بالاضافة الى تحرر الانسان لا بد من تصديه ايجابياً لتغيير الواقع حتى يتغير . وإنه أياً كان الواقع فإنه قادر على تغييره ومسؤول عنه . ونتعلم ذلك الدرس العظيم : كيف استطاعت قلة قليلة من المسلمين أن يبعثوا من قلب الصحراء القاحلة نذراً الى عتاة المستبدين في الأرض ، ملوكاً وأباطرة ، أنأسلموا تسلموا ” . وبكل مقياس سوى ثقة الانسان الذي يعرف غايته ويحمل مسؤولية تحقيقها ، كانت تبدو تلك النذر مثالية . غير ان التاريخ لا يلبث حتى يثبت مقدرة الانسان على تحقيق غايته بالرغم من كل الظروف التي كانت تبدو حائلاً دونه وما يريد . فيخضع المستبدون كرهاً للنذر التي ظنوا انها خيالية . 

15 ـ لماذا فشلوا ؟  

لماذا فشل المسلمون ـ اذن ـ في مواصلة تقدمهم الاجتماعي ؟
نصحح السؤال أولاً لأن صيغته غير صحيحة .
إذ أن الحديث عن الفشل يبدو حديثاً مجرداً من ظروفه التاريخية . فإلى نهاية القرن السادس عشر كانت المجتمعات التي دخلها الاسلام أكثر تقدماً من أي مجتمع آخر . أو على الأقل لم تكن أكثر تخلفاً من غيرها من المجتمعات المعاصرة . فقبل ذلك التاريخ ـ مثلاً ـ كانت الحروب الصليبية في بواعثها وفي قواها وفي نظمها وفي أهدافها محكاً للتمايز الحضاري ، ولا نقول العسكري ، بين المعتدين والمدافعين . وكانت تبدو موجة بربرية تحاول اجتياح مجتمع متحضر ، كما اجتاحته موجة غيرها شنها المغول البرابرة . وليس من المنكور أن تلك الحروب الصليبية كانت وساطة ، أو احدى وسائط ، انتقال الحضارة من العرب الى أوروبا . وهذا لا ينفي أنه لم تمض بضعة قرون حتى عادت القوى الأوروبية ففرضت سيطرتها على العالم مسلمين وغير مسلمين . ونحن نعرف أن تلك موجة رأسمالية . ومع ذلك لا نريد أن نحاكمها بما لم نعرفه الا بعد أكثر من قرن من أنها كانت من أشد الموجات التي اجتاحت العالم عداوة للانسان . فقد استعبدت العالم بجيوش من عبيد الرأسماليين بل نقول أنها في نشأتها الأولى كانت ثمرة تقدم علمي لا شك فيه . ولا شك في أن التقدم العلمي تقدم حضاري . هنا بدأ التخلف وهنا فقط يصح طرح السؤال عن الفشل على أن تكون صيغته :
لماذا فشل المسلمون في الدفاع عن مجتمعاتهم ؟
في حدود هذا الحديث عن المنهج نقول لم يفشل المسلمون . ان الذين فشلوا لم يفشلوا لأنهم مسلمون بل لأنهم لم يوفوا بمسؤوليات ترك لهم الاسلام مسؤولية الوفاء بها . ذلك لأن الاسلام وضع بين أيديهم أسس المنهج وترك لهم استكماله واستعماله .
علمهم أن ثمة قوانين أو نواميس تضبط حركة الأشياء والظواهر حتما وترك لهم أمر اكتشافها ومعرفة شروط فعاليتها واستخدامها .
وعلمهم أنهم قادرون ومسؤولون عن تطوير واقعهم على ما يريدون وترك لهم اكتشاف مشكلات واقعهم وامكانية تغييره وغاية هذا التغيير .
كل هذا لأن الاسلام ـ كما هو ـ دين يخاطب الناس كافة ، في كل مكان وفي كل زمان . نقول الاسلام " كما هو " لأننا لا نستطيع ، وما ينبعي لنا ، أن نفهم الاسلام أو أن نحاول فهمه الا كما هو مطروح في كتابه . وهو مطروح في كتابه على أنه خطاب الى الناس كافة ، في كل زمان وفي كل مكان . وما كان الاسلام ليكون على هذا الوجه الانساني الشامل ، بغير قيود من المكان أو الزمان ، لو لم يترك للناس في كل مكان وفي كل زمان أن يتأملوا ويتعلموا ويكتشفوا ويعملوا ويغيروا وفاء منهم بمسؤوليات عن التطور الاجتماعي طبقا لواقعهم وظروفهم التاريخية .
وهكذا ، اذا كنا قد قلنا أن ما يسبق المنهج من مقولات ميتافيزقية لا يؤثر في صحته ان كان صحيحا علميا ، فان ما يلي المنهج من أحكام في منطلقات وغايات وأساليب التطور الاجتماعي متروك للاجتهاد . نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، أما ما هو المعروف وما هو المنكر فعلينا أن نكتشفه في واقعنا فنعرفه أو ننكره . وقد بدأ الاجتهاد مع بداية الاسلام . وكان النبي يجتهد فيما لم يأت به نص وكان يخطئ أحيانا في اجتهاده فيعتذر لأصحابه بأنهم أدرى بأمور دنياهم . ومن بعده اجتهد المسلمون في أمور دنياهم وصاغوا اجتهاداتهم في آراء وأفكار ومذاهب عديدة ومختلفة ومتصارعة في كثير من الأوقات . وكل اجتهاد ينسب الى صاحبه ولو أسماه مذهبا اسلاميا . وصحته أنه مذهب ( نظرية ) في الفكر الاسلامي . ويتحملون مسؤولية ما في المذاهب من قصور ولهم فضل ما فيها من توفيق . وهي مذاهب لا شاملة في المكان ولا عامة في الزمان ولم تفلت من قانون التطور الحتمي . فاختلفت من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان في المكان الواحد . كذلك فعل الامام الشافعي فغير في مذهبه عندما انتقل من العراق الى مصر . ومن قبله أوقف عمر نفاذ نص في القرآن ( المؤلفة قلوبهم ) في ظرف تاريخي لم يكن مسبوقا في حياة المسلمين . ومن هنا لا يمكن فهم تلك الاجتهادات والمذاهب بعيدة عن ظروفها التاريخية الراهنة الا أن تكون دعوة الى نظرية ( مذهب ) محددة ، اجتهد أصحابها فجاءت موفية بمسؤوليتهم كمسلمين عن بيان منطلقات وغايات وأساليب التطور الاجتماعي كما يتطلبها واقع مجتمعهم . وهو اجتهاد يحتاج الى عناء فيهرب منه الكثيرون .
أيا ما كان الأمر ، فالاختلاف في الاجتهاد وتعدد المذاهب ( النظريات ) في الفكر الاسلامي لم يكن خروجا على المنهج أو مساسا بوحدته . لأن ما يتحقق في كل واقع على حدة هو حصيلة معالجة ذلك الواقع على ضوء المنهج . فان اختلف الواقع اختلقت الحصيلة ـ الفكرية أو العلمية ـ بالرغم من وحدة المنهج . ولما كان الاسلام لم يلبث أن امتد الى مجتمعات مختلفة في واقعها ومدى تطورها فان حصيلة التطور كانت مذاهب مختلفة وممارسة مختلفة أيضا . فلم يكن هناك مجتمع اسلامي واحد حتى نستطيع أن نقول أن المسلمين عامة فشلوا بما يتضمنه هذا من ايحاء بأنهم فشلوا لأنهم مسلمون .
وقد نجح المسلمون في تطوير حياتهم الاجتماعية ، أينما كانوا ، طوال الفترة التي كانوا فيها محتفظين بحريتهم في اكتشاف قوانين الطبيعة وقوانين التطور الاجتماعي . يوم أن كان العلم عبادة والاجتهاد مثوباً ولو كان خاطئاً . وعندما فقدوا حريتهم توقفوا عن التقدم بمعدل السرعة التي كانوا قد بدأوا بها مسيرتهم الحضارية فسبقهم غيرهم . وقد فقدوها في ـ مجتمعنا ـ يوم أن تستر الاستبداد بالخلافة وأصبح للأحاديث الموضوعة وللإجماع المصطنع وللقياس الخاطىء وللمذاهب الخاصة قدسية النص القرآني . وأطلقت الأحكام من حدودها في الزمان والمكان ، وتحولت دولة المسلمين إلى دولة كهانة يحكمها الخلفاء ورجال الدين بدلاً من العلماء والفلاسفة والمفكرين والباحثين . فتجمدت المذاهب في الشريعة على مضامين كسبتها في مراحل تاريخية سابقة ، فأصبحت قاصرة عن أن توفي بالحلول الصحيحة لمشكلات الحياة في مراحل تالية . فقام جمودها عائقاً في سبيل التطور . وهكذا كان قد قفل باب الاجتهاد ، استبداداً ، عائقاً دون تقدم المجتمعات الاسلامية ، وليس قفل باب الاجتهاد من الاسلام في شيء بل هو يناقض منهجه  ..
فلما جاءت المرحلة التاريخية الحاسمة ، واصطدمت دولة الخلافة الاسلامية بدول حررتها الليبرالية من قيود الكهانة الكنسية واستبداد أمراء الاقطاع وانهزمت وتفككت . وبذلك فقدت الشعوب حريتها جملة وستبقى فاقدتها طويلا لأنها كانت قد فقدت حرية البحث العلمي والفكري وتخلت عن المنهج الاسلامي في مواجهة مشكلات التطور الاجتماعي . المنهج المتميز أساسا بكشفه وتأكيده دور الانسان في تطوير الواقع وانفراده وحده بهذا الدور ومسؤوليته عنه . ومرة أخرى تثبت الممارسة أن الانسان هو قائد حركة التطور الاجتماعي وانه يوم أن يفقد حريته فتشل مقدرته لا يتطور واقعه تطورا صاعدا حتى لو تغير .
هكذا نعرف أننا لم نفقد حريتنا يوم أن بعدنا عن تراثنا ، وانما بعدنا عن تراثنا يوم أن فقدنا حريتنا . ويكون التحرر هو البداية . وأول قيد نكسره هو الخوف من أن نتأمل ونتعلم ونكتشف ونعمل ونغير . وما يعنينا اكتشافه ، في هذا الحديث ، هي قوانين التطور الاجتماعي التي لا بد من معرفتها حتى نعرف كيف نغير واقعنا العربي .  

ـ 5 ـ
جدل الانسان . 

16 ـ أزمة الفكر القومي وتفوقه

إذا كانت المشكلة بالنسبة الى النظريات التي تحدثنا عنها محصورة في قصور المنهج فإنها بالنسبة إلى أكثر ما يكتب ، ثم ينسب ، الى الفكر القومي العربي مشكلة غيبة المنهج اطلاقاً . ان القليل من الفكر القومي العربي الذي نعرف له منهجاً واضحاً هو ما طرحه الليبراليون العرب . وذاك فكر عرفنا أزمته الخاصة وقصوره المتسق مع قصور منهجه عن الوفاء بنظرية للتقدم الاجتماعي في الوطن العربي ( فقرة 6 ) . إنه رجعي فأزمته أزمة اصحابه وبالتالي لا يعنينا أن يتجاوز أزمته . إنما الذي يعنينا هو الفكر المسمى قومياً تقدمياً أو ما ينسب اليه وهو كثير . وأزمة المنهج فيه واضحة . ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية وعن القومية العربية وعن الوحدة العربية وعما يجب أو لايجب في الوطن العربي … أحاديث كالمواعظ أو المناجاة الذاتية ، يعز معها الحوار ، لأننا لا نستطيع أن نعرف مما يقولون كيف عرفوا ما يتحثون فيه إلا ان يكون ترجمة لشعورهم بالانتماء القومي . والشعور بالانتماء القومي قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود أمة ينتمي اليها المتحدث ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تطوير الواقع القومي وغايته وأسلوبه .
ولقد نلتقي في الفكر القومي بمن يرفض صراحة ، ويدين ، الالتزام بمنهج فيما يقول . وهذا لايصدمنا لأنه دفاع عن اسلوب قائم في الممارسة على محاولة التقدم من خلال التجربة والخطاً . فهو قريب من الحملات الدعائية ولا يرقى ـ فيما نقدر ـ الى مرتبة الاجتهاد الفكري . إنما الذي يصدم حقاً فهو غيبة المنهج كما يجسدها التلفيق بين المناهج في البناء الفكري الواحد . وقد أغرق مفكرو هذا الاتجاه الوطن العربي بكتب وكتابات كثيرة الصفحات ، ضخمة الكلمات ، عالية النبرات عن القومية والوحدة والاشتراكية ، استغلوا فيها تتابع الصفحات في الكتب استغلالاً غير خفي . ففي فصل يحدثنا الكاتب عن القومية والوحدة حديثاً موروثاً من اساتذة الفكر الليبرالي . وفي فصل تال يحدثنا عن الاشتراكية حديثاً غريباً أو مناقضاً ، لليبرالية كثيراً ما تقحم فيه إقحاماً التعبيرات المستعارة من التراث الماركسي بعد أن تسلب دلالتها الأصلية . وفيما بين الفصلين ينقطع المنطق انقطاعاً فجاً ، فكأننا أمام كاتبين مختلفين تحدث كل منهما حديثاً خاصاً في فصل خاص . وعبثاً نحاول أن نجد علاقة بين القومية والاشتراكية إلا في العنوان الذي يجمع عادة بين الكلمتين . هذا الاسلوب في التلفيق لعلاج غيبة المنهج هو السمة السائدة في أكثر ما هو مطروح من الفكر القومي المسمى تقدمياً . وهو افراز مرحلة تاريخية وجد فيها الذين تعلموا القومية بمفهومها الليبرالي انهم محمولون بحكم ضرورة التنمية الاقتصادية على أن يكونوا اشتراكيين أو من دعاة الاشتراكية . وهم يمثلون التيار السائد في الحركة القومية العربية التي تحدثنا عنه من قبل ( فقرة 6 )  .
غير أن أزمة المنهج في الفكر القومي غير مقصورة على محاولات الجمع بين القومية الليبرالية والاشتراكية بل نجدها ، ربما أكثر وضوحاً ، في قول مطروح ومتردد في الأدب القومي العربي ، في كل الأدب القومي العربي تقريباً ، كما لو كان بدهياً وهو ليس من البداهة في شيء . ذلك هو القول بأننا مادمنا أمة عربية واحدة ” فيجب ” أن تكون لنا دولة سياسية واحدة . أما لماذا ” يجب ” ما بعد هذا فلا جواب . أو أن ثمة إجابات خاطئة كالقول الذي لاتخفى منابعه الليبرالية بأن الوحدة هي غاية الاتجاه “ الطبيعي ” للأمم . أو أن ثمة إجابات صحيحة وإن كانت هي ذاتها مبررة بغير القومية . مثل تلك الاجابات المبررة ” بالمنفعة ” التي يريد كل متحدث أن يتخذ الوحدة إليها سبيلاً فيتخذها حجة لوجوب الوحدة . فيجب أن تقوم الوحدة العربية لأنها نافعة ـ مثلاً ـ في التغلب على أزمة الزيادة المفرطة في كثافة السكان في دولة عربية أخرى . أو لتكون لنا دولة كبرى هي وحدها التي تنفع في عصر الدول الكبرى . أو لنستطيع إعداد جيش كبير وقوي هو وحده الذي ينفعنا في صراعنا ضد الامبريالية والصهيونية . أو لأنه بالوحدة نوفر الامكانيات المادية والبشرية اللازمة لبناء الاشتراكية رخاء وحريةالخ .
وقد قلنا ، ونعيد ، أن هذي إجابات صحيحة .
إنما المسألة هي كيف عرفنا أنها صحيحة ؟ … إن كنا قد عرفناها عن طريق البحث العلمي في تلك الظاهرة الاجتماعية التي تسمى أمة ، والقوانين التي تضبط حركة تطورها حتماً ، فعرفنا منها أن المستقبل التقدمي لا يتحقق للأمة إلا في ظل دولتها القومية ، فإننا نلتزم ” الوحدة العربية ” غاية حتى في الحالات أو الاوقات التي لا تلمس فيها منفعتها الجزئية او المرحلية ، وحتى لو اقتضى تحقيقها تضحيات نقدمها مرحلياً أو يقدمها بعضنا ، يقيناً علمياً منا بأن ذلك هو ثمن التقدم المطرد للجميع ولو في المدى الطويل . أما إذا كنا قد عرفنا أنها إجابات صحيحة قياساً على الحالة الملموسة إلى ” المنفعة ” ذاتها فذلك خطأ خطر لأن المنفعة ضابط ذاتي للحركة . ولو قبلناه ضابطاً لما يجب وما لا يجب لكان حجة علينا كما قد يكون حجة لنا . إذن لقبلنا مبررات العدوان منا ، أو علينا ، كلما بدا لنا ، أو لغيرنا ، أن العدوان نافع . إذن لقبلنا أن نختلف ونفترق في كل حالة على حدة ، ومن وقت لآخر ، حول ما هو نافع وما لا ينفع تبعاً لتقدير كل منا . إذن لاحترمنا السلبيين الذين يؤثرون العافية على مخاطر النضال من اجل الوحدة والعافية نافعة . إذن لأعجبنا فاقتدينا الاقليميين الذين يحققون في التجزئة ما ينفعهم . إذن لقدرنا حكمة الانتهازيين والمستسلمين والمرتدين الذين لا يجدون نفعاً في الوحدة أو الذين قد يجدون أن الوحدة لم تعد نافعة . إذن لكان علينا ، أمانة منا مع أنفسنا أن نكف عن تحريض الناس على الاستشهاد في سبيل الوحدة لأن الموت عدم فهو لا ينفع صاحبه شيئاً … الخ .
ثم إنه إذا كانت الوحدة العربية تبرر المنفعة فإن المنفعة لا تبرر الوحدة العربية . إذ لو كانت المنفعة كما نعرفها من حاجتنا الملموسة هي ضابط معرفتنا ما يجب وما لا يجب لكان واجباً علينا أن نقبل الوحدة في الحدود التي  نتغلب بها على أزمة السكان لا أكثر . أو إلى الحدود التي تكفي لقيام دولة كبرى لا أبعد . او بالقدر اللازم لبناء جيش كبير وقوي ولا نزيد . أو أن نسوي بين الوحدة العربية وبين وحدات جزئية داخل الوطن العربي بين كل مجموعة من الدول ترى أن في وحدتها نفعاً لها ، أو أن وحدتها أكثر نفعاً لها من الوحدة العربية الشاملة . أو أن نبارك وحدة العراق وايران ، أو سورية وتركيا ، أو السودان واثيوبيا ، كما نبارك وحدة العراق وسورية والسودان في دولة الوحدة العربية . أو أن تكون الوحدة الافريقية بديلاً مقبولاً عن الوحدة العربية … الخ . وأخطر من هذا كله أن نراقب حسابات الوحدة سنوياً ، أو دورياً ، لنتأكد من أن ” الأرباحثابتة أو مطردة . فإن انقضت المنفعة التي كنا من أجلها طلاب وحدة نرتد عن الوحدة ونقبل الانفصال .
فإذا لاحظنا أن في الوحدة العربية منافع جمة للشعب العربي ، وأن طرح أمثلة منها فيما يكتب عن الوحدة لازم ليختبر الناس في حاجاتهم الملموسة كيف يمكن أن تحل الوحدة مشكلات الناس ، وأنه لا مفر لكاتب أو متحدث عن الوحدة من أن يختار من تلك الأمثلة ما يناسب الظروف الجزئية أو المرحلية التي يدور فيها الحديث ، إذا لاحظنا كل هذا أدركنا مدى خطورة غيبة المنهج في الفكر القومي المسمى تقدمياً . ذلك لأنه بغيبة المنهج يغيب المبرر العقائدي للوحدة ومنافعها ، ما نعرفه ونلمسه منها ، وما لا نعرفه ولا نلمسه فتبقى الوحدة معلقة على ما نعرفه أو نلمسه من المنافع وحدها فإن حدث ان كانت معرفتنا المنفعة غير صحيحة ، أو أشبعت حاجتنا فانقضت المنفعة ، سقطت الوحدة … ربما إلى أن نحتاج إليها مرة أخرى . وكأن الوحدة لباساً نستبدل به لباساً غيره من فصل الى فصل . ونحن لا نخطيء كثيراً إذا قلنا إن الجانب الأكبر من الكتابات العربية عن الوحدة لا يزيد كثيراً عن أن يكون سرداً مبوباً لمنفع الوحدة كما يقدرها كاتبوه وهذا جهد جدير بالتقدير . لولا أنهم يستغنون فيه بالاجابة على السؤال السطحي : ما هي منافع الوحدة ؟ .. عن الاجابة على السؤال الأعمق : لماذا تكون للوحدة كل هذه المنافع ؟ .. ثم ينتهون إلى القول : ما دمنا أمة عربية واحدة ” فيجب أن تكون لنا دولة سياسية واحدة .
أياً ما كان الأمر فإن ذاك الوجوبالمفترض ” استجابة لمبررات نفعية كثيراً ما يبدو كما لو كان ” مفروضاًبفعل دوافع استغلالية ، فيصد الناس عنه ، وربما الوحدة ذاتها ، لأن أحداً لا يقبل الإكراه في الرأي ولو كان الرأي نافعاً ، كما لا يقبل التقدميون الاستغلال ولو تستر بالوحدة . وهو ـ لاشك ـ ينطوي على قفزة فكرية تخلفت عنها ـ في أغلب الدراسات ـ ثغرة فاصلة بين الماضي والمستقبل . بين الأمة والوحدة . لم يكن صعباً على ” الفطنين ” المتربصين ان ينفذوا منها لكشف الخلل الداخلي في البناء الفكري لكثير من الدراسات المنسوبة الى الفكر القومي التقدمي . إذ عندما يفتقد البناء الفكري منهجه ويتقدم الى الناس بواجهة مزوقة بالمنافع الحالة ، لن يكون صعباً على من يريد أن يكشف عدم اللزوم المنطقي بين المنافع المطروحة والمبررات الفكرية المقدمة لها . ثم يقدم عن المنافع بديلاً يبدو أكثر منفعة ، أو يعدد ما يصاحب المنافع من اضرار تحيق بالنفعيين ، تمهيداً للتشكيك في جدوى الوحدة العربية أو لزومها احتجاجاً بضعف الحجة فيما قدمت اقلام بعض دعاة الوحدة والمدافعين عنها بدون منهج .
غير إن هذا ليس أخطر ما تمثله أزمة المنهج في الفكر القومي التقدمي إذ أن القوى المعادية للوحدة العربية لن تعجز ـ على أي حال ـ عن اختلاق حجج مضادة للفكر القومي التقدمي حتى لو كان بالغاً غاية الاحكام . كا ان القصور أو الخطأ في الاجتهادات الفكرية ليس غريباً ويتحمل كل مجتهد مسؤولية اجتهاده . إنما الخطر الحقيقي يتمثل فيما يسببه القصور في الفكر القومي من اضطراب داخل الحركة القومية ذاتها . حيث تؤدي غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الى عجزه عن توحيد القوى العريضة التي تتبناه وترفع شعاراته وتتحرك على هديه . فنرى الناس ، أغلب الناس إن لم نقل كل الناس تقريباً ، متفقين على أن غايتهم ” الحرية والوحدة والاشتراكية ” أو أياً ما كان ترتيب الكلمات ما دامت تعني معاً إقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديموقراطية في الوطن العربي . فإذا ما تحاوروا مع غيرهم ، أو فيما بينهم ، نرى الكلمات الواحدة وقد أصبحت ذات دلالات مختلفة . فلا يتفقون على مفهوم الحرية ولا على الطريق اليها . ولا يتفقون على الطريق إلى الوحدة ولا على بنائها الدستوري . ولا يتفقون على مضمون موحد للاشتراكية ولا على كيفية بنائها في الوطن العربي . ولا يعنون ـ حتى مجرد عناية ـ بالاتفاق على فهم واحد لتلك المشكلة بالغة الخطر والخطورة ونعني بها مشكلة الديموقراطية . ثم ، وهذا أخطر ما في الأمر ، لا يتفقون على العلاقة بين الحرية والوحدة والاشتراكية ، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى التطبيقي . كل هذا وهم يتحركون في اتجاه ” الحرية والوحدة والاشتراكية ” كما يفهمها كل فريق منهم . فإذا بهم عاجزون عن أن يلتقوا في قوة مناضلة واحدة ، أوحتى على أن يجنبوا قواهم الصدام والصراع فيما بينهم ، لأن غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الذي يرفعون ـ جميعاً ـ شعاراته تحول دون أن يلتقوا على ” نظرية ” قومية تقدمية واحدة يحتكمون اليها فلا يختلفون فلا يبقى إلا أن يحتكم كل فريق إلىنظريته ” الخاصة ويحاكم بها رفاقه . فنرى القوميين التقدميين في الوطن العربي فرقاً موحدة الغايات ، موحدة الشعارات ، ممزقة الصفوف.
وهكذا نرى أن الوحدة الفكرية بين القوميين التقدميين متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكر القومي التقدمي ، وانه ـ في هذا ـ ما يزال في حاجة الى مزيد من التأصيل الذي يدخل به الوجود القومي إطار ” نظرية ” الحركة ويلتقي فيها بالمستقبل فيتصلان . أي أننا في حاجة الى معرفة كيف يكون الوجود القومي الذي هو محصلة تاريخ ماض ضابطاً لحركة تصنع المستقبل . كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً . ونحن لا نعرف هذا إلا إذا عرفنا القوانين التي تضبط حركة المجتمعات من الماضي الى المستقبل . وهي معرفة مفتقدة في أكثر الاجتهادات التي تنسب الى الفكر القومي التقدمي .
ومع هذا ، أو بالرغم من هذا ، فإن الفكر القومي التقدمي أكثر تفوقاً في صحته من أي فكر آخر مطروح في الوطن العربي . إن غيبة المنهج فيه حالت دون الوحدة العقائدية بين القوميين التقدميين وبالتالي حالت دون أن يتحولوا به إلى قوة واحدة منظمة ، قومية تقدمية معاً . وتلك سلبية نعرفها ونعترف بها . ولكنه في هذا لا يفتقد ما يملكه غيره من اي فكر يزعم التقدمية في الوطن العربي . الفكر الليبرالي قائم على منهج يبرر الوحدة ولا يبرر الاشتراكية ( فقرة 6 ) فهو رجعي . الفكر الماركسي قائم على منهج يبرر الاشتراكية ولا يبرر الوحدة ( فقرة 11  )  فهو اقليمي . وهكذا يصوغ القوميون وغير القوميين أفكارهم عن ” الوحدة الاشتراكية ” ، من وتبعاً ، لحصيلة التجربة والخطأ في ساحة الممارسة وفي هذا يستوون . ثم يتفوق الفكر القومي في التزامه إطار ووعاء للنضال الاشتراكي ، وهو بهذا يلتقي التقاء صحيحاً بالواقع العربي ، وتستجيب له معطيات هذا الواقع على وجه لا تجده الافكار الاخرى ، وتحقق الحركة القومية بالرغم من هزائمها ، انتصارات لا تستطيع تحقيقه حركة أخرى ، وتحظى بانتماء أعرض الجماهير التي تبدو محصنة ضد الفكر اللاقومي بالرغم مما تعرفه وتعترف به من ان فكرها القومي التقدمي غير قادر على أن تتحول به الى قوة قومية تقدمية واحدة.
أكثر من هذا تفوقاً ـ فيما نرى ـ هو انفتاح الفكر القومي التقدمي في الوطن العربي على التراث الفكري الانساني وتحرره من الجمود ومحاولته الدائبة تصحيح مضامينه وإنمائها . ما يزال بعض الماركسيين في الوطن العربي لا يحتجون إلا بما قاله ماركس في علم الاجتماع وإلا بما قاله انجلز في علم الطبيعة منذ مائة سنة . وما يزال غيرهم لا يحتجون إلا بما قاله الفقهاء منذ عشرة قرون . وكأن شيئاً لم يحدث في علم الاجتماع أو علم الطبيعة منذ ماركس وانجلز . وكأن المعرفة الانسانية لم تتقدم خطوة منذ أن توقف اجتهاد الفقهاء او أوقف . وتلك قيود ثقيلة تضع المستقبل تحت رحمة الماضي . هذا بينما الفكر القومي التقدمي في الوطن العربي يواكب حركة الحياة الانسانية خطوة خطوة وجيلاً جيلاً . ويعب من منابع التقدم العلمي عباً . يحمله الآن وينميه جيل اشتراكي تجاوز اساتذته من جيل الليبراليين ولمّا يمنح بعد كل ماهو قادر عليه من عطاء . وتقتحمه بجرأة خلاقة عقول شابة تنتمي الى عصر الذرة لا تجد في مضامينه ولا في تقاليده ما يحول بينها وبين التصدي لمسؤولية الابداع الفكري ، بل ترى في انطلاقته النامية ملامح المستقبل الذي هي صاحبته .
وهذا فضل كبير .
ثم هذي ملحوظة تستحق الانتباه .
فيها نرى الفكر القومي التقدمي يبدأ بداية متفوقة في صحتها . وفيها نرى الأمة العربية تصوغ أفكار أبنائها بدون أن يدري كثير منهم إن الدارس المتابع للفكر القومي وتطوره ، كما لا شك يصدم بغيبة المنهج الذي يصل بين المقدمات والنتائج ، لا بد يعجبني صحة أغلب المقدمات وصحة أغلب النتائج بالرغم من انقطاع الصلة المنطقية بينها . وكان مصدر الصحة في القول يقع خارج نطاق ما يقال . والحق انه كذلك . فبقدر ما درسنا وتابعنا نعتقد أن مرجع الصحة في الفكر القومي التقدمي المطروح في الوطن العربي الى أن كل الاجتهادات تخفي ورائها تسليماً صامتاً ومفترضاً بأن الانسان هو الذي يصنع مستقبله لأنه هو العامل الاساسي في التطور . ويفصح بعض المجتهدين فيسمونه ” المنطلق الانساني ” . وهذا ـ فيما نعتقد أيضاً ـ هو العنصر المشترك المميز لكل الدراسات التي تكون بمجموعها مصادر الفكر القومي التقدمي . إنها دراسات منطلقة من ” نظرة ” واحدة مشتركة بين كل الدارسين ، بصرف النظر عن تفاوتهم في مدى القدرة على تأصيلها أو مدى التوفيق في تطبيقها ، تلك هي ” النظرة ” الى الانسان باعتباره العامل الاساسي في التطور . فإذا لاحظنا أن كل النظريات التي بدأت بإنكار هذه الحقيقة قد تجمدت ، أو انتهت بعد معاناة الفشل الى قبولها ، لأدركنا كيف بدأ الفكر القومي التقدمي بالرغم من اختلاف الكاتبين اختلافاً قد يصل الى حد التناقض فيما يتجاوز ” النظرة الانسانية ” الى الواقع وحركة تطوره .
لسنا نعرف تفسيراً له إلا انهم ينتمون إلى أمة بدأت ونمت واكتملت تكويناً واكتسبت تراثها الحضاري خلال معاناة تاريخية طويلة كان منهجها منذ البداية ” متميزاً أساساً بكشفه وتأكيده دور الانسان في تطوير الواقع وانفراده وحده بهذا الدور ومسؤوليته عنه … ( وأنه ) خلال قرون طويلة من الممارسة استقر المنهج في وعي الناس فأصبح قيمة تضبط مواقفهم …” ( فقرة 12 ) وفي رأينا أن ” الانسانية ” كقيمة حضارية كسبتها الامة العربية خلال مراحل تكوينها القومي هي التي تعبر عن ذاتها فيما يكتبه القوميون التقدميون فيعالجون مشكلات واقعهم انطلاقاً منافتراض” مسلم به هو أن الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور . وهي هي التي تفسر تلك الاستجابة التي يلقاها الفكر القومي التقدمي لدى اعرض الجماهير العربية التي تشكل العنصر البشري من الأمة العربية . استجابة الفطرة التي صاغها التراث الحضاري لأمتهم استجابة الذي يلتقي بذات أفكاره . وهي هي التي تصدهم عما يناقضها صداً يسبق البحث العلمي ولا يتوقف عليه وإن كان البحث العلمي إن تصدى له برره . وهكذا تصوغ الأمة العربية بتراثها الحضاري أفكار ابنائها حتى من لا يفطن منهم الى حضورها في ذاته . ومنه تعرف لماذا تزاحم ” النظرة الانسانية ” المنهج المادي فيما يطرحه بعض الماركسيين من العرب مزاحمة وصلت الى حد محاولة ” تعريب ” الماركسية . إنها محاولة لإنهاء الصراع في ذواتهم بين ما يتمثل فيهم من تراث وبين ما تعلموه في بعض الكتب .
هذا شأن الفكر القومي التقدمي إجمالاً كما نراه من خلال صلته بمشكلة المنهج . وليس من شأن هذا أن ينكر قيمة بعض الدراسات الطليعية في الفكر القومي التقدمي التي قامت على أسس منهجية واضحة وإن كانت قاصرة . ومؤدى كل هذا ، وخلاصته ، إن كل الفكر القومي التقدمي الذي يبدأ من الوجود القومي وينتهي الى الوحدة الاشتراكية قائم على ” نظرة انسانية ” واحدة هي أن الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور الاجتماعي . وليس ” المادة ” وهو ما ينفي انها نظرة مادية . وليسالفكر ” وهو ما ينفي انها نظرة ” مثالية ” . انها نظرة ” انسانية ” :  هذه النظرة المميزة للفكر القومي التقدمي في الوطن العربي هي الممهد لاستجابة الناس له في الواقع العربي ، وهي التي تقربه من الحلول الصحيحة لمشكلات الشعب العربي . وأما مرجع ما فيه من قصور عن تحويله الناس إلى قوة جماهيرية واحدة فهو انه لم يستطع أن يكتشف من النظرة الانسانية الصحيحة الى الواقع ، المنهج الصحيح لتغيير الواقع .  

17 ـ المنهج الانساني :

عرفنا من حصيلة الممارسة على هدى مناهج عدة إن تحرر الانسان شرط أولي لامكان تغيير الواقع الاجتماعي إلا أن التطور الاجتماعي لا يحدث تلقائياً نتيجة ممارسة الحرية الفردية ( عرفناه من الممارسة الليبرالية ) . وأن انتظار ليدخل الانسان في سياق حركتها التاريخية لايؤدي إلى تطويرها بل على الناس إن أرادوا التقدم الاجتماعي أن يتصدوا ايجابياً لحركة مجتمعاتهم ليقطعوا مسيرتها التلقائية ويطوروها إلى ما يريدون حتى تتطور ( عرفناه من الممارسة الماركسية ) وأن الناس قادرون على تطوير مجتمعاتهم ولو كانت متخلفة ، وبرغم كل العقبات المادية التي تقف في طريقهم ، وعندما يفقدون هذا الدور القائد لحركة التطور الاجتماعي تركد المجتمعات وتتخلف ( عرفناه من الممارسة في ظل الاسلام ) . وان الانطلاق من الانسان باعتباره العامل الاساسي في التطور الاجتماعي هو التقاء صحيح بالواقع الاجتماعي تستجيب له معطياته وأعرض جماهيره إلا أنه يبقى قاصراً عن تحقيق الوحدة الحركية بين الجماهير العريضة ما لم يتحول إلى منهج انساني (عرفناه من الممارسة القومية)  .
وهكذا يمكن أن نقول أن كل المناهج والنظريات والافكار والمواقف كانت صحيحة أو غير صحيحة ، أي صدقت توقعاتها في الممارسة أو لم تصدق ، بقدر ما اقتربت أو ابتعدت عن هذه الحقيقة الموضوعية : ” في نطاق التأثير المتبادل بين الاشياء والظواهر يكون الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور الاجتماعي ، دائماً ، وفي كل الظروف . ”
غير أننا ، بهذا وحده ، لانكون قد حللنا مشكلة المنهج . إنما نكون قد قطعنا المسالك الفكرية الهاربة من البحث عن حل لمشكلة المنهج في الانسان نفسه . ووصلنا إلى مواجهة المشكلة كما هي بدون تزييف . لنستطيع أن نقول أنه إذا كانت مشكلة المنهج هي : ” ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية ” فإن حلها متوقف على ما إذا كان الانسان نفسه خاضعاً في حركته ، أو غير خاضع ، لقوانين حتمية . إن كان خاضعاً فحل المشكلة هو أن نكتشف تلك القوانين لنعرف منها كيف يكون خاضعاً لها وحراً في الوقت ذاته . أما إن كانت حركة الانسان غير خاضعة لقوانين حتمية فلا يوجد منهج لتغيير الواقع الاجتماعي وبالتالي لا توجد مشكلة . وتكون كل محاولة لتطوير الواقع الاجتماعي نحو غاية معينة من قبل ، عن غير طريق التجربة والخطأ ، محاولة عابثة أو غير علمية على الأقل . لأن انعدام المعرفة بقوانين الحركة ، أو انعدام قوانين الحركة ، يحول دون المقدرة على توقع المستقبل التلقائي فيحول بالتالي دون المقدرة على صنع المستقبل الذي نريد ( فقرة 2 )  .
والانطلاق من الانسان ” كموضوعللبحث العلمي من أجل حل مشكلة المنهج أو محاولة حلها لا يعني إعداد قائمة بملكاته نختار مفرداتها على ضوء مقولات فكرية اخترناها من قبل ونريد أن نصل بينها وبين الانسان . فنقول ـ مثلاً ـ ” إن له يدين رائعتي التكوين ” كما قال بليخانوف ليصل الانسان وصلاً تعسفياً بما كان يؤمن به ـ ابتداء ـ من أن أدوات الانتاج هي المحرك الأول للتطور الاجتماعي ، أو نقول انه كائن حي ، عاقل ، اجتماعي ، منتج ، مريد عاطفي … الى آخر تلك الاوصاف التي قد تكون صحيحة وإن كان يمكن ان تضاف اليها قائمة أخرى بأوصاف صحيحة ايضاً لعل من أهمها تمييزاً للانسان أنه : ناطق . لنرتب على كل ملكة من ملكاته ما نشاء من نتائج فنقول ـ مثلاً ـ انه ناطق ، فله لغة ، تجمع بينه وبين غيره ، فتكون مميزاً للآمة … فالانسان ـ اذن ـ قومي . ثم نجمع بين كل ما اخترناه من نتائج رتبناها على ملكات اخترناها لنقول في النهاية : ما دامت مقولاتنا الفكرية متصلة بملكات الانسان فإنها حصيلة منهج ” انساني ” في معرفة منطق التطور الاجتماعي . كل هذا افتعال . لأن كل هذا أو بعضه قد يصلح أن يكون موضوعاً لعلم دراسة الانسان ( الانثروبولوجيا ) ولكن علم دراسة مناهج حركة الاشياء والظواهر والمجتمعات شيء آخر . انه يأخذ الاشياء والظواهر والانسان نفسه مواضيع للبحث عن القوانين التي تضبط حركتها . وما يهمه من الانسان وهو يبحث عن قوانين حركته الاجتماعية هو اكتشاف ” كيف ” يستعمل الانسان ملكاته من أول يديه الرائعتين إلى آخر لغته الجميلة ، وليس اكتشاف كم من أمور يستطيع الانسان أن يفعلها استعمالاً لملكاته المتعددة . ذلك لآن غاية البحث العلمي في الانسان لحل مشكلة المنهج ان يجيب عن السؤال : كيف يمارس الانسان دوره القائد لحركة التطور الاجتماعي.
والبحث العلمي لمعرفة الاجابة على هذا السؤال بحث ممكن وسهل  ذلك ، ذلك لأن البحث العلمي يبدأ بملاحظة حركةالفرد ” فإن ثبت إطراد حركته على قاعدة واحدة أصبحت القاعدة قانوناً عاماً يحكم حركته وحركة النوع الذي ينتمي اليه . وعندما يكون الانسان هو موضوع البحث العلمي يكون البحث ميسوراً لكل من يريد ويقدر بغير حاجة الى ( وبعيداً عن أي حاجة الى ) إسناد ميتافيزيقي أو تأمل مثالي فهاهو الانسان في كل منا وفي أي آخر ، ظاهرة نوعية محددة ومتكررة ، قابلة دائماً للملاحظة العلمية لاكتشاف ما قد يكون من قوانين تضبط حركتها وقابلة دائماً لاختبار تلك القوانين فيها مرة أخرى ، وما نشاء مرات ، لمعرفة مدى صحة ما اكتشفناه . فإن اكتشفنا القوانين التي تضبط حركة الانسان حتماً يسهل علينا بعد هذا أن نعرف ضوابط حركة التطور الاجتماعي . ذلك لأن الانسان هوالمفرد ” المشترك في كل الظواهر الاجتماعية في كل مكان وفي كل زمان . فإذا اكتشفنا ان له قانوناً يضبط حركته حتماً بمعنى أنه يتطور طبقاً له ولا يتطور إلا طبقاً له ، نرد هذا المفرد المشترك إلى ما يؤثر فيه ويتأثر به . أي إلى ظروفه ( مجتمعه ) وبهذا نرجع الى الظاهرة الاجتماعية ذاتها فإن اضيف اليها حدها الزماني أصبحت ظاهرة تاريخية . غير ان الظاهرة وتاريخها وحركتها إلى المستقبل تكون غير مفهومة إلا على ضوء القانون الذي اكتشفناه . إذ عن طريق معرفة ما أثر في فعاليته أو تأثر بها ، في واقع معين في زمان معين ، يمكن فهم الواقع وكيفية تغييره عن طريق التحكم في العوامل المؤثرة والمتأثرة بقانون حركة الانسان .
حل مشكلة المنهج ـ اذن ـ يقتضي دراسة خاصة في الانسان كظاهرة نوعية متفردة بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة لاكتشاف قوانين حركته التي تضبط علاقته بغيره من الناس وبالطبيعة وبالوجود الشامل الذي يحتويه هو وغيره والطبيعة معاً . وقد تكفلت نظريةجدل الانسان ” بهذه الاضافة على الوجه المطروح باستفاضة في  كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 59 وما بعدها ) . ومن هنا يعتبر “جدل الانسان” هو المنهج الذي يفسر النتائج الصحيحة لكل الدراسات والمواقف التي تنطلق من التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في التطور إذ ان ” جدل الانسان ” هو النظرية التي أوضحت ” كيف ” يكون الانسان هو العامل الاساسي في التطور . كيف يمارس الانسان دوره القائد لحركة التطور الاجتماعي .    

18 ـ ماهو جدل الانسان ؟

لقد كان كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ” كله مخصصاً لطرح ” جدل الانسان ” كمنهج واختبار صحته في عديد من القضايا : الحرية الديموقرطية ، حركة التاريخ ، الاشتراكية ، الأمة ، القومية ، الوحدة ، التنظيم ، الأخلاق … الخ . وكان من بين وسائل اختباره الاحتكام اليه ثم الى ” المادية الجدلية ” في فهم بعض تلك القضايا لنعرف ايهما أصدق مع حصيلة الممارسة . ولسنا نستطيع أن نعيد هنا ما هو مطروح هناك . إنما نقدم منهج ” جدل الانسان ” لنعرف كيف نستخدمه حتى نستخدمه بعد أن نعرف في صياغة ” نظرية ” تغيير الواقع العربي . وفيما يلي نقدمه على الوجه الذي يسهل الرجوع اليه فيما بعد.
جدل الانسانمنهج لتغيير الواقع . فلا هو مقولة فلسفية فيما وراء الواقع ولا هو ” نظرية  تحدد منطلق تغيير الواقع وغايته واسلوبه . إنما هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي . إذ نعرفها فنلتزمها نستطيع أن نغيّر الواقع . وليس ” جدل الانسان ” ابداعاً غير مسبوق بل هو المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة . ولكن ليس تكراراً لما سبقه لأنه يختلف عنه فيما صححه . وعلى هذا فإن منهج ” جدل الانسان ” يتضمن :
(1) أصلاً مسبوقاً .
(2) وإضافة من عنده .
(3) تصحح قانون الجدل .
(4) وتحل مشكلة المنهج .
(5) وتنتهي الى صيغة جديدة للمنهج الجدلي . 

أولاً ـ الأصل :  

1 ـ يقوم ” جدل الانسان ” على ذات القاعدة التي قامت عليها مناهج كثيرة في التطور ، ونعني بها : إن كل الاشياء والظواهر منضبطة حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . ويذهب ” جدل الانسان ” ، مع بعض تلك المناهج وخلافاً لبعضها الآخر ، إلى ان الانسان نفسه لا تفلت حركته من هذا الانضباط الشامل لحركة كل الاشياء والظواهر .
ومنه نتعلم :
إنه مادام ” انضباط الاشياء والظواهر في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً لإمكان تغيير الواقع ” ( فقرة 2 ) فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن . وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية ولا يبقى إلا ان نعرف كيف نحقق هذا ” الممكن ” . ويرشدنا ” جدل الانسان ” إلى الخطوة الأولى : معرفة الواقع الذي نريد أن نغيّره ، كما هو ، معرفة صحيحة عن طريق البحث العلمي فيه لاكتشاف القوانين التي تضبط حركته ، وشروط فعاليتها ، وكيفية التحكم في تلك الشروط لنعرف كيف نحقق الممكن الذي نريد . بهذا يفرض علينا ” جدل الانسان ” أن نتحرر من المثالية التي تخضع حركتنا لتصورات فكرية مجردة غير قابلة للتحقيق ثم أن نبحث وندرس ونتعلم حتى نعرف واقعنا وكيف نغيّره . وينذرنا ” جدل الانسان ” منذ البداية بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع لتحقيق أحلام غير قابلة للتحقق لأنها لا تتفق مع حتمية القوانين التي تضبط حركة الواقع الذي تريد أن تغيّره . أو أية حركة تستهدف من تغيير الواقع ما هو ممكن ولكنها تفتقر إلى ” العلم ” بما تريد أن تغيره . تلك مثالية والمثالية فاشلة .
2 ـ ويتضمن ” جدل الانسان ” ويأخذ عما سبقه ما عرفناه عند الحديث عن الجدلية ( فقرة 9 ) من ان كل الأشياء والظواهر :
(1)  يؤثر بعضها في بعض ،
(2)  خلال حركتها التي لا تتوقف ،
(3)  فتلحقها تغيرات مستمرة  .
ويتفق مع بعض المناهج السابقة في أن تلك القوانين الكلية الثلاثة تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان نفسه .
ومنه نتعلم :
أن ندرس ونتابع ونستوعب ونستفيد من الشروح الجديدة التي قدمها ، ويقدمها ، الفكر الانساني لهذه القوانين الثلاثة فنعرف ـ أولاً ـ اننا عندما نحاول اكتشاف واقعنا لنغيّره لا يكفي ان نعرفه كما هو وحده ومعزولاً عن غيره . بل لابد لنا أن نكتشف معه ما يتأثر به وما يؤثر فيه من خارجه . ثم عندما نحاول تغييره أن ندخل في حسابات التخطيط لتغييره ، وفي تقدير القوى اللازمة لهذا التغيير ، وفي وسائل التغيير ذاتها ، ذلك التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره فنعد مقدماً ونستعد لما تولده حركة التغيير ـ حتماً ـ من أفعال تؤثر في غير واقعنا ومن ردود أفعال تؤثر في واقعنا . ونحن لا نستطيع ان نقدر هذا التأثير المتبادل تقديراً صحيحاً إذا اكتفينا بما نعرفه في زمان معين ولو كان صحيحاً . ذلك لأننا يجب ان نعرف ـ ثانياً ـ إن واقعنا وغيره في حركة دائمة فلا نقيم خطط تغيير واقعنا كما لو كان ثابتاً . إن الانتباه إلى حتمية قانون الحركة يحتاج منا إلى تدريب شاق . لأننا أنفسنا نتحرك مع الواقع فيصعب على كثير منا أن يدرك الحركة ذاتها فيتصور أن الواقع حاضر . إنه حاضر معنا وبالنسبة الينا لأننا نصاحبه في حركته . ولكنه ونحن معه في حركة دائمة من الماضي الى المستقبل . إننا نتغلب على هذه الصعوبة إذا اعتدنا ان نضيف إلى قائمة الاسئلة التي نطرحها لنعرف من اجابتها ما هو الواقع وكيف نغيّره ، السؤال : متى ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في الزمان . ثم السؤال : أين ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في المكان . وندرب أنفسنا على ألا نفهم شيئاً أو أحداً ، أو نقيّمه ، أو نريده ، أو نريد له ، إلا في حديه من المكان والزمان معاً وخلال حركته المستمرة بين هذين الحدين . فنفهمه في حالة صيرورة مابين أعمق ماض نذكره إلى اقصى مستقبل نتصوره . عندئذ نفهمه فهماً صحيحاً ونكتسب ملكة الفهم الصحيح للواقع في حركته التي لا تتوقف . وسيسهل علينا أن نستفيد من قانون الحركة الحتمي إذا عرفنا ـ ثالثاً ـ أن التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره خلال الحركة المستمرة يصيب كل منهما بتغييرات مستمرة . قد تكون تلك التغيّرات طفيفة أو خفية فلا ندركها ، وقد تكون عنيفة أو مفاجئة فندركها ، لا يهم . المهم ان ننتبه إلى أن الواقع قد تغيّر ـ حتماً ـ في ماضيه ويتغير ـ  حتماً ـ في مستقبله ، خلال حركته المستمرة من الماضي إلى المستقبل وبحكم قانون التأثير المتبادل الحتمي . فلا نقيم خطط تغيير الواقع إلا بعد أن نعرف من حركته في الماضي ( تاريخه ) كيف تغيّر حتى أصبح كما نعرفه . ونعد مقدماً للتغيرات التي ستلحقه حتماً في مستقبله ونحن نخطط لتطويره إلى المستقبل الذي نريد . وعندما ندرك ان هذه التغيرات تتم خلال الحركة المستمرة ونربط بين فعالية القوانين ( الحركة والتغير ) وتأثيرهما المتبادل ، نتعلم كيف أن التاريخ ليس ركاماً من الأحداث نعرفها لنرضي فضولنا بل خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا ، وان خططنا الشاملة المكان ليست مجرد تحديد لمواقع نضالنا بل مواجهة لمعطيات عينية لا تمكن مواجهتها بنجاح بعيداً عن مكانها ، وإن خططنا الممتدة في الزمان ليست مجرد تقسيم لجهودنا على مراحل او توزيعاً للجهود على الاجيال المتعاقبة بل اختياراً واعياً وواقعياً وعلمياً معاً للاهداف والقوى والاساليب المرحلية المتغايرة تبعاً لتغيّر الواقع الذي تواجهه في زمانه . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع جاهلة الرابطة الشاملة لواقعنا وغيره والتي تحتم أن يكون واقعنا مؤثراً في غيره متأثر به ، أو متجاهلة حركة الواقع التي لا تتوقف فتفضل تاريخ الواقع عن مصيره ، أو متجمدة عند ذات الأهداف والقوى والاساليب التي كانت مناسبة لمرحلة فتجاوزها الواقع المتغيّر أبداً فلم تعد مناسبة .
3 ـ في نطاق هذه القوانين الكلية الثلاثة ( التأثير المتبادل والحركة والتغير ) تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية الخاصة .
ومنه نتعلم :
أن معرفتنا ، فالتزامنا ، النظر إلى الواقع وفهمه في إطار العلاقة الشاملة التي تجمع بينه وبين غيره وتحتم أن يكون مؤثراً متأثراً متحركاً متغيراً أبداً ليست إلا خطوة أولى . أو أنها خطوة أولى لازمة ولكن غير كافية لنعرف كيف نغير واقعنا وننجح في تغييره . فهذا الواقع الذي نتحدث عنه كما لو كان وجوداً بسيطاً هو وجود مركب من ذرات مختلفة التركيب تتجمع في عناصر متميزة الخصائص تقسم الى انواع متعددة ز فمنه الجماد والنبات والحيوان والانسان . ومنه الطاقة ومنه المادة . وإلى كل عنصر ، وكل نوع وكل جنس ينتمي ما لاحصر له من الجزئيات . ولكل ذرة ، أو عنصر أو نوع … الخ  ” علم ” متخصص في اكتشاف ماهيته وقوانين حركته ولا يفيدنا ـ هنا ـ ان نعدد تلك العلوم المتخصصة . إنما يفيدنا ان نعلم ـ من جدل الانسان ـ أن ” العلم ” بمعناه الفني المتخصص ، أي معرفة مفردات الواقع من أول الذرات الى آخر البشر ، واكتشاف خصائصها وقوانين حركتها وعلاقاتها المتبادلة شرط جوهري لامكان تغيير الواقع لا تغني عنه معرفة انها جميعاً يؤثر بعضها في بعض خلال حركتها التي لا تتوقف فتصيبها تغيرات مستمرة . بل إن هذه المعرفة العلمية بالانواع وقوانينها الخاصة هي التي تمكننا من الاستفادة بالقوانين الكلية الثلاثة التي عرفناها . إذ ان القانون النوعي الذي يضبط حركة كل شيء على حدة هو الذي يحدد لنا ” شرط ” فعالية القانون الكلي فيه . فنعرف منه كيف يحدث التأثير المتبادل بينه وبين غيره وكيف تتم حركته واتجاهها وكيف يتغير ومضمون ذلك التغير . وبهذه المعرفة نستطيع أن نتحكم في الأثر ومداه وفي الحركة واتجاهها وفي التغير ومضمونه . أي نستطيع أن نستخدم فعالية القوانين الكلية في إحداث التغييرات التي نريدها في الواقع العيني المركب من أنواع مختلفة بقدر ما يكون علمنا بها صحيحاً . بدون هذا ” العلم ” المتخصص في الأنواع ، بدون التسلح بالمعرفة الصحيحة والوافية في الفيزياء والكيمياء والاحياء ، بدون علم الجيولوجيا والجغرافيا والهندسة والطب ، بدون هذه العلوم التي يسمونهاتكنولوجيا ” بدون علم الاجتماع ، بدون علم الاقتصاد ، بدون علم القانون ، الخ لا نعرف كيف نغيّر واقعنا فلا ننجح في تغييره حتى لو كنا قد عرفنا أن تغييره ممكن . وكما أن المعرفة الجزئية المتخصصة بمفردات الواقع وقوانينها النوعية لا تكفي لمعرفة كيف يتغيّر الواقع الشامل فيعجز العلماء المقصورة معرفتهم على مجالات تخصصهم في تغييره ، كذلك لا يستطيع أكثر الناس ثورية تغيير واقعهم إلى ما يريدون بدون علماء متخصصين . ولا يستطيع أحد أن يغيّر من الواقع شيئاً إلا بقدر ما يعلم وفي مجال علمه لا أكثر ولا أبعد . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تتوقع تغيير الواقع الى ما تريد اتكالاً على جهود العلماء المتخصصين في مجالاتهم وتستغني بالتقدم الجزئي عن التقدم الشامل ، أو ، اتكالاً على إرادتها التغيير بدون ” علم ” فتستغني بالهدم عن البناء وبالساسة عن العلماء.
وبعد ،
فتلك نذر ثلاثة وعاها غيرنا من قبل فأصابوا ما كانوا يستهدفون بقدر ما وعوها . ينذرنا بها ” جدل الانسانمجدداً ، تأكيداً لاتصال المعرفة الانسانية وتحذيراً من أن نهدر ـ جهلاً أو تعصباً ـ خبرة السابقين فلا نزيد عن ان نكررالاخطاء التي علمتهم لمجرد الرغبة الطفولية أن تكون لنا ” نظرية ” خاصة .
غير ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا نذراً مضافة .  

ثانياً ـ الاضافة :  

4 ـ كان المنهج الجدلي كما عرفناه ( فقرة 9 ) يتضمن : ” (4) ان هذه التغيرات المستمرة هي تطور نام يتم خلال الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته . ” وكان ذلك عند أصحابه قانوناً كلياً ” يضبط حركة الاشياء والظواهر . في هذا يختلف جدل الانسان ” فيفترق عن المناهج التي تجمعه بها اصول واحدة ليقرر أنه : في نطاق القوانين الكلية الثلاثة الأولى ” يتحول ” كل شيء طبقاً لقانونه النوعي وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً ” لتطويره  .
ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا مفردات ذات دلالات مقصودة ، فلا ننسبن اليها دلالات أخر ولا نسلبنها دلالتها ” التغيرات ” التي تصيب الاشياء والظواهر تتضمن نوعين : أولهماالتحول ” وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف . وثانيهما ” التطور ” وهو إضافة الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق تلقائياً بفعل التاثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واعبفعالية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ” قادر ” على استخدامها لتغيير الاشياء والظواهر الى ما ” يريد  .
التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول الذرات إلى آخر المجرات . إذ تخضع حركتها لقوانين ميكانيكية أو كوانطية معروفة او تمكن معرفتها ويحكمها قانون المادة الحديدي (المادة لاتفنى ولا تتجدد) . فكما يتحول الماء الى بخار يتحول البخار الى ماء بدون اضافة او رقي . وكما تتحول المادة الى طاقة تتحول الطاقة الى مادة بدون اضافة او رقي . وهي لا تتحول إذ تتحول إلا بمؤثر من خارجها . لأن المادة خالية من التناقض الداخلي والصراع . فهي لا تتطور جدلياً إلى ما هو ارقى بل تتاثر خلال حركتها فتتحول طبقاً لقوانينها النوعية من حالة الى حالة وتعود سيرتها الاولى بدون ان ترقى .
أما ” التطور ” فلا يصيب إلا الظواهر الانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ” الذي سنعرفه فيما بعد ، بالاضافة الى خضوعه للقوانين الكلية الثلاثة الأولى فيولد وينمو ويموت بدون اضافة شأنه شأن اية مادة أخرى . ولكنه حيث يكون انساناً واعياً يضبط حركته قانون الجدل حتماً . طبقاً له يؤثر ويتاثر ولا يستطيع ان يؤثر ويتاثر إلا طبقاً له وهكذا يكون قانون الجدل قانوناً نوعياً خاصاً بحركة الانسان وحده ” كوحدة نوعية من الذكاء والمادة ” به يطور واقعه فيضيف اليه ما لم يكن ليتحقق في الواقع إلا لأنه أراده وعمل على تحقيقه .
فلا نقعن في الخلط الذي ورثناه من نظرية داروين عن ” التطور ” في عالم الاحياء . لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل . جديدة بمعنى انها ما كانت لتولد بدون تهجين . وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون . كان أولئك الناس يطورون الواقع طبقاً لقانونهم ( الجدل ) بالتحكم في قوانين الحيوان ( الوراثة ) . فلما لاحظ داروين خلال رحلاته اختلاف الانواع في عالم الحيوان عمم ملحوظته الأولى فظن ان ثمة انتخاباً بين الانواع تختاره الطبيعة . والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها فتتغير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار . انها تتلاءم مع بيئتها ” سلبياً ” فتتغير ولا تغيّر بيئتها ” ايجابياً ” لتلائمهما كما يفعل الانسان . أما ما ظنه صلة بين الانواع ولم يعرف كيف تحدث فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصراً لداروين وإن لم يكن ـ حينئذ ـ معروفاً . ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم ـ بعد ذلك بوقت غير قصير ـ بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة . ولم تعد الدارونية ـ او الدارونية الحديثة كما يسمونها ـ إلا محصلة دراسة فعالية قوانين الوراثة في الأنواع وفيما بينها في نطاق قوانين التأثر المتبادل والحركة والتغير التي تحكم العلاقة بين الانواع وبيئتها . وقوانين الوراثة ـ كما يعرف الاخصائيون ـ ذات دلالة مذهلة على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض . وهكذانعرف ان الطبيعة ، حتى في عالم الأحياء ، تتحول ولا تتطور . ما تزال ” الاميبا ”  والدودة معاصرتين في الطبيعة للقرد والانسان . ولا يمكن القول ـ إلا مجازاً ـ بأن القرد ” أرقى ” من الدودة مادام كل منهما ما يزال على ذات البعد من الانسان الذي ينفرد بالمقدرة على ” الفعل الارادي ” فيخلق ما لم يكن موجوداً على ما يريد . ذلك لأن ” الرقي ” كما نستعمله في ” جدل الانسان ” تعبير عن ثمرة هذا الخلق الارادي .
ومنه نتعلم :
أعظم دروس الجدل على الاطلاق : أولوية الانسان .
أولوية الانسان ، لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أو مثالي أو اخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصر البشري في أي مجتمع . كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها امكانيات متاحة ولكن البشر وحدهم هم القادرون على استخدام تلك القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي وعلى البشر وحدهم يتوقف ما يكون من أمر تلك القوى والمواد . فحتم على الناس ألا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أو ، كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي . نستطيع أن نترجمه إلى مباديء استراتيجية فنقول : لا تحرر بدون أحرار ، لا وحدة بدون وحدويين ، لا اشتراكية بدون اشتراكيين . ونستطيع ان نترجمه الى تخطيط فنقول أن وجود ” الكوادر” الثورية يجب ان يسبق قيام ” التنظيم الثوري ” وإن قيام التنظيم الثوري” يجب أن يسبق الثورة . ونستطيع أن نترجمه الى برامج تنفيذية فنقول : إن تدريب العاملين على صناعة معينة يجب ان يسبق بدء تشغيل مصانع انتاجها ، وأن حل مشكلات العاملين يجب ان يسبق حل مشكلات العمل . ونستطيع أن نترجمه إلى مواقف فنقول : ان السلبية موقف عقيم ، وان الاستهانة بالناس خطأ ، وان فرض الوصاية عليهم خطأ فاحش ، أما الاستبداد فيهم فتخريب لحركة التطور الاجتماعي . ونستطيع ان نترجمه الى تقييم فنقول : إن الجبناء والمنافقين والمترددين حتى في حياتهم الخاصة لا يمكن ان يصلوا الى التطور الثوري . وإن المستبدين حتى في منازلهم لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين . وان المختلسين والمرتشين حتى لو كانوا عباقرة الاقتصاد لا يصلحون لادارة مشروع اشتراكي … الخ . وكم نستطيع أن نترجم من هذا الدرس العظيم : الانسان أولاً .
وهكذا ينذرنا ” جدل الانسانبالفشل الذي تستحقه أية حركة تحاول ان تفهم الواقع بدون ان تبدأ بالانسان ، او تعد لتغييره بدون ان تبدأ بالانسان ، أو تحاول تغييره بدون ان تبدأ بالانسان او تستهدف من التغيير مستقبلاً لا يكون فيه الانسان أولاً ، جاهلة أو متجاهلة إن الانسان ، وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وان الناس ، وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي .
فكيف يخلق الناس ما يريدون .  

ثالثاً ـ القانون :  

5 ـفي الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل إضافة فيها من الماضي والمستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . وفيما يلي بيان قصير عن هذا القانون ننقله من ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 118 وما بعدها )  .
يقول :
” …  النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً الى وجه في ذاته . ( يسترجع الماضي بالذاكرة ويستقدم المستقبل بالمخيلة وكلاهما من خصائص الانسان وحده )  .
والماضي ـ بالنسبة الى الانسان ـ مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء ، ولكن الانسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع ، يدرك امتداده التلقائي في المستقبل . والمستقبل ـ بالنسبة الى الانسان ـ تطور لا يحدّه قيد من المكان أو الزمان . واقصى مستقبل لأي انسان ان تتحقق جميع احتياجاته . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل وبين المستقبل الذي يريده الانسان . وبين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة ـ التي تعبر عن الصراع ـ هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الانسان . ويعبر عنه سلبياً بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل )  ومقاومة الظروف ( الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لابد حلها . ويظل الصراع قائماً : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيث يلتقيان ، ولا نقول الحاضر إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك ـ وفي الانسان ـ يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمناً إضافة جديدة .
أما كيف يحل التناقض فقد قلنا أن صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد ان تحل ، ثم يستعمل الانسان ادراكه ( إحدى خصائص الانسان وحده ) ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته . ( الظوف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده الانسان ) . ويستفيد الانسان من مقدرته على معرفة الماضي في المستقبل وهو ما اسميناه الامتداد التلقائي للظروف . كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً . أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ، ويلغي من المستقبل الذي اراده الانسان ما لم يتفق مع امكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق في ـ كل لحظة وفي كل مكان ـ مستقبلاً متفقاً مع حاجة الانسان وظروفه ، أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ( إحدى خصائص الانسان وحده ) الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .
كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟
بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض وينشا بها تناقض جديد . لأن ما يتحقق فعلاً يلحق فور تحققه بالماضي فالزمان لا يتوقف . وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلاً ثم اصبح ماضياً بتحققه في أثناء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد مدى تصوره المستقبل ، ويكشف له مدى جديداً في حاجاته ، وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل ، وهكذا وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الامام ( تقدم ) لأنه اضافة . وهكذا تتابع المشكلات وتتابع الحلول ويتقدم الانسان وحاجته معلقة دائماً على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه . يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءاً من مضمونه امتد امامه وظل مستقبلاً ذا مضمون جديد . وفي تاريخ الانسان سار هذاالجدل من البسيط الى المركب ومن المحدود الى الأكثر شمولاً ( بفعاليته التي تنمي وتضيف أبداً ) ، وكلما زادت تجارب الانسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته وزادت حاجاته فزادت مشكلاته فأبدع لها مزيداً من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الانسان على نسبة واحدة واصبح يحل في شهور ما كان يحله في قرون مع ان مشكلاته قد تضاعفت اضعافاً .
وإذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الانسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وهو جزء منها يؤثر ويتأثر في حركة دائمة وتغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكياً أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به أو لا يتأثر بها أو يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت ارادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضوياً وفكرياً . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلاً والتي تشمله . لهذا فغن جدل الانسان كقانون يعطل ( لاتحل المشكلة ) اذا لم يكن الجدل مستنداً الى المعرفة الصحيحة بالطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالاً صحيحاً … الخ  .
يكفي هذا بياناً .
هذا هو قانون جدل الانسان .
وهو قانون حتمي .
(1) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه هو محاولة من جانبه لحل مشكلة يتناقض فيها واقعه مع ارادته ، ولا يستطيع أي انسان أن يكف عن محاولة حل مشكلاته إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يكون جهازاً لا يتوقف لحل المشكلات .
(2) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي انسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائماً حريته .
و(3) حتمي بمعنى أن تحرر الانسان من حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في    موضوع جديد . ولا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة .
و(4) حتمي بمعنى ان الانسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه .
ولا بأس في ان نضيف أنه :
(5) حتمي بمعنى أن الانسان يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، بقدر ما يتفق مع طبيعة هذا الواقع في زمانه . ولا يستطيع أي انسان أن يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، أكثر مما يتفق مع طبيعة واقعه في زمانه إذ حتم على الانسان ، بحكم ان الجدل قانون ” نوعي ” خاص به وحده ، أن تتاثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه .
هذا هو القانون وهذي هي حتميته .
فكيف يتم التطور الاجتماعي ؟
نرد المفرد ( الانسان ) الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها . ونحن لا نستطيع أن نرى هذا بوضوح إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير تيار فكري علمنا ويعلمنا أن المجتمع كائن ” مستقل عن الناس فيه . وقد استدرج هذا التيار بعضنا ، وما يزال يستدرجهم ، إلى محاولة اكتشاف قوانين خاصة بحركة ذلك الكائن الموهوم مختلفة نوعياً عن القوانين التي تضبط حركة البشر . عندما نتحرر من هذا الوهم نواجه المجتمع على حقيقته . جماعة من الناس في واقع معين واحد . واقع معين زائد ناساً متعددين يساوي واقعاً مشتركاً . وذلك هو المجتمع : جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم . قد تكون الجماعة أسرة ، أو عشيرة ، او قبيلة ، او شعباً لايهم . أنهم أفراد متعددين ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان . كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لاشباع حاجته وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته … الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان ” شيئاً ” جامداً ولا يحوّل الناس الى قطيع من الحيوان. وإنما الذي يتغير هو الواقع ذاته . إذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه . ويكون على “جدل الانسان ” أن يشق طريقه الحتمي الى الحرية في هذا الواقع الاجتماعي . وهو يشقه بنجاح مطرد إذا تعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو على حقيقته الموضوعية .
وأولى الحقائق الموضوعية هي أن الواقع الاجتماعي محصلة تطور تاريخي . تطور في الماضي . ” والماضي ـ بالنسبة الى الانسان ـ مادي جامد غير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء” . ومؤدى هذا انه عندما يولد الانسان فيجد أنه انسان من مجتمع معين يصبح إلغاء هذا المجتمع مستحيلاً إنه مجتمعه أراد هذا أم لم يرده . أعجبه أم لم يعجبه . وما عليه إلا ان يتعامل معه كما هو أو أن يهرب الى حيث يعيش مشرداً بدون مجتمع أو إلى حيث يجد مجتمعاً يشركه في واقعه وعندئذ سيواجه الحقيقة التي هرب منها : قبول التعامل مع مجتمعه ( الجديد ) كما هو .
والحقيقة الثانية هي ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع ( حصيلة الماضي ) الذي يناقض ما يريده الانسان هو ـ هنا ـ واقع اجتماعي . ومؤدى هذا أنه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة . إن كل المشكلات التي يواجهها أي إنسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في اثارتها أو إلا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه .
الحقيقة الثالثة ، أجدر الحقائق بالانتباه ، لأنها عقدة العقد في مشكلات التطور الاجتماعي ، هي أنه مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً . ونحن نعي هذا تماماً إذا تذكرنا أن التناقض الجدلي يقوم بين الواقع ، وهو هنا واقع اجتماعي محدد موضوعياً وغير قابل للالغاء ، وبين المستقبل كما يريده الانسان و ” المستقبل ـ بالنسبة الى الانسان ـ تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ” . لا قيد ولا حد لما يتمناه الانسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه إنه يصوغه كما يريد من تجاربه أو تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف من واقع الناس في المجتمعات الاخرى . لا قيد ولا حد للطموح الانساني ولكن مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح ، في مجتمع معين في وقت معين ، محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هو محدد موضوعياً . مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطيء ، قاصر او متجاوز أو مناقضاً ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا ان يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد .
الحقيقة الرابعة ، والخاتمة ، أنالانسان ” يشق طريقه الحتمي الى الحرية بنجاح بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه . ويصدق هذا بالنسبة الى أي إنسان في المجتمع فيشبع حاجاته بيسر ويطرد تقدمه نحو الحرية كلما استطاع أن يعرف الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاته وأن يلتزمه في الممارسة ( العمل ) . قد يغريه النجاح المؤقت في اشباع حاجاته عن طريق الحلول الخاطئة ولكنه لن يلبث أن يتبين أنه كان حلاً خاطئاً ، فيسترد منه المجتمع ما اختلسه ليعود فيواجه ذات المشكلات التي ظن انه قد حلها الحل الصحيح . ويصدق بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم ” الاجتماعي ” بيسر ويطرد التطور الاجتماعي اذا ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة ( العمل ) ويفشلون في تطوير واقعهم ولا يتطور المجتمع إذاً ، وكلما ، جهلوا الحل ” الاجتماعي” الصحيح لمشكلاتهم أو لم يلتزموه في الممارسة ( العمل ).
فكيف يهتدي الناس في مجتمع معين إلى هذا الحل الصحيح ؟
بالجدل المشترك . أو ما نسميهالجدل الاجتماعي ” ، المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … الخ مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له . ولا يمكن أن تحل أية مشكلة حلاً علمياً عن غير طريق الصدفة إلا بالتزام هذا الايقاع الذي نسميه حركة الجدل . إذن فالمجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها إلا بعد . أن ” الجدل الاجتماعي ” هو ” جدل الانسان ” في الحركة الاجتماعية ” ، أو هو الصيغة الاجتماعية ” لجدل الانسان ” . فهو حتمي . فحيثما واينما يتسق النشاط الاجتماعي معه تنشط حركة التطور . وحيثما واينما لا تتسق تبقى المشكلات الاجتماعية يعانيها الناس وتتعثر حركة التطور .
قد يكون هذا واضحاً . ولكن لماذا هذه “المشاركة ” في الجدل الاجتماعي ؟
مادام الواقع الاجتماعي الذي يثير المشكلات الاجتماعية محدداً موضوعياً وما دامت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً ، فلماذا لا يصح أن التطور الاجتماعي يتم ويطرد او يمكن ان يتم ويطرد ولو تولى واحد او جماعة من العلماء أو العباقرة او الملهمينالخ ، تحديد المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة ، ويكون على الناس بعد ذلك أن ينفذوا بقوة عملهم تلك الحلول العلمية أو العبقرية أو الملهمة … الخ ؟ لماذا لا يصح هذا خاصة إذا لاحظنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية والحلول الصحيحة لها قد تحتاج إلى كفاءة ثقافية لا تتوافر لكل أو أغلب الناس في المجتمع ؟
لو صح هذا لما كان الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي للتطور الاجتماعي .
هذا واضح ايضاً . ولكنه غير صحيح .
لا نريد أن نحتج بما هو دارج في الكتابات عن التطور الاجتماعي من أن مشاركة ” الجماهير ” في حركة التطور الاجتماعي لازمة لأن أي إنسان بمفرده أو اية جماعة محدودة من الناس لا تستطيع ان تحيط بكل المشكلات الاجتماعية او بحلولها الصحيحة أو أن تقوم بكل العمل اللازم لانجاز متطلبات التطور الاجتماعي . لا نريد ان نحتج به ، لا إنكاراً لعجز أي إنسان أو اية جماعة محدودة من الناس الاحاطة بكل المشكلات الاجتماعية أو بحلولها الصحيحة والعمل المناسب للتطور الاجتماعي بما يعنيه هذا من انهم يعوقون التطور الاجتماعي الممكن بقدر عجزهم ولا انكاراً للمقدرة المضاعفة على التطور الاجتماعي التي تؤدي اليها مشاركة الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة والعمل على تنفيذها في الواقع . لا ننكر هذا لأنه صحيح ولكننا لانحتج به لأن الاحتجاج به على حتمية قانون التطور الاجتماعي خطأ . إذ أن الحتمية في القانون موضوعية بصرف النظر عن مقدرة الناس او عجزهم عن استعماله استعمالاً صحيحاً . ثم لنحذر من الفهم الخاطيء بأن مبرر مشاركة الناس في تطوير واقعهم الاجتماعي هو عجز المتصدين لتطويره عن الوفاء بكل مسؤولياته ، وكأن الناس مجرد قوةاحتياطية ” تحت تصرف القيادة ، تشركهم في التطوير الاجتماعي إذا رات انها في حاجة اليهم وتستغني عنهم إن استطاعت … وهو تحذير لازم وجدير بانتباه كل المشغولين بالتطور الاجتماعي في مجتمعاتهم النامية بوجه خاص ، حيث لا ينكر احد أن اغلبية الناس في تلك المجتمعات متخلفة ، كأثر من آثار القهر الاستعماري ، في المقدرة على معرفة الحقيقة الاجتماعية للمشكلات او في المقدرة على اكتشاف الحلول الموضوعية الصحيحة لها ، أو في المقدرة على اداء العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلول في الواقع ، وكثيراً ما يؤخذ واقع التخلف هذا حجة لفرض الوصاية على الشعوب لأنها ” قاصرة ” فما ان تتحرر من قهر اجنبي حتى تجد نفسها مقهورة من ابنائها .
بل نقول :
إن الناس في أي مجتمع بحكم أنهم بشر ( بحكم قانونهم النوعي ) لا يكفون ولا يستطيعون أن يكفوا عن معاناة مشكلاتهم حتى لو لم يعرفوا حقيقتها الاجتماعية . لا يكفون ولا يستطيعون أن يكفوا عن محاولات اكتشاف حلولها الصحيحة حتى لو كانوا عاجزين عن اكتشافها . لا يكفون ولايستطيعون أن يكفوا عن العمل الذهني أو المادي ، الايجابي او السلبي ، الذي يعتقدون انه يحل مشكلاتهم حتى لو لم يكن هو العمل المناسب لحل تلك المشكلات . اشتراك الناس ، إذن ، في محاولات تغيير الواقع الاجتماعي حتمية لا يستطيعون ان يكفوا انفسهم عنها . وإنما المسألة هي ما إذا كان هذا النشاط الذي يقوم به الناس يؤدي الى حل مشكلاتهم فعلاً أم انه يبدد طاقاتهم في محاولات فاشلة لحلها . إنه يؤدي إلى حل مشكلاتهم فعلاً بقدر ما يكون تنفيذاً لحلول صحيحة لمشكلات حقيقية ، فيتم التطور الاجتماعي وتطرد حركته التقدمية . أما إذا كان عملاً غير مناسب لتنفيذ حلول صحيحة ، أو كان عملاً مناسباً ولكن في تنفيذ حلول خاطئة ، أو كان عملاً مناسباً في تنفيذ حلول صحيحة ولكن لمشكلات غير حقيقية ، فإنه اهدار لطاقات الناس لا يحل مشكلاتهم فلا يتم التطور الاجتماعي . وهذا ما يحدث عندما يكون الناس متخلفين في المقدرة على معرفة الحلول الموضوعية الصحيحة لها ، أو في المقدرة على اداء العمل المناسب لتنفيذ هذه الحلول في الواقع . عندما يكون الناس على هذا القدر من التخلف يكون تخلفهم ذاته واقعاً اجتماعياً . جزءاً من واقعهم الاجتماعي . فيثير مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض الكامن في الناس انفسهم بين “واقع”  عجزهم عن معرفة الحقيقة الاجتماعية لمشكلاتهم من ناحية وبين ارادتهم معرفتها من ناحية اخرى بين “واقع ” عجزهم عن اكتشاف الحلول الموضوعية الصحيحة لمشكلاتهم من ناحية وبين ارادتهم اكتشافها من ناحية اخرى . بين ” واقع ” عجزهم عن ممارسة العمل المناسب لحلها من ناحية وارادتهم حلها من ناحية اخرى . باختصار يطرح تخلف الناس في مقدرتهم على تطوير واقعهم مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض القائم فيهم بين واقع عجزهم عن التطور الاجتماعي وبين ارادتهم التطور . وتكون هذه اخطر المشكلات الاجتماعية حيث تكون . هذا إذا سلمنا بان الناس هم اداة التطور الاجتماعي . لأن هذا التخلف هو حينئذ عجز في الاداة يعوق التطور الاجتماعي بقدر ما تكون عاجزة .
كيف يمكن علاج هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة ؟
بتغيير الواقع في الناس انفسهم . بتغيير تخلفهم في المقدرة على التطوير الاجتماعي . وذلك باشتراكهم على اوسع نطاق في معرفة المشكلات التي يثيرها واقعهم الاجتماعي ، واشتراكهم على أوسع نطاق في اكتشاف حلولها الصحيحة ، واشتراكهم على اوسع نطاق في العمل الاجتماعي . إنهم بهذا يطورون مقدرتهم الجدلية ، أي يطورون مقدرتهم على حل مشكلاتهم الاجتماعية حلاً صحيحاً . إذن ، فليست المشاركة ، التي يكتسب بها جدل الانسان صيغته الاجتماعية فيصبح جدلاً اجتماعياً ، حلاً لمشكلة اقتصادية أو فنية قد لا يعرفه الا العلماء المتخصصون ، إنما هي فعالية جدل الانسان وهو يطور فعاليته نفسه . وبها يحل مشكلة المشكلات جميعاً ، التي يتوقف على حلها تحويل ما يعرفه العلماء المتخصصون في أي مجال من حبر على ورق إلى واقع حي متطور . تلك هي مشكلة تخلف الناس في المقدرة على حل المشكلات الاجتماعية حلاً صحيحاً . لهذا لا يكون ” الجدل الاجتماعي ” هو القانون الحتمي لتطور المجتمعات فحسب بل يكون ـ مع هذا وقبله ـ القانون الحتمي لتطور مقدرة الناس على تطوير مجتمعاتهم . فلا يصح معه فرض الوصاية علىالشعوب بحجة قصورها . ولا يصح معه الاستغناء عن مشاركة الناس في تطوير مجتمعاتهم بما يستطيعه العلماء ولو كانوا من العباقرة او الملهمين … الخ .
المجتمع ، إذن ، لا يؤثر في حتمية جدل الانسان .
بل أن تلك الحتمية تبدو اوضح ما تكون عندما يقوم في المجتمع واقع يتحداها . انها عندئذ تمزق المجتمع نفسه وتثير بين الناس فيه ” صراعاً اجتماعياً ” قد يصل الى حد الموت . وذلك عندما يختلف الناس في ما هي الحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي . ونكون في مواجهة مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض بين الواقع الاجتماعي في حركة تطوره الحتمية وبين ارادة الذين يريدون تعويقه . وهي مشكلة يمكن حلها بالجدل الاجتماعي الذي يكتشف به هؤلاء ان ارادتهم يجب ان تتسق مع حركة التطور الاجتماعي بحكم ان الحلول الصحيحة لكل المشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وان ما يريدونه ولا يتفق في الوقت ذاته مع مقتضيات التطور الاجتماعي لن يحققوه طال الزمان أم قصر ، وانهم لا يفعلون بمحاولة فرض ارادتهم إلا تحدي حتمية التطور الاجتماعي … الخ . المشاركة الجادة في محاولة معرفة المشكلات الاجتماعية على حقيقتها الموضوعية ولو مع الاختلاف الفكري ، والمشاركة الواعية في محاولة اكتشاف الحلول الصحيحة ولو مع الخلاف في الرأي ، كفيلان بأن تعرف في النهاية الحقيقة الموضوعية للمشكلات وحلولها ، وفيها يتبين من يريد أن عليه ان يفرق بين طموحه الانساني بالنسبة إلى المستقبل وبين ما يمكن تحقيقه بحكم الواقع الاجتماعي في وقت معين وان عليه في كل وقت بذاته ان تتفق ارادته مع معطيات الواقع الاجتماعي ومتطلبات تطوره في ذلك الوقت . وعندما يتبين هذا ويلتزمه ينتهي الخلاف تمهيداً للمشاركة في العمل . وتحل هذه المشكلة . ولكن قد يحدث ـ لأسباب متعددة ـ ان يصر هؤلاء على موقفهم المضاد لحركة التطور الاجتماعي ويحولون بهذا الاصرار دون ان يؤدي الجدل الاجتماعي الى غايته الحتمية . وقد يتجاوزون الاصرار والمقاومة إلى محاولة استخدام ، أو استخدام ، مقدرتهم المالية او الاقتصادية او الفكرية او السياسية … الخ ، في منع الجدل الاجتماعي أو تخريبه بالقوة  او بتزييف المشكلات الاجتماعية وتضليل الناس فيها ، أو فرض حلول غير حلولها الصحيحة ، او تسخير الناس في عمل لا يحل مشكلاتهم الاجتماعية . حينئذ يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته حل المشكلة التي أثارها هؤلاء بموقفهم المضاد لتطور المجتمع . وطوال فترة الصراع الاجتماعي ، وفي مجالاته ، تنصرف مقدرة الناس العلمية والفكرية والمادية الى حل هذه المشكلة بدلاً من تفرغها للتطور الاجتماعي الذي اصبح مستحيلاً ، فيتوقف التطور الاجتماعي بقدر ما يستنفذ الصراع الاجتماعي من قوة إلى ان تزاح العقبة التي اقامها موقف الذين حاولوا تعويقه بعدم التزامهم قانونه الحتمي : الجدل الاجتماعي . ويلاحظ هنا أثر الحتمية في موضعين : حتمية الصراع الاجتماعي لإزاحة أية عقبة تقف في سبيل الجدل الاجتماعي . وحتمية توقف التطور الاجتماعي في كل وقت ومجال تقوم فيه عقبة في سبيل الجدل الاجتماعي.
واخيراً .
فمن حتمية الصراع هذه ، وعلى ضوء ما قلناه من قبل من ان ” جدل الانسان ” قانون نوعي خاص بالانسان وحده فتخضع فعاليته لقانون التأثير المتبادل والحركة والتغير ، نستطيع ان نتعرف على شرط قانون ” جدل الانسان ” في صيغته الفردية وصيغته الاجتماعية ( الجدل الاجتماعي  )  . شرطه في صيغته الأولى وجود الانسان الحر . وجود الانسان بكل خصائصه كوحدة من المادة والذكاء متحرراً مما يؤثر فيه فيحول دون مقدرته على الجدل . وعندما يتخلف هذا الشرط ، وبمقدار ما يتخلف ، تضعف فعالية جدل الانسان ز ويكف الانسان عن الجدل بالموت . وشرطه في صيغته الاجتماعية ( الجدل الاجتماعي ) وجود المجتمع الحر ايضاً . وجود جماعة من الناس يعيشون في واقع معين مشترك . وعندما يتخلف هذا الشرط ، وبمقدار ما يتخلف ، تضعف فعالية الجدل الاجتماعي بين أفراد من الناس او حتى جماعات لا يعيشون في واقع معين مشترك . اما عندما يكون ثمة مجتمع قد قام فيه ما يمس وجوده فإن مشكلة الناس فيه لا تكون تطويره بل استرداده لأنفسهم حتى يستطيعوا بعد هذا ـ وليس قبله ـ تطويره .
من كل هذا نتعلم دروساً في التطور الاجتماعي :
منها ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم . ويكون علينا ، أول ماعلينا ، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ونحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . ان نجيب على أول الأسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما هو مجتمعنا . وان نحتفظ به كما هو . وان نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء أعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة ، او رافضة التعامل مع ، حقيقته الاجتماعية كما هي .
ومنها ان التطور الاجتماعي ليس مجرد نمو خلال الاضافة بل إن كل إضافة ينمو بها المجتمع ويتطور هي حل لمشكلة اجتماعية واقعية . فليس كل ما يحدث في الواقع الاجتماعي تطور . ويكون علينا ونحن نحاول أن نفهم كيف تطور الواقع الاجتماعي ، مادياً أو فكرياً أو بشرياً … الخ ، حتى أصبح ” كما هو ” ان نضيف سؤالاً جديداً الى الاسئلة التي عرفناها من قبل .. فبعد ” ما هو ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه ما هية الحدث التاريخي ، وبعد ” أين ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه حده المكاني ، وبعد ” متى ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه حده الزماني ، نسأل : لماذا ؟ … ومن الاجابة عليه نعرف المشكلة الاجتماعية التي كان محاولة لحلها فنعرف قيمته الحقيقية كإضافة في حركة التطور الاجتماعي وذلك بمعرفة ما إذا كان قد حل المشكلة التي أثارته والى أي مدى . ويفيدنا هذا في ان نفرق ، في واقعنا الاجتماعي ، بين ما كان ثمرة تطور تاريخي وبين آثار التحولات التلقائية أو ميراث الفشل السابق . فنتمسك ونحافظ ونطور الأول ونصحح في المستقبل الاخطاء التي وقعت في الماضي . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع متجاهلة أو جاهلة تطوره التاريخي أو غير قادرة على التعرف في الواقع على ما هو ثمرة تطويره وما هو من بقايا مراحل تخلفه .
ومنها إن التطور الاجتماعي هو حل مشكلات الناس في المجتمع لا أكثر ولا أقل . ويكون علينا ونحن نحاول أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله لنطور واقعنا الاجتماعي أن نعرف مشكلات الناس معرفة صحيحة . مشكلات الناس بما فيهم نحن وليس مشكلاتنا نحن دون الناس . ونحن نعرفها بالمقارنة بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الناس كما هو . إن المشكلة هي الفرق بينهما في المضمون والمدى . وبدون هذا لا يمكن ان نعرف المشكلات الاجتماعية فلا نستطيع حلها . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه اية حركة تستهدف تطوير الواقع لحل مشكلات أصحابها او متجاهلة مشكلات الناس . أو جاهلة او متجاهلة حقيقة الواقع الاجتماعي . أو مدعية للناس مشكلات لا يشعرون بها في انفسهم .
ومنها ان التطور الاجتماعي لايتم بمحاولة تحقيق ” كل ” ما يريده الناس بل بتحقيق ما لا يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدونه في مجتمع معين وفي وقت معين وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا أن نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت ونحن نحاول أن نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات الناس في واقعنا الاجتماعي . إن التخطيط لحل المشكلات الاجتماعية على مراحل واقعية يصبح لازماً لنجاحنا . ومع هذا ، ففي كل الحالات ، يجب ان نكف أنفسنا عن محاولة تحقيق أي امر في غير الوقت الذي يسمح الواقع الموضوعي بتحقيقه . ولا يجوز لنا ، مهما تكن الظروف ، ان نعد بأكثر مما يمكن تحقيقه . ولا ينبغي لنا ، أبداً ، ان نخشى ، أن يرفض الناس وعودنا الواقعية . فطال الزمان أو قصر سيتعلم الناس ولو من فشل الوعود الكاذبة كيف يقبلون ما هو صحيح . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته او تنافق الناس فتعدهم بما لا تستطيع ان تحققه .
ومنها ان الناس أداة التطور الاجتماعي ، ولا يتم التطور الاجتماعي إلا إذا، وبقدر ما ، شارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة والمساهمة في العمل اللازم والمناسب لحلها ، ويكون علينا ان نشترك مع الناس ونشركهم معنا ونحقق لهم ولنا أوسع مجالات المشاركة في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة والعمل لحلها . وعندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية  أو عن اكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع فلا نعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم ، بل ننتبه ، بقوة ، إلى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الاجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر . فلا نهرب منها او نستهين بها بل نضعها فوراً في المرتبة الأولى من المشكلات الاجتماعية الملحة التي يجب ان تحل . التوعية مفيدة ولكنها لا تغني عن تنمية الوعي من خلال دراسة المشكلات الاجتماعية مهما اقتضت من جهد . والارشاد مفيد ولكنه لا يغني عن تنمية المعرفة عن طريق النشاط الفكري مهما صاحبها من اخطاء . والرقابة مفيدة ولكنها لا تغني عن تنمية المهارة عن طريق الممارسة مهما تطلبت من وقت . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة ان مشاركة الناس في تحقيق التطور لازمة فتعزل نفسها عن الناس أو تعزلهم عنها . أو تستعلي على الناس في المجتمع فتفرض عليهم وصايتها بحجة انهم لا يعرفون ” مصالحهم الحقيقية .
ومنها أنه عندما تحول أية قوة ، لأي سبب ، دون التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته تصفية القوى المضادة للتطور ليستأنف التطور الاجتماعي مسيرته بدون صراع . ويكون علينا ونحن نحاول ان نطور واقعنا ان نتمسك بقوة بالحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي وألا نتنازل عنها او نساوم عليها مهما تكن القوى التي نواجهها وان نحاول بكل وسيلة ممكنة اقناع الآخرين بصحة مواقفنا . ثم ان نكون مستعدين دائماً لدخول معركة الصراع الاجتماعي بكل اسلحته ضد كل القوى التي حتمته بمواقفها المضادة للتطور الاجتماعي . وان ندخله ، بدون تردد ، في كل مجالاته ن بيقين المؤمن بأنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح ، واثقين من انه مهما تكن موازين القوى في بداية الصراع أو في مراحله فإن النصر معقود في النهاية لغايتنا . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع وتخشى أعداء تطوره فتتراجع او تساوم او لا تعد للصراع عدته فتشتري سلامتها الحاضرة بمستقبل الناس في المجتمع .
هذا يكفي .
فهل حلت مشكلة المنهج ؟

رابعاً ـ حل المشكلة :  

6 ـ لعلنا أن نكون قد تبينا في سياق الحديث الذي سبق عن ” جدل الانسان ” في صيغته الفردية والاجتماعية ( الجدل الاجتماعي ) ان مشكلة المنهج كما نذكرها : ” ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية، كان مصدرها التناقض بين واقع القصور الفكري عن معرفة قوانين التطور الاجتماعي الموضوعية وبين ارادة معرفتها . وان هذا التناقض لا يقوم الا عند الذين لا يعرفون ان مصدر الحتمية في حركة التطور الاجتماعي وفي حرية الارادة الانسانية هو قانون واحد . وعندما نعرف أن حركة الانسان وحركة المجتمع منضبطتان بقانون واحد . وعندما نعرف ان حركة الانسان وحركة المجتمع منضبطتان بقانون حتمي واحد ( جدل الانسان ) يتجه بهما إلىغاية واحدة ( الحرية ) يزول ما كان يبدو من تناقض بينهما فلا تكون ثمة مشكلة .

خامساً ـ صيغة المنهج الجدلي :  

7 ـ إذا اردنا ان نجمع كل ما عرفناه من قوانين التطور الاجتماعي في صيغة واحدة يسهل علينا تذكرها لكانت على الوجه الاتي :
(1)  في الكل الشامل للطبيعة والانسان : (2) كل شيء مؤثر في غيره متأثر به (3) كل شيء في حركة دائمة . (4) كل شيء في تغير مستمر . (5) في إطار هذه القوانين الكلية الثلاثة يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي . (6) وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً لتطوره . (7) في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل : (8) ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل ، (9) إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ، (10) ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد  .
ويكون هذا هو منهج ” جدل الانسان ” او صيغة المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة بكل ما يتضمنه من أصل مسبوق وإضافة من عنده .  

19 ـ عود على بدء :  

قد نجد منهج جدل الانسان معقداً في صيغته غير ان هذا لا ينبغي أن ينسينا أننا تعلمنا منه دروساً تبدو بدهية من فرط صدقها مع خبرتنا المتراكمة مع الممارسة . وقد تغرينا تلك البداهة فنستغني بها عن المنهج . عندئذ نرتكب خطأ جسيماً . لأن البداهة ليست طريقاً علمياً إلى المعرفة . وإنما يبدو الأمر لأي منا بدهياً على ضوء خبرته الذاتية المتراكمة فيبدو له صحيحاً الى الدرجة التي لا تحتاج الى البحث لمعرفة لماذا هو صحيح . فغن كانت تلك الدروس تبدو لنا بدهية فلأن ” جدل الانسان ” يضبط حركتنا حتى بدون أن نعرفه وليست خبراتنا المتراكمة التي نرى على ضوئها أن تلك دروس بدهية إلا ثمرة فعالية جدل الانسان فينا . غير انه يبقى صحيحاً ان الاحتكام الى البداهة خطأ . إن اختلفنا فيها نفترق ولا بد ان نفترق . لأن الناس لا يستوون في خبراتهم الذاتية . وما يكون صحيحا بالبداهة عند واحد قد يكون خطأ بالبداهة أيضا عند آخر . ان الاحتكام للحقائق الموضوعية هو وحده  الذي يحفظ الوحدة بين الناس فلا يفترقون ولو اختلفوا رأيا. يقينا منهم بأنه مادامت الحقائق موضوعية فان معرفتها معرفة صحيحة بالبحث العلمي والحوار كفيلة بأن تنهي الخلاف في الرأي .
وطبقا لجدل الانسان طبقا لمنطق التطور الاجتماعي كما عرفنا سنجتهد فيما يلي لنصوغ نظرية تغيير واقعنا . ان كان المنهج خاطيء فكل ما سنقوله سيكون خطأ . ولن يصح مما نقول الا بالقدر ما هو صحيح في المنهج . اما اذا كان “جدل الانسان” صحيحا فان أي خطأ في النظرية يكون مرجعه الى قصور في معرفة واقعنا معرفة صحيحة . هو خطأ يمكن تصحيحه طبقا لجدل الانسان ذاته ...

                             
                              ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق