القاذفون
الحجارة .. الحاملون الحضارة .
د.عصمت
سيف الدولة .
قال الله تعالى خالق الناس المحيط بطبائعهم : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم " (النساء : 148) اية ملفتة استعنت بحكمها
وحكمتها حينما كنت أتولى الدفاع عن المتهمين (176 متهما ) بالتحريض على ثورة الجياع كما أسمت
الصحف الأوروبية الانتفاضة الشعبية
التي اجتاحت مصر يومي 18 و19 يناير 1977 .
خلال تلك الأحداث
عبر الشعب الثائر عن رأيه فى أنور السادات وحكومته ووزرائه بكلمات بالغة السوء مهينة وجارحة وبذيئة
ايضا . عبر عنها علنا فى أشعار وأزجال ولافتات وهتافات ، ان تؤخذ بدلالتها المجردة بعيدا عن ظروفها
الاجتماعية والسياسية فهي لا شك جرائم
يعاقب عليها القانون اما في ظروفها حيث المجني عليهم قد ظلموا الشعب فهي مما يحبه الله . انه
تعالى لا يبيحه أو يرضى به بل يحب من عباده أن يجهروا به في وجه الظالمين ، ولقد حكم القضاء ببراءة كل المتهمين ضد كل ما نسب إليهم بما فيها
تلك الكلمات بالغة السوء والبلاغة أيضا .
لغة خاصة في
حالات خاصة ، ولا شك في أننا نعرف جميعا أن في عالمنا العربي " لغة احتياطية " غير الفصحى والعامية
لغة لها مفرداتها الخاصة ودلالاتها الخاصة أكثر استعمالا في الحياة العامة من غيرها في مواقف
لا تجدي فيها أية لغة غيرها . وهي تستعمل بمفرداتها في مناسبات متناقضة . تستعمل لإشاعة البهجة في المجالس الخاصة في شكل " نكتة
" يتبارى الظرفاء في تأليفها وإلقائها لإثارة الضحك معا أو على من يشاؤون من غيرهم .
ولقد حاول كثيرون أن يؤلفوا
" النكت " بغير لغتها " البذيئة " وحاول الأستاذ العقاد رحمه الله ان يرجع بلاغتها وتأثيرها الى المفارقات من مضمونها بعد استبعاد " لغتها الخاصة " فلم تفلح المحاولات
خاصة وهذه اللغة ذاتها أكثر بلاغة حين تستعمل في
مناسبة التعبير عن " الغيظ "
الشديد من موقف دنئ غير مقبول أو معقول . حين
يستعصي ذلك الموقف على الإدراك العقلي ويستعصي صاحبه على الحوار الذي يفترض استحقاقه الاحترام اولا . هنا يتحول الغيظ إلى
دفعات من كلمات وأوصاف مختارة من تلك اللغة
" البذيئة " توجه إلى صاحب الموقف الدنئ يسميها القرآن في أية أخرى "سبا" (الإنعام :108) و"سخرية" (التوبة : 79)
و"لمزا" (الحجرات : 11) ويجمعها تحت اسم " السوء من القول" ثم يحبب إلى المظلومين من عباده أن يجهروا بها ، وفى القاموس تسمّى " شتائم ".
بلاغة الشتائم البذيئة خاصة تبهرني سامعا . ولكن ـ من سوء حظي أو من حسن الحظ ـ أنني عاجز ، وكنت دائما عاجزا عن استعمال مفردات تلك اللغة
التي تثير الضحك تارة وتفرغ الغيظ تارة اخرى ..
ما تزال القيم التي يصاغ عليها أطفال الصعيد في مصر تحرمني من استعمال تلك اللغة البذيئة المحرمة اصلا في الصعيد ( لعل هذا هو
السبب في أن الصعايدة مادة للنكت في القاهرة والوجه البحري ولكنهم لا يحسنون تأليفها أو حتى
إلقاءها فقيل أنهم ثقيلوا الدم ).
على أي حال منذ فترة وانأ أعاني من كبت تلك اللغة الخاصة ، فانا أواجه وأقرا بعض مواقف من ثورة الأطفال العرب في فلسطين المغتصبة تستعصي على الإدراك فتستدعي بالضرورة ما يعبر عن الغيظ من تلك اللغة المبهرة . أريد ان أجهر بالسوء من القول ، أريد أن " أشتم " ولكن غير قادر .. فلا يبقى لي الا أن أترك القرّاء في الشعور بالغيظ من مواقف وأقوال تستغل ثورة الأطفال الأبطال لظلم الأمة العربية التي لها كل
انتمائي وولائي . وبالتالي أعتقد أنني ، بحق أو بوهم ، مسؤول عن رد الاعتداء عليها .
الانتفاضة بريئة من التلوث الاقليمى .
والمسالة هي انه
منذ بدأ الأطفال العرب في فلسطين ثورتهم الفريدة ضد المغتصبين ، ورجموهم بالحجارة كما يرجم المجرمون ، والشعب العربي كله ، في
كل مكان ، يحتضنهم في سويداء القلوب ، ويتعلق بأيديهم الغضة لتنشله من هاوية المذلة ، ويعلق عليهم آماله التي خابت على أيدي حكامه ، ويتهافت كثيرون من الحكام والقوى والمنظمات والأفراد ،
خاصة الكتاب والكاتبون الى احتضانهم ليشرفه بالانتساب إليهم أو
بانتسابهم إليه . وكل هذه مشاعر إنسانية من شعب أرهقته
المذلة يبحث عمن يردّ إليه " العزة
والكرامة " شعار عبد الناصر الذي
يفتقده العرب ألان أكثر مما
افتقده من أي وقت مضى .
من حق كل عربي
، إذن ، أن يفخر " بجنرالات " العروبة الصغار ويباهي بهم كل ثورات
التحرر في التاريخ
، ولكن ليس من حق احد أن " يباهي"
الأمة العربية بأطفالها . ومن حق الشعب العربي
من فلسطين
ومنظماته وكتابه وقياداته ان يفخروا بأبنائهم وبناتهم الصغار
، ولكن ليس من حقهم ، على سبيل
القطع ، أن يفاخروا بهم الأمة العربية
.. من موقف " فلسطين " كما لو لم يكن الفلسطينيون عربا … انه خطأ إقليمي
فاحش إن كان بحسن
نية ، أما إذا كان مقصودا ـ كما أوحت إلي بعض
المقالات التي نشرت ـ فهي خيانة للثوار
الصغار قبل ان تكون اعتداء على العروبة.
من ذا الذي
لا يفهم ؟.. إذن ، إن مباهاة الأمة
العربية بثورة الأطفال في فلسطين
تعني ـ لا أقول ضمنا ، بل أقول صراحة ـ مباركة اغتصاب فلسطين من الأمة العربية
، فصلها ثم وضعها فى مواجهة أمتها
، ثم مقارنة فى البطولة والعطاء ، ثم المباهاة
.. ليس هناك موقف إقليمي أكثر تدنيا
من هذا الموقف ..
لست أتوقف ـ من
فرط الغيظ ـ عند هذا الحد ، بل اقول جادا أن الأمة العربية التي يمثلها القوميون في مواجهة الإقليمية هي وحدها صاحبة
الحق في مباهاة كل الإقليميين العرب
، دولا، وحكومات ، ومنظمات ، وكتابا بأبنائها الثوار في فلسطين ، لا استثني الإقليمين
الفلسطينيين
الذين يمثلهم ذلك "القيادي " الذي
ما فتئ يتشدق معايرا الأمة العربية
: " شو أخدنا من ها العرب
.. شو بدنا منهم .. خلينا يا آخى فحالنا
من شان ناخد دولتنا .. اللي حيجيبها إلنا أطفالنا
الأبطال".
هناك أمة عربية
؟.. نعم . هذه الأمة
مجزأة دولا عربية أيضا ؟ نعم . لكل دولة حاكم هو الأخر عربي
؟؟ نعم .. هل هناك شعب عربي لا تتفق مواقفه دائما مع مواقف حكامه ؟. نعم ايضا . من
اذن الذين تعايرونهم وتتهمونهم بالتخاذل أو التخلي
، أو حتى خيانة قضية فلسطين
؟..
إنكم تعرفونهم
جيدا . لأنهم
أولئك من دون العرب جميعا الذين اخترتم التعامل معهم ، والاتكال على وعودهم
بالرغم من تخاذلهم وتخليهم
عن ثورتكم .
إنهم هم الذين
ما فتئتم تتشاورون
معهم ، علنا وخفية ، بحثا عن طريق يجمعكم وإياهم إلى : " المؤتمر
الدولي" ... إنهم دول وحكام عرب
.
هؤلاء العرب
، يا آخى يا إخوتي :" شو أخذتم منهم .. شو بدكم منهم "..
إن فاقد الشئ لا
يعطيه ، فان يكونوا جميعا عاجزون عن تحرير
دولهم من السيطرة الخارجية سياسيا
واقتصاديا وثقافيا … الخ فهل هم قادرون
على تحرير فلسطين
.. قولوا فيهم ما شئتم أو كونوا معهم كيف تشاءون
، ولكن بالله عليكم ، لا تلوموهم قبل أن تلوموا انفسكم على أنكم وانتم عاجزون
بذواتكم عن تحرير فلسطين ، قد تحالفتم مع من هم أشد منكم عجزا . ثم لوموا انفسكم مرة
اخرى على انكم انتقيتم من بين الشعب العربي كله هؤلاء الذين تشكون
منهم . ان كنتم صادقين فى شكواكم
، ولم يكن ذلك " تحججا " بنكوصهم عما لا يستطيعون
.
المراهنة على الأنظمة
خطأ من ؟
لعل أحدا من
الذين كانوا شاهدين أن يذكرهم انه في
ابريل 1970 ، قال لكم قائل من العرب
، خلال مناظرة علنية انعقدت فى عمان وشارك فيها ممثلون لكل المنظمات
العديدة حينئذ ، قال: " أن ( إسرائيل ) قد قامت
، وما تزال باقية ، وستتوسع في حماية الدول العربية
" .. ولعل احد ممن يقرأون بما كتب لكم واليكم ثم نشر عام 1968
، يتنبأ بمأزق " السد" الذي سيقطع عليكم الطريق من بيروت ، ويحذركم
من ان الإقليمية من حولكم
والإقليمية في داخلكم
ستهزمكم .
ولعل القادة
القادرين على اتخاذ القرار ان يذكروا لكم كم مرة ـ قبل محنة بيروت ـ قيل لهم تحالفوا
مع الشعب العربي بدلا من حكامه . شاركوا الشعب
العربي قضاياه في أقاليمه ليشارككم قضية تحرير فلسطين . لا تسمحوا للدول العربية
بان تحولكم الى دولة بدون ارض لتكونوا
ملزمين بميثاق الدار البيضاء " عدم تدخل أي دولة عربية في الشؤون الداخلية لدولة
أخرى " .. لا تسجنوا الثورة
في زنازين الإقليمية …
ومع ذلك
..
فمن هم ، في
الحقيقة ، الثوار
القاذفون بالحجارة في ارض فلسطين . انهم اطفال .
لا يمكن أن تسند إليهم
" إيديولوجية " ولو كانت إيديولوجية التحرير
. وليست لهم مطامع خاصة في " الدولة الفلسطينية
" إنهم حتى لا يعرفون ما هي " الدولة " . وليسوا ـ طبعا ـ مشغولين بإستراتيجية دولية ولا بتكتيك محلي ، لو سئل أي
منهم لماذا تقاتل
وماذا تريد من وراء القتال لما عرف الجوب العقائدي
أو الجواب السياسي ، أو الجواب الاقتصادي … يعرف فقط أن الصهاينة أعداء العرب
. وهي خلاصة
كل تحليل القضية .
فما هي الشعلة
التي تلهب إرادتهم وما هي القوة التي تحرك اذرعتهم ، ولماذا هم هكذا لا يهابون الصهاينة
ولا يهابون الموت؟
أنا أقول لكم
.. لأنهم أبرياء من "التلوث الإقليمي"
.. لأنهم عرب على السجية
.. لانهم لم يعرفوا غير العروبة هوية حتى حين ينتسبون إلى فلسطين
الأرض التي لا هوية دولة لهم . لانهم لم يخالطوا
الدول العربية
ولم يتعاملوا مع الحكام الإقليميين
لأنهم ولدوا وشبوا بعيدا
عنهم ، وبدون حاكم اقليمى من بينهم ..
التحرر من الإقليمية
شرط
كل انتصار ..
على امتداد الوطن
العربي تجثم الدول العربية على صدر الأمة العربية
بدون ان تترك للامة " مساحة " خالية تعبر عن ذاتها من خلالها . وكلما
وجد عرب
متحررون من الدول الاقليمية عبرت الامة من خلالهم عن إرادتها وبهرت العالم
بمقدرتها على التحرر .
إلى من ينتمي
المقاتلون الأبطال
في جنوب لبنان ؟ لا تقولوا لي دولة لبنان الغائبة
. هذه ساحة غير اقليمية ملأتها الامة العربية من خلال ابطال اغلبهم من الشباب . ومأثورة
الأطفال ، القاذفين الحجارة في فلسطين
، إلا الأمة العربية
تقاتل ، ولو بالحجارة دفاعا عن وجودها ، في مساحة
ارض الوطن الكبير خالية من الاقليمية العربية .
ثم تأملوا ؟..
لماذا يكون
الثوار الأبطال في كل مكان متحررين من القهر الاقليمى ، من الشباب أو الاطفال ؟ ..
لان حضارة
الأمم ، لو كنتم تعلمون ، تنتقل إلى الأطفال
وتحدّد آمالهم وآلامهم وأدوارهم قبل أن يبلغوا
سن السادسة عشرة ، تنتقل إليهم عن طريق امهاتهم
اللواتى تنقلنه اليهم اطفالا .. وهكذا اجيالا بعد أجيال قبل السن
الذي يكتسبون فيه من ظروفهم ما يخربهم أو يغريهم ، نعم انها ثورة أطفال يقذفون
الحجارة ، ولكن الصورة المنشورة تضيف إلى هذا ما نسيناه جميعا
. دور الام ، ناقلة الحضارة العربية
إلى وليدها بدون ان تدرى وبدون ان يدرك هو .
الأمهات في
فلسطين اللواتي دفعن فلذات أكبادهن الى
مخاطر الموت ثم وقفن وراء أولادهن يجمعن الحجارة
أو يقذفنها . انها إلام العربية الممثل الحقيقي
، والمجد الحي ، لكل الدلالات الحضارية للأمة
العربية .
كلما استطاعت الأمة
العربية
أن تعبر عن ذاتها قولا او عملا ، بعيدا عن قيود الاقليمية فهى مع الثورة ، بحكم
التوارث الحضاري الذي تنقله الأمهات
ويحمله الأطفال ، او بحكم الشعور بالانتماء
بدون اصطناع
الذي يحرك الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي
، أو بحكم الوعي بماهية الأمة ودورها في صنع
التاريخ الذي يقود فكر وفعل طائفة من العرب
يسمونهم " القوميون
".
هذه أول مرة تتاح
فيها لامتنا العربية أن تشارك في معركة تحرير فلسطين بأطفالها العرب
،
بأمهاتهم
العرب .. فلا تعايروا القومية
بالأطفال القوميون وأمهاتهم القوميات
.. انه موقف دنئ يا أولاد … الإقليمية
.
القاهرة
في 10 ابريل 1988 .