1 ـ ... ومضت ثمان وعشرون سنة على إعلان وحدة مصر
وسورية في دولة يوم 22 فبراير 1958
، لم تكن تلك أول وحدة بينهما . فمنذ ما قبل أن توجد أية دولة عربية ، بل قبل أن
توجد الدول
جميعا وحد التاريخ بين القطرين ، فوحد مصيرهما
.. انهزما معا .. وانتصرا معا .. وكانا دائما قطرين من دولة
واحدة بعد أن عرف التاريخ الدول الإمبراطوريات
، ولم تنفصلا إلا حينما احتلت انجلترا مصر واحتلت فرنسا سوريا ، ثم عادتا إلى الوحدة
عام 1958
، وانفصلتا عام 1961
ولم تزلا
..
2 ـ انهزم القطران معا حينما غزتهما الجماعات القبلية
الوافدة من الشرق بقيادة من أطلق عليهم
اسم " الملوك الأجانب " أو "حقا خوت" الذي حرف في اللغة
الإغريقية إلى "هكسوس" عام 1675 ق.م . وحينما انهزم جيشهما
الموحد تحت قيادة "تفت تخت" 730 ق.م . فاستولى عليهما معا الأشوريون .
وحينما غزتهما التجمعات
القبلية الوافدة من فارس بقيادة
قمبيز عام 525 ق.م واستولت عليهما معا .. وحينما عادت إليهما كرة أخرى عام 341 ق.م
بقيادة ارتخشاشا الثالث
واستولت عليهما معا . وحين
غزاهما الإغريق بقيادة الاسكندر المقدوني وخلفاؤه من البطالمة
والرومان والبيزنطيين فاستولوا عليهما معا .. ثم الفتح العربي لهما معا في النصف
الأول من القرن السابع الميلادي ، فتعربا معا .. ثم العثمانيون
والاستعماريون الأوروبيون الى ما بعد الحرب العالمية الثانية
..
3 ـ
وانتصر القطران معا ضد التجمعات
القبلية الغازية من شمال وشرق سورية في حروب دفاعية مشتركة تحت قيادة
ساحورع (2552 ـ 2539 ق.م) . ثم تحت قيادة
بيبي الأول (2402 ـ 2377 ق.م) . ثم تحت قيادة
أمنمحات الأول (1991 ـ 1961 ق.م) . ثم تحت قيادة سنوسرت الثالث (1876 ـ 1841 ق.م)
. ثم تحت قيادة
أحمس (1570 ـ 1546 ق.م) . ثم تحوتمس الذي دحر قبائل قادش عند مدينة
نوخاشن المجاورة لمكان حلب الحالية
، وانتصر القطران معا في معارك متصلة ابتداء من عهد امنحتب الرابع (1370 ـ 1349
ق.م) المعروف
باسم اخناتون بعد أن اجتاحت جيوش
ملكية خيتة سورية وفلسطين وطاردت مواطنيها إلى مصر فأوتهم .. وكوّنوا معا جيشا
موحدا تحت قيادة "حور محب" طارد الغزاة
فطردهم من سورية .. ولما عادوا مرة أخرى خرج إليهم رمسيس
الثاني (1290 ت 1223 ق.م) بجيش من مصر
.. وكادت الدائرة تدور عليه فتقدم
إلى نجدته ألوف من شباب فلسطين وسورية مكونين تشكيلا عسكريا
يطلق عليه في الآثار اسم " ثيارونا " ويعني " فرقة الشبيبة " فتحوّل
الجيش
المصري إلى جيش موحد فانتصر رمسيس الثاني وحرر سوريا ومصر
معا من مخاطر الغزاة .
4 ـ ومنذ الفتح العربي في النصف
الأول من القرن السابع الميلادي ، حتى أواخر القرن التاسع عشر ، أي على مدى نحو
اثني عشر قرنا ، كانت مصر وسورية ولايتين
أو أيالتين من دولة مركزية واحدة .. لم يحدث قط على مدى 1200
سنة أن كانت سورية دولة مستقلة أو كانت مصر دولة مستقلة . لم يحدث قط على مدى تلك القرون
الطويلة أن قامت بينهما سدود
أو قيود أو حدود على حرية الانتقال والإقامة والعمل . لم يحدث قط على مدى اثني عشر
قرنا
أن سادت في سوريا أو مصر ، أو طبقت شرائع
أو نظم أو قوانين خاصة بها دون القطر
الآخر . لم يحدث قط على مدى تلك القرون
أن استأثر قطر منهما عن الآخر ببناة الحضارة من الفقهاء
والعلماء والأدباء والفنانين والفنيين .. الخ . ولقد شاركتهما في هذا التاريخ أقطار
عربية أخرى .. فماذا يقول علماء التاريخ وعلماء الأجناس وعلماء الاجتماع
وعلماء النفس وعلماء الحضارات
في شعب أو شعوب عاشت أكثر من عشرة قرون معا على أرض محددة تحت قيادة
واحدة . في ظل شرائع
واحدة ، يتفاعل الناس فيها تفاعلا حرا فيما بينهم . ويبدعون حضارة
أسهموا كلهم فيها بدون تفرقة .. ألا ينتمون
حينئذ إلى أمة واحدة مكتملة التكوين .. كيف تكتمل الأمم تكوينا إذا لم تكن مصر وسوريا
(وأقطار أخرى) جزأين من أمة واحدة
؟..
5 ـ يطيب لنا نحن العرب أن نتذكر
فنذكر صلاح الدين البطل العربي الذي لا يهزم . أما تاريخ التكوين
القومي في مرحلة اكتماله خلال معارك الدفاع عن الوطن المشترك ضد الغزو الصليبي
فيعلمنا لماذا انتصر صلاح
الدين ولماذا انهزم وعلاقة النصر
والهزيمة بوحدة مصر وسورية . وسورية انفصلت عن مصر لفترة قليلة بعد وفاة السلطان
نور الدين محمود . ولقد حاول صلاح
الدين ، حاكم مصر بمصر وحدها أن يتحدى الصليبيين
مرتين فانهزم في المرتين ، الأولى عام 1171 والثانية عام 1173 هزمه اقل ملوك الصليبيين
شأنا ، حاكم إمارة مونتريال الصليبية
، أما سوريا فقد مزقتها الطائفية وتقسمت فيما بين قلاع الحشاشين .
ولقد أدرك صلاح
الدين أسباب الهزيمة
فأدرك أسباب النصر ، فظل يجهز للنصر أسبابه أربع عشرة سنة . انطلق أولا إلى دمشق
وهناك هزم الملك الصالح
بالقرب من حماه يوم 13 ابريل 1175 . وصفى قلاع الحشاشين وطهر سورية
من الصراع الطائفي ثم أعاد الوحدة بين سورية ومصر . وبعد هذا استطاع
أن يتحدى الصليبيين
في معركة حطين بجيش عربي
موحد فحرر القدس يوم 2 أكتوبر 1187 . وعرف خلفاءه طريق النصر فاتبعوه . قاد قطز
جيشا عربيا موحدا فهزم المغول في معركة عين جالوت
. وحرر جيش عربي موحد بقيادة الظاهر بيبرس الكرك وقبارية وأرسوف وصفد ويافا وأنطاكيا
. وحرر جيش عربي موحد بقيادة قلاوون
اللاذقية وطرابلس . وحرر جيش عربي موحد بقيادة خليل بن قلاوون عكا وصور وحيفا
وبيروت ، فانتهى الاغتصاب الصليبي
عام 1291 من ناحية ، واكتملت الأمة العربية تكوينا خلال معارك مشتركة
دفاعا عن الوطن المشترك ضد العدو المشترك
على مدى قرنين تعلم فيها الناس كيف أن النصر
معقود لألوية الوحدة وكيف أن الهزيمة مرتبطة بالتجزئة
. ومنذئذ وفي ظل كل الظروف
، وحتى بعد تجزئة الأمة العربية الى دول ، سيبقى النزوع الى الوحدة العربية محركا لتيارات
السياسة وموجها لتدفقاتها .
6 ـ
حسن البنا ، مرشد "الإخوان المسلمين" ، يعلن أن من يحاول
سلخ قطر من الجسم العام للأمة العربية
يعين الخصوم الغاصبين على كسر شوكة وطنه وإضعاف
قوة بلاده ، ويرشد "الإخوان المسلمين" إلى أن يضيفوا إلى قانونهم
الأساسي هدفا يجاهدون من أجله هو تحقيق الوحدة العربية الشاملة .. مصطفى
النحاس يوفد عبد الرحمان عزام مندوبا عنه إلى مؤتمر القدس (1931)
ليشارك في الدعوة الى الوحدة العربية . مكرم عبيد يكتب في مجلة الهلال (1939)
ردا لدعاوي أبناء الفراعنة
تحت عنوان "المصريون عر ب" . مصر تمنع سفر العمال من مصر ليحلوا محل
العمال في فلسطين خلال ثورة 1936 . المتطوعون
من مصر يسبقون دولتهم إلى أرض المعركة في فلسطين العربية عام 1948 . الدكتور محمد صلاح
الدين ، وزير خارجية مصر ، يرفض عام 1950 الاقتراح الانجليزي بالصلح مع إسرائيل
مقابل جلاء
القوات البريطانية من مصر
. الضباط الأحرار يتصلون
سرا بالمناضلين العرب في دمشق . عبد اللطيف بغدادي ووجيه أباضة ، من ضباط
سلاح الطيران الأحرار
، يقذفان الصهاينة بالقنابل وهما في رحلة عودة إلى مصر بدون أوامر . عبد الناصر
يسمّي قناة السويس
سنة 1956 قناة العرب . المناضلون
العرب يفجرون أنابيب البترول في لبنان خلال المعركة . العمال العرب يقاطعون
السفن الأمريكية في اللاذقية . البطل العربي جول جمال
، الضابط في القوات المسلحة السورية ، يترك وحدته ليقود زورقا بحريا
يدافع عن قناة السويس ويستشهد . وتنتصر مصر في حرب السويس فيعلن عبد الناصر
عام 1957 أمام مجلس الأمة " إن القومية
العربية هي أمضى أسلحتنا في الدفاع عن وطننا سواء في ذلك حدودنا المصرية
أو حدودنا العربية
الشاملة " . ويتحول الانتماء الموضوعي
إلى الأمة العربية إلى ميدان مبدأ دستوري تنتج به دساتير مصر المتعاقبة ، 1956 ، 1964
، 1971 ، "مصر جزء من الأمة العربية ويعمل شعبها
على تحقيق وحدتها الشاملة " .. وهو مبدأ يحرسه قانون العقوبات
التي يعاقب بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من يخون يمين الولاء
للدستور وكل من يناهض المبادئ
الأساسية في الدستور .
7 ـ
وفي عام 1958
تتوج المسيرة العربية بإعلان الوحدة بين مصر وسورية ، ويقول عبد الناصر : " إذا
كان العالم
قد عاش من قبل عصر النهضة
ثم عاش بعد ذلك عصر الفضاء
، فإننا نعيش اليوم عصر الوحدة " . ويبدأ الصعود
إلى القمة ، " الوحدة الشاملة " .
8 ـ
فتتكالب
علينا القوى العدوانية . استغفر الله . تتجمع علينا قوى الكلاب العدوانية ، ويبدأ
في عام 1958
ذاته وضع الخطط العسكرية والتدريب عليها لتنفذ عام 1967
. وتنشر المجلة الصهيونية "الاوبسرفاتيردي مويان أوران" في نوفمبر 1958
، أي بعد أقل من عام من إعلان الوحدة
، القرار الصهيوني الذي بقي سرا منذ 1948 بالحيلة ولو بالقوة دون الوحدة
فتقول : "إن حفظ التوازن فيما بين الدول العربية
المجاورة لإسرائيل والدول العربية عموما مهمة يتولاها الإسرائيليون وتدخل في نطاق
واجباتهم . إننا نقوم هنا ـ إذا صح التعبير ـ على تنفيذ (مبدأ منرو) خاص
بالشرق الأوسط . إن القرار الذي اتخذناه
بهذا الخصوص منذ عشر سنوات (أي عام 1948) يؤدي الى الاستقرار والسلام . وفي أول
ديسمبر 1966
يعلن الصهيوني ليفي أشكول رئيس المؤسسة
الصهيونية المسمّاة إسرائيل في رسالة بالراديو أن سياسة إسرائيل منذ سنة 1958
(أي منذ الوحدة التي نتحدث بمناسبة ذكراها) أن تحول ولو بالقوة
دون أي تغيير يحدث في الوضع القائم للدول العربية
. وعندما يوشك الصهاينة وحلفائهم على تنفيذ خطتهم التي وضعوها عام 1958
يصرح أبا ايبان في فبراير 1967
(الذكرى التاسعة للوحدة وقبل خمسة
أشهر من العدوان) : "يجب أن يكون واضحا
أن مصير المنطقة العربية لا يمكن أن يكون الوحدة ، بالعكس انه الاستقلال القائم
على التجزئة
" .
فنعرف من الذي
تآمر لتحقيق
الانفصال عام 1961
، ولماذا شنوا علينا حرب 1967
، ولماذا ولمصلحة من ، تعلو الأصوات من حين الى حين منكرة الأمة العربية ، متنكرة
للعلاقات القومية
، منعزلة أو قابلة العزل عن باقي الأمة ، رافعة أعلاما حاكتها من بقايا أكفان الفراعنة
..
9 ـ
ويتساءلون لماذا كل هذا العناء والتضحيات
من أجل الوحدة ؟ السؤال
خطأ ومضلل وخبيث الصيغة ! لم يقاتل العرب
منذ الفتح العربي الإسلامي من أجل الوحدة ، ولكنهم ناضلوا وقاتلوا ، جيلا بعد جيل
، ضد الانفصال . لقد كانت الوحدة
العربية متحققة ومعاشة ومطردة الى أن تدخل الاستعمار
الأوروبي فجزأ الأمة الواحدة
دولا متعددة . خطط لها الحدود وعين لها الحكام ، ودرب لها الجيوش
، وأنشأ لها المحاكم ، وبنى لها السجون ، ووضع لها القوانين
.. من هو العربي الذي يستطيع
أن يزعم أن والد جده أو والد جدته في أي قطر عربي
كان ينتمي إلى دولة عربية مستقلة
؟ من هو العربي الذي يستطيع أن يزعم أن واحدا
من أسلافه قبل بداية القرن العشرين
إلى ما قبل التاريخ المكتوب كان يحتاج الى جواز سفر ليتنقل أو يقيم أو يعمل حيث
يشاء على امتداد الوطن
العربي ؟ أية دولة عربية فخورة
بعلمها المزوق تستطيع
أن تزعم أنه قد كان لها علم خاص قبل القرن العشرين ؟ أية حكومة عربية ذات وزراء وسفراء
، تستطيع أن تزعم أن وزراءها وسفراءها كان معترفا بهم في أية دولة في العالم
؟
10
ـ الوحدة هي الأصل والانفصال
هو الطارئ . الوحدة مشروعة والتجزئة غير مشروعة . الوحدة باقية والتجزئة
الى زوال .. ولو كان لا بد أن يتعلم
الذين ظلموا أنفسهم وظلموا أمتهم من المعارك
ذاتها ، أن الوحدة تعني النصر والتجزئة
تعني الهزيمة ..
نقول هذا وهدف الوحدة
مهزوم الآن هزيمة قاسية ، والحركة القومية الوحدوية متراجعة ، والإقليميون العرب
قد أبرموا مع الصهاينة المعتدين وثائق تلزمهم ـ هم وحدهم ـ بالصلح والصداقة
.. أبرموها ويا للعار مع مناحم بيغن صاحب إستراتيجية
" ذبح الأسر العربية " حين قال المجرم : " مذابح الأسر العربية عمل
رائع
من الأعمال الإستراتيجية
العسكرية " .
ويقف الوحدويون
العرب ضد " وحدة " وضع الأمة العربية في الجيب الأمريكي الواحد .. ولكن إذا
كانت الغاية مهزومة
لاختلال موازين القوى ، فان المبدأ والمنطلق
ما يزالان قائمين غير قابلين للهزيمة . الأمة العربية قائمة كما صنعها التاريخ ،
والمبدأ القومي قائم تحتشد تحته وتتمسك
به كل الجماهير التي ترفض الاستعمار والهيمنة
والمذلة والفقر أيضا .. وما على الشباب
خاصة إلا أن يحتفظوا بثقتهم في أمتهم وأن يعتصموا بقوميتهم . قال عبد الناصر
عام 1958 مخاطبا الكاتب الفرنسي
"بنوا ميشان" : "هل تظن أنني أنا الذي خلقت القومية العربية ؟..
أبدا إن القومية
العربية هي التي خلقتني . لست
أنا الذي أثيرها بل هي التي تحملني
، إنها قوة هائلة ولست أنا إلا آداتها .. ولو لم أكن موجودا لأوجدت واحدا ، عشرة ، ألفا آخرين يحلون
محلي . إن القومية العربية لا يمثلها رجل واحد أو مجمـوعة من الرجال .. إنها لا
تتوقف على جمال
عبد الناصر ولا على الذين يعملون معه .. إنها قوة كامنة في ملايين العرب
الذين يحمل كل منهم شعلة القومية ... إنها تيار جارف ولا تستطيع أية قوة في العالم
ولن تستطيع تحطيمها .. طالما احتفظت بالثقة
في ذاتها " ..
نعم طالما احتفظت بالثقة في ذاتها ورحم
الله عبد الناصر ..
11 ـ فليثق
الشباب
العربي بقوميته ، وليستضيء في طريقه الى المستقبل بشعلة القومية
، ولكن أين هي الشعلة ؟
" ثمة ما هو مفقود
فاذهب وأوجده
اذهب
وانظر .. فوراء الحدود ..
شيء مفقود ..
لا موجود ينتظرك
فتقدم وأوجده .. "
كان يمجد أبطال
صعود الجبال الوعرة إلى القمم الشماء المستعصية .. والوحدة العربية
قمة شماء
، الطريق الصاعد إليها وعر ، فليتقدم إليها الأبطال من الشباب القومي
بخطى ثابتة تطأ الحدود وتزيل السدود وتحطم القيود ، وتسحق سحقا كل أعداء الأمة
العربية ، وإنهم لمنتصرون
بإذن الله ..ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق