قراءه نقدية إسلاميه للقراءة المعاصرة للدين
عند د. محمد شحرور:
د. صبري محمد خليل .
السيره الذاتية للدكتور محمد شحرور: ولد محمد شحرور في دمشق عام 1938 ، أتم تعليمه الثانوي
في دمشق وحاز على الثانوية العامة 1958 ، وسافر بعد ذلك إلى الاتحاد السوفييتي
ليتابع دراسته في الهندسة المدنية ، وتخرج بدرجة دبلوم 1964 من جامعة موسكو آنذاك
ثم عاد لدمشق ليعين في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق حتى عام 1968. أوفد إلى
جامعة دبلن بأيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير
عام 1969، والدكتوراه عام 1972 في الهندسة المدنية ، اختصاص ميكانيكا تربة
وأساسات . عين مدرساً في كلية الهندسة المدنية ـ جامعة دمشق عام 1972 لمادة ميكانيك
التربة ، ثم أستاذا مساعداً . افتتح مكتباً هندسياً استشارياً لممارسة المهنة
كاستشاري منذ عام 1973.
من مؤلفات د. محمد شحرور: الكتاب والقرآن ـ قراءة
معاصرة 1990 / دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع 1994 / الإسلام والإيمان ـ
منظومة القيم 1996 / نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي ـ فقه المرأة (الوصية ـ الإرث ـ
القوامة ـ التعددية ـ اللباس) 2000 / تجفيف منابع الإرهاب 2008 / القصص القرآني ـ
قراءة معاصرة ـ المجلد الأول : مدخل إلى القصص وقصة آدم 2010 / القصص القرآني ـ
قراءة معاصرة الجزء الثاني ـ من نوح إلى يوسف 2011 / السنة الرسولية والسنة
النبوية : رؤية جديدة 2011 / الدين والسلطة ـ قراءة معاصرة للحاكمية 2013.
عرض للمفاهيم العامة للقراءة المعاصرة للدين عند د. شحرور:
التمييز بين كتاب النبوة وكتاب الرسالة : يرى د. محمد شحرور في
قراءته المعاصرة للدين أن القرآن الكريم الذي انزله الله تعالى على النبي محمد (صلى
الله عليه وسلم) يحتوي كتابين رئيسيين :
الأول : كتاب النبوة : ويشتمل على بيان حقيقة
الوجود الموضوعي ، ويفرق بين الحق والباطل ، اي بين الحقيقة والوهم .
الثاني : كتاب الرسالة : ويشتمل على قواعد
السلوك الإنساني ، ويفرق بين الحلال والحرام .
مضمون كتاب الرسالة : ويرى ان كتاب الرسالة
يتضمن (كتاب الآيات المحكمات) التي تتضمن التشريعات والحدود ، والأحكام التي تخضع
لجدلية الاعتدال والانحراف ، والاستقامة والحنيفية ، وهي جدلية تنتجها تناقضات
الحياة الإنسانية ، كما تدرس في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد .
الإسلام وضع حدود التشريع وليس التشريع
عينه : ويرى أن التشريع في القرآن جاء في حدود الله ؛ حيث أعطى الله تعالى في الإسلام
«حدود التشريع» وليس «التشريع عينه» ، والاستقامة هي في الحدود ، والحنيفية هي في
الحركة ضمن الحدود ، وتتحرك حسب التطور التاريخي للمجتمع .
جدلية الحنفية والاستقامة ” الثابت
والمتحول” ومفهوم “التوابع المستمرة” عن نيوتن : فالاستقامة والحنيفية
عند د. شحرورهما تعبير آخر عن الثابت والمتحول في الشريعة ، ويحاول شحرور أن يؤسس
هذه للعلاقة الجدلية بينهما على ما يسمى بمفهوم «التوابع المستمرة» في رياضيات
نيوتن ، حيث يخلص إلى أن التشريع الإسلامي يحمل الخاصيات نفسها الموجودة في هذا
المفهوم ، وعلى هذا الأساس يقسم الخطوط المستقيمة ـ الثوابت ـ إلى ستة خطوط رئيسية
تعطي المجال للحركة الحنيفية ـ المتغير ـ أن تتحرك في داخلها ولا تتعداها ، الحالات
الست للحدود في التشريع : استنادا إلى هذا قسم د.شحرور الحدود في التشريع إلى ست
حالات هي :
أولا : حالة الحد الأدنى : يرى د. شحرور أن الله
تعالى وضع في الآيات التي تحصي المحارم كقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم
وأخواتكم …) الحد الأدنى في تحريم النكاح الذي لا يجوز تجاوزه ، إلا انه يمكن لنا
أن نتجاوز هذا الحد بالزيادة ، اي زيادة عدد المحرمات من النساء ، مثلا يمكن تحريم
الزواج من الأقارب “كبنات العم وبنات الخال “إذا ثبت بالطب أن له آثار سلبية على
النسل .
ثانيا : حالة الحد الأعلى : يرى د.شحرور أن الله
تعالى بين في الآيات التي تحدد عقوبات السرقة والقتل كقوله تعالى (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ..) العقوبة القصوى لهذه
الجرائم كقطع يد السارق ، اي انه لا يجوز أن تكون عقوبة السرقة أكثر من قطع اليد ،
الا انه يمكن للمجتهدين أن يحددوا ، حسب ظروفهم ، الموضوعية ما هي السرقة التي
تستوجب القطع ، وما هي السرقة التي لا تستوجب ذلك.
ثالثا : حالة الحد الادنى والحد الاعلى معا : يرى د. شحرور أن الآية (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل
حظ الأنثيين …) لا تتعرض إلى نصيب كل من الذكر والأنثى من الأولاد على نحو دائم ،
بل تبين الحد الأعلى من الإرث للذكر (6/66% ) والحد الأدنى للأنثى منه (3/33% ) ،
ويترتب على هذا أن الحد الأعلى للذكر والحد الأدنى للأنثى لا يجوز تجاوزهما لا قلة
ولا كثرة ، ولكن يمكن لنا أن نتحرك ضمن هذه الحدود قلة وكثرة ، فيمكن في ظروف
معينة أن نعكس الفرض ، شريطة ان نبقى ضمن الحدود التي وضعها الله .
رابعا : حالة الحد الأدنى والحد الاعلى معا
على نقطة واحدة ، اي حالة المستقيم ، او حالة التشريع العيني : يرى د. شحرور أن هذه الحالة جاءت في حد الزنا فقط ؛ حيث وضع
الحد الأدنى والحد الأعلى معا على نقطة واحدة وهي مئة جلدة في قوله تعالى :
(والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ، ولا تأخذكم يهما رأفة في دين
الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فان
الله تعالى بقوله (ولا تأخذكم يهما رأفة) أشار إلى ان هذا هو الحد الأعلى والأدنى
معا.
خامسا : حالة الحد الأعلى بخط مقارب لمستقيم ،
اي يقترب ولا يلامس :
يرى د. شحرور أنها حالة علاقة الرجل بالمرأة من الناحية الجنسية ، وتبدأ هذه
العلاقة بحدودها الدنيا ، وهي عدم ملامسة الرجل للمرأة بتاتا ، وتنتهي بخط مستقيم
يقارب الزنا ، فإذا اقترب الإنسان من الزنى ولم يزن ، فانه لم يقع في حدود الله ،
ولذلك قال تعالى : (ولا تقربوا الزنى) (الإسراء : 32 )
سادسا : الحد الأعلى موجب مغلق لا يجوز تجاوزه
، والحد الادنى سالب يجوز تجاوزه : وهي العلاقة
المالية بين الناس ، وهذان الحدان يمثلان الربا حدا أعلى وموجب الزكاة حدا أدنى
سالبا ، وهذا الحد يمكن تجاوره بالصدقات ، وبما أن هناك سالبا وموجبا ، فهناك حالة
صفر بينهما ، فهذه الحالة تشمل الربا (الموجب) القرض الحسن (الصفر) والزكاة
والصدقات (السالب) …. (مهدي الكبيسي / قراءة سريعة في فكر الدكتور محمد شحرور في
ضوء منهجه ومنطقه )
القراء النقدية الاسلاميه للقراءة
المعاصرة للدين : بعد العرض السابق للسيرة الذاتية للدكتور
محمد شحرور ومؤلفاته والمفاهيم العامة لقراءته المعاصرة للدين ، نقدم فيما يلي
قراءه نقدية إسلاميه لهذه القراءة ، تتجاوز موقفي الرفض المطلق والقبول المطلق
لهذه القراءة ، إلى موقف تقويمي (نقدي) منها مضمونه تناول مفاهيم هذه القراءة من
حيث اتساقها أو تناقضها مع أصول الدين ، المتمثلة في القواعد اليقينية الورود
القطعية الدلالة ، طبقا للفهم الصحيح لها كما قرره السلف الصالح وعلماء أهل السنة
بمذاهبهم الكلامية والفقهية المتعددة ، وهنا تخلص هذه القراءة إلى انه إذا كانت
بعض مفاهيم هذه القراءة تتسق مع هذه الأصول ، فان بعضها الآخر يتناقض معها ومن هذه
المفاهيم :
تقرير جدل المادة : ينسب د. محمد شحرور
الجدل”التطور من خلال صراع المتناقضات” إلى المادة ، بل يعتبر ان جدل الإنسان هو
شكل من أشكال جدل المادة ، ويعتبر ان”جدل المادة” لا يتعارض مع المنهج الاسلامى
لأنه يفترض انه نظريه علميه ثبت صحتها ” انظر على سبيل المثال لا الحصر الكتاب
والقران : رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه ثانيه” .
نقد : وهذا التصور غير صحيح
، فجدل المادة ليس نظريه علميه “تجريبية”، بل هو منهج معرفه “فلسفه” قال به كارل
ماركس ، وقد ثبت خطأه علمياً ، لان النظرية الذرية الحديثة (روزرفورد -1911) اثبت
الذرة مكونه من الكترونات (سالبه) وبروتونات (موجبه) ونيوترونات(محايدة) ، وقائمه
على التوازن ، وخاليه من التناقض ، هذا فضلا عن أن إسناد الجدل للمادة يتعارض مع
المنهج الاسلامى ، لأنه يؤدي إلي تسخير بالإنسان لما هو مسخر له ، إذ أن الإنسان
(المستخلف) ـ طبقا للقران الكريم - هو الفاعل المغير المطور، وليست الطبيعة إلا
موضوع فعله ، ويستعمل القرآن تعبير سخره للدلالة على هذه العلاقة : (ألم تر أن
الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) ( الحج : 65) .
جدل الإنسان بمضمون ميتافيزيقي : كما يقرر د. شحرور جدل
الإنسان ، ولكن يجعل مضمونه ـ وليس أساسه النظري ـ غيبي” ميتافيزيقي” ، وهو يستند
الى الايه” وكان الانسان أكثر شيء جدلا” ، حيث يقرر( أن هناك جدل خاص بالإنسان ،
وهذا الجدل هو جدل الفكر ، حيث يتميز الإنسان عن غيره بأنه كائن عاقل مفكر، ومضمون
هذا الجدل عنده أن الحق والباطل في الفكر الانسانى ملتبسان في علاقة جدليه لا
تتوقف (الرحمان والشيطان) (الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه ثانيه ) .
نقد : أن إسناد الجدل
للإنسان لا يناقض المنهج الإسلامي ، إذا نظرنا إليه كنسبة الهية نوعية تضبط
حركة الإنسان ، بشرط الاستناد إلي الأسس الغيبية ”الميتافيزيقية ،” للمنهج
الإسلامي ، والتي تحد الجدل ولا تلغيه - مع الاشاره إلى أن الايه التي استدل بها
د. شحرور لا صله لها بمفهوم الجدل بمعناه الاصطلاحي”التطور من خلال صراع
المتناقضات” لأنها تتحدث عن الجدل بمعناه اللغوي “الجدال”. لكن هذا لا يعني أن
يتحول المنهج إلي منهج ميتافيزيقي بالمفهوم الغربي ، أي يتحول إلي البحث في مشاكل
ميتافيزيقية ، إذ المنهج بعد ذلك هو النظر في سنن الله تعالى في الطبيعة والمجتمع
، أي معرفتها والتزامها كي ننجح في تحقيق ما نريد (قد خلت من قبلكم سنن قل سيروا
في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، وهو الخطأ الذي وقع فيه د. شحرور ،
حين جعل مضمون جدل الإنسان جدليه الرحمن والشيطان ، هذا فضلا عن ان هذه الجدلية
يلزم منها المساواة بين الرحمن والشيطان في الدرجة .
تقرير نظريه التطور العضوي : كما يقرر د. محمد
شحرور نظريه التطور العضوي (الدارونيه) في
العديد من مؤلفاته ، حيث يقرر ـ على سبيل المثال - في كتاب (الكتاب والقران : رؤية
جديدة ) أن البشر وجد على الأرض ، نتيجة تطور استمر ملايين السنين …. وان عباره
(اهبطوا منها) تعنى الانتقال من مرحله إلى أخرى ، وليس المعنى انزلوا منها … وان
جنه الخلد ليس لها علاقة بأصل البشر لأنها أصلا لم توجد بعد … وان ادم ليس اسما
لشخص واحد ، بل اسم جنس هو الجنس الادمى ( ص 318- 319) .
نقد نظريه التطور العضوي : وتقريره لنظريه التطور
العضوي يتجاهل النقد الذي وجه للنظرية من جهتي العلم والدين .
أولا : العلم : لم يكن داروين أول من
قال بالتطور العضوي ، فقد كان هذا المفهوم موجودا في التراث الفلسفي الغربي
(الاغريقى) ، حيث قال به بعض الفلاسفة اليونانيين ومنهم اناكمندريس الذي افترض أن
جميع الإحياء كانت أشبه بالأسماك ، وان الإنسان تطور عن نوع من الأسماك ، لكن
داروين نقل هذا المفهوم من مجال الفلسفة إلى مجال العلم عندما التزم بالمنهج
العلمي في تناوله للمفهوم ، غير أن انتماء المفهوم للعلم لا يعنى بأنه صحيح
بالضرورة ، حيث أن ما هو علمي هو محصله تطبيق المنهج العلمي على الظاهرة المعينة ،
لكن ما هو علمي قد يكون صحيحا إذا وافق الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته ،
وقد يكون خطاْ أذا خالف هذا الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته ، وهنا نشير
إلى أن نظريه التطور العضوي هي نظريه علميه (بمعنى أنها محصله تطبيق المنهج العلمي
في ظاهره الصلة بين الأنواع) ، لكنها تنطوي على قدر كبير من الخطأ لعده أسباب
أهمها :
أولا : أنها تتناقض مع قوانين
علم الوراثة ، التي تثبت أن لكل كائن حي خريطة وراثية مختلفة عن الخريطة الوراثية
للكائنات الأخرى .
ثانيا : أن الطبيعة حتى في
عالم الأحياء تتحول ولا تتطور ( د. عصمت سيف الدولة / النظرية / ج1 /
ص120-121) . غير انه يجب تقرير أن نظريه التطور العضوي رغم أنها تنتمي إلى مجال
العلم ، إلا أنها تنتمي إلى الفروع التي تنطوي تحت مجال فلسفه العلم (اي المفاهيم
الكلية المجردة السابقة على البحث العلم في الظاهرة المعينة) ، أكثر من انتمائها
إلى فروعه التي تنطوي تحت مجال العلم التجريبي (اي الظواهر الجزئية العينية
والقوانين التي تضبط حركتها) ، لأنها لا تبحث في نوع معين في زمان ومكان معينين ،
بل تبحث في الصلة بين كل الأنواع في كل زمان ومكان ، فهي تعميم في الزمان والمكان ،
هذا فضلا عن أنها افتراض وليست قانون علمي تثبت التحقق من صحته بالتجربة والاختبار
العلميين .
ثانيا : الدين : إن نظريه التطور
العضوي هي شكل من أشكال المفهوم المادي للتطور ، وكلاهما ـ فيما نرى ـ يتناقضان مع
المنظور الاسلامى للوجود ومنهج المعرفة الاسلامى ، حيث يلزم منهما منطقيا نفى وجود
فاعل مطلق اوجد الكائنات الحية المختلفة ، أو نفى فاعليه هذا الفاعل المطلق ، بصرف
النظر عن الاعتقاد الذاتي لمن يعتقد بصحة هذه النظرية وهذا المفهوم .
تقرير د. شحرور أن القضاء والقدر يتعلقان
بالفعل الانسانى وليس بالفعل الالهى : يقرر د. شحرور أن
القضاء والقدر يتعلقان بالفعل الانسانى ولا يتعلقان بالفعل الالهى، حيث يعرف القدر
بأنه ( الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها خارج الوعي) ، ويعرف القضاء بأنه ( ظاهره
تتمثل في السلوك الواعي” اراده إنسانيه” قائم على حركه الأضداد ، اي سلوك بين نفي واثبات في ظواهر الوجود”القدر”) (الكتاب والقران : رؤية جديدة / ص473)
نقد : وهذا التقرير يخالف ما
اتفق عليه السلف الصالح والائمه والعلماء والمتكلمين - استنادا إلى نصوص يقينية
الورود قطعيه الدلالة - من ان القضاء والقدر يتعلقان بالفعل الالهى المطلق
(الربوبية ) وظهوره في عالم الشهادة من جهة الإيجاد ، اي ظهور صفه الإيجاد فيه .
فالقضاء يدل على فعله المطلق من جهة الإلزام (الحتمية) ، اي وجوب نفاذ فعله المطلق ،
يقول تعالى ” وكان على ربك حتما مقضيا ” ، ورد فى القاموس المحيط (القضاء : الصنع
والحتم والبيان) . أما القدر فيدل على فعل الله المطلق من جهه التحقق . ولما كان
ظهور فعله المطلق تعالى في عالم الشهادة يتم من خلاله السببية ، اي تحققه بتحقق
السبب وتخلفه بتخلف السبب ، فان الله تعالى لا يجعل فعله المطلق يتحقق إلا عند ما
يوفر أسباب ( شروط) تحققه ، وهو معنى القدر في الاستعمال القرانى ” إنا كل شئ
خلقناه بقدر ” (القمر : 49) ، على هذا فان كون الفعل المطلق لله تعالى لازم النفاذ
(القضاء) أو تحققه في عالم الشهادة ( القدر) لا يترتب عليه أن الإنسان مجبور على
فعله .
أمية الرسول لا تتعلق بالقراءة والكتابة : كما يرى د. شحروران
آمية الرسول لا تتعلق بكونه لا يقرأ ولا يكتب ، بل تتعلق بكونه غير يهودي ولا
نصراني ، حيث يقول ( من هنا نرى أن النبي كان أميا بمعنى غير يهودي وغير نصراني ،
وكان أميا أيضا بكتب اليهود و لنصارى … أما إسقاط هذا المعنى على أن النبي كان
أميا لا يقرأ ولا يكتب فهذا خطا) ( الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه
ثانيه / ص163) .
نقد : وهذا الرأي يخالف ما
قررته النصوص ، واتفق عليه أهل اللغة والتفسير من أن معنى أميه الرسول (صلى الله
عليه وسلم) انه لا يقرا ولا يكتب ، ففي القران الكريم : ورد قوله تعالى : ( وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً
لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت : 48 ) ، قال النحاس : ( و ذلك دليل على
نبوته ، لأنه لا يكتب و لا يخالط أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك )( فتح القدير ، ج4/207) ، وفى السنة النبوية عن سعيد بن عمرو بن
سعيد أنه سمع بن عمر (رضي الله عنهما) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال :
إنا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في
الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين ) (صحيح مسلم ، ج2/716- صحيح
البخاري ، ج2/675 . و اللفظ للإمام مسلم ) ، قال الأحوذي ( قال “صلى الله عليه
وسلم ” إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا
الكتابة و الحساب فهم على جبلتهم الأولى )( تحفة الأحوذي ، ج8/212) . أما عند أهل
اللغة يقول ابن منظور : ( معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أمه أي لا
يكتب فهو أمي لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه أي على ما ولدته أمه
عليه ) (لسان العرب ، ج12/34) ، ويقول الراغب الأصفهاني ( الأمي هو الذي لا يكتب
ولا يقرأ من كتاب ، وعليه حمل قول تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم
…. ) ( غريب القرآن ، ص 28). وعند أهل التفسير ورد في تفسير الطبري ( يعني بالأميين
الذين لا يكتبون ولا يقرءون ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا
نكتب ولا نحسب …. ) ( ج1/373 ) .
الخمر من المنهيات وليس المحرمات : وفيما يتعلق بحكم
الخمر ينفى د. شحرور كون الخمر من المحرمات ، استنادا إلى تمييزه بين
المنهيات والمحرمات بحجه أن في المنهيات صغائر وكبائر ، بينما لا يوجد هذا التقسيم
في المحرمات ، حيث يقول (… إن النظر في هذه الآيات يبين لنا بشكل دقيق وقاطع الفرق
بين النهي والتحريم .. ونفهم أن في المنهيات كبائر وصغائر “لمم”، أما المحرمات
فليس فيها كبائر محرمات وصغائر محرمات .. ) ، ولكنه يعود فيقرر أن المحرمات هي
كبائر المنهيات ( … ونرى أن المحرمات هي كبائر المنهيات “ أي : كبائر ما تنهون
عنه المحرمات”، استنادا إلى هذا التفريق
ينتهي إلى أن الخمر من المنهيات وليس المحرمات ( ونحن نرى أن الخمر من المنهيات
وليس من المحرمات ، وأن التحريم أقوى من النهي بدلالة التعاريف التي وضعناها آنفاً
. ففي الخمر منافع . وحين يستعمل كمادة للتخدير في العمليات الجراحية فهو إثم بحق ،
أما حين يشرب للسكر فهو إثم بغير حق ) ( الدكتور محمد شحرور / نحو أصول جديدة
للفقه ألإسلامي) .
نقد :
أولا : لم يقل احد من
الأصوليين أو الفقهاء أو اللغويين بالتفريق - وليس التمييز - بين النهى والتحريم ، وما
هو محل اتفاق بينهم أن التحريم هو درجه من درجات النهى ، وهذا التفريق يدل على
الخلط بين أقسام ودرجات الحكم التكليفى :
أقسام الحكم التكليفى ودرجاته : فأقسام الحكم التكليفى
هي :
أولا : الواجب : وهو اصطلاحا ما أمر به
الشارع على وجه الإلزام ، وحكمه انه يثاب فاعله ويعاقب تاركه .
ثانيا : المستحب : وهو اصطلاحا ما أمر به
الشارع لا على وجه الإلزام ، وحكمه انه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه .
ثالثا : المحرم : وهو اصطلاحا ما نهى
عنه الشارع على وجه الإلزام ، وحكمه انه يثاب تاركه ويعاقب فاعله .
رابعا : المكروه : وهو اصطلاحا ما نهى
عنه الشارع لا على وجه الإلزام ، وحكمه انه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ،
خامسا : المباح”الجائز” : وهو اصطلاحا ما خُيِّر
المُكلَّف بين فعله وتركه ، وحكمه انه لا يترتَّب عليه ثواب ولا عقاب ، والقسمين
الأول والثاني (الواجب والمستحب ) هما درجتي الأمر “الإيجاب” ، والقسمين الثالث
والرابع (الحرام والمكره )هما درجتى النهى “المنع” ، أما القسم الخامس(المباح) فهو
درجه التخيير، ورد في موسوعة أصول الفقه ( إن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل
أو الترك أو التخيير بينهما ، فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر، فإن اقترن به إشعار
بعدم العقاب على الترك فهو ندب ، وإلا فيكون إيجابًا ، والذي يرد باقتضاء الترك
نهي ، فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة ، وإلا فحظر ) (موقع روح الإسلام) .
ثانيا : أن تحريم الخمر خضع لقاعدة التدرج في
التشريع : أي التدرج في بيان درجه الإلزام في القاعدة
الشرعية المعينة ( من الاباحه إلى الكراهة إلى التحريم او من الندب إلى الوجوب …) ،
فقد تدرج القران الكريم في بيان درجه الإلزام في النهى عن شرب الخمر من الاباحه
كما في قوله تعالى (يا أيُّها الذينَ امنوا لا تَقرَبوا الصلاةَ وأنتُم سُكَارَى
حتى تَعْلَموا ما تقولون) (النساء : 43) ، إلى الكراهة كما فى قوله تعالى
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة : من
الآية219) ، إلى التحريم كما فى قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . وإنكار
هذه القاعدة ـ وكذا إنكار النسخ في القران ـ هو سبب البس الذي وقع فيه منكري تحريم
الخمر.
ثالثا : أن للتحريم في القران
صيغ كثيرة غير صيغه التحريم المباشرة (حرمت عليكم وحرم ربى …
) .
رابعا : وفى كل الأحوال يمكن
استنباط أن القرآن الكريم نص على تحريم الخمر بلفظ التحريم : فقد قال تعالى : (قل
إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) [الأعراف : 33]
، وقال تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) [البقرة : 219] ، فالايه
الأولى استخدمت لفظ “حرم ربى ” في وصف الإثم ، ثم قررت الايه الثانية أن الخمر
فيها إثم كبير .
خامسا : أن تحريم الخمر ثابت
بنصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة ، ومحل إجماع بين السلف الصالح وعلماء أهل
السنة بفرقهم المتعددة :
أدله تحريم الخمر في القران الكريم : قال تعالى : (يا أيها
الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)
[المائدة : 90-91] ، قال ابن عباس ( لما حرمت الخمر مشى رجال من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ، وقالوا : حرمت الخمر، وجعلت عدلاً للشرك) (
رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) .
أدله تحريم الخمر فى السنة : روى مسلم عن ابن عمر أن
النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) ، وفي الصحيحين عن
أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (لا يشرب الخمر حين
يشربها وهو مؤمن) ، وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي (صلى الله
عليه وسلم) قال (أتاني جبريل فقال : “يا محمد ، إن الله لعن الخمر، وعاصرها ،
ومعتصرها ، وشاربها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، ومسقاها) ،
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ،
وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) ( رواه النسائي) .
الإجماع على تحريم الخمر في أقوال المفسرين : قال القرطبي في
تفسيره (ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر) ، وقال
الطبري في تفسيره ( ثم نزلت”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ”، فحرّمت الخمر عند ذلك) .
الإجماع
على تحريم الخمر في أقوال العلماء : قال القسطلّاني في
شرحه على البخاري (قد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيرة حرام) ، وقال العمراني
في البيان (الخمر مُحَرّم والأصلُ فيه : الكتاب والسنة والإجماع) ، وقال الخطيب
الشربيني في الإقناع ( وانعقد الْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْخمر) ، وقال العلّامة
الجَمَل في حاشيته على شرح المنهج (وَقَدْ تَظَاهَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِ
الْخَمْرِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ) .
المعجزات ليست خروج عن قوانين الطبيعة : ويرى د. شحرور أن
المعجزات ليست خرقا لقوانين الطبيعة حيث يقول ( المعجزة عند كل الأنبياء قبل محمد
هي التقدم في عالم المحسوس عن عالم المعقول السائد وقت المعجزة ، ولكنها ليست في
اي حال من الأحوال خروجا عن قوانين الطبيعة) (الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار
الساقي / طبعه ثانيه / ص 211) .
نقد : هذا التعريف للمعجزات
يخالف التعريف الذي اصطلح عليه الأصوليون والعلماء وأهل اللغة ، فهي عندهم ( الأمر
الخارق للعادة ، السالم من المعارضة يظهره الله تعالى على يد النبي ، تصديقاً له
في دعوى النبوة) ، وكون المعجزة أمر خارق للعادة “اي خروج عن قوانين الطبيعة” هو
محل إجماع بين السلف الصالح والائمه وعلماء أهل السنة بفرقهم المختلفة ، يقول
الإمام الماوردي عن المعجزة ( هي ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة
إلهية تدل على ان الله تعالى خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته ، فيصير دليلا
على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف ، وأما عند قيام الساعة
إذا سقطت فيه أحوال التكليف فقد يظهر فيه من اشراطها ما يخرق العادة فلا يكون معجز
المدعي نبوة ) ، ويقول البغدادي (وحقيقة المعجزة على طريق المتكلمين ظهور أمر خارق
للعادة في دار التكليف لإظهار صدق ذي نبوة من الأنبياء ) . فما أطلق عليه د. شحرور
“قوانين الطبيعة “ ، هي “السنن الالهيه” بالتعبير القرانى ، ولا يمكن خرقها بمعنى
قطع اضطراها وإلغاء حتميتها “اى لا تتبدل بالتعبير القرانى” فى حاله كونها ظهور
صفات للفعل الالهى المطلق ” الربوبية”، ولكن يمكن خرقها ”انقطاع اضطرادها ،
وإلغاء حتميتها” في حالتي ظهوره الذاتي”التجلي” وهو المعجزة ، والمطلق وهو البعث
واليوم الأخر . والقول بعدم أمكانيه الخروج عن قوانين الطبيعة مطلقا مصدره المذهب
المادي “الدهرى” الذي يتناقض مع الإسلام وكافه الأديان السماوية ، لأنها تقوم على
الإقرار بالمعجزات كخرق لقوانين الطبيعة”
.
تقرير د. شحرور أن السلف لم يستوعبوا
التشريع الاسلامى ولم يفهموا التنزيل والتبس عليهم التفريق بين القران والرسالة : يقرر د. شحرور أن
السلف لم يستوعبوا التشريع الاسلامى ، ولم يفهموا التنزيل ، والتبس عليهم التفريق
بين القران والرسالة : يقول د. شحرور تحت عنوان : العرب التبس عليهم التفريق بين
الرسالة ” أم الكتاب” والقصص المحمدي : أن الرسول جاء بقفزة تشريعية لم تسبقها
قفزات معرفية ، حين جاء في مجتمع بدوى قبلي بعيد كل البعد عن الخضم الثقافي الذي
كان سائدا عند أهل الكتاب وفى العالم من حولهم ، وكانت هذه القفزة التشريعية متقدمة جدا على الارضيه المعرفية للمجتمع الذي جاءت إليه ، فلم يتمكن العرب من استيعاب
هذه ألقفزه التشريعية ، ولم يفهموا التنزيل الحكيم بشكل جلي ، والتبس عليهم
التفريق بين القران والرسالة . (الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه
ثانيه ، ص199 ) . وتأكيدا لأن مصطلح “العرب” في هذا النص يشمل السلف الصالح نجده
يقرر في مكان آخر(ما تقدمه المعارف العلمية التي تتوصل إليها الانسانيه ، إنما
يساعد على فهم هذه المعارف لم تكن متوافرة في عهد النبي ، ثم يقرر أن الاية : ” وقال
الرسول يا رب أن قومي اتخذوا هذا القران مهجورا”… تنطبق على العرب بمن فيهم
ألصحابه والخلفاء الراشدون من أبى بكر الصديق إلى على بن أبى طالب … ) (الكتاب والقران:
رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه ثانيه / ص 150 ) .
نقد : وهذا التقرير يتناقض
مع إجماع العلماء على أن السلف الصالح ” وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم من الأئمة
الذين يقتدي بهم”، أكثر منا علما بالدين”عقيدة وشريعة”، لأنهم اقرب منا زمانا بعهد
نزول القران”العهد النبوي”، وأكثر منا فهما لدلاله لغه القران …. كما يتناقض هذا
التقرير مع ثناء النصوص عليهم وإيجابها الاقتداء بهم ، قال تعالى :
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة :
100) . وقال (صلى الله عليه وسلم) (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) ( رواه الإمام أحمد في مسنده
والبخاري ومسلم ، والاقتداء بالسلف الصالح لا يتعارض مع التجديد ولا يترتب عليه
التقليد ـ كما يفترض نكرى الاقتداء بالسلف الصالح ـ ومنهم د. شحرور ـ لان طبيعة
الاقتداء بالسلف الصالح تختلف باختلاف موضوع أقوالهم ، فإذا كانت أقوالهم تتصل
بأصول الدين ممثله في النصوص يقينية الورود والقطعية الدلالة ، فان الاقتداء هنا
يأخذ شكل الالتزام بفهم السلف الصالح لهذه النصوص ، وما تتضمنه من عقائد وعبادات
وأصول معاملات ، لذا قال العلماء ان (قول الصحابي في الأمور التي لا مجال فيها
للراى أو الاجتهاد له حكم الرفع فالاستدلال والاحتجاج ، وذلك حملا لقوله في هذا
الباب على التوقف والسماع والتنصيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يظن
بهم المجازفة في القول ولا يجوز أن يحمل قولهم على الكذب فإن طريق الدين من النصوص
إنما انتقل إلينا بروايتهم) (علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ، كشف الأسرار
عن أصول فخر الإسلام البزدوي ، دار الكتاب العربي ،1997، ط3،ج3، ص410 ) . كما يأخذ
الاقتداء هنا شكل إلغاء الإضافات التي طرأت علي فهم السلف لهذه الأصول ، اى البدع
إذ البدعة هي بالاضافه إلى أصول الدين . أما إذا كانت أقوالهم تتصل بفروع ممثله في
النصوص ظنيه الورود والدلالة ، فان مضمون الاقتداء بالسلف الصالح هنا هو الاقتداء
بهم في اجتهادهم في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتهم استجابة للمشاكل التي عاشوها
، وذلك بالاجتهاد في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتنا استجابة للمشاكل التي
نعيشها ، غير أن هذا لا يعنى إلغاء القواعد الفرعية التي وضعها السلف الصالح ، بل
اعتبارها تجسيدا لماضي الامه وخبرتها ، وبالتالي اتخاذها نقطه بداية لاجتهادنا لا
نقطه نهاية له ، وذلك بالالتزام بالقواعد الفرعية التي وضعوها كما هى ، او بعد
الترجيح بينها ، أو وضع قواعد جديدة استجابة لمشاكل جديدة .
أما تقرير د. شحرور أن الايه ” وقال
الرسول يا رب أن قومي اتخذوا هذا القران مهجورا” تنطبق على السلف “الصحابة
والخلفاء الراشدين” فلم يقل به احد من المفسرين ، وقولهم لا يخرج عن أن المقصود
بلفظ ” قومى” في الايه المسلمين المقصرين في تعلم القران وتعليمه ، وتلاوته ،
والالتزام بمفاهيمه وقيمه وقواعده ، أو المشركين الذين أنكروا كون القران وحى
الهي ، أعرضوا عنه ، ورد في تفسير الطبري (القول في تأويل قوله تعالى “وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ( 30 ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من
المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ( 31 ) “، يقول تعالى ذكره : وقال الرسول يوم يعض
الظالم على يديه : يا رب إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا
القرآن مهجورا . واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا ، فقال بعضهم :
كان اتخاذهم ذلك هجرا ، قولهم فيه السييء من القول ، وزعمهم أنه سحر ، وأنه شعر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم
يسمعوا له )
.
اتهام جميع علماء الامه في كل العصور
بأنهم لم يفهموا الشريعة الاسلاميه : ويتصل بما سبق اتهام
د. شحرور جميع العلماء في الفقه والتفسير وعلم الكلام في كل العصور بأنهم لم
يفهموا الشريعة على النحو الصحيح ، بحجة أنهم لم يفهموا نظرية الحدود التي أوردها ،
ففي مقام اعتذاره عن الفقهاء لعدم فهمهم الصحيح نظرة الإسلام للمراة يقول (.. يمكن
ان نبرر لهم ذلك بعدم فهمهم لنظرية الحدود اولا و … ) .
نقد : وهذا الاتهام يتعارض
مع العديد من الضوابط الشرعية :
أولا : يتعارض هذا الاتهام مع
وصف الله تعالى للقران الكريم بالابانه والوضوح ، كما فى قوله تعالى (حم والكتاب
المبين) (الزخرف :1-2) ، وقوله تعالى (الر تلك آيات الكتاب وقران مبين) (الحجر:1) ،
وقوله تعالى (فإذا قرأته فاتبع قرانه ، ثم إنا علينا بيانه ) (القيامة) وهذه
الابانه والوضوح تعنى انه يتاح لكل الناس ـ ولا سيما العلماء - فهم الدين “عقيدة
وشريعه “ ـ والذي مصدره الاصلي هو القران -
في كل زمان ومكان .
ثانيا : كما يتعارض هذا
الاتهام مع قاعدة الحفظ الالهي للقران الكريم التي وردت الاشاره إليها في قوله
تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر:9) ، حيث ان هذا الحفظ الالهي يشمل ألفاظ ومعاني القران الكريم .
ثالثا : كما يتعارض هذا
الاتهام مع تقرير النصوص عدم اجتماع الامه على ضلاله ، واستمرار ظهور طائفة على
الحق ( وهي أهل السنة والجماعة بمذاهبها الكلامية والفقهية المتعددة ) قال الرسول (صلى
الله عليه وسلم) ( لا تجتمع امتى على ضلاله ) ، وقال ( لا تزال طائفة من امتى
ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى ياتى أمر الله وهم كذلك) .
إلغاء د. شحرور كل التفاسير وكل
الاجتهادات في مجال علم أصول التفسير: كما يتبنى د. شحرور
منهج في التفسير يلزم منه إلغاء كل التفاسير وكل الاجتهادات في مجال علم أصول
التفسير ، حيث يقول ( والنتيجة المباشرة لما قلنا هي أن كل التفاسير الموجودة بين
أيدينا ليست أكثر من تفاسير تاريخيه مرحليه للقران) ( الكتاب والقران : رؤية جديدة
/ دار الساقي / طبعه ثانيه/ ص211 ، ويقول أيضا (هكذا فقط يمكن التعامل مع القران
إذا أردنا أن ننظر إليه ككتاب حي صادر عن حي إلى أحياء ، اي من شاهد إلى شاهد ، لا
من غائب عن شاهد ) ( الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار الساقي / طبعه ثانيه / ص
237) .
نقد : وهذا المنهج في
التفسير يتعارض مع منهج التفسير الذي اتبعه مفسري أهل السنة ، والقائم على
الالتزام بما اتفق عليه السلف وعلماء أهل السنة في مجال التفسير وأصوله ، عند تفسير
ما هو محكم في القران الكريم ، مع مراعاة أن مصدر الإلزام هنا النص المحكم (الأصل)
لا اتفاقهم على تفسير معين ( أو قواعد معينه في علم أصول التفسير) ، واتخاذ
اجتهادات السلف وعلماء أهل السنة على اختلاف مذاهبهم (حنابلة ، أشاعره ، ماتريديه ،
طحاويه ، أهل الظاهر..) في مجال التفسير (وأصوله) نقطه بداية لا نقطه نهاية ، عند
تفسير ما هو متشابه في القران الكريم …
العقوبات قابله للاجتهاد دون تمييز بين العقوبات
المقدرة “الحدية والقصاص” وغير المقدرة “التعزيريه” : كما يقرر د. محمد
شحرور أن العقوبات الاسلاميه قابله للاجتهاد دون تمييز بين العقوبات المقدرة والتي
تتضمن العقوبات الحدية والقصاص ، والعقوبات غير المقدرة والتي تتضمن العقوبات
التعزيريه ، ويستند في ذلك إلى ما اسماه حاله “الحد الأعلى” من حالات حدود التشريع
الست ، حيث يرى د.شحرور أن الله تعالى بين في الآيات التي تحدد عقوبات السرقة
والقتل كقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من
الله ..) العقوبة القصوى لهذه الجرائم كقطع يد السارق ، اي انه لا يجوز أن تكون
عقوبة السرقة أكثر من قطع اليد ، الا انه يمكن للمجتهدين أن يحددوا ، حسب ظروفهم ،
الموضوعية ما هي السرقة التي تستوجب القطع ، وما هي السرقة التي لا تستوجب ذلك وما
هي عقوبة كل منهما .. كما يقول د. شحرور أيضا (ان الايدى في الايه جاءت بصيغه
الجمع ، وهذا يدل على أن مقصود من الايه كف أيديهما عن المجتمع بالسجن أو اي حل
تراه الهيئات التشريعية مناسبا لكل بلد ) ( الكتاب والقران : رؤية جديدة / دار
الساقي / طبعه ثانيه / ص 532 ) .
نقد : وهذا الرأي يخالف ما
استقر عليه الأصوليون والفقهاء من أن الاجتهاد في فقه العقوبات مرتبط بالتمييز بين
العقوبات المقدرة “العقوبات الحدية والقصاص” ، والعقوبات غير المقدرة “التعزير”،
فالأصل في العقوبات المقدرة “العقوبات الحدية والقصاص” النص ، ومضمونه ذات العقوبة
التي وردت في النص اليقيني الورود القطعي الدلالة ، والتي اجمع الفقهاء عليها . أما
الفرع فهو الاجتهاد ، ومضمونه كيفيه تطبيق هذه العقوبات ، والذي اختلف الفقهاء
حوله : فعلى سبيل المثال فانه مع إجماع الفقهاء على القطع في حد السرقة ، لكنهم
اختلفوا في أمور تتعلق بمحل القطع ، ومقداره ، وكيفيته ، وتكرره بعد تكرر السرقة
ونحو ذلك (الموسوعة الفقهية الكويتية) … أما العقوبات غير المقدرة وهى عقوبات
التعزير فالأصل فيها الاجتهاد ، ويتضمن اعتبار العقوبات التعزيريه التي وضعها
الفقهاء نقطه بداية للاجتهاد في مجال العقوبات التعزيريه ، وليست نقطه نهاية له .
ويتضمن هذا الاجتهاد الاستفادة من إسهامات المجتمعات المعاصرة بشرط عدم تناقضها مع
القواعد ـ الأصول . أما الفرع هنا فهو النص ، والمقصود به تقييد العقوبات
التعزيريه بقواعد ومبادئ القانون الجنائي الاسلامى الثابتة بنصوص يقينية الورود قطعيه
الدلالة.
التطبيق الصحيح للعقوبات الحدية وقاعدة
درء الحدود بمدافعها الشرعية : وضمان التطبيق الصحيح للعقوبات الحدية لا
يتحقق من خلال ما اسماه د. شحرور “حاله الحد الأعلى” ـ لأنه اجتهاد في ما لا يباح
فيه الاجتهاد - بل بالالتزام بقاعدة (درء الحدود بدافعها الشرعية ) وتعريفها ” دفع
العقوبة الحدية ، قدر الاستطاعة ، بمدفعها الشرعي”، ومن أدله هذه القاعدة : ما رواه
ابن ماجه عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ادفعوا الحدود ما وجدتم
لها مدفعا) ، وحديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود قال (
ادرؤوا الحدود بالشبهات ، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم ) ( رواه ابن حزم
عن عمر موقوفا عليه ، قال الحافظ : وإسناده صحيح ) ، والحديث (ادرءوا الحدود عن
المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو
خير من أن يخطئ في العقوبة) ، وعن عمر ، قال : لأن أخطئ في الحدود بالشبهات ، أحب
إلي من أن أقيمها بالشبهات (
.
الخلط بين التشريع والاجتهاد : كما يخلط د. شحرور بين
التشريع كوضع الهي ثابت ، مضمونه النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة - والشارع
هو الله تعالى ، والتشريع صفه ربوبيه بنص القران ـ والاجتهاد ككسب بشرى متغير
مضمونه تأويل لنص ظني الورود أو الدلالة ، هذا الخلط يتضح في قوله في معرض تعريفه
للتشريع ( التعريف الصحيح للتشريع : هو التشريع مدني انسانى ضمن حدود الله)
(الكتاب والقران : رؤية جديدة / 630) ، فتعريفه للتشريع هو تعريف الاجتهاد وليس
التشريع.
رفض القياس والإجماع : كما يرفض د. شحرور كل
من القياس والإجماع بعد تعريفهما تعريفات تخالف ما توافق عليه الأصوليون ، حيث
يقول عن القياس ( إن قياس الشاهد على الغائب هو قياس باطل ومحجف) ، ويقول عن (
الإجماع في مفهومنا القراءاتة المعاصر هو إجماع أكثريه الناس على قبول التشريع
المقترح بشأنهم والتزامه بتطبيقه ) (الكتاب والقران : رؤية جديدة /ص 632) ، وهذا
الرفض كما ذكرنا يخالف مع ما توافق عليه الأصوليون من أن القياس والإجماع من مصادر
التشريع الاسلامى التبعية ، وان تعريف الأول هو (إلحاق حكم الأصل بالفرع لعلاه
جامعه بينهما ) ، وتعريف الثاني (اتفاق مجتهدى الامه فى عصر معين على حكم شرعي
معين)
القول بانعدام النسخ في الرسالة المحمدية
: كما ينفى د. شحرور وجود النسخ في القران ، حيث يقرر ان (الفقهاء لجؤوا إلى
القول بالنسخ بعد عجزهم عن التفريق بين القران والرسالة في التنزيل من جهة ، وعن
التباس الامر عليهم بين القصص المحمدي الذي هو القران وبين ام الكتاب “الرسالة” )
(الكتاب والقران : رؤية جديدة /ص 492) .
نقد : وهذا الراى يخالف تقرير
النصوص وجود النسخ في القران الكريم كقوله تعالى (وإذا بدلنا آية مكان آية والله
أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ، بل أكثرهم لا يعلمون) ، وقوله تعالى (ما ننسخ
من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، اتساقا مع هذه النصوص فقد اتفق السلف
الصالح على وجود النسخ في القران الكريم ، روي أن عليًا (رضي الله عنه) مرّ على
قاص ، فقال له ( أتعرف النّاسخ والمنسوخ قال : لا ، فقال : هلكت وأهلكت) ، وعن ابن
عباس (رضي الله عنه) قال في قوله تعالى : “وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً” قال ( ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله
وحرامه) ، كما قام الأصوليون والفقهاء والمفسرين بتعريف النسخ بأنه (دفع حكم شرعي
بدليل شرعي) ، وطبقا لهذا التعريف قرروا أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام ، أما
العبادات وأمهات الأخلاق ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها ( مناهل العرفان في
علوم القرآن للزرقاني ج2 /71 ) ، كما
قسموا النسخ إلى ثلاثة أقسام هي :
الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه .
الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا
،
الثالث : ما نسخ حكمه وبقي
رسمه) (مجلة البحوث الإسلامية / العدد التاسع والعشرون ـ الإصدار : من ذو القعدة
إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هـ ) ، كما ردوا على منكري النسخ وشبهاتهم (مناهل العرفان
ج 28/93-131) ، أما نسبه إنكار النسخ لبعض العلماء كأبو مسلم بن بحر فهو غير صحيح
على إطلاقه ، لأنه لم ينكر النسخ بصوره مطلقه ، يقول التاج ألسبكي (أن أبا مسلم لا
ينكر وقوع النسخ بالمعنى الذي نسميه نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه
تخصيصا) .
إنكار حجية ”الزاميه” السنة كمصدر أصلى
للتشريع الاسلامى : يرى د. شحرور أن السنة النبوية هي اجتهاد
، وليست وحيا ، وهي عبارة عن منهج في تطبيق أحكام أم الكتاب بسهولة ويسر من دون
الخروج عن حدود الله في أمور الحدود ، أو وضع حدود عرفية مرحلية في بقية الأمور، مع
الأخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة : الزمان والمكان والشروط الموضوعية التي تطبق
فيها هذه الأحكام . وهو يرى أن الاية (وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى) ،
لا تتحدث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنما تتحدث عن القرآن الكريم . ثم يقسم د.
شحرور السنة النبوية إلى قسمين أساسيين وهما : سنة الرسالة وسنة النبوة ، فالرسالة
هي الأحكام ، والنبوة هي العلوم .
نقد : هذا الرأي يترتب عليه
إنكار حجية “ألزام”السنة كمصدر أصلى للتشريع ـ بالاضافه إلى القران الكريم - والتي
اتفق على تقريرها السلف الصالح والائمه وعلماء أهل السنة بفرقهم المتعددة . ومضمون
هذه الحجية “الإلزام “أن الأحاديث اليقينية الورود القطعية الدلالة مصدر لأصول
الدين ، والأحاديث ظنيه الورود والدلالة مصدر لفروع الدين .
زى المرأه ونفي ضابط ستر سائر البدن عدا
الوجه والكفين : وفي مسالة الضوابط الشرعية لزى المرأة
ينفى د. شحرور ضابط ستر سائر البدن عدا الوجه والكفين ، حيث يرى انه (لا علاقة
لغطاء الرأس لا من قريب ولا من بعيد بمسألة الحجاب ….. غطاء رأس المرأة هو من
عادات العرب ) .
نقد : وهذا النفي يتعارض مع
إجماع السلف وعلماء أهل السنة والمذاهب الاربعه على تقرير هذا الضابط ضابط استندا
إلى نصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة :
أولا : تفسير قوله تعالى (وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) عند السلف والائمهة والمفسرين :
قال ابن عباس وابن عمر وعائشة من الصحابة أنها الوجه والكفان … وهذا القول قد
أختاره من أئمة المذاهب مالك والشافعي وأبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، كما اختاره من
المفسرين الطبري والجصاص والبغوي والزمخشري وبن عربي والفخر الرازي والقرطبي
والخازن وأبو حيان والنيسبوري ، على سبيل المثال يقول الإمام الطبري في تفسيره (وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني بذلك الوجه والكفان ، وإنما قلنا ذلك
أولى الأقوال في ذلك بالتأويل : لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن
يستر عورته في صلاته ، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها ، وأن عليها أن
تستر ما عدا ذلك من بدنها ، فإذا كان من جميعهم إجماعاً كان معلوماً بذلك أن لها
أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كذلك للرجال ، لأن ما لم يكن عورة فغير حرام
إظهاره ، وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوماً أنه مما استثناه الله تعالى ، ذكره
بقوله : إلا ما ظهر منها ، لأن كل ذلك ظاهر منها) .
ثانيا : اتفاق المــذاهـــب
الأربعة على ضابط ستر سائر البدن عدا الوجه والكفين : وقد اتفقت المذاهب الاربعه
على وجوب ستر سائر البدن عدا الوجه والكفين :
أولا : المذهب الحنفي : ورد في تحفة الملوك
(وعورة الحرة البالغ جميع بدنها وشعرها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين)( ص 63) .
ثانيا : المذهب المالكي : ورد في الفواكه
الدواني (وأن عورة الحرة مع المسلمين الأجانب جميع جسدها إلا وجهها وكفيها ) (ج 1/
ص130 ) .
ثالثا : المذهب الشافعي : ورد في حلية العلماء
(والحرة جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين وبه قال مالك وقال أبو حنيفة قدمها
أيضا ليس بعورة ..) (ج 2 /ص 53) .
رابعا : المذهب الحنبلي : ورد في الهداية
للكلوذاني (عورة المرأة الحرة جميع بدنها إلا الوجه ، وفي الكفين روايتان) (ج1 / ص
28 ) .
العلمانية : وفي سياق تناول د.
شحرور للعلمانية نفهم انه يربط بين المصطلح والعلم ، حيث يقول ( … لقد ظهرت هذه
الاطروحه - العلمانية ـ ابتداء من عصر النهضة في أوربا نظرا لتناقض مكتشفات العلم
مع التفسير التوراتى للكون ، ونظرا لجمود شريعة موسى … ) ( القران والكتاب : رؤية
جديدة / ص 698 ) ، وهذا الربط خاطئ ، فمصطلح “العلمانية ” هو ترجمه عربيه لمصطلح (Secularism ) ، والذي هو صيغه نسب لكلمه
( Secular )،
والتي تعنى في اللغة اللاتينية الدنيا أو العالم ، فالأصل اللاتيني لمصطلح
العلمانية يفيد أذا معنى ما هو دنيوي مقابل ما هو ديني ، ورغم ما يدخل في تركيب
كلمه العلمانية من حروف كلمه العلم ، إلا انه لا علاقة بين العلمانية نزعه والعلم
منهاجا ، والأصل اللاتيني للترجمة العربية ينفى مثل هذه الصلة ، فالأولى أصلها
اللاتيني ( Secular ) ، بينما الثانية أصلها (science) (انظر د. عصمت سيف
الدولة ، عن العروبة والإسلام ، ص187) ، أما فيما يتعلق بموقف الإسلام من
العلمانية فهو يرى أن الإسلام يرفض العلمانية بمعاني “دلالات”معينه هي فصل دين
الحق (منهج التشريع الاسلامى / الوصايا في الفرقان/ مفاهيم الجمال الإسلامية ) عن
الدولة - مع ملاحظه أن لهذه المفاهيم الاربعه معاني خاصة عند د.شحرور، قد تختلف عن
معانيها السائدة ـ حيث يقرر( .. أما بالنسبة للدين الاسلامى فهو دين حنيفى منسجم مع
الفطرة ، ويعتمد التشريع الانسانى ضمن حدود الله ، وعلى البينات المادية وإجماع
أكثرية الناس ، يرفض فهم العلمانية فصل دين الحق ومنهج التشريع الاسلامى و” القيم
“الوصايا في الفرقان” ومفاهيم الجمال … لانه بهذا الفصل تصبح عن الدوله لا شيء) ، ولكنه
يقبل العلمانية بمعنى فصل الشعائر الاسلاميه عن الدوله بمعنى عدم اكراه الناس
عليها حيث يقرر (انه إذا كان بعض الناس يقولون أن الفصل يكون في الشعائر، فقد
كفانا الرسول مؤنه هذا الفصل وفصلها - اى الدوله ـ بنفسه واستعمل أسلوب الترغيب
والترهيب في الشعائر ، اى الأسلوب التربوي البحث ) ( القران والكتاب : رؤية جديدة/
ص 698 ) . وفى كل الأحوال فان الدلالة المشتركة التاريخية للعلمانية انها نزعه
تعمل على الفصل بين الدين”ممثله في السلطة الدينية” والدولة “ممثله في السلطة
السياسية”، وان الموقف السليم منها هو الموقف النقدي منها القائم على :
أولا : التمييز بين دلالاتها
المتعددة ، فهناك دلالتها الاصليه ـ التاريخية”العامة ـ المشتركة” ( وهى فصل الدين
عن الدولة) ، وهناك دلالاتها اللاحقة المتعددة ، وبالتالي فان رفض الدلالة الاصليه
التاريخية”العامة المشتركة” للمصطلح ، لا يترتب عليه رفض أو قبول دلالاته اللاحقة”
الخاصة المنفردة” إلا بعد تقييمها ببيان مدى تناقضها أو اتساقها مع مفاهيم وقيم
وقواعد الدين الكلية …
ثانيا : التمييز بين أشكالها
المختلفة : فهناك أولا “العلمانية المسيحية المتمثلة في قول ” أعطوا ما لقيصر
لقيصر وما لله لله ” ، وهى ذات أساس ديني يتمثل في كونها احد أركان الديانة
المسيحية ، وتنتهي إلى ان جسد الإنسان يجب أن يخضع لسلطه الحاكم ، و أن روحه يجب
أن تخضع لسلطه المسيح - تلاميذ المسيح ـ الكنيسة .. وهناك ثانيا العلمانية
الليبرالية ، التي تشكل احد أركان النظام الليبرالي الاربعه “بالاضافه إلى
الراسماليه والفردية والراسماليه ” ، وهى علمانيه طبيعيه ـ اى تنطلق من فكره
“القانون الطبيعي ” ـ غير دينيه - اي تقول أن للإنسان مطلق الحرية في اختيار اي اعتقاد ديني”مسيحي أو خلافه”، أو لا ديني “الإلحاد أو الشك ..” ، ويترتب على هذا
انه يجب التمييز بين عله المنع في الشكل الأول من أشكال العلمانية “العلمانية
المسيحية” ، وهى أنها من شرع من قبلنا الذي يخالف شرعنا لان شرعنا يتضمن تشريعات كليه تشمل كافه مناحي
الحياة ، وعله المنع في الشكل الثاني من
أشكال العلمانية “العلمانية الليبرالية” - وهى أن أساسها طبيعي ـ لا ديني - وهنا
يجب على من أراد أن يقرن المنع بالتكفير هنا أن يلتزم بضوابط التكفير الشرعية …
ثالثا : التمييز بين سلبياتها
التي تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره
على الحياة الخاصة … وايجابياتها التي تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه
السلطة ورفض الكهنوت والثيوقراطيه .. وبالتالي يجب قبل ايجابياتها ورفض سلبياتها …
رابعا : ان المنظور السياسي
الاسلامى يتجاوز كل من الثيوقراطيه والعلمانية ، لأنه يجعل علاقة الدين بالدولة
علاقة وحدة وارتباط (وليست علاقة خلط أو تطابق كما في الثيوقراطيه ) ، لان السلطة
في الإسلام مقيده بمفاهيم وقيم قواعد كليه ، مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعي
الدلالة “كالشورى والعدل والمساواة …. كما يجعل العلاقة بين الدين والدولة علاقة
تمييز ( وليست علاقة فصل كما في العلمانية) لان الإسلام ميز بين التشريع كوضع الهي
ثابت والاجتهاد ككسب بشرى متغير. كما المنظور السياسي الاسلامى يقوم على مدنيه
السلطة (وليس التشريع كما في العلمانية) ” لان الحاكم في المنظور السياسي الاسلامى
نائب ووكيل عن الجماعة ، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله إذا جار” ، كما يقوم على
دينيه التشريع ” على مستوى أصوله ” (وليس السلطة كما في الثيوقراطيه) ، “باعتبار
أن قواعد الشريعة الاصوليه هي المصدر الرئيسي للتشريع التفسير العلمي للقران ومذهب
رد الأصل إلى الفرع ( التطابق) “الإعجاز العلمي في القران ” ويمكن اعتبار القراءة
المعاصرة للدين عند د. شحرور ، شكل من التفسير العلمي للقران ، المستند إلى مذهب رد
الأصل (القران) إلى الفرع (العلم التجريبي) : اي المذهب الذي يعتبر الآيات العلمية
والكونية بمثابة غايات للنص القرآني - وليست وسائل له ـ وذلك من خلال محاولته
استنباط النظريات العلمية من هذه الآيات ـ بدلا من استقرائها من الكون نفسه ، دون
تمييز بين آيات الأصول والمتضمنة للآيات الكونية القطعية الدلالة ، وآيات الفروع
والمتضمنة للآيات الكونية الظنية الدلالة . ومن أدلة كون القراءة المعاصرة للدين
هي شكل من أشكال هذا المذهب ان د. شحرور يرتكز في قراءته للأحكام الشرعية ، على
نظرية رياضية أسسها «نيوتن» ، ويرى ان كل ما جاء من احكام شرعية في القرآن الكريم
لم يخرج عن تلك القاعدة الرياضية ، وان حركة التشريع مضبوطة ضمن هذه القاعدة ولا
تتخلف عنها ، وعلى هذا الأساس ، يبين لنا الثابت والمتحول في الشريعة . وكذلك ادعاء
د. شحرور أن جميع العلماء قبله لم يفهموا الشريعة على النحو الصحيح ، بحجة انهم لم
يفهموا نظرية الحدود التي أوردها ، ففي مقام اعتذاره عن الفقهاء لعدم فهمهم الصحيح
نظرة الإسلام للمرأة يقول (.. يمكن ان نبرر لهم ذلك بعدم فهمهم لنظرية الحدود أولا… )
.
نقد : وهذا المذهب يلزم منه
العديد من الإشكاليات ومنها :
أولا : أن هذا المذهب يجعل ـ
كما ذكرنا - العلم الأصل “لمطلق”والقرآن الفرع”المحدود” بينما العكس صحيح ـ وذلك
بتأويل النص القرآني ليتفق مع نظرية علمية معينة . وهذا الخطأ يتضح حتى في إطلاق
اسم الإعجاز العلمي في القران على المذهب ، بينما الصواب هو الإعجاز القرانى في
العلم …
ثانيا : أن النظريات العلمية
كشكل من أشكال المعرفة الإنسانية محدودة نسبية ، لذا تحتمل الصواب والخطأ
،وبالتالي فإن اعتبارها من القرآن ، يؤدي إلي نسبة هذا الخطأ إليه …
ثالثا : أن هذا المذهب يجعل
العلاقة بين الدين والعلم علاقة تطابق ، والصواب أنها علاقة اتساق “عدم تناقض”. والفارق
بين الاثين أن العلاقة الأولى تعنى وحدة موضوع الاثنين (العلم والدين) ، وهو غير
صحيح ، بينما الثانية تراعى تمايز موضوع
الاثنين مع وجود روابط مشتركه بينهما…
رابعا : وقد وجه العديد من
العلماء النقد لهذا المذهب ، عندما ظهر في عصرهم منهم الإمام الشاطبى الذي يقول في
نقده (جاءت الشريعة على معهود العرب وما تعرفه من علوم ولم تخرج مما ألفوه وان
كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكره
المتقدمين والمتأخرين … وكان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا
اعرف بالقران وعلومه وما أودع فيه ولم يبلغنا أن تكلم منهم احد من شيء من هذا
المدعى سوى ما تقدم من أحكام التكاليف وأحكام الاخرة … ) .
تفسير الآيات العلمية والكونية مذهب رد
الفرع إلى الأصل (الاتساق) الإعجاز القرانى في العلم : ان التفسير الصحيح
للآيات العلمية والكونية ينتهي بنا إلي :
أولا : التمييز بين :
أ / آيات الأصول : التي تتضمن :
1- أسس المنهج العلمي ،
والدعوة إلى استعماله .
2- الآيات الكونية
القطعية الدلالة ، التي هي بمثابة أمثله مضروبة للناس ، لاستعمال هذا المنهج
العلمي للكشف عن السنن الالهيه في الطبيعة والإنسان …
ب / آيات الفروع : التي تتضمن الآيات
الكونية ظنية الدلالة (تحتمل التأويل) ، والتي يمكن تفسيرها بما ينتهي إليه البحث
العلمي من نظريات أثبت صحتها بالتجربة والاختبار…
ثانيا : مع تقرير أن هذا
التفسير اجتهاد انسانى محدود ، يحتمل الصواب والخطأ ، وطبقا لهذا تصبح هذه
النظريات العلمية هي جزء من هذا التفسير لا جزء من النص القرانى .
خاتمه :
المعاصرة بدون آصاله تغريب (التجديد
المعكوس) : لا شك أن الاصاله والمعاصرة هي احد غايات الاراده
الشعبية العربية ، “بالاضافه إلى الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية”، في المرحلة
الراهنة ، التي تتميز بمحاوله تطبيق العديد من المذاهب والمشاريع التي تهدف إلى
إلغاء هذه الاراده - بمحاوله إلغاء ثوابتها - “كمشروع الشرق الأوسط الجديد ”الامبريالي
الصهيوني”، وقد ظهر في هذه المرحلة العديد من المشاريع الفكرية لأفراد وجماعات ، والتي
تنسب إلى الإسلام ، وترفع شعار المعاصرة ، ومنها المشروع الفكري للدكتور محمد شحرور،
والذي أطلق عليه اسم “القراءة المعاصرة للإسلام” . ولكن يلزم موضوعيا من هذه
المشاريع الفكرية ـ وبصرف النظر عن النوايا الذاتية لأصحابها - التغريب”اى محاوله
استبدال المفاهيم والقيم والقواعد الكلية للإسلام ، الذي يشكل الهيكل الحضاري
للأمم والشعوب ألمسلمه ” ومنها الامه العربية” ، لأنها معاصره بدون اصاله ، ذلك
أنها تقوم على ما يمكن ان يطلق عليه اسم “التجديد المعكوس”، اي محاوله تغيير
الثابت ” وهو الأصول النصية الثابته ، التي مصدرها النصوص يقينية الورود قطعيه
الدلالة ، والتي هي محل اتفاق بين السلف الصالح والائمة وعلماء أهل السنة بمذاهبهم
المتعدده ، وتثبيت المتغيير” وهو الفروع الاجتهادية المتغيرة ، التي مصدرها تأويل
معين للنصوص ظنيه الورود والدلاله “. وهو يخالف مفهوم التجديد في الاصطلاح الشرعي
، لانه مضمونه اجتهاد في فروع الدين المتغيرة ، مقيد (محدود) بأصوله الثابتة ، قال
(صلى الله عليه وسلم) (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها
دينها) (سنن أبى داود ، كتاب الملاحم ، باب ما يذكر في قرن المائة ح رقم 3740 ،
والحاكم في المستدرك 4/522) ، عرف العلماء التجديد في الحديث (بإحياء ما أندرس من
معالم الدين ، وانطمس من أحكام الشريعة وما ذهب من السنن ، وخفي من العلوم الظاهرة
والباطنة) (فيض القدير 1/ 10- 2/282) ، كما عرفوا المجدد بأنه من (له حنكة رد
المتشابهات إلى المحكمات ، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص
الفرقان وإشاراته ودلالاته) (فيض القدير 1 /
10 ، عون المعبود 11 / 389،391 ) ، فالتجديد الوارد في الحديث هو باتفاق
العلماء هو تجديد لفروع الدين (التي مصدرها النصوص الظنية الورود والدلالة) ،
مقيدا بأصوله (التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة) ، ويترتب على
هذا أن التجديد المذكور في الحديث لا ينطبق على الوقوف عند أصول الدين وفروعه (التقليد)
، ولا رفض أصول الدين وفروعه معا (التغريب) ..
***
قراءة نقدية تحتاج الى نقد :
* الدكتور صبري محمد خليل استهل
قراءته النقدية بما يسميه في عديد الكتابات بالـ " القراءة النقدية الاسلامية
" وهو ما يوحي بان ما يتناوله بالنقد ـ على أهميته ـ أو ما يمكن ان يقدمه غيره ـ على غير "اسسه"
النقدية ـ انما يقع خارج تلك الدائرة . كما يوحي في نفس الوقت ـ حتى بدون قصد ـ بان هناك قراءة
نقدية " إسلامية " واحدة هي تلك القراءة التي يقدمها .. علما ان الاجتهادات موضوع النقد
هي في صميم الاجتهاد الديني الإسلامي التي تناولها الدكتور محمد شحرور في كل
كتاباته .
* يحدد الدكتور صبري
محمد خليل ـ منذ البداية ـ المرجعية
" السلفية " كحدود لقراءته النقدية معتمدا بالكامل ـ في الاعتراض أو في
التأييد ـ على ما اتفق عليه " السلف وعلماء اهل السنة " ، وتبعا لهذا الأسلوب
النقدي نجده يتناول " مشروع القراءة المعاصرة للإسلام " موضوع النقد من داخل "الكهف" الذي لم يقبل به الدكتور محمد شحرور كفضاء لبناء مشروعه مفضلا التحرر الكامل
من أسلوب التقديس الذي يؤدي في نظره الى اجترار الأفكار دون إنتاج للمعرفة ، وهي
ثغرة عميقة في بنية العقل العربي ، لا تؤدي ـ حسب رأيه ـ إلا الى المزيد من المراكمة
لنفس الأفكار .. وهذا ـ تقريبا ـ ما انتهى إليه بالفعل الدكتور صبري محمد خليل مع بعض الإضافات
من خلال توظيف منهج جدل الإنسان الذي استعمله على نطاق محدود ، رغم أن هذا المنهج المعرفي الذي يتبناه يتجاوز بكثير المنهج المادي المنسوب للدكتور محمد شحرور ، من حيث نظرته للتطور كظاهرة انسانيانه يقودها الانسان نفسه ، فلا يقبل
التعامل مع الموروث الفكري الإنساني بمعزل عن الظروف التي أسهمت في إنتاجه في كل
زمان ومكان ، ويرفض القبول بأي سقف معرفي حتى ولو كان " الاجماع " ذاته
الذي هو في الأصل عملية انتقاء تاريخي محض في حقل الاجتهاد سطر بعناية حدود المنطق
الديني للجماعة السنية ، فصار لها سند من النصوص الدينية والأحاديث حوّل الإبداع
الى نمطية فكرية تتباهى بها "الكثرة" ، فلا تقبل في هذا المجال الا بما
يتفق مع منطقها القياسي الجردي التراكمي ، الذي خلق حالة من التضخم "المعرفي"
الظاهر للمشروع السلفي رافضة كل ما يمس بالأسس التي بني عليها هذا المشروع ..
ورغم ذلك فأن ما يجمع
بين الدكتور محمد شحرور والدكتور عصمت سيف الدولة هو الفهم المشترك لكيفة خروج
المجتمعات الاوروبية من ظلمات القرون الوسطى والجهل والشعوذة وصكوك الغفران الى
عصر الانوار من خلال اتباع اسلوب واحد هو : الثقة في الانسان ، وفهم دوره وقدرته
على تغيير العالم ، وتحرير عقله من الجمود والخرافات والقيود التي كانت تكبله ،
فانطلق الناس في التفكير الحر الذي اصبح يعاضد ويعزز بعضه بعضا حتى صارت كل مجالات الفكر
تقريبا مجالات واسعة للبحث العلمي ، فصار الاقتصاد خاضعا لقوانين العلم ، وبنفس
الدرجة تقريبا في الجغرافيا ،
والتاريخ ، والاجتماع والرياضة ... التي صارت كلها مجالات خاضعة للبحث العلمي .. وهكذا ،
أصبحت تلك المجالات تساهم في صنع
النهضة بتلك المجتمعات ، وتقلص من مساحات الاختلاف بين الناس كلما اقتربت أكثر من جوهر العلم .. وهو ما يعطي ـ بالتأكيد ـ مكانة هامة وأولوية خاصة لدور العقل الانساني في
انتاج المعرفة والنهوض بالمجتمع ..
وبهذا نفهم قيمة
ما يبذله الدكتور محمد شحرور في مجال اختصاصه وأبحاثه في التراث ، وفي النصوص
الدينية ، باعتماده على منهج علمي واضح يعتمد فيه التوفيق بين قوانين المنطق التي
تضبط آليات التفكير والنص الديني الذي تختلف تاويلاته باختلاف منهجية البحث
والقراءة ، في مجتمعات فهمت المقدس على غير طبيعته التي ورد بها .. ومن هنا تتضح قيمة المنهجية العلمية في الوصول بالافكار الى قواسم مشتركة ، ونقاط التقاء ، مثلما
يحدث بين الدكتور محمد شحرور والدكتور
عصمت سيف الدولة ، في بعض الجوانب ، وهما يبحثان في مجالات مختلفة ..
* للتأكيد على الموضوعية يحدد
الدكتور صبري محمد خليل المجال النقدي " للقراءة النقدية الاسلامية"
التي اعتمدها بعدم تجاوز " موقفي الرفض المطلق والقبول المطلق" ، ولكن
في حدود ما تسمح به مسلماته المتقيدة ـ بالكامل ـ بمسلمات " السلف الصالح
وعلماء أهل السنية " ، باعتبارها معيارا لفرز ما " يتسق أو يتناقض مع أصول الدين " .. ورغم أنه يؤكد في البداية
على أن القراءة النقدية تخلص الى أن بعض " المفاهيم " التي قدمها
الدكتور محمد شحرور تتسق مع أصول الدين وبعضها الآخر يتناقض معها ، الا انه لم
يتناول في قراءته سوى ما يؤكد على التعارض .. وهو ما يسّر له استنتاجاته التي ختم
بها قراءته النقدية ، والتي جعلت "المشروع الفكري" للدكتور محمد شحرور
ضمن المشاريع الموجهة لإلغاء ثوابت الامة "كمشروع الشرق الاوسط الكبير
الامبريالي الصهيوني" الذي يلزم منه موضوعيا ـ كما يقول الدكتور صبري محمد خليل
وبصرف النظر عن نوايا أصحابه ـ "التغريب"
(أي محاوله استبدال المفاهيم والقيم والقواعد الكلية للإسلام ، الذي يشكل الهيكل
الحضاري للأمم والشعوب المسلمه ”ومنها الامه العربية” ، لأنها معاصره بدون آصاله ،
ذلك أنها تقوم على ما يمكن ان يطلق عليه اسم “التجديد المعكوس”، أي محاوله تغيير
الثابت ” وهو الأصول النصية الثابتة ، التي مصدرها النصوص يقينية الورود قطعيه
الدلالة ، والتي هي محل اتفاق بين السلف الصالح والأئمة وعلماء أهل السنة بمذاهبهم
المتعددة) ..
وفي الواقع ، فان هذا "الثابت" الذي اشار اليه الدكتور صبري محمد
خليل والمتمثل ( في الاصول النصية
الثابتة ، التي مصدرها النصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة ) لم يقل الدكتور محمد شحرور بالغائه على الاطلاق في كل
كتاباته ، بل على العكس من ذلك فانه يعتمد أكثر من غيره على الآيات القرآنية والأحاديث
الصحيحة لاثبات رأيه بقطع النظر عن مضمون التأويل الذي يراه ..
* وفي النهاية ، وبالرغم مما يقع
فيه الدكتور محمد شحرور من تأويلات في التفسير قد تكون خارج حدود المنطق بالنسبة
للبعض ، الا ان جملة من الأفكار التي قدمها تستحق الدراسة من خارج منظومة الفكر
السلفي الرجعي الذي يتخذ من تأويل النصوص وحشو الأحاديث بكل أنواعها غاية ووسيلة
في نفس الوقت .. غاية لتأكيد أفكار مسبقة .. ووسيلة لإقصاء كل محاولة للاجتهاد من
خارج المنظومة السلفية .
( القدس ) .