التقدم على الطريق المسدود ..
رؤية قومية للمشكلة الفلسطينية .
د.عصمت سيف الدولة .
كلمة :
، انطلقت جميعها من موقف واحد هو الموقف القومي . ومن ذلك الموقف اختلفت عن رؤى كثيرة . يبرر نشرها ان رؤيتنا القومية كانت – منذ البداية – تنذر بان النضال العربي ضد الغزو الصهيوني خاطئ في منطلقاته وفي اساليبه ، وان الاقليمية هي بؤرة الفشل . وكانت – منذ البداية ايضا – تحذر من الانخداع بالمكاسب المرحلية وبالتقدم على طريق مسدود . ولقد انقضت مرحلة تاريخية كاملة وارتطمت بالسد الذي اقامته الولايات المتحدة الامريكية على طريقها الدامي . ونحسب الجماهير العربية قد عادت تتساءل ، اين الطريق الصحيح ؟ فان صح ما نحسبه فان نشر هذه الرؤى القومية قد يجنب امتنا تكرار الاخطاء ويساعد جماهيرها على ان تضع اقدامها على طريق النصر .. الطريق الوحيد .. الطريق القومي ..
مشكلة فلسطين .
منذ اكثر من نصف قرن تقوم في فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر . بدأت اختلاسا خفيا ثم تحولت الى اغتصاب بالقوة . انها ليست احتلالا لفلسطين ارضا وبشرا تسخر به القوىالمحتلة كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم في بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل سنة 1948 ، ولكنها محاولة بدأت قبل الإحتلال الانجليزي واستمرت في ظله وما تزال باقية بعده ، فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ” خالية ” من الشعب العربي وتوطين بشر اخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه بما فعل المهاجرون الاوروبيون القدامى في امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفي سنة
1948 استطاعت الحركة الصهيونية ان تقيم على ارض فلسطين دولة باسم “اسرائيل” اعترفت بها أغلبية دول العالم وقبلت عضوآ في هيئة الامم المتحدة ، ورفضت الدول العربية الاعتراف بها واشتبكت معها في ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وما تزال اسرائيل باقية . وقد عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية ، تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ، وتغيرت من حولها الظروف الدولية ، وفي كل جيل ، وتحت كل نظام ، ومع كل طرف دولي ، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات ، وقدمت لها عشرات الحلول ، وبذلت في حلها عشرات المحاولات ، وكتبت عنها مئات الكتب … فلا تزد المشكلة الا حدّة وان كادت كل تلك الاحداث و”الاجتهادات ”ان تخفي الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التي تطرحها :
ما هي حقيقة المشكلة ؟
وجاءت هزيمة يونيو (حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا.
فمنذ عام
1967 جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف الارض جميعا ، بحيث يمكن القول ـ بدون أية مبالغة ـ ان كل القوى النشيطة في العالم أصبحت اطرافا ذات نشاط في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وحمل كل طرف “ قضيته ” ، معه ، بعدا جديدا ومضمونا مضافا ، الى ابعاد ومضامين المشكلة الاصيلة . وهكذا اصبح الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين اطراف عدة على مضامين متعددة من اجل غايات متباينة، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى آخر الصواريخ والطائرات . ولم يعد احد يذكر حتى ذرائع القتال في يونيو (حزيران) 1967. فقد عرّت الايام ما كان مستورا وكشفت نوايا كل الأطراف فبانت حتى لأقصر الناس نظرا الاعماق الحقيقية للصراع. فلا هو صراع حول أمن اسرائيل ، ” المستضعفة ” ، في مواجهة البغي العربي المتفوق عدة وعداء .. ، ولا هو صراع حول الملاحة في خليج العقبة ، ولا هو صراع حول اسلوب الحياة في الارض العربية ، بل هو صراع يدور ـ بلا موا ربة ـ حول ا لوجود والمصير. الوجود العريي ومصيره . والوجود الصهيوني ومصيره ، والوجود الا ستعماري ومصيره في الوطن العربي وربما في العالم. وهكذا يعرف كل الشركاء والحلفاء في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم في مصير كثير من العقائد (الايديولوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما العالمية . وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه وفي نظمه وفي غاياته ،
ومن هنا اصبح المستقبل ” العربي ذاته ، مستقبل الامة العربية كلها ، موضوعا يدور من اجله الصراع بين القوى المشتبكة في الصراع حول مستقبل فلسطين . ويعد له كل شريك في الصراع ، وكل حليف لاحدى قواه ” الصيغة ” ، التي تتفق مع مصالحه . ويدفع بالصراع ذاته الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد . يدفع بالصراع الذي يدور حول مشكلة فلسطين الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد في الوطن العربي . وليست ” النظريات ” ، التي كثرت اعلامها في سماء الوطن العربي منذ سنة 1967 الا الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهي تطرح على الجماهير العربية لا بقصد تثقيفها أو تعريفها بالحقيقة كما لا بد يزعم دعاتها ولكن للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .
في غمار هذا كله يصبح من المهم لنا ان نعرف حقيقة مشكلة فلسطين ، وان نظل واعين حقيقتها ، والا نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة ، فاننا لن نعرف قط الحل الصحيح لأية مشكلة اذا جهلنا حقيقتها ، وعندما لا نعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد نعرف ان ” كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها و بصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطىء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن الا ان يكون واحدا بحكم ان الواقع الاجتماعي واحد” (1)
وعندما نطبق هذا على المجتمع القومي (الامة) ننتهى الى ان ” للمشكلات الاجتماعية في الامة حلولا موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني ان تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكونون كلهم خاطئين ، ولكن الذي لا يمكن ان يكون ابدا ان يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون “ (2) .
فما هي حقيقة مشكلة فلسطين وما هوحلها الصحيح ؟
لنبدأ بالوقائع التاريخية وهي بسيطة: منذ الفتح الاسلامى والشعب العربي هو الذي يقيم ويعيش على ارض فلسطين . ومن اجلها دارت اقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبي واشترك كل الشعب العربي بامواله وابنائه في تحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين . ومنذ ان انحسرت نهائيأ موجات الغزو الصليبي لم يغادر الشعب العربي ارض فلسطين الى ان طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور .
ولم ينكر احد حتى من الصهاينة ان الشعب العربي هو الذي كان يقيم ويعيش على ارض فلسطين منذ الفتح الاسلامي حتى سنة 1948. وهكذا ندرك عدم جدوى كل ما كتب في محاولة اثبات ما لم ينكره احد . انما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض فيها يلي الموقف العربي القومي ثم الموقف الصهيوني قبل ان نعرض الحل القومي للمشكلة .
الموقف القومي :
الموقف القومي من مشكلة فلسطين بسيط وواضح :
فعندما ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضى الى المستقبل، نفهم أن فلسطين ، ارضا وشعبا، قد دخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامي . لم تعد منذ ذلك الحين موقعا للصراع القبلى بين الكنعانيين والاسرائيليين والرومان بل استقر الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لا تخص الارض شعبا بعينه لتكون جزءا مؤثرا ومتأثرا ، متحركا ، ومتغيرا ، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب التي وفر لها الفتح الاسلامي اوسع فرص التفاعل التاريخي لتكون معا أمة عربية . واذا كانت العلاقات العرقية (السامية) بين المقيمين في فلسطين والمقيمين في بقية انحاء الوطن العربي قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ما ادى اليه التفاعل من تطور تقدمي انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومي العربي واصبحت به أمة واحدة .
من هنا فانا لا نطرح مشكلة فلسطين ولا نفهمها ولا نحتج فيها استنادا الى أية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومى . ولا نقبل من أحد ان يطرحها او يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين ارضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين التاريخي للامة العربية . ذلك لاننا كقوميين ، والقومية تقدمية ، لا نحتج ولا نقبل الاحتجاج على ثمرات التطور التاريخي بتاريخ البداوة الاولى.
تترتب على هذا عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومى من مشكلة فلسطين .
أولاها :
ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين الشعب العربي وبين ، (اليهود) ، لانهم يهود . هذا خطأ جسيم في فهم المشكلة . ان العروبة قومية واليهودية دين ، فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة . القومية العربية علاقة انتماء الى مجتمع قومي (أمة) والدين اليهودي علاقة ايمان بمقولات ميتافيزيقية . وكما يكون العربي يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودي منتميا الى أي واحد من المجتمعات التي تملأ الارض بدون ان يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعي وايمانه الديني .
ليس ثمة شيء ابعد عن حقيقة مشكلة فلسطين واكثر تشويها لها من القول بانها مشكلة صراع ديني يحلها قبول التعايش بين الاديان على ارض فلسطين . فيوم ان اغتصب الصليبيون المسيحيون ارض فلسطين قاتل العرب ، مسلمين ومسيحيين ، الى ان استردوا الارض المغتصبة ، ومن قبل ان يبدأ العدوان الصهيوني على فلسطين كان العرب من كل دين يعيشون في سلام على ارض فلسطين . ان مشكلة فلسطين مشكلة ارض مغتصبة وليست مشكلة تبشير باحد الاديان . مشكلة قومية وليست مشكلة دينية . واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان بنصوص من ، (التوراة) ، فذلك ما يقوله المعتدون أنفسهم لخدمة اغراضهم أو لتبرير عدوانهم … وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولا نستطيع ان نحلها . وقد نقع في الخطأ حتى بعيدا عن التصدي لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض المتفقهين ، الامة العربية التي ينتمون اليها، والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ، ويقدمون الدين بديلأ عن القومية ، أو عندما ينفعل “ المتعصبون ” فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود ، لا يفعلون شيئا بتلك الاخطاء الغبية المضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية المعتدية . اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي بهم الامر الى اقتسام الوطن العربي فيها بين الاديان الثلاثة على الاقل . وايا ما كانت النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحي أن يخرج من ارض اليهود في فلسطين . أي يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيوني الذي يظنون انهم يحاربونه بالتعصب الديني .
النتيجة الثانية :
هي ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الارض العربية بين الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيوني لفلسطين من “ الاشتراكيين ” بينما كان المدافعون عن الارض العربية ” اقطاعيين ” أو رأسماليين . وادى ذلك الى وقوع اكثر الناس ادعاء للفهم ” العلمي ” للمشكلات في خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين باعتراف الاتحاد السوفييتي باسرائيل فور اعلان قيامها وانحياز الشيوعيين العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية .
ولم يلبث التاريخ طويلا حتى كشف ذلك الخطأ ” العلمي ” جدا. اذ في مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة الذين كانوا يوما من اعضاء ” البوند الماركسي “ ، حلفاء اوفياء للامبريالية الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الأرض العربية من التقدميين والاشتراكيين . وفي الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع قائما . وقد صحح الاتحاد السوفيتي ـ بقدرـ خطأه الاول . وصحح كثير من الماركسيين العرب مواقفهم تصحيحا كاملا . ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحه فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة اثارها اغتصاب الارض العربية . والارض هي مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعي ، فاغتصابها من الشعب العربي معوق لتقدمه فهو عدوان رجعي بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون . واذا كان الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعي في الارض المغتصبة وبين اسلوب الانتاج الفردي في الوطن العربي فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصيلة تحت ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم في الارض المغتصبة . وهو تضليل لم يضلل مثله احد من قبل يوم ان نشب الصراع المسلح بين الصين والاتحاد السوفيتى حول بضعة اميال مربعة من الأرض على الحدود بين البلدين . لم يكن هناك شك في ان الاشتراكية هي نظام الحياة الذي ينتظر تلك الارض سواء آلت الى الصين أو الى الاتحاد السوفيتي . لم يكن أحد من الطرفين يشك في هذا ولم يثره أحد من الطرفين . إنما كان الصراع المسلح الذي وصل الى حد القتال الفعلي بين الاشتراكيين من الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء المضللة التي تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية ادوات الانتاج في الارض العربية . وهي اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف ـ غرورا ـ اضعاف الجبهة الداخلية في اسرا ئيل أو حتى شقها . لاننا انما نضعف القوى المعادية لنمزقها انتصارا لحقنا ولكن لا ندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها . ولا يجدينا شيئا ان يتمزق المجتمع الصهيوني في اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض المغتصبة منا . ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية في ذاته بديلة عن الغاية الاصيلة فلن يزيد عن ان يكون انتقالا لارض فلسطين من فريق صهيوني نقول انه رجعي الى فريق صهيوني نقول ا نه تقدمي . وتكون المسألة كلها عبثا ؛ وعندما ينسى بعض المتشدقين بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا … الى اخر هذه الكلمات الكبيرة ان كل فلاح في اسرائيل يزرع ارض فلاح عربي ، وان كل عامل في اسرائيل محتل مكان عامل عربي ، وان كل اسرة في اسرائيل تعيش في منزل اسرة عربية ، عندما ينسون ان كل خطوة الى الامام في اسرائيل قد انتزعت الاقدام العربية من فوق طريق التقدم الاجتماعي ، ثم يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين الغاصبين بدعوى ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين ” الطبقات ” وليس صراعا حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات ، فانهم لا يفعلون شيئا سوى دخول معركة الصراع الاجتماعي بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، ويا للسخرية ، من موا قع التشرد التي طردهم اليها الغاصبون . عندئذ يكون بعدهم عن فهم مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة ، وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف المطرودين أو التصدي المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض “أكلة” الكلمات الكبيرة الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ، ويقدمون “الاممية”، بديلا عن القومية انما يخذلون امتهم المعتدى عليها وينتصرون للصهيونية المعتدية . اذ عندما تصبح الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج ” بصرف النظر عن الانتماء القومي ” ، فيكون
عليهم أن يقبلوا أن يزرع الفلاحون في اسرائيل ارض الفلاحين العرب وان يحل العمال في اسرائيل محل العمال العرب ، وان يكون الفلاحون والعمال في الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض وفرص العمل فاصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن، الاحتياطي البشري تحت قيادة ” البروليتاريا ” الاسرائيلية في نضالها ” الثوري ” ، من اجل الاشتراكية .
فهل يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم ام هي اخطاء غبية ؟
النتيجة الثالثة :
هى ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بمعنى انها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى . واذا كانت الدول تتدخل في مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربي او دعما للعدوان الصهيوني فان الذي يحركها هو مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمي هو مصلحتها الخاصة . واذا كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التي تحركها كما نقيم وزنأ للسلام العالمي فلإن لنا في هذا مصالح تحركنا . ذلك لاننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها ولا نستطيع حتى لو اردنا أن نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففي نطاق المجتمع الدولي نواجه حتمية القانون المعروف : ” كل شيء مؤثر في غيره متأثر به “. ولا شك في ان مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر . ايجابيا وسلبيا. باسلوب حلها . وهو ما يعني ان نأخذ من كل دولة ، ومن المجتمع الدولي كله ، الموقف الصحيح ونحن نحاول ان نحل مشكلة فلسطين . ولكن ما هو مقياس صحة الموقف ؟.. مقياسه أن يكون مساعدا في حل المشكلة أو أن يكون حلأ لها . وهوما يعني ان لمشكله فلسطين حقيقة نعرفها هي التي تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولي ، وان تدخل تلك الدول ومجتمعها الدولي في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين لا يغير من حقيقتها التي نعرفها ونلتزمها :
ان ارضنا العربية في فلسطين مغتصبة.
فليكن السلام العالمي . هو المثل الذي نضربه ، لان السلام العالمي غاية مشتركة بين البشرجميعا . ان الحفاظ على السلام العالمي ـ طبقا لنظريتنا القومية ـ يتحقق باحترام الوجود الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذي يقتضيه الحفاظ على السلام العالمي . نريد ان نقول ان استعمال العنف لا يعني ـ دائما ـ ان ثمة خطرا يهدد السلام العالمي . وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية السلام العالمي . فنحن من موقفنا القومي لانصدق ولا نفهم ادعاءات السلام التي تتستر على الانتقاص من وجودنا القومي . ونرفض تماما ان ندفع أرض فلسطين أو اية ذرة من الارض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لا لاننا لا نريد السلام العالمي ولكن لاننا لا نفهم السلام العالمي الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجود الخاص لكل المجتمعات البشرية .
ان الدول لن تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة ، ولن تكف عن طرحها كمشكلة سلام عالمي صادقة أو مخاتلة ، ولن تكف عن التدخل ، علنا أو خفية ، من موقع التحالف معنا أو التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ما تريد .
وليس لنا ان نتوقع غير هذا ، وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق غايتنا وسط كل هذه المؤثرات . لا شك في هذا ولا انكار له . ولكن عندما ننزلق الى طرح مشكلتنا أو قبول طرحها على انها مشكلة فيها بين الدول الاخرى أو مشكلة السلام العالمي انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية . وعندما ندفنها تغيب عنا حقيقتها فلا نعرف كيف نحلها ، ثم يكون علينا ان نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم كل منها على ضوء مصالحها الخاصة ، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمي كما يقدرها القادرودن على تدميره أو الخائفون من القادرين . وينتهي الامر بنا الى دفع ارض فلسطين ثمنا من عندنا ، لا للسلام العالمي ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح القائمة بين الدول .
وعندما نعرف ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذي ذكرناه ، ولا ننسى انها مشكلة ارض عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذي يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولي عندما يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربية في فلسطين قد حلت منذ ان اعترف المجتمع الدولي بدولة اسرائيل وقبلها عضوا في هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد اصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة . ان فقه القانون الدولي مليء بالنظريات عن الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة ، وباثاره الملزمة فيما بين الدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة . ولكن ليس في فقه القانون الدولي ولا في قواعده ولا في تطبيقاته ما يجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية اثرا ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ ان القاعدة الاساسية التي يقوم عليها كل بناء القانون الدولي هي ان الدولة لا تلتزم الا بارادتها الخاصة . فما الذي يعنيه اعتراف كثير من الدول باسرائيل ؟… يعني ان تلك الدول قد اصبحت ملتزمة بارادتها بان تعامل اسرائيل كدولة ما دامت قائمة ولا يعني شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية المغتصبة لان القرارات التي تأخذها الدول ، كما يعرف كل الذين يعلمون المبادىء الاولية في القانون الدولي ، غير قابلة لاحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم الذي تنصب عليه سيادتها .
وما دامت الدول التي اعترفت باسرائيل ليست ذات سيادة على اقليم فلسطين فان اعترافها يضفي الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لا يضفي الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لا يحول الاغتصاب الى عمل مشروع . ان هذا يقع خارج نطاق مقدرة الدول وهي تمارس سيادتها ، لا لاننا نريد ذلك ، ولكن لان تلك هي احكام القانون الدولي الذي يحتجون به كثيرا. اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة اسرائيل لا يتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها . والا لكان الاعتراف المشروع دوليا حماية غير مشروعة . ومن هنا ندرك كم هي زائفة المقولة التي يهمس بها البعض ويهددنا بها الاخرون : ما دامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فإنها لن تسمح بزوالها أبدآ . فيوم أن تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذي مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما من اثار الاعتراف بها . سيكون حماية لمصالحها ايا كان مضمون تلك المصالح .
ان اعتراف كثير من الدول ، اذن ، باسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين تلك الدول وبين اسرائيل . وبالتالي فان المشكلة ، كما هي على حقيقتها، ما تزال قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل .
أما عن هيئة الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة في المواد الاولى من ميثاقها تنكر الشرعية على الاستيلاء على الارض بالقوة . وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرا ئيل عضوا فيها ، قبل ان تجف دماء المذابح في الارض المغتصبة ، لم يكن الاعضاء الذين قبلوا يفعلون شيئا أقل من خيانة ميثاقها . وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لاعضائها ولو مجتمعين ان يخالفوا ميثاقها. وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته فهى ليست حجة على الدول التي قبلت ان تكون اعضاء في هيئة الامم المتحدة على أساس الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة ما لا بد ان يعرفه العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذي وضعه ، وكيف وضع ، وفي اية ظروف دولية وضع ، وما هي المصالح ” الحقيقية ” ، التي وضع لحمايتها. وبدون اثارة ما يعرفه حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون من ان هيئة الامم المتحدة التي قبلت اسرائيل وما تزال ترفض الصين ليست الا أداة في يد من يملك القوة فيفرض بها القرارات الدولية (3).
هل تتغير حقيقة مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت باسرائيل احدى الدول العربية . أو الدول العربية مجتمعة ، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة أو بدون دولة ؟
أبدا.
نعرف أن المميز الاساسي للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى المشتركة فيما بين الناس فيها “. بقي أن نعرف الموقف القومي من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية ” مشتركة “، فيما بين الشعب العربي . انه يحدده من ناحيتين :
الناحية الاولى :
لما كانت الامة العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربي في الوطن العربي هو مشاركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة. وهذا يعني انه ليس من حق الشعب العربي كله ، من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا في دولة الوحدة ، ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الصهيوني على الارض المغتصبة . ا نه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الاجيال العربية القادمة .
ولو فعل لما كان ما يفعله حجة على الاجيال القادمة من الشعب العربي .
الناحية الثانية :
انه لما كانت الارض العربية شركة بين الشعب العربي فليس من حق أي جزء من الشعب العربي ولو كان شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلي على الارض العربية المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانة ملك مشترك بينه وبين باقي شعب الامة العربية. ولو فعل لما كان ما فعله حجة على الشعب العربي .
ان هذه الناحية الثانية اكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لا تكتمل وجودا ما دامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقي الوطن العربي . وانما أردنا أن ندفع بالفروض الى نهايتها لنؤكد بأوضح ما يمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب ” العربي ” المتنازل ، ولو كان جيلا كاملا من الشعب العربي تمثله وتنوب عنه دولة وا حدة تعترف بالوجود الاسرا ئيلي على أرض فلسطين . ان أي جزء من الشعب العربي ممثلا في دولته أو الشعب العربي كله ممثلا في دولة واحدة ، أو شعب فلسطين ممثلا في دولة أو بدون دولة ، يعترف بدولة اسرا ئيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه بالتعامل معها كدولة ولكن مشكلة الارض المغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح باقي الشعب العربي ولواقتضى الامر تصفية المعترفين ، أو يحلها حلها الصحيح جيل قادم من الشعب العربي يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع أحد أن يحتج على الذين يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة بالاعتراف الصادر من غيرهم أو بالاعتراف السابق على وجودهم ، لانهم كشركاء في الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما فعله أو يفعله شركاؤهم الاخرون .
مشكلة فلسطين ، اذن ، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتي من أي جانب عربي لانها مشكلة ارض مغتصبة ، لا من أي جيل من الشعب العربي يملكها وحده فيملك التصرف فيها ، ولا من أي جزء من الشعب العربي يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها ، بل مغتصبة من الامة العربية واجيالها المتعاقبة . ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين في طرح مشكلة فلسطين :
الخطأ الاول هو الزعم بأن العدوان الصهيوني موجه ضد دولة عربية أو بضعة دول عربية ، وبالتالي تكون المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة أو الدول . صحيح ان الصهيونية المعتدية عندما استولت على الارض العربية كانت الارض التي اغتصبتها جزءا من اقليم (شبه) الدولة التي كانت قائمة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني . وعندما اعتدت اسرائيل مرتين سنة 1956 وسنة 1967، ومرات عدة فيما بينهما ، اصطدمت بالدول العربية القائمة على الأرض المعتدى عليها. وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية أخرى لم يدركها العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التي اغتصبتها الصهيونية أو احتلتها اسرائيل لم تكن خالية من البشر ومن الدول . وان الارض العربية التي حددتها لتكون وطنا لدولة اسرائيل ما بين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول ويثير كل هذا مشكلات جديدة بين اسرائيل والدولة أو الدول العربية المعتدى عليها . مشكلات الاستقلال والامن وضمان الحدود . وتضاف تلك المشكلات الى قائمة المشكلات القومية على أساس ان كل مشكلة في الامة العربية هي مشكلة قومية . صحيح أيضا انه كلما تحرر الشعب العربي في أية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال ، وكلما نمت مقدرة الشعب العربي في أية دولة عربية على التقدم الاجتماعي ، انتبهت الصهيونية الى المخاطر المقبلة التي تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو أن يبلغ غايته .
اولا : لأنه بقدر ما يتحرر
الشعب العربي بقدر ما يستطيع أن يحل مشكلة فلسطين .
وثانيا : لان محاولات التقدم ولو في ظل الاقليمية لن تلبث أن تعلم الجادين فعلا في ممارسة التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة في الامة العربية وان ” التقدم لا يقوم على أساس التجزئة ” عندئذ يعرفون ان مشكلة فلسطين هي مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلي قيد ثقيل على محاولات التقدم الاجتماعي فيواجهون دولة الصهيونية بالارادة التي لا تهزم : ارادة التقدم الاجتماعي .
وثالثا : لان التنمية في ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير، ومن هنا لا يكون غريبا مانلاحظه من أن مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت في الوطن العربي خطوة تحررية . وان الصراع ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية . وان قواها العربية تفرز وتتبلور . رويدا رويدا ، في القوى القومية التقدمية . ألم نر كيف انها الآن سنة 1971 أكثر حدة من سنة 1948. وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذي قبل . وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء في الجمهورية العربية المتحدة ، حيث يعيش ثلث الامة العربية، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية في البناء الاجتماعي . ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على أساس خطط التنمية في الجمهورية العربية المتحدة . عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربي لاعادة البناء ويبذل في كل هذا ما يتجاوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية ، وعندما يقارب البناء مرحلة الاثمار، أي في تلك اللحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربي على وشك ان يذوق ثمار جهده ، تختلق الذرائع ويأتي عدوان اسرائيلي جديد ليهدم … وهكذا. ألم نر كيف تحول الصراع منذ سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات أو تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة أو موت بيننا وبين اسرا ئيل . ولم تستطع اسرائيل ـ هذه المرة ـ أن تضرب ثم تعود فتسرح قواتها وتعد نفسها لجولة قادمة . بل اضطرت للبقاء في ساحة المعركة والدفاع حتى الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى القومية في الوطن العربي مسيرتها التقدمية .
ولكنه يقوم على مستوى اسلوب الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة الاصيلة ، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه . فهو لا يطغى على مشكلة فلسطين ولا يغيرمن حقيقتها ولا يقوم بديلا عنها . ولو كانت اسرائيل تعلم ، أو حتى تتوهم ، ان التقدم الاجتماعي في أية دولة عربية ، لن يبنى لها من بين ما يبنى ، القبرالذي تدفن فيه ، لما همّها في كثير أو قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات . أو لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء التقدمي في الدول العربية . انما هي تهدم لانها تعلم ان ذلك البناء أحد اساليب النصر في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وهكذا تبقى مشكلة فلسطين ، كما هي ، مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة أو الدول التي كانت قائمة ، والقائمة ، والتي قد تقوم على تلك الارض . ذلك لان الأرض التي تقوم عليها الدول العربية ليست أرضا خاصة بتلك الدول أو بشعوبها . ان للشعب العربي في كل دولة حقا بينها مشتركا بينه وبين باقي ، الشعب العربي خارج حدودها السياسية . ومن هنا لا نستطيع أن نفهم ، من الموقف القومي، كيف يمكن أن يكون اغتصاب أو احتلال أية ارض عربية هو مشكلة ” خاصة “ بين المعتدين وبين الدولة أو الدول العربية التي تلقت ضربة العدوان . فلا نفهم ان يكون
اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض والمياه الاقليمية في سنتي 1956، 1967 وما بينهما مشكلات اقليمية قائمة بين اسرائيل والدول العربية ” المعنية ” كما يقولون . وعندما لا نفهم المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض ـ من ناحية ـ ان تتنازل أية دولة عربية عن أرض فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف باسرائيل ولو في مقابل استردادها للارض المحتلة في سنة 1967. ونرفض ـ من ناحية ثانية ـ أن تتنازل أية دولة عربية عن ذرة من الارض التي تقوم عليها لاسرائيل ولو في مقابل استرداد ما يتبقى من ارض محتلة . ونرفض ـ من ناحية ثالثة ـ ان تكون مسؤولية تحرير الارض المحتلة والارض المغتصبة واقعة على عاتق جزء من الشعب العربي دون الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج . كما نرفض ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربي لتسترد جزءا منه ، نرفض ان يهرب جزء من الشعب العربي من المعركة ليتحمل جزء منه مسؤولية الامة العربية كلها .
مشكلة فلسطين اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية .
واذا كان الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولا يكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العرببة فذلك ما يقوله المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرا ئيل وليبدأوا بعده مراحل بناء دولة الصهاينة ، حربا حربا، ما بين الفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب ارض فلسطين (أليس هذا بدهيا ؟…) ونطرحها كما لو كانت مشكلة توسع على حساب دولة أو اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية بما اغتصبت من
الارض العربية قبل سنة 1967. وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات العجماء ان لكل دولة ” عربية ” شعبها الخاص وأرضها الخاصة وتاريخها الخاص ومصيرها الخاص … ويناقضون القومية بالاقليمية ، يناقضون الكل بالجزء ، يناقضون الشامل بالمحدود ، يناقضون العام بالخاص ، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة ، انما يخفون التناقض الحقيقي القائم بين الشعب العربي والوجود الاسرائيلي ، وينتصرون فيه للصهيونية وحلفائها بترديد دعاواهم الزائفة . اذ عندما ينحرفون الى المواقع الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا مستقلا يواجهون بأن الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلال بالنفس عن الغير. والغير هنا هو شعب فلسطين وارضه المغتصبة . ويصبح تدخلهم في مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو تطفلا ، على استقلال الاخرين يستحق الردع أو يستحق السخرية . ويسخر العالم كله فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم عن فلسطين ثم لا يتركون فلسطين لمصيرها . وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لا يكون امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التي تنظم علاقة الجوار فيها بين الدول : الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسي ودعم الصداقة … أو ـ على الاقل ـ قبول حماية الدول لحدود دولهم لتضيع أرض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود .
فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
الخطأ الثاني المتداول فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا ” تطبيقا خاصا ” للخطأ الاول . انه الزعم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذي كان يعيش على الارض المغتصبة . وهو الذي طرد منها . وهو الذي ما يزال مشردا ” بدون أرض وبدون هوية ” . وهو الذي سيعود الى الارض عندما تسترد . فهي مشكلته الخاصة . هل يستطيع أحد أن ينكر أن اغلب الذين كانوا يعيشون على الأرض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالامس ، المشردون خارجها اليوم ، العائدون اليها غدا ؟… لا أحد . ان احتجوا بالواقع غير المنكور ترسي القومية له أسسه العقائدية : ” ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادآ من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومي لا تناقض ولا تلغى ولا تنفى ولا تحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي ” . عودة المطرودين المشردين الى الارض المغتصبة ليست ـ اذن ـ مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر والمنازل ، ليست مجرد عملية انقاذ لسكان المخيمات ، انها اكثر من هذا عمقا وضرورة . انها الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي . ومع هذا فليست مشكلة فلسطين مشكلة ” خاصة ” بشعب فلسطين . اذ ان هذا هو الوجه الثاني من عملة الاقليمية الزائفة فحيث لا تتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا ان مشكلة فلسطين ليست مشكلتنا الخاصة ، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ ” مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ” ويسترون هذا الخداع بأكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية عن شعب فلسطين، عدم التدخل في شئون شعب فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ، الحقوق ” القومية ” لشعب فلسطين ، التحالف مع شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين … الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفية . اذ ان حصيلتها النهائيه ان اذهب شعب فلسطين وربك فقاتلا انا هنا قاعدون .
عندما يصدر هذا كله أو بعضه من
الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما . انها الاقليمية الهاربة من الصراع من اجل استرداد ارض لا تعتبرها ارضها ، المتطلعة الى الافلات من مشكلة لا تعتبرها مشكلتها . والتي لا مانع لديها في كل الحالات ان يقبل المطرودون التعويض بدلا من العودة . ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل . اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين أنفسهم فذلك أمر غريب مريب . ان يقل المطرودون المشردون من
الارض المغتصبة أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين لا يفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذي القته الاقليمية في افواههم . ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للاقليميين بالهروب من المعركة ، وصد القوميين عن الاسهام في المعركة ، ومحاولة استرداد الارض الخاصة بهم من مواقعهم في الارض التي تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية المخاتلة تقول لهم استردوا ارضكم كما تشاءون ولكن لا تمسوا سيادتنا على أرضنا ، وتدفعهم بالعطف المخادع أو بالقوة الغاشمة الى أن يقبلوا جزءأ من الارض المغتصبة ليقيموا عليها ” دولة فلسطينية ” تكون بمجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل … حينئذ سيشعرون ببرودة الموت الذي دفعتهم اليه الأقليمية .
فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟.
ليس ثمة أمة تخلو من الخونة . ولكنا لا نستطيع أن نسند الخيانة الى أي عربي لا نملك على خيانته دليلا غير قابل للشك . فقد علمتنا القومية أن مصيرنا مرتبط ـ بمصير أبناء امتنا حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لا يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم . كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، أو اغلبهم ، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة دينية ، أو مشكلة نظم اجتماعية ، أو مشكلة دولية ، أو مشكلة اقليمية … لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ويجتهدون ـ بحسن نية ـ لحل مشكلة لم يفهموها فهما قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا، فتأتي الحلول خاطئة . انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة ” عربية ” ويستغيثون بالمائه مليون عربي بدون أن يقولوا انها مشكلة ” قومية ” ثم لا يفطنون الى ان العروبة التي لا تعني الانتماء الاجتماعي والمصيري الى الامة العربية . هي كلمة ” فارغة ” من أي مضمون لا يقوم عليها التزام بغاية . الا يقولون انه صراع ديني ولا يفطنون الى ان الوطن العربي هو مصدر الاديان وان حركة التقدم العربي في تاريخها الطويل قد جمعت الاديان جميعا . الا يتذكرون أن الصهيونية قد اعتدت أولا والنظم العربية عميلة للاستعمار، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة ، واعتدت اخيرا والنظم العربية تقدمية وفي كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين النظم الاجتماعية ؟… الا يعرفون ان الدول الاستعمارية هي التي كانت وما تزال تصنع القرارات الدولية ، بالقوة ، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية ؟… ألا يعلمون انه عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض ، العربية واختارت فلسطين بداية في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة أية دولة عربية قائمة في
الوطن العربي ، لا في فلسطين ولا في غير فلسطين ، بما تعنيه الدولة من سيادة على الارض، بل كان الوطن العربي اما جزءا من الدولة العثمانية واما أجزاء يحتلها المستعمرون الاوروبيون ، ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذي أو تلك من الدول العربية … الا يرون أن ” الممارسة ” الفعلية للصراع بين الشعب العربي والحركة الصهيونية حول الارض المغتصبة في فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية ، فتدخل حلبة الصراع الذي تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربي ، من كل مكان في الوطن العربي ، من كل دين ، من كل طبقة ، من كل دولة ، بدون توقف على القرارات الدولية .. ولا يسمح الصراع ذاته لاي جيل عربي ، أو أي جزء من الشعب العربي ، أو أية ” طبقة ” أو أية دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيوني واثاره المخربة كل مكان في الوطن العربي لا يمنعه الهرب ولا تصده القرارات الدولية ؟… فلماذا هذا الاصرار الغبي على انكار القومية وهي العلاقة الوحيدة التي تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من النصر فيها فلا تخذلهم ولا تهزم غايتهم ان كانواـ حقا ـ لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ؟..
ان كان كل هذا غائبا عن ” فطنة ” الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومي عن ان ينبههم الى ما يخذلون به أنفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف الصهيوني من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم ” عقائديا ” من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لاعدائهم بعد أن يعرفوه ، ولو عرفوه ثم أخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا أنفسهم في الموقف القومي وان كانوا قد وصلوا اليه كرد فعل لا كفاعلين .
الموقف الصهيوني :
نشأت الصهيونية في اوربا نتيجة عدة عوامل متفاعلة .
اولها : ان ” التوراة ” التي يتداولها اليهود ، وهي كتاب ظهر لاول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22) ، علمت وتعلم اليهود انهم ” شعب الله المختار ” وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب ولذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم أقوى من غيرهم . ذلك لان الله قد اختارهم واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسم ” اسرائيل ” على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو في طريقه الى ارض كنعان وبين الله ذاته ، لم يهزم فيها يعقوب فاعجب به الله وباركه واختاره (سفر التكوين 322 اية 25 - 29) وهكذا استقر في اذهان اجيال متعاقبة من اليهود ، ” ايمان ” بانهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر اجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لا تلوث نقاءه . ” اني ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردوهم من امامك . لا تقطع معهم ولا مع الهتهم عهدا. لا يسكنوا في ارضك لئلا يجعلوك تخطىء ” (سفر الخروج ، اصحاح 33 آية 22 ، 23) . وقد ادت تلك الاساطير القبلية الى ان اصبحت اليهودية ، بالنسبة الى المتدينين من اليهود ، تتضمن ” عنصرية ” مقدسة تجمعهم على عداء ” مقدس ” للشعوب .
ولم يكف كهنة اليهودية عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين، فبينما تفرض على اليهود التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم ان يعاملوا الشعوب الاخرى بدون قيد اخلاقي أو اجتماعي . قال حكماء صهيون : ” اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا ، بيوتهم واهدموها . تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ” . أما ” يهو” الاله الخاص ببني اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بان يقوده ” الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها ، ( سفر التثنية . اصحاح 6 اية 11) وتكمل الاساطير البناء الاجتماعي القبلي فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدي وظيفتها في التضامن الاجتماعي الداخلي فتقول ان كل اليهود ، في كل مكان من الارض ، ومن أي جنس، وأي لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب (اسرائيل) بن اسحاق بن ابراهيم ، ووحدة الرمز (الطوطم) في جبل صهيون الذي دارت فوقه المصارعة التي اثبتت قوة اسرائيل (يعقوب) التي لا تقهر .
اننا نتعرف في كل هذا على خصائص الطور القبلي الذي مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص ، والاصل الواحد ، والتضامن الداخلي ، والعدوان الخارجي ، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا في جميع انحاء العالم يوم ان ظهرت التوراة لاول مرة في اوائل القرن الخامس قبل الميلاد . وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا في تكوينهم ولا في اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا في الصراع القبلي الذي كان يدور في كل مكان من الارض والذي انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا بالغزو الروماني وفكريا بظهور المسيحية . ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض بالفتح الاسلامي فدخلت بقايا القبائل اليهودية في شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة
التكوين القومي واصبحوا عربا . ولعل مثل هذا التطور أن يكون قد حدث في كل مكان عاش فيه اليهود ، الا اوربا .
ففي اوربا عاش اليهود قرونا منعزلين في احياء مقصورة عليهم عرفت باسم ” الجيتو ” حتى نهاية القرون الوسطى . ولم يكن أي ” جيتو” الا مجتمعا قبليا مغلقا على اصحابه حبس تطور الجماعات اليهودية في اوربا عند الطور القبلي لا يتجاوزونه . وكان مرجع ذلك الى ان اليهود في اوربا كانوا محاصرين بتعصب كنسي يظن ان له عند اليهود ثأرا قديما : صلب المسيح . من اجله طردهم فيليب اوجست من مملكته . ومن إجله أمر البابا أنوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم .. ومن اجله احرقت كتب اليهود في الميادين العامة . وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح الاستغلالي الفتاك الذي يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا ، كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلي ، فى تحرمه فيها بين اليهود وتبيحه إذا كان ضحيته غير يهودي وعن طريقه موّل اليهود في اوربا أمراء الاقطاع في حروبهم التي لا تنتهي وفي ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد الفعل تحديد اقامتهم في اماكن خاصة وتحريم كثير من أنواع النشاط المنتج عليهم .
أيا ما كان الأمر فان اليهود في اوربا ظلوا حتى نهاية القرون الوسطى في الطور القبلي بكل خصائصه التي عرفناها . ثم جاءت الثورة الليبرالية فاطاحت بالتعصب الكنسي ، وانهت قضية الثأر القديم ، بل وأدت ، على المستوى الديني ذاته ، الى لقاء بين المسيحية واليهودية في المذهب البروتستنتي ، وتجسد كل هذا في اعلان حقوق الانسان الذي اصدرته الثورة الفرنسية التي حرصت على الغاء كلمة الدين من أية وثيقة دستورية ، وكانت في كل هذا نموذجا للثورات التحررية التي عمّت اوربا وانهت عهد الاقطاع . وهكذا ، بعد تخلف حضاري طويل ، فتح باب التطور واسعا امام اليهود ليغادروا الطور القبلي ويندمجوا في المجتمعات الاوربية التي يعيشون فيها . وقد غادرته الكثرة الغالبة منهم خاصة في اوربا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين في مجتمعاتهم ، وتخلفت عن الركب الحضاري قلة قبلية متناثرة في اوربا الشرقية المتخلفة بدورها . وقد كان من الممكن أن ينتهي الامر بتلك القلة ـ الى ان تتطور وينتهي عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التي جاءت بالتسامح الديني في ظل ” الاخاء والحرية والمساواة ” قد جاءت أيضا بالنظام الرأسمالي .
بقانون المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أي التزام من قبل المجتمع الذي ينتمون اليه . ثم بعدم تدخل الدولة في النشاط الفردي على أساس ان ” مصلحة المجتمع ستحقق حتماً وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته ” بحكم القانون الطبيعي . واخيرا باباحة الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادي والادبي طبقا للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة : ” القانون لا يحمي المغفلين “.
فاتاحت الرأسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة اوسع الفرص لتجسد ـ ايجابيا ـ عداءها القبلي ” المقدس ” للشعوب بوسائل اصبحت مشروعة في ظل الليبرالية . وتحول كل “جيتو” الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعادٍ لكل ما ومن ليس يهوديا . وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنية ” المؤمنين ” بامتيازهم في مجتمعات يرفضون الانتماء اليها، في ظل نظم تبيح لهم الاستغلال، ليفرضوا سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهي كل هذا الى ان يصبح اليهود في المجتمعات الرأسمالية هم سادة ” المال ” المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك . ان هذا أمر جدير بالتأمل . لماذا يفضل اليهودي عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لو كان مثله الاعلى هو ” تاجر البندقية ” ؟ .. ألأن تلك هي الصنعة التي احتكروها فاتقنوها في ظل الاقطاع ؟ أم لأن عنصر المال هو، في التحليل الاخير، مناط السيطرة في الاقتصاد الرأسمالي ؟… أم لان ” الفائدة ” اكثر ضمانا من ” الربح ” ؟.. قد يكون السبب واحدا أو اكثر من هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا في تقاليد ” حرفية ” كما كان الامر بالنسبة الى الصناعات الاخرى في ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول ” حرفة ” واحدة يحتكرونها ويتوارثونها ، ولكنه ما بقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا لأنه يتفق مع العنصرية القبلية الموروثة . ذلك لأن النظام الرأسمالي في نشأته كان نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في اوربا في قبله . وقد استطاعت الرأسمالية أن تحول المجتمعات الاوربية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان ترسي أسس حضارة مادية وعلمية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعي يمثل الجانب الايجابي البناء من اثارها . ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التي كانت ثمرة الجمود العنصري الذي تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود في اوربا ، حالت دون ان يجد اليهود في البناء الاقتصادي وما يصاحبه من تقدم اجتماعي ما ” يغريهم ” فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا ” المصانع ” لانها أدوات البناء الاجتماعي . وسيختارون بعد ذلك ا لصحافة والاعلام عندما تصبح أدوات للسيطرة . وسيختارون
الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا استعمال المال والصحافة والاعلام في المجتمعات التي عاشوا فيها . كل ذلك لسبب بسيط هو انهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا في بنائها بل يعتبرونها اعداءهم فعليهم بأمر “ يهو” أن يسيطروا عليها أو يخربوها . ان هذا يفسر ـ فيما نعتقد ـ الصورة الاوربية لليهودي الجبان الذليل الخائن .. وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأي دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجد العدوان ويقيم امتيازهم على القوة الجسدية التي من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة وقبول المذلة تعبيرا عن ـ رفض اليهودي مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوى ” قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ” . باختصار يلتزم اليهودي قيمه القبلية الخاصة ويرفض الالتزام بقيم المجتمع الذي يعيش فيه فيبدو شاذا في مجتمعه لانه يرفض الاندماج فيه ، ولا يرى هو في موقفه شذوذا لان الانعزال عن ” الغرباء ” والعداء لهم فضيلة قبلية .
على أي حال ، عندما انتبهت الشعوب الاوربية الى الاستغلال الرأسمالي الذي ابتلع أو كاد المكاسب التي كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك ” الطائفة القبلية ” التي تقاوم التطور الحضاري وتجسد الكراهية . والاحتقار لكل من لا ينتمي اليها ، وتتآمر خفية فتصنع لها لغات خاصة لا يعرفها غيرها ( الييدش في شرق اوربا وهي مشتقة من الالمانية واللادنيو في غرب اوربا وهي مشتقة من الاسبانية) ، وقبل هذا وفوقه تموّل النظام الرأسمالي وتدير حركته الاستغلالية من مقاعدها في البنوك . وكان للمستغلين الرأسماليين من غير اليهود مصلحة لا شك فيها في ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الرأسمالي الاستغلالي فاشتركوا بوسائل شتى في تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ، وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه الشعوب ، حتى تخرج الرأسمالية بريئة . وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم التي عرفت بـ ” معاداة السامية ” . اما لماذا السامية مع ان يهود اوربا ليسوا ساميين ، فلأنهم لو اسموها اسما ” معاداة اليهودية ” لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التي تروجها الرأسمالية المنافقة . وهكذا نمت مشكلة اليهود في اوربا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الرأسمالية المستغلة .
ولم يكن حل المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة القبلية واندمجوا في مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضي ان تتحرر الاقلية اليهودية من اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلي لتندمج في المجتمعات التي تعيش فيها كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية المطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع عشر تمثل الامل الاجتماعي الذي تنتهي به ، والى الابد ، كل أنواع القهر . كان ذلك هو الحل التقدمي لمشكلة اليهود في اوربا ومشكلة المجتمعات الاوربية بما فيها من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت اقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور وتتحالف مع الرأسمالية الاستعمارية التي تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات المتخلفة .
وشهد عام 1897 مولد منظمتين من العنصريين اليهود . كل منهما منظمة ” صهيونية ” . ستحاول المنظمة الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنتجح الى حين فتقوم في
الأرض العربية دولة عنصرية في سنة 1948.
أما المنظمة الاولى فهى ” الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة ” ( البوند) . ويلاحظ منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم في كل من روسيا وبولندة أي بدون اعتداد بالانتماء القومي لأي من الامتين الروسية والبولندية لانها تعتبر أن ” اليهودية ” رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصري . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف الاشتراكية وقد اصبحت جزءا . من “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ” القائم على منطلقات فكرية ماركسية . فقد تشكل ” البوند ” سنة 1897 كواحد من المنظمات العديدة التي كانت تكون ما عرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية في شرق اوربا . وقد اجتمعت تلك المنظمات في منسك سنة 1898 واتفقت على أن تتوحد في ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي تم انشاؤه فعلا في المؤتمر الثاني (التأسيسي) الذي انعقد في بروكسل ثم في لندن سنة 1903. وفي ذلك المؤتمر التأسيسي اقترح ممثلو ” البوند ” أن يكون هو الممثل ” للبروليتاريا ” اليهودية داخل اطار ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي يجب أن يقوم على أساس فيدرالي . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى أن ” الفيدرالية ” تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو ” البوند ” من المؤتمر، وحدث الانشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكن البوند ، والبلشفيك، والمنشفيك ، كلهم بقوا اعضاء في الحزب حتى المؤتمر الرابع (التوحيدي) الذي انعقد في استوكهلم سنة 1906. وفيه حصل ”البوند ” على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود ، في ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و” الشلل ” التي تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة ، وكان ” البوند ” واحدا منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة أخرى لم تنتصر بعد في الصراع الايديولوجي الذي كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ماعرف باسم ” المسألة القومية ” . ولما
لم تكن ثمة ” نظرية ماركسية في القومية ” (4) ، وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا . ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضي وحدة كل الماركسيين والاشتراكيين لأن الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهي بالفشل سنة 1907. ولقد شن النظام القيصري ، بعد فشل الثورة ، حرب ابادة وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها أو رحبوا بها . وكانت مجزرة . هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه ثم يعود لينين سنة 1917 ليقود الثورة مرة أخرى وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة 1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة أخرى من اليهود “ الاشتراكيين ”. اولئك الذين قدموا لنا امثال ويزمان وبن جوريون وشاريت . ولنا هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ما قيل من أن حرب الابادة التي شنها القيصر بعد فشل ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من أعداء السامية ، وهو غير صحيح . فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا ” البوند ” نفسه هم القوى الاساسية أو الوحيدة في ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى التي هاجرت بعد فشل الثورة أو نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث أن اجتمعت في ساحة ثورة 1917 المنتصرة ، الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند . فما ان غادروا أرض الوطن حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا مع القوى الاستعمارية . الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من العنصرية الذين بقوا في الاتحاد السوفيتى بعد نجاح الثورة واسهموا في بناء الاشتراكية قد اندمجوا في مجتمعهم بيسر ذي دلالة قوية على أن مشكلة اليهود في اوربا هي مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان يتحرر اليهود من التخلف القبلي ويتحرر المجتمع من الاستغلال الرأسمالي حتى تنتهي المشكلة . وليس ادل على هذا من ان الاتحاد السوفيتى يضم ” جمهورية خاصة باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية . يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود في كل مكان من الاتحاد السوفييتى بدون أن توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية على اصحابها أفضل الحلول التي قدمتها اوربا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين ، وكيف انهم في
الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ، ويعيشون في جماعات متماسكة ، وينتهجون الاسلوب الجماعي في الانتاج ؟… كيف يتفق أن يكونوا عنصريين ما يزالون في مرحلة الطور القبلى وهم ـ فيما يبدو ـ ماركسيون أو اشتراكيون ؟…
هذه هي الخدعة التي لا يمكن اكتشافها من منطلق مادي على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انساني قومي ” ينظر الى المجتمعات خلال حركتها الجدلية التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ”. ان بين المجتمع القبلي العنصري اليهودي والمجتمع الاشتراكي تقاربا في اسلوب الانتاج الجماعي . ولكن علاقات الانتاج الجماعي مرتبطة بالطور الذي يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها . والماركسيون أول من يجب أن يعرفوا هذا فعندهم يبدأ التطور الاجتماعي بالشيوعية الاولى وهي أكثر مراحله انحطاطا وينتهي بالشيوعية الاخيرة وهي أكثر مراحله تقدما . وفي كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع ذلك لا ينخدع أحد في الفارق الحضاري بينهما . فاذا كان اليهود في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون في جماعات متماسكة فلأن اسلوب الانتاج الجماعي هو اسلوب الانتاج القبلي . ويمكن التمييز بين ما اذا كان اسلوبا قبليا أو اسلوبا اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانغلاق الداخلي والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردي ، وعندما يكون انسانيا سليما فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردي الى الاسلوب الجماعي الاشتراكي . طبقا لهذا المقياس لا نكون في شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة في الارض المغتصبة ، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من ” الجيتو” الى
أرض فلسطين لتعيش ذات علاقاتها القبلية المتخلفة : التضامن بين افراد القبيلة والعداء للاخرين . والكابوتز المسلح هو القبيلة التي ما تزال تعيش في القرن العشرين . وفي افريقيا الاف من هذه الجماعات القبلية تعيش معا حياة اكثر جماعية من اليهود في فلسطين ولا يقول احد بانها مجتمعات اشتراكية . ولا يغير من هذا ان المجتمع القبلي في اسرائيل يستعمل ارقى أدوات الانتاج تطورا في هذا الزمان . فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى أدوات القتال في زمانها ومع ذلك ظلت في طورها القبلي . وتستعمل كل الشعوب ـ الان ـ أدوات انتاج متشابهة في تقدمها الفني ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان ” كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي ” (فقرة 18) . ثم ان ” التفرقة العنصرية ” المعترف بوجودها في مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى ما وصل اليه العلم ليست الا المميز القبلي للمجتمعات التي تعيش في ذلك الطور المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ان الجماعية ـ اذن ـ هي التي كانت تغري كثيرا من العنصريين اليهود باعتناق الماركسية ، ولكن الماركسية ليست عنصرية . وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل ماركسي أن ينظر الى المجتمعات نظرة اشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته ، عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين في الارض العربية المغتصبة يعيشون في الطور الاجتماعي اللاحق للشيوعية البدائية وليس الطور الاجتماعي السابق على الشيوعية الاخيرة ، وانهم ـ بالتالي ـ عندما يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالي . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان دليلأ واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية . وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم من الاحزاب وهو ما نلاحظه في مراحل الليبرالية الاولى ، ويدخلون مرحلة الرأسمالية وآيتها التحالف الذي يزداد يوما بعد يوم مع الرأسمالية الغربية وهذا لا ينفي ان جماعات من الرأسماليين المتحررين من القبلية اليهودية تعيش في اسرائيل أو تحالف الصهاينة خاصة منذ ان اصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا . ولكن ان يكون ـ في الارض المغتصبة عنصري واشتراكي معا ، أو ان يعيش الاشتراكيون في ظل الروابط القبلية التي نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لا تستحق الا السخرية .
المهم ان الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي قدمت للعنصريين اليهود افضل الحلول التقدمية ليغادروا الطور القبلي . قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع . فرفضوها . لماذا ؟
هنا يأتي دور المنظمة الثانية التي ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية . انها المنظمة ” الصهيونية ” التي تأسست في مؤتمر بال وحددت هدفها بانه اقامة دولة لليهود في فلسطين ، وجمعت العنصريين اليهود في اوربا الغربية . وهي المنظمة التي سينضم اليها اصحاب تجربة ” البوند ” والتي ستحقق نجاحا مطردا في مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل في سنة 1948 ، انها المنظمة التي جمعت شتات ” القبائل ” اليهودية لتقيم منهم دولة قبلية على ارض فلسطين . واول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت ؟.. وقبل ان نجيب ينبغي أن نذكر ان المجتمعات الاوربية بالرغم . من تقدمها ما تزال عامرة بالجماعات المتخلفة التي لم تتجاوز الطور القبلي . لا نضرب قبائل الغجر مثلا ، بل نضرب مثلا قبائل اللابيين الذين يعيشون في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة في كل الامم ولنا منها نصيب لا ينكر . ومصير كل هذه الجماعات المتخلفة ان تدرك تطور مجتمعاتها . اذن ، فمهما تكن اساطير العنصرية اليهودية كان التطور الاجتماعي في اوربا كفيلا في النهاية بان ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق بمجتمعاتها ، لولا ان ” قوى ” أخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه . تلك هي القوى الاستعمارية .
ففي اواخر القرن التاسع عشر كان الاستعماريون قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة المحافظة على مواقعهم فيه . ومن اجل هذا انعقد في لندن سنة 1907 مؤتمر استعماري ليوصي بما يراه كفيلأ بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية . وقد قدم عدة توصيات كان نصيب
الوطن العربي منها ما يلى : ” ان اقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي يربط اوربا بالعالم القديم ويربطها معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة ، وصديقة للدول الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملي للوسائل والسبل المقترحة ” .
وفي سنة 1937 نشر في فرنسا كتاب تحت عنوان ” الله اكبر” يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه : ” ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق الى الهند . أما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو اصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين ـ ان دولة صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى … ان توازن القوى حول قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربي . يتوقف على دولة في فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب ، اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى (5). وهكذا حالت القوى الاستعمارية دون أن تذوب
العنصرية اليهودية في حركة التطور الاجتماعي في اوربا ، وغذت تلك العنصرية بادوات القوة وسهلت لها ان تغتصب ارض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت صفحات التاريخ اكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون ارض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوربية ولكن بمساعدة الدول الاوربية و خدمة لمصالحها .. ابعد ما يكون عن الحقيقة اذن ان يقال ان اليهود ما جاءوا الى فلسطين الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه . انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا دولة حارسة للمصالح الاستعمارية تحول دون أن تحقق الامة العربية كل ما هي قادرة عليه من تطور اجتماعي في ظل دولة الوحدة . جاءوا بمساعدة القوى التي لا تريد لهذا الشعب العريي أن يعيش بما يملك . لم يجيئوا لانهم يهود ، ولا لانهم اشتراكيون ، ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لأن المجتمع الدولي كان في حاجة ـ حتى يسود قانونه ـ الى وجودهم في فلسطين ، بل ليقيموا على الارض العربية مخفرا مسلحا يكرس تخلفها ويمنع وحدتها .
هذي هي الصهيونية كما نراها من الموقف القومي وطبقا لنظريتنا القومية . ولو كنا قد استوعبنا نظريتنا هذي لادركنا من ابعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة اكثر مما يدرك سوانا . انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التي علمنا أن الامة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكون وتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . اذن ، ولينتبه الشباب العربي ، أن الصهيونية تحاول منذ 1948 أن ” تصنع أمة ” من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ على ارض تكون خاصة بها . ولا بد لكي تنجح من أن ” تستقر” على الارض “ وتختص ” بها فترة زمنية كافية تبني فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها أمة . وقد كان عام 1948 هو البداية ولكن الزمان أمامهم ما يزال طويلأ ، فان الامم لا تتكون في عشرات السنين فلا نجزع . ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ما تزال ، منذ الاستقلال ، أمة في دور التكوين ولكن الصهاينة دا ئبون على تنفيذ مخططاتهم، ولقد اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها . وعلى أرضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربي واكثر فهي ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق . ولكنهم على أي حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فاصبحت لهم لغة مشتركة . ولو سمح الشعب العربي للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة ، فانهم سيصبحون أمة ، شاء
الشعب العربي أم لم يشأ ، لان فعالية قوانين التطور حتمية ولا تتوقف على رغبات أحد ، والماضي يمتد تلقائيا في المستقبل اذا لم يتدخل الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع أحد ان ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا أن يكون واضحا . فانه يحدد لنا التزامات عينية داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل أن تزول دولة اسرائيل . هذا ما نقوله نحن .
فماذا تقول الصهيونية عن نفسها ؟.
اذا كنا سنعود الى الاساطير الخرافية مرة أخرى فلعل هذا لا يصدم المعجبين ” بالتقدم الحضاري ” لاسرائيل ذلك لاننا لا نسند الى الصهاينة غير ما يقولون . ولا نستند من بين ما يقولون الا الى الصهاينة العلماء ، الماديين ، الذين لا نظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودي . انهم ـ كما لا بد نتوقع ـ لا يقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة . بل يقولون انها حركة قومية . والصهيونية هي ذاتها القومية . اما الامة فهم اليهود في كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لا ينكرون ان ليس لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة ، ولم يشتركوا في بناء حضاري واحد . كل هذا لا ينكرونه . ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة . فالنظرية الصهيونية في الامة والقومية تقوم على أساس ان وحدة الثقافة ، والتاريخ الثقافي هو المميز الاساسي للأمة . فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا في كل ثقافات العالم ، وكل منهم اسهم بقدر ما استطاع في ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه ، قالوا ان العبرة بالاتصال التاريخي للثقافة وهذا متوافر في الثقافة الدينية لليهود منذ الشتات الى الان ، فهم ـ اذن ـ امة . هل هي أمة ممتازة ؟.. لا . ان تعبير ” شعب الله المختار” هو للتمييز وليس للامتياز . فليكن . فليس لكل هذا من آثار فيما يعنينا في هذا الحديث .
اذ ان الذي يعنينا هو عنصر الارض .
ان كنتم أمة الآن ، وكنتم دائما أمة ، وأنتم تعيشون فعلا على الأرض وسط مجتمعاتكم فلماذا تتركون " أوطانكم " ؟..
لأن تلك المجتمعات لم تقبلنا قط ، انها رفضت انتماءنا اليها وما تزال ترفض وقد تعرضنا في تاريخنا الطويل لكل أنواع الاضطهاد الظاهر وما يزال هذا الاضطهاد مستمرا . حتى الذين اندمجوا ـ كما يقال ـ في مجتمعاتهم يشعرون بالغربة واذا كانوا يرفضون الانتماء علنا الى الحركة القومية (الصهيونية) فلأنهم يخشون أن ينفجر العداء الكامن ضدهم فهم يساعدونها خفية أو علنا تبعا للظروف . واذا كانت الحركة الصهيونية لا تضم الا القلة من اليهود فلأن تلك هي القلة الواعية انتماءها القومي فهي الطليعة المنظمة التي تقود الحركة القومية ، وآجلا أو عاجلا ، سينضم اليها كل اليهود .
اذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقاومون الاضطهاد في مجتمعاتكم ولو بالتحالف مع باقي المضطهدين هناك بدلا من الفرار ؟..
لا فائدة أن الحل الوحيد أن تكون لنا أرض خاصة نقيم عليها مجتمعنا ونعيش فيها حياتنا .
لماذا اذن لم تقبلوا الاقامة في الأرض الخالية التي عرضت عليكم في أوغندا ؟..
لأننا نريد أرض فلسطين .
هنا يعود المثقفون العلماء ، المتحضرون ، الماديون ، التقدميون الى الأساطير . اننا نلخص ما قالته نخبة مختارة من هؤلاء جميعا ونشره سارتر في عدد خاص ( 991 صفحة ) من مجلة الأزمنة الحديثة في يونيو سنة 1967 . قالوا ان الثقافة اليهودية التي هي مناط التكوين القومي للأمة اليهودية قائمة على عدة أساطير دينية وميتافيزيقية . هذا صحيح . ولسنا نحتج بصحتها العلمية . انما نحتج بالآثار الاجتماعية التي أحدثتها تلك الأساطير في الجماهير اليهودية وصاغت بها تكوينها الاجتماعي . فمثلا تلقى اليهود من الله وعدا بأن تكون لهم أرض فلسطين . هكذا جاء في التوراة " لنسلك أعلى هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " ( سفر التكوين ، اصحاح 15 ، آية 18 ) . ومنذ ذلك الحين انقضت عشرات القرون . لا ننكر أننا خلالها لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وأن شعبا عربيا هو الذي كان يعيش عليها ، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئا . والواقع أنه طوال تلك القرون يعيش اليهود في الشتات على امل العودة الى أرض " الميعاد " كأثر من آثار ايمانهم الديني بأن تلك هي الأرض التي وعدهم الله بها . وبصرف النظر عن الجانب اللاهوتي فان الأثر الاجتماعي كان وما يزال قائما يصوغ حياة اليهود نفسيا واجتماعيا ويرددونه في اجتماعاتهم وفي صلواتهم ، ويذكرون به في كتبهم ، ويقوم محورا في ثقافتهم القومية : ان أرضا تمتد من الفرات الى النيل هي أرضهم . هذا هو الذي أبقاهم أمة لم يذوبوا في الامم الأخرى بالرغم من توالي الأجيال وهم في الشتات . وهذا هو الجانب المهم من الأسطورة ، لأننا قد نكذب الأسطورة ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أثرها الاجتماعي . وقد أخذ علينا الناس ما قاله بعضنا من أن فلسطين أرض بلا شعب فلا بد من أن تعطى لشعب بلا أرض . ولو فهمونا لما أخذوا علينا ما نقول . فالعبرة عندنا ليست بالصلة المادية التي تتمثل في اقامة شعب " غريب " في أرضنا ولكن العبرة بالصلة الروحية بيننا وبين الأرض . ومهما تكن الأرض عامرة بمن يقيم فيها فانها خالية بالنسبة الينا الى أن نعود اليها نحن أصحابها . ان تلك الصلة لم تنقطع أبدا فلم ينسى أي يهودي أرض فلسطين والعودة اليها . ولا يقال لنا أن ذلك ايجابا ذاتيا من ناحيتنا فان القبول الذي يتم به الصلة قد جاء من الأرض ذاتها . فلو راجعنا التاريخ لتبين لنا على وجه لا يمكن انكاره حتى لو لم يستطع العلم اثباته أن
أرض فلسطين لم تمنح كل عطاءها الا لنا نحن اليهود الموعودين بها . وهكذا لن تستطيع الأمة اليهودية أن تسهم بكل ما هي قادرة عليه في التقدم الحضاري الا على ارض فلسطين ، ولا تغني عنها ارض أخرى . كما أن أرض فلسطين لن تقدم كل ما تنطوي عليه من عطاء الا للشعب اليهودي ، ولا يغني عنه شعب آخر . انما تثور المشكلة لأن الدول العربية لا تريد أن تقبل المهاجرين من أرضنا في أراضيها الواسعة التي هي في أشد حاجة الى مزيد من البشر . وبدلا من هذا تبقي عليهم في المخيمات ، وتستعملهم " كورقة سياسية " في مناوأة دولتنا لأنها لا تريد أن تعترف بوجودنا في حدود آمنة وفي ظل علاقة جوار نتبادل خلالها الخبرات لنحقق التقدم الاجتماعي في " منطقتنا " .
وما هي حدود دولتكم طبقا لدستورها ؟
صمت مطبق . لأن اسرائيل " الدولة العلمانية المتحضرة " .. تستغني بالتوراة عن الدستور . وهي دولة مسالمة فلا تريد أن ترسم لذاتها حدودا اكتفاء بما نقلته على جدار الكنيست من اساطير التوراة " من الفرات الى النيل ". أما عن مهمة خدمة المصالح الاستعمارية والتحالف مع الامبريالية ، فان الصهيونية تتحالف مع من يحالفها مرحليا ولكنها لا تخدم الا غاياتها ولولا عناد الدول العربية ورفضها الاعتراف باسرائيل وتهديدها بالقاء اليهود في البحر لما استمر تحالف اسرائيل مع الامبريالية . فما على العرب الا أن يعترفوا باسرائيل ويقبلوا التعامل معها حتى تستطيع " القوى التقدمية " فيها أن تحرر اسرائيل من ذلك الحلف لتتحالف مع القوى التقدمية العربية في سبيل مستقبل أكثر تقدمية للجميع .
هذه الخلاصة الأخيرة منقولة مما كتبه الذين يدعون الاشتراكية هناك .
هذا ما يقوله الصهاينة " العلمانيون " بعد عشرين عاما من قيام اسرائيل على الأرض العربية . أما ما يقوله الصهاينة المتدينون فهو أقل علما بكثير . ومع هذا فهم لا يختلفون جميعا فيما يهمنا .. وما يهمنا هنا هو أن نعرف نوايا الصهاينة بالنسبة ، الى أرضنا العربية ، فكلاهما يرى :
أولا : ان اليهود في جميع أنحاء العالم أمة ، وأن الصهيونية قومية ، وأن الحركة الصهيونية حركة قومية غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربي ، ويكون علينا أن نستنتج أنهم يريدون الأرض خالية من البشر لأنها لازمة لاقامة الشعب اليهودي . وهذا مارسوه فيما اغتصبوه من ارض حتى الآن . وهم يريدونها لاستقبال الشعب اليهودي كله الذي يبلغ 12 مليونا . وهذا ما أرسوا قاعدة ممارسته بقانون "العودة " الشهير الذي يمنح كل يهودي الجنسية الاسرائيلية بمجرد الاقامة في اسرائيل . وبالتالي فهم يريدون أرضنا خالية من البشر تتسع لسكنى الشعب اليهودي كله فهي لابد أن تمتد الى أضعاف أضعاف أرض فلسطين . وهذا يمارسونه بقدر ما يستطيعون . ولما كانت الأرض التي يريدونها ليست محددة بقدرتها على استيعاب الصهاينة الذين يهاجرون الى اسرائيل ولكن محددة على أساس أنها " الوطن القومي " للأمة اليهودية فان حدودها لا بد من أن تكون مطابقة " للحدود التاريخية " لأرض اسرائيل . وهذا ما سيمارسونه مرحلة مرحلة ولن يتوقفوا دونه قط طالما كانوا قادرين . نريد أن نقول أنه طبقا لذات " النظرية " الصهيونية التي يلتقي عليها الصهاينة ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف ويثيرون تحت لوائها مشكلة فلسطين ، فان مشكلة فلسطين ، كما ينبغي أن نفهمها حتى من نوايا أعدائنا ، هي مشكلة أرض عربية يريدونها خالية من الفرات الى النيل .
ثانيا : ان الطرف الاصيل الذي نصارعه ليس هو اسرائيل الدولة ، بل هو الصهيونية المنظمة . وليست اسرائيل الا الآداة الرسمية المنفذة لارادة
المنظمة الصهيونية . وبالتالي لا ينبغي أن نعول كثيرا على القرارات والمواقف التي تأخذها اسرائيل والتي قد تضطر اليها تحت تأثير المجتمع الدولي . ان تلك القرارات قد تلزم دولة اسرائيل التي كانت قائمة يوم أن قررتها ، ولكنها لا تلزم المنظمة الصهيونية التي لن تكف عن محاولة اقامة اسرائيل أخرى . اسرائيل الكبرى .
ثالثا : ان الحركة الصهيونية ذات منطلقات خاصة وغايات خاصة وأساليب خاصة . ولكنها بحكم تخلفها القبلي تفضل القوة وتمجد العنف فهي عدوانية من حيث هي عنصرية . ومع هذا فمما يدخل في نطاق اساليبها أن تتحالف مع القوى التي تتفق معها في الغايات ولو مرحليا . وهي القوى العنصرية . أو الاقليمية . أو الاستعمارية ، طبقا لما يخدم غايات الصهيونية . ولكنها تظل مستقلة بمنطلقاتها وغاياتها عن تلك القوى مستعدة دائما الى الاحتكام للسلاح . فاذا كانت قد تحالفت مع القوى الاستعمارية المتفوقة ، مع ألمانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، فلأن ألمانيا كانت ذات مطامع استعمارية في الشرق العربي ، لم يمنعها الا الاستعمار البريطاني الذي حلت محله ـ بالاتفاق ـ الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الأوروبية الثانية . ان العداء للأمة العربية وتحررها ووحدتها وتقدمها ، هو الذي يجمع بين الصهيونية وحلفائها في حلف تلتقي فيه المصالح ويتم من خلاله تبادل الخدمات ولكن يبقى لكل حليف قدر من استقلاله . فلا الصهيونية اداة للاستعمار الامريكي ، ولا الاستعمار الامريكي أداة للصهيونية . انهما عدوان متحالفان ضد عوهما المشترك :
الأمة العربية . وهذا الحلف يتسع لكل قوى أخرى بقدر ما تشترك معه في غايته حتى لو كانت قوى عربية لها منطلقاتها الخاصة ولها غاياتها الخاصة ، ولكن تلتقي مع الصهيونية ـ مرحليا ـ في موقفها المعادي لحرية الامة العربية ووحدتها القومية وتقدمها الاجتماعي .
الحل القومي :
استرداد الأرض العربية للشعب العربي . كل الأرض العربية لكل الشعب العربي . أما كيف فهذا سؤال يتصل بالاسلوب وسنعرف الاجابة عليه فيما بعد . المهم هنا أن ندرك باكبر قدر من اليقين بان حل مشكلة فلسطين هو استرداد الارض المغتصبة من قبضة الصهيونية التي تسميها “اسرائيل ” واعادتها الى الشعب العربي . لو بقيت دولة للصهيونية ولو في ” تل ابيب ” وحدها فإن المعركة لن تكون قد انتهت لأن منظمة القوى المعاد ية ما تزال هناك في اوربا والولايات المتحدة واطراف كثيرة من الارض . ومن تل ابيب ستعود فتنقض . هذا بالاضافة الى أن كل ذرة تراب من الارض العربية هي ملك للشعب العربي لا بد من ان تسترد . وعندما تسترد الارض ، كل الارض ، ستحل مشكلتنا ومشكلة اليهود معا . نسترد نحن أرضنا ونضعهم هم أمام الحل الصحيح لمشكلتهم . ولا شك انهم عندما يعرفون بالرغم من كل شيء أن الصهيونية حركة فاشلة سيعيشون في مجتمعاتهم ويندمجون فيها ويتطورون . وهكذا يكون استرداد الارض العربية هو الحل التقدمي الصحيح لمشكلة فلسطين المغتصبة ومشكلة اليهود الهاربين من مجتمعاتهم .
أليس هذا تبسيطا للامور؟
ان في اسرائيل جيل سابق على قيام الدولة لم يعرف له وطنا الا فلسطين . وفي اسرائيل جيل ولد بعد قيام الدولة لا يعرف له مجتمعا الا اسرائيل . فما الذي سيكون من أمر هؤلاء فيما لو استردت الارض المغتصبة ؟… كثيرون يشغلون انفسهم بالاجابة على هذا السؤال كما لو كان سؤالا جادا . وينفعلون في الحديث ويسودون الكتب ويقترحون ” فلسطين الديمقراطية ” كما لو كانت الصهيونية قد انهزمت ودولتها قد زالت ، وعاد الاباء الى اوطانهم وبقيت مشكلة الجيل الجديد من ابنائهم ؟.. ومع ذلك فعلينا ان نجيب . فلعل للسؤال وجها جادا نراه من الموقف القومي ولا يراه السائلون . بمجرد أن نكون قوميين نتطهر تماما ، فكريا وحركيا ، من خطيئة التمييز العنصري ونسترد كامل انسانيتنا ، ويعودإلينا الوضوح في رؤية المشكلات ، أية مشكلات ، وحلولها الصحيحة . عندئذ سننسى ” حتما ” كلمة يهودي ونتحرر نحن أولا من رد فعل عنصري تحاول أن توقعنا في شباكه المضللة الحركة الصهيونية فتجرنا من حيث لا ندري الى منطلقاتها ومواقفها . لو فعلنا لرأينا ، الحل القومي واضحا صريحا . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية . وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت والارض المغتصبة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد اصبحت اموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا “ ديمقراطيين ” كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . القومية لا تقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . وسيكون من شأن
دولة الوحدة أن تعترف بالمواطنة أو بالاقامة لمن يريد أن يقيم في رحابها ممن لا ينتمون اليها أصلا كما تفعل كل الدول بدون أن يكون في هذا مساس بسيادتها. هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فان للأمة العربية أبناء من اليهود في فلسطين وفي كثير من الارض . اولئك العرب اليهود . انهم لسبب أو لاخر . يحملون الهوية الاسرائيلية أو هويات أخرى اجنبية . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الوطن العربي الى اماكن أخرى وبعضهم مجندون في المنظمة الصهيونية أو في قوات اسرائيل المسلحة . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . وأسلاف كل هؤلاء عاشوا عربا واسهموا بما استطاعوا في تطوير أمتهم العربية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي ” المشترك ” في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الأمن واسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لأمتهم وان يرتفعوا بوعيهم إلى مستوى المسؤولية القومية وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي جزء من وطنهم العربي الكبير وأن لهم حق الإقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل أو كانوا وافدين إليها من أقطار عربية أخرى وأن من حقهم أن يعودوا إليها أو إلى أي مكان في الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوتهم العرب الذين اكرهوا على مغادرة فلسطين لا فضل لأحد منهم علىالآخر إلا بقدر ما يجسد فكراً ومسلكاً ولاءه القومي لأمته العربية . حتى الذين تورطوا منهم فوجدوا أنفسهم في مواقع الخيانة لأمتهم . ويقتلون أخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة ، فإن جزاءهم سيكون معادلاً لما كان لهم من حرية الاختيار وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الصهيونية المغتصبة . وقد تغفر لهم أمتهم كل ما تقدم لو حرروا أنفسهم من سيطرة الغاصبين الاجانب لجزء من وطنهم العربي فاسهموا في استرداده وتحريره . ولكنهم في كل الإحوال لن يكرهوا على مغادرة
الارض العربية ولن يفتقدوا رعاية دولة الوحدة .
هكذا نرى الحل من الموقف القومي . من موقف تتسق صلابته وانسانيته مع انتمائنا إلى أمة عريقة ذات قيم حضارية لا يمكن أن يتدنى أبناؤها إلى القيم القبلية التي تجسدها الصهيونية . اننا أمة وهم مجتمع قبلي فلا ينبغي لنا أن نفهم المشكلات كما يفهمون أو أن نحلها كما يريدون أو أن تكون مواقفنا ردود أفعال لمواقفهم . اننا ، باسم القومية العربية ، نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولياتها فتحمي ابناءها اليهود من التعصب ضد السامية .
ان نظريتنا القومية ، اذن ، تحملنا مسؤولية تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولية عودة اليهود العرب الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية .
أما الذين خانوا اوطانهم فهجروها وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية . وعليهم ان يلحقوا بأممهم حيث كانوا. ولسنا مطالبين أن ندفع لهم ثمن الخيانة أو ان نقدم لهم مكافأة على العدوان . لسنا مسؤولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوربي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا ، بأن نقيم للصهيونية دولة في ارضنا سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا أحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه.
هوامش :
1 - كتاب نظرية الثورة العربية فقرة 18 .
2 - المصدر السابق غقرة 29 .
3 - عندما قبلت الولايات المتحدة الامريكية ان تتعامل مع الصين الشعبية قبلت هيئة الامم المتحدة دولة الصين الشعبية عضوا فيها وكان ذلك بعد كتابة هذا الحديث .
4 - نظرية الثورة العربية فقرة 11 .
5 - من السويس الى العقبة تاايف بيتر ديستريا بالفرنسية ص .56 .
6 – من كتاب نظرية الثورة العربية 1971 .
الوحدة العربية ومعركة تحرير فلسطين .
ـ 1 ـ
منذ أن اغتصبت الصهيونية جزءا من الارض العربية في فلسطين سنة 1948 … رفع في الوطن العربي شعار يقول ان الوحدة هي الطريق الى تحرير فلسطين “. على أساس من القول بأن دولة الوحدة هي القادرة ـ وحدها ـ على أن توفر المتطلبات المادية والبشرية والاستراتيجية الكافية لتصفية دولة اسرائيل في معركة قصيرة تضع فيها العالم أمام الامر الواقع . وكان لا بد من أن تتحرر الدولة العربية أولا حتى تقيم الوحدة فتحرر فلسطين … وهكذا كانت هزيمة 1948 . التي عرفت باسم ” النكبة ” محركا أول لقوى التحرر العربي التي استطاعت خلال العشر سنوات التالية أن تجلي الجيوش المحتلة عن كثير من أجزاء الوطن العربي . ومع كل خطوة تحررية كان يبدو كما لو كان موعد الوحدة قريبا . وأن الارض المغتصبة من فلسطين في طريقها الى الحرية . وبلغ التفاؤل ببعض العرب حد دراسة تفاصيل الوحدة التي هي الطريق الى تحرير فلسطين فقيل أنها تلك التي تقوم فيما بين الدول العربية المحيطة بالارض المحتلة وأسموها ” دولة الوحدة الطوق” . وظل ذاك الشعار سائدا الى ان تحققت الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . وانتظرت الجماهير العربية في كل مكان أن توفي دولة الوحدة مسئولياتها فتكمل الطوق أو تحرر فلسطين .. وطال الانتظار الى أن وقع الانفصال سنة 1961 . وقع سهلا بدون مقاومة . وقبل سريعا بدون انتظار . وثبت من كل هذا أن الامل الذي عقد على وحدة 1958 في تحرير فلسطين كان أملا غير واقعي ومتسرعا معا . اذ أن وحدة 1958 لم تفشل في تحرير فلسطين فحسب ، بل فشلت حتى في الحفاظ على وجودها . ومنذ سنة 1961 التقت أغلب القوى في الوطن العربي ، وفي العالم ، على محاولة دفن قضية الوحدة وقضية تحرير فلسطين معا تحت ركام من الصراعات الدولية والاقليمية . الى أن جاء حزيران ( يونيو ) 1967 فاذا بالقدر الاكبر من القوة العربية يقاتل متراجعا في صحراء سيناء بينما كان قد تقدم اليها دفاعا عن دمشق .
وكان ماكان .
وكان طبيعيا أن تعصف هزيمة حزيران ( يونيو ) بكثير مما كان سائدا في الوطن العربي من أفكار واتجاهات ، وأن تثير الشك في مبررات وجود كثير مما كان موجودا من قوى ونظم ، وأن تشيع اضطرابا شديدا في المقدرة على رؤية المستقبل الذي كان يبدو ـ حينئذ ـ حالك السواد . غير أننا الان . وبعد ما يقارب ثلاث سنوات من الهزيمة نستطيع أن نرى بوضوح أن ليس كل ما كان في حزيران ( يونيو ) 1967 كان سيئا .
لقد كان اسوأ ما فيه أن
الامة العربية ، ذلك الطرف الاصيل الذي لم يكن ممثلا في المعركة ، قد دفعت من أرضها ، وأبنائها ، وكرامتها ، ثمنا فادحا لاخطاء القوى الاقليمية . غير أنه في مقابل هذا كشفت الهزيمة العاجلة للدول العربية عن عجزها الذي لا مفر منه عن تحرير فلسطين . وأدى هذا الى أن دخلت الجماهير العربية ساحة المعركة في يومي 9 و10 حزيران ( يونيو ) 1967 لتفرض الصمود أولا . ثم لتستمر في القتال بعد هذا في شكل منظمات جماهيرية مسلحة . وهذا كسب لا شك فيه . فلأول مرة في التاريخ العربي المعاصر توجد في الارض العربية قوة مقاتلة لا تحمل هوية أية دولة عربية .
ـ 2 ـ
هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى انهار الركام الذي حاولت قوى كثيرة أن تدفن تحته قضية تحرير فلسطين . لم يعد أحد يذكر الاسباب التي كانت ذرائع القتال في حزيران ( يونيو 1967) . ونسي الناس خليج العقبة وحق المرور فيه . وتجاوزت المعركة ازالة آثار العدوان . وفرض على الدول العربية الا تسترد أرضها الى أن تحدد لها موقفا صريحا من تحرير فلسطين . وهكذا برغم كل شئ . برغم المناورات ، وبرغم التآمر ، وجد جميع الاطراف أنفسهم وجها لوجه أمام حقيقة المعركة : أما الوجود العربي واما الوجود الاسرائيلي في فلسطين ، وهو كسب لا شك فيه .. كسب من حيث أننا قد عرفنا ، ولو بعد دفع ثمن فادح للمعرفة ، أن أحدا في الوطن العربي لا يستطيع أن يزعم لنفسه الحرية قبل أن تتحرر فلسطين . أو أن يحلم احلام الرخاء فى جوار الوجود الاسرائيلى في فلسطين .
وعندما فرضت معركة تحرير فلسطين ذاتها على الناس ، عاد الحديث عن علاقة الوحدة بتحرير فلسطين . ورفع في الساحة شعار مختلف يقول : ” ان تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هي الطريق الى تحرير فلسطين “. وزاد أصحابه فأسموه ” استراتيجية “ .
وهو قول غير واقعي ، ومتسرع معا .
أما انه غير واقعي فلان القوى المعادية هي التي بدأت معركة احتلال جزء من الارض العربية في فلسطين سنة 1948 وفي غيبة دولة الوحدة .. وهي التي بدأت معركة تأمين الوجود الاسرائيلي سنة 1956 وفي غيبة دولة الوحدة . ثم انها هي التي بدأت معركة فرض الاعتراف بدولة اسرائيل سنة 1967 وفي غيبة دولة الوحدة أيضا . فحتى لو كانت هزيمة الدول العربية في حزيران ( يونيو ) سنة 1967 ، ورفض الجماهير العربية للهزيمة واستمرارها في القتال ، قد حول المعركة مما أراد بها الصهاينة الى معركة تحرير فلسطين ، فان هذا لا يغير شيئا من حقيقة أن العدو هو الذي اختار وحده تاريخ المعركة ، وفرضها في الوقت الذي اختاره وحده . وعلى هذا يمكن القول بأن القوى المعادية قد استعجلت معاركها سنة 1948 وسنة 1956 و سنة 1967 لتثبيت الوجود الاسرائيلي ” داخل حدود آمنة ومعترف بها ” في غيبة دولة الوحدة لان تلك القوى تعرف أن
الوحدة العربية هي الطريق الموثوق الى تصفية الوجود الاسرائيلي وتحرير فلسطين ، وأن غيبة دولة الوحدة تقدم لها أكثر الظروف ملاءمة لتحقيق غاياتها العدوانية .
ان هذا يبدو لنا أكثر اتفاقا ، واتساقا ، مع الواقع الذي نعرفه ، من الزعم الذي يوحي بأن القوى العربية ، أو أية قوة عربية ، هي التي اختارت أن تبدأ وتخوض المعركة القائمة من أجل تحرير فلسطين وفي غيبة دولة الوحدة تنفيذا ” لاستراتيجية ” أعدت من قبل على أساس أن ” تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هي الطريق الى تحرير فلسطين “ .
وهو قول متسرع ، لان أصحابه لم يصبروا على أنفسهم ، ولا على الظروف حتى يتبينوا : أولا ـ ما اذا كان النضال القائم في سبيل تحرير فلسطين سيحقق غايته في غيبة دولة الوحدة أم أن تطورات المعركة المسلم بأنها طويلة ومعقدة ، وصعبة ، ستضعهم ـ ربما أقرب كثير مما يتصور الكثيرون ـ أمام خيار حيوي : فاما اقامة دولة الوحدة التي توفر لهم العمق الاستراتيجي اللازم لمواصلة القتال واما هزيمة اخرى . وحتى يتبينوا ـ ثانيا ـ ما اذا كان بعض المناضلين في سبيل تحرير فلسطين سيكفون عن القتال ليقيموا على الارض المحررة دولتهم الفلسطينية المسماة ” ديمقراطية ” أم أنهم سيواصلون القتال الى أن تقوم دولة الوحدة الديمقراطية .
ذلك لانه اذا كانت المعركة تدور الان في ظل تأييد ودعم ” حلف الخرطوم ” الذي انعقد بين الدول العربية فى آب (أغسطس) سنة 1967 من أجل ” ازالة آثار العدوان ” فان هذا الحلف موقوت ـ على أحسن الفروض ـ بغايته . وعندما تنتهي مرحلة ” ازالة آثار العدوان ” . على أي وجه تكون نهايتها ، يكون الحلف قد استنفذ اغراضه فينفض . حينئذ تبدأ ” فعلا ” معركة تحرير فلسطين . ولم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف تستمر المعركة وقد كفت الدول العربية ، راغبة أو كارهة ، عن دعم المعركة . وأغلقت حدودها . وصفت أو حاولت تصفية قواعد المناضلين ؟.. نقول كيف تستمر الا اذا سقطت الاقليمية العربية المتراجعة واقيمت على انقاضها دولة عربية توفر للقتال أسباب الاستمرار حتى النصر . انها عندئذ دولة الوحدة النواة أو نواة دولة الوحدة .
ومن ناحية أخرى ، لم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف يكون تحرير فلسطين طريقا الى الوحدة العربية خاصة اذا كان ذلك الشعار المسمى ” استراتيجية ” متضمنا كهدف اقامة دولة فلسطين المسماة ” ديمقراطية ” كيف تكون تلك الدولة الاقليمية طريقا الى الوحدة العربية ؟.. ما هي المعطيات الجديدة المتوافرة أو التي يمكن أن تتوافر لدولة فلسطين . ولم تكن متوافرة لدول عربية كثيرة تحررت ولم تتوحد . ان كل ما نعرفه من المميزات الخاصة بدولة فلسطين المسماة ” ديمقراطية ” هو ان نسبة اليهود غير العرب فيها سيكون أكبر منها في أية دولة عربية أخرى . فهل يصلح هذا سببا جديدا لتكون طريقا الى الوحدة ؟..
ان هذه اسئلة لا تكفي النوايا ـ ولو كانت حسنة ـ للاجابة عليها .
هل ثمة علاقة بين
الوحدة العربية وتحرير فلسطين ؟ وان وجدت فما هو مضمونها ، وأين تقع ، وكيف تتجسد في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها النضال العربي ؟.
في الاجابة على هذه الاسئلة نجتهد بقدر ما يطيق هذا الحديث المحدود .
عندما يكون الحوار دائرا بلغة واحدة ثم لا ينتهي الى اتفاق فلا بد من أن يكون ثمة خلاف في مضامين الكلمات التي يستعملها المتحاورون . وتكون الخطوة الاولى أن نعرف ما يعنيه كل طرف بالكلمات التي يقولها . والحوار حول علاقة الوحدة بتحرير فلسطين يدور بين الذين ينكرون الوحدة ولا ينكرون تحرير فلسطين ، فلا بد اذن من أن يكون ثمة خلاف بين ما يعنيه كل منهم ” بالوحدة العربية ” أو ” بتحرير فلسطين “ .
ونحن نعتقد أن مرجع الغموض وعدم التحديد في هذه العلاقة الى الذين يتحدثون عن الوحدة العربية أو أنهم هم المسؤولون عن القدر الاكبر منه . ولولا هذا لما رأينا أن كل الناس ـ فيما يقولون ـ راغبون في الوحدة العربية ومن دعاتها ، ومع ذلك ما تزال الوحدة أبعد الاهداف العربية عن التحقق . بل أن أغلب الناس لا يعرفون كيف تتحقق وما هو الطريق اليها . ولو عرفوا لعرفوا موقع تحرير فلسطين من هذا الطريق .
وآية هذا أن كثيرين من اولئك الذين يتحدثون أو يكتبون عن الامة العربية . وعن القومية العربية . وعن الوحدة .. الخ . حديثا يبدو كالمناجاة الذاتية . ويعز معه الحوار . لاننا لا نستطيع أن نعرف مما يقولون كيف عرفوا ماي تحدثون فيه الا أن يكون عن طريق شعورهم بالانتماء القومي ، أي حالتهم النفسية ، والشعور بالانتماء القومي دلالة صحيحة على وجود امة ينتمي اليها المتحدث ولكنه لا يصلح منطلقا الى تحديد أهداف المستقبل . ونحن نعرف هذا مثلا من قول مطروح ومتردد فى الادب القومي العربي . في كل الادب القومي العربي تقريبا كما لو كان بديهيا . ذلك القول بأننا ما دمنا امة عربية واحدة ” فيجب ” أن تكون لنا دولة سياسية واحدة . أو أننا ما دمنا أمة عربية واحدة ” فيجب” أن نساهم جميعا في تحرير فلسطين . والشعور بالانتماء القومي يبرر أننا امة عربية واحدة . اما لماذا ” يجب” ما بعد هذا فلا جواب . أو أن ثمة اجابات غير وافية . او اجابات غير صحيحة وان كانت هي ذاتها غير مبررة قوميا . مثل تلك الاجابة التي تقول ” يجب” أن تقوم الوحدة لانها الطريق الى تحرير فلسطين ، لان دولة الوحدة ـ وحدها القادرة على توفير المتطلبات اللازمة لتحقيق نصر عسكري ضد الصهيونية . وهو قول صحيح . ولكن المسألة هي كيف عرفنا أنه صحيح . ان كنا عرفناه عن طريق ممارسة القتال الفاشل عشرين عاما ضد اسرائيل . لا أكثر . ثم تنفض الوحدة بعد أن تكون قد أدت مهمتها . وفي هذه الحالة تكون الوحدة غير لازمة بالنسبة الى الدول التي لا تحيط باسرائيل ، بل وتكون الوحدة العسكرية بين الدول التي تحيط بها بديلا صالحا من الوحدة السياسية لانها توفر المتطلبات اللازمة للتفوق العسكري أو يمكن توفرها . بل نزيد فنقول ان حتى الوحدة العسكرية لا تكون لازمة لو احسنت بعض الدول العربية استخدام امكانياتها المتاحة ماديا وبشريا . اذ لو احسنت لكانت قادرة على هزيمة اسرائيل . وفي كل الاحوال ستكون
علاقة الوحدة بتحرير فلسطين موضوعا من ” صلاحية ” العسكريين ، قادة المعركة ، الذين يقررون مضمون تلك العلاقة ، وأين تقع ، وكيف تتجسد طبقا لتطورات استراتيجية أو تكتيك القتال ضد اسرائيل .
اما اذا كنا قد عرفنا أن ” الوحدة العربية ” لازمة لتحرير فلسطين عن طريق البحث العلمي في تلك الظاهرة الاجتماعية التي تسمى ” أمة “ واكتشاف العلاقة الموضوعية بين الوجود القومي والوحدة القومية . فان الوحدة تكون لازمة لزوما موضوعيا ، فنلتزمها غاية فى معركة تحرير فلسطين ، وفي غير معركة تحرير فلسطين ، ولا نعفي منها أحدا مهما يكن بعيدا عن ساحة معركة فلسطين ، ولا نتراجع عنها حتى بعد أن تتحرر فلسطين .
ـ 3 ـ
هنا يكون موقفنا من الوحدة وتحرير فلسطين موقفا عقائديا ، وليس موقفا انتهازيا .
والموقف العقائدي القومي يقوم ـ باختصار ـ على خمسة أسس متكاملة :
اولا : ان الامة جماعة بشرية تكونت تاريخيا من جماعات وشعوب كانت مختلفة لغة وتراثا ومصالح ومتصارعة ومتفاعلة خلال ذاك الصراع ، انتهت بعد مرحلة تاريخية طويلة من المعاناة الى أن تلتحم لتكون شعبا واحدا ذا لغة مشتركة وتراث مشترك ومصالح مشتركة . وهذا لا خلاف عليه . انما الخلاف حول الارض الخاصة والمشتركة كعنصر من عناصر التكوين القومي . ونحن نرى أن الاختصاص برقعة مشتركة من الارض هو العنصر الجوهري المميز للامة . ذلك لان كافة العناصر الاخرى مثل وحدة اللغة التي تركز عليها النظرية الالمانية ، ووحدة المصالح الاقتصادية التي تركز عليها النظرية الماركسية . أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية . أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية .. الخ . كل هذه عناصر ممكن أن تتوافر ، وأن تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الامة ” كالمجتمعات القبلية مثلا . انما تجاوزت المجتمعات الطور القبلي ودخلت طور التكوين القومي بالاستقرار على أرض معينة . ثم اكتملت تكوينا باختصاصها بتلك الارض المشتركة ، وبهذا أصبحت أمة .
ثانيا : يترتب على هذا أن الامة تكوين واحد من الناس (الشعب) والارض (الوطن) معا . فنحن عندما نقول أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الامة) الذي يتضمن الجزء (الوطن) فالشعب العربى (الناس)
والوطن العربى (الارض) يكونان معا الامة العربية . التي ما تحولت من شعوب لا تختص شعبا بعينه الى أمة الا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجودا اجتماعيا واحدا هو الامة العربية . من هنا ندرك انه عندما يتعرض الوطن العربي ، كله أو بعضه ، للابادة أو الطرد من أرضه . وعندما يتعرض الوطن العربي كله أو بعضه للغزو الاستيطاني أو الاقتطاع أي عندما تقوم أية محاولة لفصل الناس (الشعب) عن الارض (الوطن) لا نكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربي يمكن تعويضهم عنه أرضا بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءا من الوطن العربي يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه ، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومي العربي ذاته .
ثالثا : ثم أنه لما كانت الامة تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب في الوطن هي مشاركة تاريخية تحول من ناحية دون الشعب وأن يتصرف في وطنه أو جزء منه في أية مرحلة تاريخية معينة لان الوطن شركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة . وتحول من ناحية أخرى دون أي جزء من الشعب وأن (يتصرف) في الاقليم الذي يعيش عليه أو في جزء منه بالتنازل عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه (علاقة خارجية) وتحول من ناحية ثالثة دون أي جزء من الشعب وأن يستأثر بأي اقليم عن بقية الشعب (علاقة داخلية) .
ومن هنا نصل الى عدة نتائج هامة وملزمة قوميا .
أولها أن فلسطين كجزء من الوطن العربي اقليم مملوك ملكية مشتركة للشعب العربي كله وليس ملكا خاصا لشعب فلسطين .
ثانيها ؛ ان الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة ، على حرية فلسطين .
ثالثهما : ان مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله وليس على شعب فلسطين وحده .
رابعا : ان كل الاتفاقات ، او المعاهدات أو القرارات ، والدساتير ، والقوانين ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة من دول أجنبية أو دول عربية ، في الماضي أو الان أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قوميا ، فهي ليست حجة على الامة العربية ولا قيدا على حقها في
تحرير فلسطين .
ان الامة كتكوين تاريخي لم تتكون اعتباطا أو مصادفة . بل تكونت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل . فاذا كنا قد بلغنا خلال المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي مادمنا أمة عربية واحدة فان هذا يعني أن تاريخنا ، الذي قد نعرف احداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة أفضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معا لتكون أمة عربية واحدة وانها عندما اكتملت تكوينا كانت بذلك دليلا موضوعيا غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أيا كان مضمونها ، وأنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح الا بامكانيات قومية ، وقوى عربية ، في نطاق
المصير القومي . قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بامكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ولكنه لن يلبث أن يتبين ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافئ مع الامكانيات القومية المتسق مع التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار أن يفلت بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
وهكذا بينما احتاج الاقليميون الى الهزيمة المرة في حزيران (يونيو) 1967 ليتعلموا أن أحدا لا يستطيع أن ينتصر في معركة التحرر ما دامت فلسطين محتلة لا يحتاج القوميون الى تجارب مريرة ليعرفوا أن أحدا لن ينتصر في معركة تحرير فلسطين ما دام للاستعمار قدم وقاعدة في الوطن العربي ، وأن فلسطين لن تتحرر بغير امكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق معركة التحرر العربي واطار المصير القومي .
خامسا : وأخيرا ، فان هذه الوحدة الموضوعية بين المشكلات التي يطرحها الواقع القومي بما نعنيه من أن حلولها الصحيحة المتكافئة مع المقدرة القومية غير قابلة للتحقق الا بامكانيات وقوى قومية في اطار المصير القومي . تفرض الوحدة العربية كأداة يستحيل بدونها وضع كل الامكانيات والقوى القومية ، واستعمالها ، في سبيل حل كل المشكلات العربية ، وتحقيق المصير العربى الواحد . ان هذا لا يعني أن الاقليميين ودولهم عاجزون تماما عن تحقيق أي نجاح في مواجهة المشكلات التي يتصدون لها ، بل يعني تماما انهم لا ينجحون الا مؤقتا وأنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الوحدة لازمة لاطراد النجاح أو الحفاظ عليه .
وهكذا نعرف من الان . أن فلسطين لن تتحرر في غيبة دولة الوحدة ، وأنها حتى لو تحررت لن تستطيع أن تحافظ على تحررها الا في ظل دولة الوحدة . كيف اذن فشلت وحدة 1958 في تحرير فلسطين ؟ .. لاسباب بسيطة . لانها كانت استجابة قومية ولكنها لم تكن وحدة قومية فشلت في أن تتحول الى وحدة قومية . كانت اشتراكا بين اقليمين في الرئاسة وفي الحكومة ، وبقي الاقليمان منفصلين جماهيريا ، واقتصاديا ، وماليا ، وعسكريا فلم تكن تجسيدا لوحدة المصير داخلها . ثم انها اقتنعت بالاقليمين وتوقفت عن الامتداد ، فارتضت التجزئة ولم تجد وحدة المصير خارجها وهكذا انقلبت الى دولة اقليمية في اقليمين ، بدلا من أن تكون دولة الوحدة النواة ففقدت أساسها العقائدي ومضمونها القومي ، ففشلت .
ـ 4 ـ
الى هنا نكون قد عرفنا
الموقف القومي العقائدي من الوحدة وعلاقتها بتحرير فلسطين .غير أن هذا لا يكفي ، لان الموقف القومي العقائدي تعبير سلبي في مواجهة الواقع ، ويبقى أن نعرف كيف يحدد قوانا ويضبط حركتها الايجابية ، أي كيف تتحول القومية من وعي على الواقع الى حركة لتغيير الواقع وأين تقع العلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية في تلك ” الحركة ” .
وأرجو الا يكون غائبا عنا أن حقيقة المشكلة التي نعالجها آخذة في الوضوح خلال الحوار فنحن الان لسنا أمام القضية الشكلية الاولى : أيهما الطريق الى الاخر ، الوحدة أم تحرير فلسطين ، بل نحن أمام الحقيقة الموضوعية لتلك القضية ، علاقة النضال من أجل الوحدة بالنضال من أجل تحرير فلسطين .
ولما كانت الحركة النضالية ، أية حركة لتغيير الواقع تتضمن خمسة عناصر هي : المنطلق والغاية والقوى والاستراتيجية والتكتيك ، فسنرى فيما يلي ـ باختصار شديد ـ كيف تحدد لنا القومية العناصر الخمسة للحركة القومية وموقع معركة تحرير فلسطين منها .
(1) اما عن المنطلق فهو محدد بالوجود القومي ذاته ، بالامة كواقع موضوعي ، وبواقع الامة في مرحلة الانطلاق ، وفي الواقع العربي وقائع كثيرة أولها أننا أمة واحدة ولكن مجزأة وأن فلسطين جزء من الامة العربية ولكن مغتصبة ، من هنا تكون البداية .
(2) أما عن الغاية فهي محددة بوحدة الوجود القومي التي تعني اختصاص الشعب العربي كله بالوطن العربي كله ، فيما يتفق مع تلك الوحدة يبقى ، وما لا يتفق معها يجب أن يزول . ولما كانت الصهيونية تغتصب جزءا من الوطن العربي وكانت كل دولة عربية تستأثر بجزء من ذلك الوطن . وكان هذا وذاك لا يتفقان مع وحدة الوجود القومي ، فان غاية النضال القومى تكون استرداد الارض العربية من غاصبيها ، والغاء تجزئتها واقامة دولة عربية واحدة عليها ، بما فيها فلسطين .
(3) أما عن القوى فمحددة بوحدة المصير القومي . ولما كانت وحدة المصير القومي تعني أن الحل الصحيح لا يمكن أن يتحقق الا بامكانيات قومية وقوى قومية . فان القوى المناضلة من أجل الوحدة لن تكون قادرة على النصر النهائى الا اذا كانت قوى قومية . أي الا اذا كانت مجسدة في ذاتها هدف الوحدة . وهي لا تكون كذلك اذا قبلت التجزئة الاقليمية فيها ، أي اذا قبلت أن تكون قوى اقليمية ولو كانت متحالفة .
وهكذا تكون وحدة
القوى القومية شاملة المناضلين في معركة فلسطين ، ولكنها تنفي تجزئة القوى الى قوى قومية وقوى فلسطينية .
(4) اما عن الاستراتيجية فهي محددة بالوحدة الموضوعية للمشكلات التي يطرحها الواقع القومي فلا بد من أن تكون استراتيجية واحدة تصل بين الواقع القومي والمصير القومي . ولما كانت الوحدة العربية الشاملة لا تقوم الا بعد التحرر الكامل لكل اجزاء الوطن العربي فان التحرر يشكل المرحلة الاولى من استراتيجية النضال من أجل الوحدة . وهي استراتيجية ملزمة للمناضلين في كل جزء : التحرر كمرحلة اولى من نضال غايته الوحدة . وهكذا تدخل معركة تحرير فلسطين في نطاق المرحلة الاستراتيجية الاولى من النضال القومي من أجل الوحدة العربية : مرحلة التحرر . ويصبح القول بأن تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة بشرط أن نفهمه على أنه طريق دخول ” فلسطين ” الى دولة الوحدة العربية .
ومن ناحية أخرى فان وحدة الاستراتيجية تعنى أنه كلما انتصرت القوى القومية في ساحة معركة ألقت بقوتها في الساحات الاخرى الى أن تحقق الوحدة العربية الشاملة . وهكذا يكون النضال القومي ملتزما بسحق الاقليمية والغاء التجزئة في الاجزاء المحررة واقامة دولة الوحدة النواة ثم الدخول بها معارك تحرير وتوحيد باقي الاجزاء وتضاعف المقدرة على النصر ـ هنا ـ لا شك فيه ، ولكن ليس مصدر الالتزام بتحقيق الوحدة النواة والدخول بها معركة التحرير ، بل مصدره الموقف القومي العقائدي . وعلى هذا يصح القول بأن الوحدة هي الطريق الى تحرير فلسطين بشرط أن نفهمه على أنه طريق الوحدة النواة الى الوحدة الشاملة .
أما عن التكتيك فلا يتوقف على القوى القومية . ولكن على ظروف المعارك ، وقوى الاعداء ، وأساليببهم ، وغايتهم ، والقوى القومية مطالبة في هذا بأن تلتزم
الاسلوب العلمي في المواقع التكتيكية لهزيمة القوى المعادية . ولكن ـ وهذا بالغ الاهمية والخطورة ـ في نطاق الالتزام الاستراتيجي أي الا تترك للقوى المعادية فرصة استدراجها من خلال المناورات التكتيكية الى خارج خطها الاستراتيجي ، أو أن تندفع هي الى قبول أي نصر تكتيكي يكون على حساب الغاية الاستراتيجية . وهكذا لا يجوز أن نتننازل أو نتراجع عن هدف الوحدة العربية من أجل النصر التكتيكي فى أية معركة ولو كانت معركة تحرير فلسطين .
وهكذا يستقيم لنا ـ كما أرجو ـ فهم العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين في هذه المرحلة ، على وجه يمكن تلخيصه في جملة قصيرة : التحام القوى القومية في قوة مناضلة واحدة تخوض معركة تحرير فلسطين وتفرض الوحدة فى الاجزاء المتحررة ثم تدخل بها المعركة لتأمين النصر النهائي في معركة تحرير فلسطين حتى تستطيع أن تكسب فلسطين لدولة الوحدة .
فهل هى علاقة صحيحة ؟
هنا يأتي دور الممارسة لتكون محكا لاختبار صحة المعرفة العلمية .
فماذا تثبت الممارسة ؟.
ـ 5 ـ
أما على الجانب العربي فلم يكف أي قادر على الكلام ، منذ حزيران (يونيو)1967 عن القول بأن معركة تحرير فلسطين معركة عربية ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين تقع على الامة العربية كلها ، وأن التعامل مع ” الواقع الملموس” ـ كما قالت احدى النشرات الصادرة من الجبهة الشعبية أثبتت أنه : ” من الواضح أن النضال من أجل تحرير فلسطين ليس مهمة الشعب الفلسطيني وحده بل مهمة الشعوب العربية كلها وان انجاز هدف التحرير وتصفية الكيان الاسرائيلي لا يمكن أن يكون الا حصيلة نضال الشعوب العربية كلها في حرب شعبية طويلة الامد ضد الامبريالية والصهيونية على امتداد الارض العربية . ”. وأنه مالم تتم تعبئة طاقات الجماهير العربية كلها فان سحق العدوان الاسرائيلي وتدمير جذوره يبقى حلما غير قابل للتحقيق (الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين) ـ (حركة المقاومة الفلسطينية فى واقعها الراهن) . كلهم كل المساهمين في المعركة ، قادة ، وقواعد ، وحكومات لا يكفون عن الاستغاثة بالمائة مليون عربي ، وتحميلهم مسؤولية معركة التحرير التي لا يمكن أن يتم النصر فيها بغير قوة
الجماهير العربية . حتى الاقليمية الفلسطينية تدعو الجماهير العربيية الى أن تحشد نفسها في جبهة مساندة .
اذن ” فالواقع الملموس” قد أثبت أن النصر لا يتم الا بالتحام
الجماهير العربية وفاء لمسؤولياتها عن تحرير فلسطين ، وهو صحيح .
ولكن الذين يستغيثون بالامة العربية ، وبالمائة مليون عربي . ويحملونهم مسئولية تحرير فلسطين لم يقولوا شيئا عن حقوق المائة مليون عربي في فلسطين ( المتحررة ) أو فى ازالة آثار العدوان . لم يقل أحد كلمة واحدة اجابة عن السؤال الذي يهم الجماهير العربية : لماذا يموتون من أجل تحرير فلسطين ؟ أليست المسؤولية هي الوجه الاخر للحق ؟ فأين حق الامة العربية في فلسطين وكيف يتجسد ؟ ان من أغرب ما قرأنا في هذا ما قاله اولئك الذين اصدروا نداءهم المنشور عن حلم التحرير الذي لا يتحقق الا بنضال الشعوب العربية تبريرا لدخول الجماهير معركة التحرير ، قالوا : لان الجماهير الكادحة لا تملك الحياة ، مع أنها تملك مع الحياة أمل الوحدة والتقدم . ويستغيثون بالجماهير العربية دفاعا عن الكرامة العربية . والكرامة العربية عزيزة وتستحق القتال دفاعا عنها . ولكنها ليست كلمة فارغة ، انها تعني حياة كريمة مطهرة من المذلة ولا يريد أحد أن ” يعد” الجماهير العربية حتى بالحياة الكريمة المطهرة من المذلة ولو بعد التحرير ، ربما لانهم يعرفون أن ذلك لا يتحقق الا فى دولة الوحدة العربية وهم لا يريدون أن يلتزموا بوعد الوحدة بعد التحرير . ان الجماهير العربية ليست بلهاء وقد كان لها في حزيران ( يونيو ) 1967 عبرة لا تنسى ، فاذا كان أحد يظن أنها ستقاتل حتى الموت الى أن تتحرر فلسطين لمجرد أن يعود الامر في الوطن العربي الى ما كان عليه قبل حزيران ( يونيو ) 1967 فسيتعلم أن الغباء لا ينفع صاحبه أبدا . والغباء وباء في الاقليمية العربية . بدليل انهم ما زالوا يتصرفون على أمل أن كل شئ سيبقى كما كان . بل أن منهم من هو مشغول عن المعركة بمخططات التوسع بعد المعركة فهو يدخر قواه ليبني في الارض العربية امبراطوريته الخاصة . وكل هذه أوهام . لا يساويها وهما الا توقع استجابة الجماهير العربية لدعوة الالتحام من أجل الموت لا شيء أكثر ، واستنفارها بالحديث عن المسؤولية بدون التزام بحقها في الارض العربية ولما كان هذا الالتحام لا يتم الا على هدف الوحدة فان هذا ” الواقع الملموس ” يقدم دليلا من الممارسة على أن النصر لا يتم الا بالتحام تحرير فلسطين
بالوحدة العربية .
أما عن الجانب الآخر ، جانب القوى المعادية فان الامر أكثر وضوحا . فهي تخوض معركتها ضد الامة العربية وليس ضد أية دولة عربية . وهذا واضح من أن الحركة الصهيونية عندما وضعت مخططاتها لغزو الوطن العربي في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن هناك أية دولة عربية قائمة لا فلسطين ولا غير فلسطين . قد تصطدم الصهيونية تكتيكيا مع دولة عربية قائمة أو اخرى تبعا لما تتبينه من مخاطر مؤقته . ولكن خطتها الاستراتيجية تستهدف اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل ، بصرف النظر عما هو قائم على تلك الارض من دول أو نظم أو قوى . الغزو الصهيوني موجه اذن الى الامة العربية . فهي الطرف الاصيل في المعركة وهذا يقتضي أن تكون قواها في المعركة قوى قومية ملتحمة .
واذا كانت الحركة الصهيونية ذات أهداف محددة واستراتيجية خاصة ، فان من عناصر تلك الاستراتيجية التحالف مع القوة الاستعمارية المتفوقة . تحالفت مع المانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ثانيا ثم مع الولايات المتحدة الامريكية أخيرا ، تبعا لانتقال قيادة الاستعمار العالمي . وللاستعمار العالمي موقف عدائي لم يتغير ضد الوحدة العربية . هو الذي صنع التجزئة ابقاء للتخلف حتى يظل مسيطرا على مقدرات الامة العربية . وهو الذي يحرس التجزئة حتى لا تقوم دولة الوحدة . وهكذا التقت المصالح الاستعمارية مع المصالح الصهيونية لاقامة دولة يهودية على الوطن العربي تحقق أهداف الصهيونية وتحول دون الوحدة معا .
قرأنا كلنا عن تقرير كاميل بونومان سنة 1907 الذي انتهى الى أن حماية المصالح الاستعمارية في الوطن العربي تستلزم اقامة حاجز بشري قوي وقريب يفصل المشرق العربي عن المغرب العربي ويحول دون الوحدة العربية المتوقعة . ولقد كنت مهتما بالتعرف على هذا التقرير في مصدر رسمي تحقيقا لصحة الاشارة اليه في الكتابات الخاصة ، الى أن اطلعت على ملخص له منشور فى وثيقة عربية رسمية ، فأصبح حقيقة تمكن الاشارة اليها . ولكنها ليست الحقيقة الوحيدة ، فقد كان من ضمن المكاسب التي تحققت بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 أن أصبح للقضية العربية أنصارا من الدارسين في أوروبا وخاصة من الفرنسيين . وعرفنا مما كشفوه من وثائق علاقة الغزو الصهيونى بالوحدة من هذه الوثائق ما نشره بيير ديستريا في كتابه ” من السويس الى العقبة ” صفحة 56 نقلا عن كتاب نشر في فرنسا سنة 1937 بعنوان ” الله أكبر” ألفه ” محمد أسعد بك” وهو اسم مستعار لاحد عملاء الصهيونية في الوطن العربي . والكتاب عبارة عن تقرير كان مقدما الى حد قادة الحركة الصهيونية العالمية هو المستشرق النمساوي الدكتور فولفجانج فايست . يقول كاتبه :
” ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من أجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك
قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قنال السويس والطريق الى الهند . اما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو أصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين . ان دولة صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية اخرى ..
ان توازن القوى حول قنال السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين بالنسبة الى العالم العربي ، يتوقف على دولة فلسطين تكون كسويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي ، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى “ .
ان هذا الكلام القديم يبدو حديثا ، لانه يعبر عن استراتيجية معادية وضعت قديما وما تزال تحكم تكتيك القوى المعادية . ومن حين الى آخر يعبرون عنها بوضوح وقوة . في تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1958 أي بعد قيام وحدة 1958 نشرت مجلة ” الابسرفاتور دي مويان اوريان ” مقالا بمناسبة الذكرى الثانية لحرب 1956 قالت فيه : ان التفوق الاسرائيلي قدم ضمانا لحماية الوضع القائم ضد المحاولات الوحدوية . لقد أصبح واضحا أن حفظ التوازن فيما بين الدول العربية المجاورة لاسرائيل والدول العربية عموما مهمة يتولاها الاسرائيليون وتدخل في نطاق واجباتهم . اننا نقوم هنا ، اذا صح التعبير ، على تنفيذ ” مبدأ مونرو ” خاص بالشرق الاوسط . ان القرار الذي اتخذناه بهذا الخصوص منذ عشر سنوات ( أي منذ 1948 ) قد أدى الى الاستقرار والسلام بدلا من الخوف ” وفي كانون أول ( ديسمبر ) سنة 1966 قال ليفي أشكول في رسالة بالراديو أن سياسة اسرائيل منذ سنة 1958 (أي منذ الوحدة) أن تحول ولو بالقوة دون أي تغيير يحدث في الوضع القائم للدول العربية ” . وفي شباط ( فبراير ) سنة 1967 قال أبا ايبان في تصريح أدلى به في لندن : ” يجب أن يكون واضحا أن مصير المنطقة العربية لا يمكن أن يكون الوحدة . بالعكس انه الاستقلال القائم على التجزئة “ .
وهكذا تثبت الممارسة ـ ممارسة المعركة ضدنا ـ أن القوى المعادية قد غزت فلسطين مقدمة لغزو مزيد من الاراضي العربية لاقامة دولة يهودية وظيفتها أن تحول دون
الوحدة العربية الشاملة كهدف استراتيجي لتلك القوى المعادية .
وهذا يعني أن طبيعة معركة تحرير فلسطين التي تفرض التحام الجماهير العربية تحتم أن يكون التحامها من أجل الوحدة كهدف استراتيجي للقوى العربية . وبهذا تقدم طبيعة المعركة الدليل على صحة الموقف القومي من العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين . اذا كان هذا هو الحل الصحيح : فما الذي يحول دونه ؟.
ـ 6 ـ
أولا : وقبل كل شيء ، عدم وفاء القوى القومية بمسؤولياتها ، فلو أرادت الوفاء لما حالت أية قوة على الارض دون أن تلتحم في قوة مناضلة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة .
ثانيا : الاقليمية العربية ، والاقليمية كنقيض للقومية تقوم على أساس أن لكل اقليم عربي تكوين اجتماعي (مجتمع) قائم بذاته مستقل بمصيره ، ولما كان الاستقلال علاقة ذات طرفين أو أكثر (الاستقلال بالذات عن الغير) فان دلالة الاقليمية تتجاوز أي اقليم لتصبح علاقة قائمة على تبادل الاعتراف بتجزئة الوطن العربي تجمع الاقليمين في كل مكان ، حتى الذين لا ينتمون الى دولة عربية ، لتضعهم جميعا في مواجهة الشعب العربي في موقف مضاد لوحدته القومية . وتتجسد هذه الاقليمية في الموقف الاقليمي من المشكلات العربية ، ومن
معركة تحرير فلسطين بوجه خاص ، لان الاقليمية متصدية فعلا للمعركة دفاعا عن فلسطين أو دفاعا عن الاجزاء التي احتلت بعد 1967 ولكن من موقف اقليمي .
وقد قلنا دائما ونقول الان ان الاقليمية فاشلة .
ولسنا نحتكم لتجربة الفشل في السنين الماضية ، لان هناك من يتوهمون أن تغيير القيادات الاقليمية قد يكون سببا للنصر . وذلك من أوهام الاقليمية . لان فشل الاقليمية كامن فى ذاتها مهما تكن نوايا قادتها . ففي معركة تحرير فلسطين مثلا ، تفتقد الاقليمية (غير الفسطينية) حتى مبررات القتال . ان استقلال الدول الاقليمية ذاتا ومصيرا يجردها من أى حافز للقتال من أجل تحرير فلسطين لسبب بسيط هو أن فلسطين تقع خارج حدود الدول الاقليمية المستقلة ذاتا ومصيرا . وأكثر الاقليميين امانة هم الذين يعترفون بهذا ويبحثون عن مخرج لاسترداد ماضاع من أرضهم ثم يلقون مسؤولية تحرير فلسطين على شعب فلسطين واذا قيل أن اسرائيل تمثل خطرا على الدول العربية فان المسألة ـ بمنطق الاقليمية ـ تكون كيف تؤمن وجودها من هذا الخطر . وهو ممكن ولو بالمساومة على أرض فلسطين ذاتها ، ولو بقبول حماية واحدة أو أكثر من الدول . كل هذا ممكن بدون حاجة الى تحرير فلسطين ، واذا لم يكن ممكنا فان الاقليميين سيقاتلون دفاعا عن أرضهم ان استطاعوا ، ولكنهم لن يصلوا أبدا ـ ولو استطاعوا ـ الى حد دخول
معركة تحرير فلسطين .
هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى فان ” الاقليمية ” المستقلة ذاتا ومصيرا تعني أولا استئثار كل دولة عربية بالجزء الذي تقوم عليه فهي تغتصبه من الامة العربية . وتعني ثانيا حرمان الشعب العربي فيها من حقه في الارض العربية خارجه فهي تحبسه فيه وبهذا تحول ـ سلبيا وايجابيا ـ دون التحام الجماهير العربية فى قوة موحدة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة . وبهذا لا تخدم الا الغزو الصهيوني لفلسطين . ولهذا عندما يتحدث الاقليميون عن تحرير فلسطين لا يصدقهم أحد ويسخر منهم العالم كله . والعالم على حق لان الاقليمية المستقلة بمصيرها عن فلسطين تكون غير منطقية عندما لا تترك فلسطين لمصيرها المستقل . ان على الشعب العربي فى كل مكان أن يفلت من شراك التضليل ولو احتراما لارواح الشهداء من ابنائه الذين راحوا ضحية التضليل الاقليمي . والحقيقة أننا ما دمنا متفقين على أن التجزئة قد سهلت غزو فلسطين . فيجب أن نعرف ونعترف بأن الغزو الصهيوني لفلسطين قد بدأ واتسع وما يزال قائما في حماية الاقليمية العربية التي تجسد تلك التجزئة . واذا كنا متفقين على أن الاقليمية العربية مشتبكة في صراع ضد الصهيونية دفاعا عن استقلالها ، فيجب أن نعرف ، ونعترف بأن هذا الاستقلال لا يعني أنها ستخوض معركة تحرير فلسطين ، بل يعني أنها طالما بقيت في الوطن العربي فستحول ، بكل الطرق ، من أول المغالطة اللفظية الى آخر التصفية الجسدية ، دون التحام القوى القومية لدخول معركة تحرير فلسطين ، أي أن استقلالها ذاته يحول دون تحرير فلسطين . وأنها يجب ان تسقط لتقوم دولة الوحدة حتى تتحرر فلسطين .
أما الاقليمية الفلسطينية فلها مصلحة مؤكدة في تحرير فلسطين ولا شك في أنها ستقاتل ما استطاعت لتحرير فلسطين ، ولكن الاقليمية ستخذلها . الاقليمية فيها والاقليمية خارجها . هذا لا شك فيه . ان شعار الاستقلال عن الدول العربية بمعركة تحرير فلسطين يتضمن حتما استقلال الدول العربية عن معركة تحرير فلسطين . وليس صحيحا أن يقال أنه مع ذلك لا يعني الاستقلال عن
الجماهير العربية ولا يحول دون التحامها فى معركة تحرير فلسطين . لان مجرد الدعوة الى التحام الجماهير العربية يعنى دعوتها الى كسر القيود الاقليمية وهو أمر يمس صميم وجود الدول الاقليمية ويتناقض مع استقلالها عن فلسطين واستقلال فلسطين عنها . ان كان هذا تكتيكا فهو تكتيك فاشل لانه ينطوي على مغالطة مكشوفة . وكل تكتيك ناجح يجب أن يكون منضبطا عقائديا واستراتيجيا والا فهو مغامرة أو مقامرة .
ـ 7 ـ
الحل القومى ، اذن ، هو الحل الصحيح لمشكلة تحرير فلسطين . فهل هناك موضع في هذا الحل لمشكلة الاقامة في فلسطين المتحررة . تلك المشكلة التي يقدمون لها صيغة فلسطين المسماة ” ديمقراطية “ : حلا يرضي ـ فيما يقولون ـ الرأي العام العالمي ؟.. ان حلها القومي واضح وصريح . اذ بمجرد أن ننسى التمييز الديني والعنصري تقدم لنا ” القومية ” الحل لصحيح . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجني عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت ، والارض المتروكة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد أصبحت أموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا ”ديمقراطيين” . كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . ان فلسطين مهما تكن أرض السلام ستضيق بمن فيها وتنتهي حرب التحرير لتبدأ الحرب الاهلية في أرض فلسطين .. القومية لا تقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى فان للامة العربية أبناء من اليهود في فلسطين المحتلة وفي أماكن كثيرة من الارض . اولئك العرب اليهود . انهم يحملون لسبب أو لآخر الهوية الاسرائيلية أو هويات اخرى أجنبيه . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا
الارض العربية الى اماكن أخرى . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الامن وأسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لامتهم ، وأن يرتفعوا بوعيهم الى مستوى المسؤولية القومية ، وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي أرض أمتهم العربية ، وأن لهم حق الاقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل ، أو كانوا وافدين اليها من أقطار عربية أخرى . وأن من حقهم أن يعودوا اليه ، أو الى مكان من الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوانهم العرب الذين أكرهوا على مغادرة فلسطين ، لا فضل لأحد منهم على الآخر الا بقدر ما يجسد فكرا ومسلكا ولاءه القومي لامته العربية . وحتى الذين تورطوا منهم فوجدوا انفسهم فى مواقع الخيانة لامتهم ، ويقتلون اخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة فان جزاءهم سيكون متعادلا مع ما كان لهم من حرية في الاختيار ، وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الغزو الصهيوني . ولكنهم في كل الاحوال لن يكرهوا على مغادرة أرضهم العربية ولن يفتقدوا حماية دولة الوحدة .
أما الذين خانوا وطنهم فهجروها ، وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية وعليهم أن يلحقوا بأممهم حيث كانوا ولسنا مطالبين بأن ندفع لهم ثمن الخيانة أو أن نقدم لهم مكافأة على العدوان .
ذلك هو الحل السلمي الوحيد المقبول قوميا .
وهو حل لا نبتكره نفاقا لدفاع السلام . انما نقدمه دليلا على سهولة الاهتداء الى الحلول السلمية الصحيحة من الموقف القومي العقائدي لانه الموقف الصحيح . وليس أدل على أنه الحل السلمي الصحيح من أن المهاتما غاندي كان رمزا خالصا للسلام الانساني مع أنه لم يكن عربيا قوميا ، قال غاندي في 14 تموز ( يوليو) سنة 1946 :
” ان
فلسطين للعرب بذات المعنى الذي تعتبر فيه انجلترا للانجليز وفرنسا للفرنسيين . انه لخطأ بين ، وأمر غير انساني ، أن يفرض اليهود على العرب . أن ما يجري في فلسطين اليوم لا يمكن أن يوجد له مسوغ من أي قانون اخلاقي للسلوك .. انها لجريمة ضد الانسانية أن يقبر العرب الاعزاء لكي يتخذ اليهود كل فلسطين أو جزءا منها وطنا قوميا لهم ان التصرف ألامثل هو الاصرار على معاملة اليهود معاملة عادلة في أي مكان ولدوا ونشأوا فيه ” .
ونحن باسم القومية العربية نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة في وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولية السلام فتحمي أبناءها اليهود من التعصب ضد السامية ، وبهذا تحل المشكلة ويسود السلام .
ان دعوتنا القومية اذن دعوة سلام في جوهرها ، واننا لمسؤولون قوميا عن تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولون قوميا عن عودة العرب اليهود الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية . ولكننا غير مسئولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوروبي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا . بأن نقيم للصهيونية دولة في أرضنا ، سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا أحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه فان جنحوا الى السلم جنحنا . وان اصروا على البقاء اكرهناهم على العودة الى أوطانهم ونعد لهم ما نستطيع من قوة .
أهي عودة الى شعار القائهم فى البحر ؟
ان هذا لا يتوقف علينا ، ولكن على الطريقة التي يختارونها للجلاء عن الارض العربية . وعلينا أن نكف عن النفاق باسم الانسانية فان الحرب ليست مباراة رياضية بل هي صراع وحشي ومجزرة بشرية . وان كان ثمة من يدعي الانسانية نفاقا فليبحث أولا عن المسؤول عن المجازر البشرية والعرب لم يكونوا أبدا مسؤولين .
في أواخر الحرب الاوروبية الثانية كانت أغلبية اليهود الالمان في سجون النازية . وكانت النازية في مأزق اقتصادي وعسكري لا يمكنها من الابقاء عليهم ، فاتفقت النازية والصهيونية في مفاوضة مباشرة جرت في سويسرا على ترحيلهم من المانيا . وعرض الامر على الحلفاء ، فأحالوه الى لجنة برئاسة اللورد موين الانجليزي . ثم استقر الرأي على أنه بالرغم من مخاطر الابادة الجديدة التي تعدها لنازية للتخلص منهم الا أن ترحيلهم من المانيا سيخفف عنها بعض متاعبها ويعوق انتصار الحلفاء وقرروا جميعا ترك اليهود للموت فأبيدوا بالوحشية التى نذكرها . ونذكر أيضا ان الحركة الصهيونية طاردت من أجل هذا الورد موين حتى قتلته في شوارع القاهرة .
انها الحرب والصهاينة أول من يعلمون هذا ويعاملوننا وفقا له . فاذا كان واحد من العرب قد قال ـ أخيرا ـ اننا سنلقي الاسرائيلين في البحر فليتذكر المنافقون أن الزعيم الصهيوني وايزمان قد قال : ” لا أذيع سرا اذ قلت أننا اتفقنا مع بريطانيا على تسليمنا فلسطين خالية من العرب قبل نهاية الانتداب “. وأن الزعيم الصهيوني جابوتنسكي قال : ” ان فلسطين يجب أن تكون لليهود أما العرب فلهم الصحراء . ان اتباع سياسة اللين مع العرب للتوصل الى اركان الوطن القومي اليهودي في فلسطين ثم اجلاء العرب عنها تدريجيا مع الزمن سياسة مملة يطول شرحها لانه اصبح معروفا لدى العرب ما هي الغايات التي يسعى اليها اليهود ولذلك بات من الضروري مجابهة العرب بالامر الواقع وافهامهم ضرورة الجلاء الى الصحراء “. وأن الزعيم الصهيوني اسرائيل زانكويل قال : ” ان فلسطين وطن بلا شعب فيجب أن تعطي لشعب بلا وطن وواجب اليهود في المستقبل أن يضيقوا الخناق على سكان فلسطين العرب حتى يضطروهم الى الخروج منها ” . وان الزعيم الصهيوني سيملانسكي قال : ” ان فلسطين يجب أن تكون وطنا للشعب اليهودي وأنه من الممكن نقل أهل فلسطين العرب الى الاقطار العربية المجاورة “. وان الزعيم الصهيوني مناحم بيجين قال” : ان مذابح الاسر العربية عمل رائع من أعمال الاستراتيجية العسكرية “. وان الزعيم الصهيوني بن جوريون قال : ” علينا أن نتلقن الدرس بأن الهزائم العسكرية في حد ذاتها لا جدوى من ورائها ما لم يعقبها اجراء فعال وعلينا ان نستخدم الانتصارات العسكرية كأساس للتوطن السكاني الذي لا يمكن اغفاله ” . وأنه فيما بين يومي 11/11/1948 و17/11/1966 أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة ثمانية عشر قرارا بعودة الشعب العربي الى فلسطين فقال الزعيم الصهيوني أبا ايبان : “ حتى لو صوتت الامم المتحدة بنسبة 121 الى واحد فلن نقبل قرارها “ .
لنكف اذن عن ” النفاق” باسم الانسانية فان النفاق لا يخدع أحدا ان الاوربيين الذين يريدون كسبهم نفاقا هم الذين القوا باليهود في الافران الموقدة وليس في البحر . وهم الذين أهلكوا من أنفسهم خمسين مليونا في حربين خلال ربع قرن دفاعا عما يعتقدون أنه حق . وتعلموا من كل هذا أن ضدعوة الحق التي تهرب من حلبة الصراع دفاع عنه دعوة منافقة .
ولنقلها صريحة قاطعة اذا فرض علينا العالم أن نختار بين أن يذهب العرب الى جوف الصحراء أو أن يذهب الصهاينة الى أعماق البحر فليذهب الصهاينة الى أعماق البحر . ولن نكون المسؤولين . بل العالم هو المسؤول .
محاضرة القيت في نادي المحامين في عمان ( الاردن ) يوم 10 اذار (مارس) 1970 .
الحرب الاخيرة .
الآن وقد مضى اكثر من عام على حرب اكتوبر 1973 وهدأت الانفعالات الايجابية والسلبية التي اثارها النصر المحدود الذي تحقق . اصبح من الممكن الحديث عن الحرب التي مضت من اجل الحرب القادمة حديثا هادئا وموضوعيا نضعه تحت انظار جميع الاطراف المعنية ، ونوجهه الى جماهير أمتنا العربية الاصيلة الغائبة.
ما الذي حدث في حرب اكتوبر 1973 ؟
في الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 اكتوبر 1973 اشتبكت جيوش مصر وسوريا مع جيوش العدو الصهيوني في حرب رابعة اكثر ضراوة من الحروب الثلاثة السابقة (1948- 1956- 1967) وان كانت تكرارا لها من حيث هي اسلوب . واستطاعت القوة العربية ان تقتحم القناة وان تدمر خط بارليف وان تطارد جند الصهاينة الى ان توقف القتال بناءً على قرار مجلس الامن رقم 338 الصادر في 22 اكتوبر 1973 . وكما حدث من قبل لم يستجب العدو للقرار الى ان كسب أرضا جديدة انسحب منها بعد ذلك نتيجة مساع دبلوماسية ووقف الامر عند الحد الذي هو عليه الان .
في خلال تلك الحرب تلقت الدول العربية المحاربة اقصى تأييد ممكن من باقي الدول العربية . لم تتخلف دولة عربية واحدة عن الاسهام في المعركة بما تستطيع وتقبل . وبلغ التعاون العربي ذروته. وثبت من كل هذا ان الدول العربية قد اختارت اكثر الظروف ملاءمة لمعركتها الرابعة. نجحت تماما في بناء قواتها المسلحة وتدريبها وتسليحها فأنزلت بالصهاينة خسائر فادحة وأوقفت التفوق "العسكري الاسرائيلي وحطمت هيئة المؤسسة العسكرية الصهيونية وجرعت الآباء والامهات في اسرائيل كؤوس الاحزان التي كانت حتى ذلك الحين مقصورة على شاربيها من العرب. ونستطيع ان نقول انها دست في افئدة كثير من الاسرائيليين بذور الشك في الحل الصهيوني لمشكلاتهم . ثم انها نجحت تماما في كسب الرأي العام العالمي لمعركتها. الصين معها وتتجاوزها . الكتلة الاشتراكية معها وهو كسب قديم . دول اوروبا الغربية على الحياد عامة وهو كسب كبير. دول افريقيا تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل تباعا وهو كسب على اي حال . ولم تبق الا الولايات المتحدة الامريكية التي وضعت ثقلها العسكري في ميزان القوى في ميدان القتال فاعتدل شيئا ما لحساب اسرا ئيل حتى لاذت بحلفها مع الاتحاد السوفيتى تأمران بايقاف اطلاق النار فوقفت النار. والوضع ان لم يكن في صالح الدول العربية تماما ، فهو في غير صالح اسرائيل على وجه اليقين . وهو كسب جديد للدول العربية بالقياس الى الحروب السابقة. ونجحت الدول العربية تماما في استثمار العلاقات فيما بينها وبين الدول الاجنبية، فقدمت الدول العربية كل ما استطاعت وقبلت من عون مالي وزادت دول البترول فقررت تخفيض الانتاج وحجبه عن امريكا وهولنده.... والحصيلة النهائية انها كسرت جمود الموقف السابق على 6 اكتوبر 1973 وجعلت من عام
1973 عامها هي بدلا من عام اوروبا فتلقت وعداً مضمونا من الثنائي السوفيتي الامريكي بتطبيق قرار مجلس الامن رقم 242 وما تزال تنتظر الوفاء بالوعد المضمون .
في ظل الظروف الدولية والعربية التي وقعت فيها حرب اكتوبر، انتصرت الدول العربية على اسرائيل. انتصرت بمعنى انها خططت واعدت وقاتلت وحققت ما تريد من القتال . وهذا نصر بالنسبة الى صاحبه. انه النصر الممكن منسوبا الى الدول العربية. وهذا يعني بوضوح انه اذا كان ثمة من لا يرضيهم ما تحقق في ساحة القتال او على المستوى السياسي فان عليهم ان يسلكوا الى ما يريدون طرقا اخرى لا تمر بالدول العربية وقيود الاقليمية التي تكبلها. ان اي انسان على قدر من الوعي بحقائق الظروف العربية القائمة وبوجه خاص حقائق الاقليمية لا يمكن ان يحمل الدول العربية اكثر مما تحتمل موضوعيا او ان يتوقع منها اكثر مما تستطيع.
والدول العربية في واقعها الاقليمى لا تستطيع الا ان تستثمر امكانياتها المتاحة ماديا وبشريا ودوليا باكبر قدر من الكفاءة . ولا تستطيع ان تحقق من الغايات الا ما يقع في حدود امكانياتها. سواء كان هذا في ساحة القتال أو في مجال التعاون المتبادل فيما بينها أو في خضم الصراعات الدولية وموازينها الثقيلة. وقد استثمرت
الدول العربية امكانياتها بأكبر قدر من الكفاءة . كفاءتها هي وحققت من الغايات ما يتفق مع تلك الامكانيات الموضوعية والذاتية فلا يمكن ان ينكر عليها احد ـ بحق ـ نصرها الذي تم .
نقول هذا لنؤكد امرا ونطرح امرا ثانيا :
الامر الاول انه لم يحدث من الدول العربية تقصير جسيم كان كفيلاً - لو لم يقع - بتغيير النتائج النهائية تغييرا كبيرا سواء في ساحة القتال او في النتائج السياسية التي ترتبت عليه. ان الجزئيات هنا غير ذات اهمية كبيرة في تحديد الصورة النهائية للموقف. فلا ينبغي أن نتجاهل الموقف العام لنسند الى فرد أو مجموعة من الافراد أو دولة أو مجموعة من الدول اخطاء. قد تكون صحيحة ولكنها على اي حال ليست حاسمة. ما وقع كما هو يمثل غاية طاقة الدول العربية المحاربة كما هي في احسن ظروفها. حتى الدول العربية التي لم تحارب لم يكن موقفها السلبى من القتال المسلح بخلا بأرواح رعاياها ولكنه كان تجسيدا لواقعها الموضوعي . انها ببساطة عاجزة موضوعيا عن القتال المسلح. وبالتالي لا محل لفتح أبواب الاوهام الاقليمية من جديد. لو كان فلان غير فلان، لو كان اولئك مكان هؤلاء- لو وقفت هذه الدول ذلك الموقف لاستطاعت الدول العربية ان تحقق اكثر مما حققت. ابدا ما كان يمكن تحت اي ظرف ولن يكون ممكنا تحت أي ظرف ان تحقق الدول العربية اكثر مما حققت في ظروفها الدولية القائمة. لأنها ـ في الواقع ـ قد حققت ما حققت في افضل الظروف توقيتا وتسليحا وقتالا وتعاونا ودبلوماسية .
ان القومية ليست مثالية . والموقف القومي ليس موقفا مثاليا وابعد ما يكون عن الموقف القومي ذلك الموقف المثالي الذي يتوقع من الدول العربية الاقليمية اكثر مما حققت : تحرير فلسطين مثلا او تحدي ارادة الدول الكبرى مثلا آخر ... او الاستمرار في القتال بعد ان صدر اليها امر مجلس الامن مثلا ثالثا ... الخ .
التسوية السلمية التي تتضمن الاعتراف بالوجود الاسرائيلي او بضمان امنها لن تتم . بالرغم من كل المحاولات التي يبذلها المجتمع الدولي عامة وكل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية خاصة وبالرغم من كل النوايا الخفية والمعلنة التي تسعى الى مثل تلك التسوية وبالرغم من كل الاغراءات والانتصارات التي تقدم، او تحققها ثورة الشعب العربي في فلسطين فان الاعتراف بالوجود الاسرائيلي أو ضمان امنها أو فتح المياه العربية لعملها.. الى اخر ما جاء في القرار 242 لن يتم . ان لهذا التأكيد اكثر من سبب وتتصل الاسباب بجميع الاطراف المعنية كما تتصل اساسا بقوى قادرة تماما على ان تحول دون تلك التسوية. وانه لمن مصلحة جميع الاطراف ان يكونوا على يقين من هذا.
الحرب الخامسة اذن قادمة.
قد تشنها اسرائيل تحاول ان تحقق فيها نصرا محدودا يعوض الاثار الداخلية المتردية التي سببتها هزيمتها المحدودة . وقد تشنها دول المواجهة العربية لكسر الجمود السياسي الذي تدفن فيه رويدا رويدا قضية ازالة اثار العدوان . في هذه الحرب المتوقعة ستلقي الدول العربية- مرة أخرى- بخلاصة الشباب من
أمتنا العربية في أتون المعركة. وستستنزف - مرة أخرى- أغلب الطاقات الاقتصادية المتاحة لتحقيق نصر محدود جديد كل غايته أن يمنح من دماء عشرات الالوف من الشهداء، وعشرات الملايين من الجنيهات "حقنة" تقوية لبعض المتسابقين العرب في مضمار المناورات السياسية. كل غايته أن يغذي اوهام الامل في تحرير فلسطين على ايدي الدول العربية ويمد في حياتها حتى يحين حين الجولة السادسة.
لا.
اني أقولها لكل الذين رخص عندهم الانسان العربي الى الحد الذي يدفعون به الى الحروب لا من اجل النصر لأمته ولكن من اجل تقوية مراكزهم في المساومات الدبلوماسية. لا . ان حياة جماهيرنا العربية أغلى بكثير من أن تكون مجرد ورقة في لعبة المناورات السياسية . لا . يكفي الدول العربية ما بددت من طاقات وما أنفقت من أموال وما أهدرت من دماء بحجة أنها تريد تحرير فلسطين . لا . يكفي الدول العربية ما فرضت من قهر على جماهيرنا وما استنزفت من طاقاتها وما أقتطعت من قوتها بحجة أنها تشتبك في صراع مع الصهيونية من أجل تحرير فلسطين . لا . اننا لا نريد أن تحكم إسرائيل جماهيرنا العربية بطريقة غير مباشرة عن طريق "اعتذار" الدول العربية بالصراع ضد اسرائيل لتغطية ما ترتكبه في حق جماهيرنا العربية من جرائم.
ان
من حق شعبنا العربي أن يوقف هذه اللعبة المدمرة والتي كان هو ضحيتها دائما. من حقه أن يحول بكل قوته دون أن تبقى إسرائيل أداة لاستنزاف طاقاته دورياً ، فكلما بنى هدمت ، وكلما نشأ له جيل جديد دخل به حرباً جديدة ، وكلما حاول أن يتقدم توقف ليقاتل معاركه المحدودة . من حق شعبنا العربي أن تكون الحرب الخامسة هي "الحرب الأخيرة" ليتفرغ بعدها لبناء الحياة التقدمية رخاء وحرية .
ان هذا يعني أن تكون غاية " الحرب الأخيرة " ليس مجرد تحريك للقضية على المستوى الدبلوماسي ، ولا إزالة آثار عدوان 1967 ، ولكن استرداد أرض فلسطين للشعب العربي . إذ من وجهة النظر القومية لا نفهم ما يقال له الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا استرداد أرضه المغتصبة . وبمنتهى الوضوح لا يتم هذا إلا بتصفية دولة اسرائيل ، أما ما يتلو هذا من قضايا فرعية مثل مصير البشر الذين جمعتهم الصهيونية على أرض فلسطين أو كيفية التعايش بين الأديان على الأرض العربية فكلها مشكلات ثانوية أو سهلة الحل وليس في التقاليد العربية ما يحول دون الوقوف منها موقفاً انسانياً وحضارياً . المهم أن تكون الغاية الثانية للحرب الخامسة تصفية " الدولة – المؤسسة " التي تجسد السلطة الدخيلة وتحرم الشعب العربي من دولته التي تجسد سيادته المشروعة على ارضه.
واضح ان اسلوب الدول العربية الذي مارسته منذ سنة 1948 وحقق اقصى عطائه في حرب اكتوبر 1973 لن يحقق تلك الغاية لأسباب موضوعية لا يجدي تجاهلها أو المزاودة عليها. اذن فان تغييراً حاسما وجذريا يجب أن يتحقق في الوطن العربي كشرط سابق للنصر في الحرب الخامسة. أول عناصر هذا التغيير واهمها أن تدخل الجماهيرالعربية ذاتها الحرب الخامسة. ان تكون صاحبتها جندا وقيادة وان ترسم هي استراتيجيتها وتخوض هي مواقعها التكتيكية وتعبىء هي مواردها وتوظفها في سبيل أن تكون الحرب الخامسة التي هي حربها الاولى، حربها الاخيرة .
ليست هذه دعوة الى ما يسمى حرب التحرير الشعبية . ان حرب التحرير الشعبية مستحيلة على الارض العربية لسبب بسيط هو أن جيوش الدول العربية تحول ـ بالقوة ـ دون حرب التحرير الشعبية ولكنها دعوة الى قيام دولة واحدة جماهيرية تخوض الحرب الخامسة و الاخيرة. دولة واحدة تضم اقاليم مصر وسورية والاردن وفلسطين . نعم فلسطين . ان هذا هو الاستثمار القومي التقدمي الامثل للاعتراف العالمي بان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. انها الان تملك أن تدخل في وحدة فتصبح فلسطين المحتلة جزءأ من دولة عربية واحدة من حقها تحرير قطعة من ارضها . نقول ان مثل هذه الدولة كفيلة بتحقيق النصر النهائي الحاسم في الحرب الخامسة الاخيرة . ان هذه الدولة لا تحل فقط مشكلات الموازين الدولية الضاغطة ومشكلات التسليح الاسرائيلي الكثيف ، بل ستحل ايضا مشكله " الناس " الذين سيتخلفون على الارض العربية بعد تصفية دولة اسرائيل ، ولن يكون حل مشكلاتهم حينئذ على حساب
الشعب العربي الفلسطيني وحده .
ضد هذه الدعوة ستقدم الدول العربية وأجهزتها الاعلامية مئات الحجج من اول الحساسيات الشخصية الى ضرورة أن تسبق الوحدة دراسات متأنية لاثارها على التجارة والنقد ومناهج التعليم والنظم الاقتصادية... الخ . عندئذ تتبين الجماهير العربية حقيقة موازين الدول العربية. ليس لدى الدول العربية مانع من أن تقاتل بأبناء أمتنا عشرين سنة في معارك محدودة النصر محدودة الهزيمة، وتستنزف طاقاته عاما بعد عام وتحكمه بحجة تحرير فلسطين . ولكن لديها موانع كثيرة من أن تفتح حدودها وتستغني عن مقاعد السلطة فيها وتقبل " هزة " في نظمها التجارية وسعر عملتها ولو من أجل النصر النهائي على الصهيونية. ليس لدى حكام العرب مانع من أن يموت من كل جيل عربي عشرات الالوف من الشباب ، وان يسخر عائد الانتاج العربي في شراء الاسلحة، وان يجوع الشعب العربي ويقهر سياسيا واقتصاديا وفكريا من اجل تحرير فلسطين، ولكن لديهم ألف مانع من أن يفقدوا مراكزهم كحاكمين ولو كان ذلك هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين .
لا.
فلتقل الدول العربية ما تشاء فان دعوتنا ليست موجهة إليها . انها دعوة الى الجماهير العربية في أن تختار بين حروب محدودة متكررة كل عشر سنوات أو اقل أو بين حرب أخيرة تتفرغ بعدها لحياة الحرية والرخاء. ان تختار بين الوحدة وبين التجزئة بين القومية وبين الاقليمية. وهي اذ تختار انما تختار بين النصر والهزيمة.
فلتختر الجماهير العربية الوحدة ، طريق النصر، من أجل أن تكون الحرب الخامسة هي الحرب الاخيرة .
مقال نشر في جريدة السفير البيروتية يوم 20 / 1 / 1975 .
الحياد .. المستحيل ..
لا تكاد توجد في العالم - الآن - قوة نشيطة ليست طرفا في قضية فلسطين . فبالإضافة الى جماهير الأمة العربية - الطرف الأصيل الغائب - ومنظمة تحرير فلسطين ، والدول العربية ، ودولة الصهاينة ومنظمتهم العالمية ، والدولتين المسماتين " الأعظم " ، تشارك كل دول العالم الآخر، وأحزابها ، ومؤسساتها الاقتصادية والإعلامية والثقافية في محاولة إيجاد حل لمشكلة فلسطين .
وسيكون من غير الواقعي توهم أن فلسطين بذاتها كموقع جغرافي قليل المساحة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، أو منظمة تحرير فلسطين أو فصائلها المقاتلة هي التي جذبت إلى الساحة كل تلك الإطراف أو أجبرتها على المشاركة في الصراع الدائر حولها . الواقع غير هذا الواقع . ان السمة القومية الموضوعية لفلسطين مشكلة وحلاً قد فرضت نفسها على كل الإطراف . أعني أن كون فلسطين جزءا من
الوطن العربي وكون شعبها جزءا من الأمة العربية ، وما يعنيه هذا من وحدة موضوعية غير قابلة للانفصام بين الجزء والكل قد فرض على العالم كله ان يكون المدخل الى فلسطين مشكلة وحلا ، مدخلا عربيا وان يكون المدخل الى الأمة العربية سياسيا أو اقتصاديا أو ماليا أو ـ على الأخص ـ بتروليا من خلال فلسطين المشكلة وفلسطين الحل . من هنا نجد ان كل من له مصلحة خاصة أو يأمل أن تكون له مصلحة في أي مكان من الوطن العربي من الخليج الى المحيط يجد أن فلسطين المشكلة قائمة على الطريق الى مصالحه ، وان فلسطين الحل جزء لا يمكن تجاهله من حل مشكلاته الخاصة التي يبحث لها عن حل في الأرض العربية. باختصار ان جاذبية الأمة العربية هي التي فرضت على كل قوة نشيطة في العالم أن تكون طرفا في قضية جزء منها هي فلسطين . أو فرضت عليهم أن ينظروا الى مشكلة فلسطين في إطارها القومي العربي الصحيح .
والغريب أن هذه الرؤية الموضوعية الصحيحة لمشكلة فلسطين أكثر وضوحا خارج الوطن العربي منها في داخله. فكل القوى العالمية ، دولية أو سياسية أو اقتصادية أو دعائية أو حتى عسكرية ، تأخذ الأمة العربية ككل وتتحدث عن " العرب " كمجتمع واحد ، وتخطط وتتحرك على أساس أنها تتعامل مع " أمة واحدة " . وحتى عندما تحاول التركيز على تجزئتها ، وإثارة الخلاف أو تعميقه بين دولها ، فهي تنطلق من التسليم بوحدتها الاجتماعية ووحدة مصيرها الى محاولة تفتيتها . ويحمّلون العرب ـ كعرب ـ مسؤوليات دولية بترولية مع أن البترول غير متواجد إلا في بعض الدول العربية . ويشهّرون بالنمو المالي العربي بينما اغلب الشعب العربي يعيش في دول تعاني من الندرة المالية. ويهدّدون بغزو العرب بدون أن يسمّوا دولة بعينها للغزو . وقد أصبح كل هذا الطابع المميز لموقف دول العالم الى حد ان قد اختفت أو كادت تختفي في العالم كله ، دلالة الانتساب السياسي الى أية دولة عربية. لم يعد العالم يفهم من المصري ، والسوري ، والكويتي ، والليبي ، والجزائري … إلى آخره ، إلا أنه أولاً وأخيراً عربي ويعاملونه على هذا الأساس .
هذا في حين ان الحكومات العربية ما تزال فرحة بأعلامها المزوقة ، وبحدودها المصطنعة وباستقلالها الذي لا تستطيع حمايته . وبثرواتها التي لم تصنعها ، ويساوم بعضها البعض وينافس بعضها البعض ، ويكيد بعضها للبعض ، ويحاول كل بعض منها أن يفلت من المصير المشترك عن طريق الاحتماء بمن يظن أن في يده المصير. ثم إنها كلها تردّد بدون ملل ، وتعلن ما تردّده على العالم كله مؤكدة في كل مرة وكل مناسبة ، أن تقرير مصير فلسطين هو مسؤولية شعب فلسطين وحده ، وأنها وقد اعترفت بمنظمة تحرير فلسطين ممثلا وحيداً للشعب الفلسطيني ، فان على المنظمة أن تكون طرفا أصيلا في أية تسوية ، وان تحدّد هي وحدها ماهية الحقوق المشروعة لشعب فلسطين. وان تقبل ما تقبل وأن ترفض ما ترفض ، وانهم معها في القبول والرفض ومهما يكن مضمون ما تقبله أو ترفضه وعليها وحدها في النهاية أن تتحمل مسؤولية الموقف الذي تختاره.. ويا أيها العالم " الغبي " لا تحمّلوا كل دولة عربية إلا مسؤولية موقفها من " وطنها " وعلى وجه خاص لا تحملوها مسؤولية الموقف الذي يختاره شعب فلسطين .. فنحن لسنا ـ كما تظنون ـ
أمة واحدة .
يمكننا أن نقول أن ليس العالم هو الغبي وان أحدا لن يفلت من مصير أمته. ولكن هذا ليس ما نريد أن نقول .
إنما نريد هنا أن نخاطب ، من مواقعنا ومواقفنا القومية ، كل القوى التي تنشط مشاركة في قضية فلسطين وتبحث لها عن حلول . وخطابنا موجه ـ في الاساس ـ الى الدول " الصديقة " عامة والى الدول العربية بوجه خاص . وبكل إخلاص نتمنى أن ينتبه من نعنيهم الى ما نقول حتى نجنب علاقاتنا مع أصدقائنا مخاطر النكسات وحتى نجنب أمتنا العربية مزيدا من التضحيات. وقد أعذر من أنذر كما يقولون...
ان الصراع العربي الصهيوني دار ويدور منذ أكثر من ربع قرن حول موضوع رئيسي واحد : من هو صاحب الحق في ارض فلسطين ؟ هل هو الشعب العربي الذي كان يقيم فيها منذ عشرات القرون وطرد منها بالقوة منذ عام 1947 وما بعدها ، أم هم الصهاينة الذين غادروا أوطانهم وتجمعوا على أرض فلسطين وطردوا
الشعب العربي منها بالقوة وأقاموا فيها دولة أسموها "إسرائيل "؟.
هذا هو جوهر الصراع . انه صراع على الوطن .
والوطن هنا ليس ـ ولم يكن أبدا ـ كلمة رومانسية فارغة من مضامينها الحياتية والحضارية. الوطن هو الأرض بما فيه من ثروات كامنة ، هو المزارع وحاصلاتها ، هو المصانع ومنتجاتها ، هو إمكانية تقسيم العمل في مجتمع مستقر تتكامل جهود أبنائه لتنميته ، هو الأمن والسلام والاستقرار الذي يسمح للشعب بأن يتفرغ لتوظيف موارده المادية والبشرية المتاحة في وطنه من اجل التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لشعبه. الوطن ليس محل إقامة بل إمكانية تقدم مطرد. وعندما يفقد أي شعب وطنه يتحول الى أفراد مشردين ويفقد كل إمكانيات التطور. من هنا لا يكون الصراع من اجل الوطن مجرد محافظة على تحفة أثرية موروثة من الماضي أو استجابة لشعارات عاطفية بعيدة عن واقع الحياة ، بل هو صراع من أجل إمكان الحياة السوية والتقدم الاجتماعي ، وحتى الكلمات الكبيرة المتداولة – بكثرة - في الحديث العربي عن الوطن والوطنية ، مثل العزة والكرامة والعار وما إليها ليست إلا رموزا لحياة اجتماعية ذات مضامين عينية اقتصادية واجتماعية وثقافية يمثل الوطن وعدا بتحقيقها لكل مواطن فيه . إذن فعندما يُسلب الوطن لا يكون السلب واقعا على ما كان لنا في الماضي فحسب ، بل يكون ـ فوق هذا ـ سلباً لما يمكن أن يكون لنا في المستقبل من فرص التقدم الاجتماعي . انه سلب للمستقبل أكثر منه سلب للماضي ، ولهذا يستحق الدفاع عن الوطن ثمنه الفادح : الحياة نفسها...
في هذا الوعد المستقبلي للتقدم رخاء وحرية المرتبط بالوطن تصبح كل ذرة من تراب الوطن ذات قيمة أصيلة ومتساوية مع كل ذرة أخرى . تستوي في صدق هذا الوعد الجبال الجرداء مع المزارع الخضراء ، بعضها يستمد قيمته من واقع ما يمنح لأبنائه وبعضها يتضمن في أحشائه إجابات غير محددة عن دوره الحضاري المقبل .
لهذا يستحيل على أي شعب في الأرض أن يفرط في أي جزء من أرضه. ومن قبل اندلعت شرارة الحرب الأوروبية الثانية من قرية دانزج واليوم انشق صف المعسكر الاشتراكي وتواجه قوات الصين الشعبية حشود الاتحاد السوفيتي على الحدود بينهما من اجل كيلومترات محدودة من الأرض الجرداء .
وكما ينطبق هذا على كل الأوطان ينطبق على فلسطين .
ان هذا لا يعني أن المسألة تكون دائما معروضة في ساحة الصراع الفعلي على هذا الوجه فالأغلب أن يلف الصراع ويدور ويناور حول فرعيات أو مفردات الحق في الوطن : الحدود ، الأمن ، الإقامة ، نظام توظيف الموارد ، المنافسة على موارد إضافية ، الاستقرار الإنساني ، السلام... الخ. أي ان الصراع يدور عادة حول موضوعات تكتيكية أو جزئية أو مرحلية . ولكنه لا يحسم نهائيا إلا بحسم مضمونه الاستراتيجي . وفي مشكلة فلسطين بالذات استهلكت كل المناورات التكتيكية والقضايا الجزئية خلال الإحداث الدامية التي لم تتوقف منذ ربع قرن ، وأصبحت مفضوحة ـ الآن ـ كل محاولات العودة بالصراع الى تلك الساحات على حساب ماهيته الأصيلة ، واقتربت كل القوى من مواجهة المشكلة على مستواها الاستراتيجي ، وهكذا أصبح المطروح على كافة القوى ان تحدد موقفها من أصل المشكلة وتجيب على السؤال ، الأساسي: لمن تكون ارض فلسطين ، أللعرب ـ كما يسمونهم اليوم ـ أم للإسرائيليين ؟ وأصبح كل طرف ـ عربي بوجه خاص ـ يريد أن يثير إحدى القضايا الجانبية أو الفرعية كقضايا الحدود أو الأمن أو السلام مطالبا بأن يحدد موقفه بوضوح من خلال الإجابة على هذا السؤال الأساس .
وفي الإجابة على هذا السؤال : لمن تكون ارض فلسطين ؟ يسقط الموقف المحايد . انه مستحيل . فالصراع قائم بين طرفين يدعي كل طرف منهما انه ـ وحده ـ صاحب الحق في ذات الأرض . ومن هنا فان الاعتراف بان الأرض من حق الشعب العربي ينفي نفيا صريحا ، حتى لو كان غير معلن ، حق الطرف الأخر فيها ، والعكس بالعكس . فالذين يعترفون صراحة أو ضمنا بأن للصهاينة حقا في أرض فلسطين ينفون نفيا صريحا ، حتى لو كان غير معلن ، حق الشعب العربي في أرضه. ولما كان الحياد مستحيلا فلا يملك أي طرف إلا أن يكون منحازا مع أو ضد أي من الطرفين . الاعتراف بإسرائيل صراحة أو ضمنا ، خفية أو علنا ، ليس موقفا ايجابيا من الصهيونية فقط ، بل هو انحياز لها ضد
الشعب العربي ينقل صاحبه - سواء أراد هذا أو لم يرد ـ الى موقع العداء للشعب العربي إن كان أجنبيا ، ويوقع صاحبه في أفخاخ الخيانة للشعب العربي إن كان عربيا.
وليس الحياد مستحيلا على المستوى الذاتي فحسب ، بل هو مستحيل أيضا على المستوى الموضوعي . فالحل النهائي للمشكلة يجب أن يكون موضوعيا حاسما للمشكلة حسماً استراتيجيا. أعني ان المشكلة لن تحل نهائيا . ولا يسود السلام الذي يتحدثون عنه كثيرا ، إلا بعودة الحق في الأرض الى أصحابه. أما الحلول " المحايدة" التي توفق أو تلفق بين الحق والاغتصاب وتستعلي على الصراع فتساوي بين طرفيه فانه قد يهدئ الصراع مرحليا ، ولكنه سيسقط في النهاية عندما يتجدد الصراع اعنف مما كان . هذا إذا كان من الممكن أصلا توفيق أو تلفيق حل " حيادي " لمشكلة التحرر الوطني . وعندما تحل المشكلة حلها الصحيح بعودة الأرض الى أصحابها يمكن حينئذ ـ وحينئذ فقط وليس قبل هذا- حل المشكلات الفرعية ومنها مشكلة إقامة البشر والأمن والحدود والجوار وتوظيف الموارد ... الخ . أما قبل هذا فمستحيل . وفي هذا الإطار يمكن فهم الطرح العربي لحل مشكلة الإقامة في فلسطين المتحررة الذي حمل عنوان " دولة ديمقراطية " أنها دولة عربية أولا ، تعد ، أو تلزم ، بأن تكون ديمقراطية غير عنصرية ، ولكنها ليست دولة إسرائيلية ديمقراطية وليست دولة مشتركة بين العرب والصهاينة ولو كانت ديمقراطية. وكل تفسير آخر لهذا الحل الذي قدمته الثورة الفلسطينية لمشكلة الإقامة على فلسطين المتحررة وعلى وجه خاص ، كل تحايل باسم الديمقراطية على الموقف الوطني هو محاولة للحياد وهي فاشلة ومعادية إن كانت من مصدر أجنبي ، وهي خيانة ان جاءت من مصدر عربي .
على ضوء هذا نستطيع أن نرى أن كل القوى النشيطة التي تبحث عن حل لمشكلة فلسطين متجهة الى الالتقاء في موقع الفشل المحقق ، لأنها جميعا تتجه الى حل حيادي مستحيل .
أما على المستوى الدولي ، ففيما عدا بضعة دول على رأسها الصين الحليفة المجيدة للشعب العربي كانت الإجابة منذ سنة 1947 على سؤال لمن تكون ارض فلسطين : انها لاسرائيل ، وهو ما يعني تماما أنها ليست للعرب . وضد هذا الموقف بالذات ناضل الشعب العربي وبذل تضحيات هائلة الى ان استطاع ان ينجح في أن يفرض على دول العالم جميعا حقا في الأرض يتحدثون عنه من منطلق الاعتراف به ولكن بدون تحديد ماهيته ومع الإصرار - في الوقت نفسه - على ان لاسرائيل حقا في ذات الأرض . فهو موقف قائم على محاولة إيجاد " حل وسط حيادي " ينهي المشكلة - كما يتوهمون - بتقسيم ارض فلسطين بين أصحابها ومغتصبيها.
أما على المستوى العربي ففيما عدا موقف قديم للرئيس بورقيبة- لم يصر عليه - كانت الإجابة منذ سنة 1947 ان ارض فلسطين ، للعرب وهو ما يعني تماما أنها ليست للصهيونية ومؤسساتها السياسية المسماة دولة اسرا ئيل . وضد هذا الموقف بالذات استعملت كل القوى الدولية - فيما عدا الصين المجيدة وبضعة دول أخرى - كل ما استطاعت من وسائل التأثير الثقافي والدعائي والاقتصادي والسياسي لتقنع العرب ، او تفرض عليهم ، قبول الأمر الواقع - كما كانوا يقولون - دولة اسرائيل على ارض فلسطين. وفي نطاق تحقيق هذا الهدف طرح " الأصدقاء " بدائل من الصداقة والدعم والمساندة وسيلا من دروس الثقافة الواقعية. ولجأ الأعداء الى أقصى أنواع الردع فشنوا على الدول العربية ثلاثة حروب هزموها فيها (1948- 1956- 1967) وحالوا بقوة السلاح دون إكمال نصرها في حرب 1973 . واستطاعوا ان يحتلوا مزيدا من الأرض لتكون موضوعا للمساومة . وتدور المساومة الآن على الأساس الذي يطرحونه : استرداد سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية في مقابل الاعتراف ، الصريح او الضمني ، بالوجود الإسرائيلي على
ارض فلسطين وضان أمنه والتعامل معه على أساس انه إحدى دول " المنطقة " . أي ان الثمن المطلوب هو تقسيم فلسطين بين أصحابها ومغتصبيها. وهو ذات الحل الحيادي الفاشل الذي تراجعت اليه الدول الأخرى .
ولا يمكن ان يخطئ أي مراقب للموقف العربي حركة الدول العربية وهي تتجه الى حيث تلتقي مع " الآخرين " من غير العرب في موقع الفشل هذا. فهي قد انتقلت ، او تراجعت ، من موقف يصر على ان ارض فلسطين للعرب الى موقف يتحدث عن الحقوق المشروعة لشعب فلسطين بدون تحديد ماهية تلك الحقوق . وهي قد انتقلت ، او تراجعت ، من موقف يطرح المشكلة على حقيقتها الإستراتيجية من حيث هي مشكلة تحرر وطني ، الى موقف يستبدل بالأصل فرعياته ، وبالأهداف الإستراتيجية أهدافا تكتيكية وأصبح الصراع يدور ويلف ويناور حول الأمن والحدود والضمانات الدولية والتعايش والسلام ... بل ان التقسيم - تقسيم ارض فلسطين بين أصحابها ومغتصبيها - قد طرح كحل مقبول من أكثر من جهة عربية .
وهكذا يوشك الحل الحيادي الفاشل ان يتحقق ، او هكذا يعتقد أطرافه.
ونحن من مواقعنا ومواقفنا القومية ، نحذر فنقول ان هذا الحل قد لا يتحقق أصلا كما تتوقعون فإننا لا نحسب الساحة العربية خالية من القادرين على منع تحقيقه ، فلا تربطوا أنفسكم بحل فاشل ان كنتم أصدقاء ولا تعرضوا صداقتكم التي نعتز بها ونريد ان ننميها للعثرات ، وان كنتم عربا فلا تعرّضوا أمتكم لمزيد من التضحيات ، ذلك لان مثل هذا الحل الوسط الحيادي لا يحسم القضية ولن يكون - اذا وقع - الا بداية صراع مرير ودام على الأرض العربية .
وفي مواجهة هذا التحذير ترتفع أصوات من الجانب العربي ، ومن جانب الأصدقاء أيضا - متسائلة - وبحق - اذن ماذا نفعل ؟.. هل ندخل حربا ضد العالم اجمع ؟.. هل نترك الأرض تحت الاحتلال الإسرائيلي لتغير واقعها وتهوّدها ؟.. هل نترك ما هو ممكن في سبيل مستقبل لا نعرف حتى ما اذا كان قابلا للتحقيق أم لا ؟.. ويضيفون بعصبية ساخرة: ان هؤلاء القوميين لا يفعلون شيئا الا التشدق بالكلمات الكبيرة وترويج الأوهام وتضليل العامة من الناس ولا يقدمون حلولا واقعية لمشكلات واقعية ويجهلون جهلا تاما علم السياسة الذي هو علم تحقيق الممكن وليس علم صياغة الكلمات ؟
إذن ، فيا أيها الإقليميون ، استمعوا الى ما نقول ، ولنهبط جميعا لنتحاور على ارض الواقع حتى لو كان مرا. اننا لن نفرض عليكم او نتوقع منكم أفكارنا او مواقفنا ولن نحاول ان نقنعكم بوسائلنا لحل مشكلة فلسطين ، إننا ان نفعل هذا نكون مثاليين . والمثالية كما تقولون هي إرادة غير الممكن موضوعيا.
ولكنا نقدم إليكم الحل الممكن طبقا لأفكاركم انتم ومواقفكم انتم ، لنثبت لكم أولا ان ثمة مواقف ممكنة بالنسبة إليكم ولكنكم لا تفعلونها ، وأنكم في مواقفكم الحالية لا تلتزمون حتى أفكاركم ومنطقكم انتم ، ثم نضع أمامكم السؤال الكبير الخطير: لماذا تختارون - من بين كل الممكنات - الموقف الوحيد الذي تنحازون فيه ضد حق الشعب العربي في أرض فلسطين ، ولماذا تصرون على هذا الموقف . وهو لا يتفق مبدئيا مع أفكاركم ومنطقكم ؟…
يقوم الموقف الإقليمي على أساس الاعتراف بتجزئة
الوطن العربي الى دول واستقلال كل دولة منها بأرضها ، وبشعبها وبسيادتها على الأرض والشعب. استقلالها عن كل دولة أخرى سواء عربية أو غير عربية . وعلى المستوى الدولي يعتبر استقلال الدول أرضا وشعبا وسيادة حجر الزاوية في البناء القانوني للعلاقات الدولية ، استقلالها عن غيرها وتترتب على هذا نتائج تحدد أنماط السلوك " المشروع " في العلاقات الدولية ، أهمها قاعدة مستقرة - بمعنى ان أحدا لا ينكرها حتى لو حاول مخالفتها - هي ان سيادة كل دولة محدودة بالأرض القائمة عليها وبالشعب الذي يحمل جنسيتها (هويتها) ، وان تلك السيادة لا تمتد ، ولا يجوز ان تمتد خارج تلك الحدود. ويسمون محاولة مد تلك السيادة الى خارج حدودها " عدوانا " او " تدخلا في شؤون الغير "، الخ ولهذه القاعدة وجهها الأخر المعبر عنه بحق تقرير المصير. فحق تقرير المصير ليس حقا " داخليا " يمنح شعبا بعينه سلطة تقرير ما يريد ، بقدر ما هو حق " خارجي " يمنح كل شعب سلطة رفض التدخل في شؤونه ويلزم الآخرين بعدم هذا التدخل .
في إطار هذه القواعد التي يعترف بها كل الأطراف المعنيين بحل مشكلة فلسطين يتحدد " الممكن " سياسيا ودوليا. وهو ممكن لانه- على الأقل- مشروع وتجاوزه غير مشروع . وفي إطار هذه القواعد اختارت الدول العربية
للشعب العربي في فلسطين ان يكون مسؤولا عن تقرير مصيره وتعلن وتكرر ان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الوحيد لشعب فلسطين . كما اعترفت الدول بهذا ولو ضمنا عندما استقبلت قائد المنظمة في هيئة الأمم وأعطت الشعب الفلسطيني مقعد المراقب. وترتب على هذا التزامها بعدم التدخل في شؤون فلسطين . أي ان الدول العربية وغالبية دول العالم اختارت وأعلنت استقلال الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره ، فاختارت وأعلنت في الوقت نفسه استقلالها عن فلسطين أرضا وشعبا.
فليكن ما داموا يصرون .
أين هو اذن الموقف الممكن الذي يتفق مع هذا المنطق " الاستقلالي " دوليا " الإقليمي " عربيا ؟.. لا يحتاج الأمر الى عناء كبير لنعرف انه الموقف الذي يلزم كل دولة حدود سيادتها ويحول دون مدها الى ارض فلسطين . بوضوح أكثر انه موقف يتلخص في ان تكف كل الدول- أجنبية او عربية- عن "تشكيل" مصير فلسطين أرضا وشعبا وتنتبه الى مشكلاتها الخاصة وتلتزم بحدود سيادتها. فلا تتحدث عن ، ولا تساوم او تقايض على، ولا تقسم او تمنح أرضا غير أرضها لمن تشاء في مقابل ما تريد من مصالح تحررية او اقتصادية او مالية او سياسية بأكبر قدر من الوضوح ، انه في " نطاق القواعد السابقة الاستقلالية دوليا والإقليمية عربيا ، لا تكون ارض فلسطين ملكا أو تحت سيادة او خاضعة لإرادة اية دولة عربية او غير عربية ، وبالتالي يمتنع عليها جميعا ان تُدخل مصير فلسطين في حسابات مصالحها وان تمد إرادتها او سيادتها الى ارض فلسطين .
ولنترجم هذا الى موقف " عملي "...
ونخص بالترجمة الدول العربية...
ان لبعض الدول العربية أرضا تحتلها اسرائيل . وبكل منطق بما فيه المنطق الوطني الإقليمي لا بد لهذه الدول من ان تسترد أرضها بالوسائل المناسبة لها . الوسائل المناسبة لها اي التي تدخل أولا في نطاق حقوقها المشروعة كدولة مستقلة وتدخل . ثانيا في نطاق إمكانياتها المتاحة . لا اعتراض على هذا أبدا . والتخلي عن استرداد : الأرض ، او تركها ، او التنازل عنها يمثل خيانة بكل معنى الخيانة الإقليمية . وفي سبيل هذا تستطيع الدول العربية - اذا شاءت - ان تلزم نفسها بحدودها هي ، وان تنزع تسليح جزء من أرضها ، وان تتعهد وتقبل بكل الضمانات التى تريدها او تفرض عليها حتى لا تتجاوز حدودها عسكريا ، ولا تحاصر أحدا اقتصاديا ، وحتى ان تفتح مياهها او أجواءها أو حدودها لمن تشاء ... كل هذا ممكن من حيث هو يتفق مع الموقف الاستقلالي دوليا الإقليمي عربيا ... لان كل هذا يكون استعمالا لسيادة الدولة على أرضها وشعبها وتقع مسئولية قبوله او رفضه على شعبها .
ولكن غير الممكن هو ان تمد أية دولة إرادتها الى ما يتجاوز سيادتها فتقول ان تلك الأرض التي هي خارج حدودي ليست ملكا لهذا الشعب بل ملك للآخرين مع ان كليهما لا ينتميان اليها- كدولة- سياسيا . غير الممكن بمنطق الاستقلال الدولي والإقليمية العربية ان تعترف أية دولة ، صراحة أو ضمنا ، بالوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين . بما يعنيه هذا ويتضمنه من ان ارض فلسطين ليست من حق
الشعب العربي . من غير الممكن بمنطق الاستقلال الدولي والإقليمية العربية ان تتدخل دولة في شؤون فلسطين فتتجه إرادتها الى ارض خارج نطاق سيادتها فتقسمها بين أصحابها ومغتصبيها .. من غير الممكن ان تسترد أية دولة عربية أرضها ، او تحصل اية دولة غير عربية على ما يحقق مصالحها الاقتصادية او السياسية او المالية او الثقافية او حتى الدعائية مقايضة على ارض خارج نطاق سيادتها هي ارض فلسطين .
لمن الأرض التي تسمى فلسطين ؟ أللشعب العربي أم للصهاينة ؟..
الإجابة الوحيدة الممكنة بالنسبة إليكم ايها السادة الأصدقاء وأيها الإخوة الحاكمون في الدول العربية ، طبقا لمنطلق الاستقلال الذي تتمسكون به ، هو ألا تجيبوا أصلا ، اذا كنتم أصلا لا تريدون ، أو لا تستطيعون في الظروف القائمة ، ان تقولوا أنها للشعب العربي . ولكم في هذا حجة على من يطلبه منكم هي أنكم- بحجة استقلالكم - لا تستطيعون ، وليس من حقكم ، التدخل في شؤون فلسطين. ونشهد ان الاعتراف الصريح او الضمني بإسرائيل محرم عليكم ، وفيما عدا هذا افعلوا ما شئتم لاسترداد أرضكم او تحقيق مصالحكم ولكل حكومة شعب هو المسؤول النهائي عن القرارات التي تتخذها حكومته ثم يبقى السؤال موجها لأصحابه فقط ، ويتحمل الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير التي تمثله مسؤولية الإجابة عليه . وكل الأطراف التي يحرضونها الآن على ان تجيب اعترافا ضمنيا بصحة ما نقول ولكن عليها ان تتذكر . ان " الحياد" مستحيل بالنسبة اليها كما هو مستحيل بالنسبة الى غيرها ، كل ما في الأمر أنها لا تستطيع أن تمتنع عن الإجابة وليس لها في الجواب خيار فإما ثورة حتى النصر وإما الخيانة ...
كل هذا والخطاب إلى كل الأطراف المعنية بحل مشكلة فلسطين ، وفي نطاق أفكارهم ومنطقهم ومواقفهم ، أما القوى القومية التقدمية - الممثلة الوحيدة لجماهير الأمة العربية - فان لها من المشكلة أفكارا ومنطقا ومواقف أخرى ليس هنا موضع الحديث عنها .
مقال نشر في جريدة السفير في 3 / 3 / 1975 .
التقدم على الطريق المسدود .
ـ 1 ـ
منذ حرب تشرين ( اكتوبر )
1973 والثورة الفلسطينية تتقد وتكسب مواقع جديدية . على المستوى العربي تقدمت في مؤتمر الرباط فاعترفت الدول العربية بان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب للفلسطيني وكسبت " صلاحية " ما قد يتحرر من
الاراضي المحتلة وصححت التسليم " الواقعي " الذي حدث سنة 1948 يوم ان اقتسمت فلسطين بين دول عربية وبين الصهاينة . وعلى المستوى الراي العام العالمي اصبح مسلما – او يكاد يكون مسلما – ان اي حل لمشكلة السلام في الشرق الاوسط لا يمكن ان يتم في غيبة منظمة التحرير الفلسطينية . و
ان للشعب الفلسطيني حقوقا مشروعة حتى من دون تسمية تلك الحقوق المشروعة . وتعمر صحف العالم جميعا التي كانت تنكر من قبل وجود الشعب ذاته بنقد موقف اسرائيل غير الواقعي ، الرافض المفاوضة مع منظمة تحرير فلسطين . وعلى المستوى المجتمع الدولي تقدمت الثورة الفلسطينية في مواقع لم تسبقها اليها اي حركة تحرير اخرى . فقد قررت الجمعية العامة للامم المتحدة دعوة المنظمة لالقاء كلمتها في المناقشة المفتوحة حول قضية فلسطين . وذهب ابو عمار والقى كلمته التاريخية وعومل معامل رؤساء الدول طبقا " لبروتوكول " المنظمة الدولية . وتقدمت الثورة الفلسطينية فاخذت مقعد المراقب في هيئة الامم المتحدة .
بعكس ما يقال تمثل كل تلك الخطوات مكاسب حقيقية
للثورة الفلسطينية . وتتضح سماتها كمكاسب من خلال مقارنتها بالمواقع التي سبقتها وليس قياسا بالآمال التي لا تزال معلقة على مستقبل الصراع مع القوى المعادية للثورة . ان الشعب الذي طالما انكر الصهاينة وجوده وتجاهل المجتمع الدولي ماهيته كشعب قد اسقط عنه عنوان " اللاجئين " وفرض وجوده على منكريه ومتجاهليه . والارهابيون من قبل قد اعترف لهم بانهم ثوار من اجل التحرر كما كانوا منذ البداية . والقضية التي حاولت قوى كثيرة حصرها في نطاق الامن والحدود قد فرضت حقيقتها فاعترف بانها قضية ارض ووجود . الخ .
كل هذه مكاسب وخطوات متقدمة بالمقارنة بالبداية المتواضعة لحفنة من الشباب بدأوا الثورة مطلع عام 1965 .
من ناحية اخرى فان
هذه المكاسب والخطوات المتقدمة لم تمنح للثورة الفلسطينية تبرعا من أحد . لقد قدم
الشعب العربي ضحايا بشرية واقتصادية هائلة ليفرض على كل الأطراف إفساح الطريق
لمسيرته المتقدمة . بل نستطيع ان نقول ان الشعب العربي الفلسطيني قدم من التضحيات
البشرية حتى الآن ما يتجاوز بكثير ما قدمته أية ثورة أخرى بالنسبة الى حجمه وظروفه
. ولعله الشعب الوحيد الذي كانت ضحاياه من البشر في الخطوط الخلفية لثورته أضعاف
ضحاياه في صدامه القتالي مع أعدائه في خطوطه الأمامية . ومع ذلك فإنها ـ كلها - ضحايا
قدمتها الثورة من اجل ان تبقى وتنتصر .
ويجادل
كثيرون في استحقاق النشاط الثوري لما كسبت الثورة من مواقع متقدمة .
يقولون
انما هي مغريات تقدم الى الثورة في مساومة صامتة تستدرج بها الى مواقع التسليم والتصفية
. ان هذا الرأي - على إطلاقه - غير صحيح . ولكنه لا يخلو من صحة . فلا شك في ان التراجع
للاستدراج الى مواقع أفضل للصراع خطة تقليدية في كل صراع . ولا شك في أن القوى المعادية
في الأصل للثورة ، والقوى المتفقة مع الثورة مرحليا وتكتيكا ولكنها معادية
لأهدافها الإستراتيجية قد ترى ـ معا - ان التراجع التكتيكي أمام الثورة ، أو
السماح لها بكسب مواقع محدودة ، وسيلة فعالة للوصول بالثورة الى مأزق لا تملك فيه
الا التنازل عن أهدافها الإستراتيجية . اعني لا تملك فيه الا قبول الهزيمة والتسليم
. غير ان المكاسب والخسائر في الصراع الثوري لا تتوقف على مجرد النوايا . لا نوايا
المتقدمين ولا نوايا المتراجعين . بل العبرة في كل مرحلة بما يتحقق عينيا وواقعيا
في ساحة الصراع ولكل طرف ان يحتفظ بنواياه أو يجترها بدون أن يكون ذلك ملزما للطرف
الآخر (١) .
ثم ان
مجرد التجاء القوى المعادية للثورة الفلسطينية استراتيجيا الى أسلوب التراجع أمامها
وتمكينها من التقدم بدلا من أسلوب التصدي لها ايجابيا ودفعها الى التراجع لا يمكن
ان يكون اختيارا متبرعا به من القوى المعادية . ان اقل ما يمكن أن يقال هو ان
الثورة الفلسطينية قد استطاعت ان تفرض على القوى المعادية أسلوبا جديدا يسمح لها
بالتقدم ولو خطوة واحدة بدلا من الصمود أو التراجع . ويوم أن تفرض الثورة ، أيثورة ، على أعدائها التخلي عن أسلوب في الصراع واختيار أسلوب آخر تكون قد كسبت
وحققت تقدما لا يستهان به .
وحتى لوصدق ما يقال من أن ما حققته الثورة الفلسطينية من مكاسب على المستوى العربي
والدولي ، يرجع الى إرادة القوى المعادية لأهدافها الإستراتيجية استدراجها
وتوريطها في مأزق لا تملك فيه الا أن تستسلم فانه من المثالية الفاشلة ان ترتبط
إرادة الثورة بإرادة أعدائها ارتباط رد الفعل بالفعل الأصيل . ومن أمثلة تلك
المثالية الفاشلة أن يقال للثورة لا تتقدمي الى مواقع جديدة لان العدو هو الذي
تراجع عنها استدراجا أو توريطا . إنما على الثورة أن تتقدم وتضع قدميها في كل مكان
يتسع له ثم تستثمر تقدمها المرحلي لخدمة المرحلة التالية طبقا لخطتها الإستراتيجية
بصرف النظر عما تريد القوى المعادية . ان الثورات التي تستحق النصر لا يمكن أن تفقد أصالتها الثورية وتصبح في حركتها تابعة لمخططات القوى المعادية . ان الثورة
فعل ايجابي دائما وهو ما يعني أن لها خططها الخاصة المنضبطة بأهدافها الإستراتيجية
غير المتوقفة على نوايا العدو .
من هنا
نقول ان الثورة الفلسطينية قد حققت - حتى الان - مكاسب هامة وتقدمت خطوات لا يمكن
إنكار قيمتها قياسا على مواقعها ومواقفها ، ومواقع ومواقف أعدائها ، السابقة على ما
تم منذ تشرين ـ أكتوبر . ومن يشك ـ بعد - في أن الثورة الفلسطينية تكسب وتتقدم
عليه أن يراجع مواقف ومواقع العدو الآن ويقارنها بمواقفه ومواقعه السابقة على
تشرين " اكتوبر " ١٩٧٣ فإن ابسط المقاييس هي أن كل هزيمة للعدو هي انتصار للثورة .
كل هذا -
فيما نعتقد - صحيح أو يمكن الاتفاق عليه لأنه واقع متعين ، ثم يبقى السؤال الأهم :
الثورة الفلسطينية تتقدم ، نعم ، ولكن الى أين ؟
ان
الإجابة على هذا السؤال لا تهم الثورة الفلسطينية وحدها بل تهم الأمة العربية كلها
.
وهو سؤال تبلغ
جديته وخطورته حدا لا يسمح بتجاهله . ان تجاهله قد يؤدي الى إغراق أكثر من قطر
عربي في بحور من الدماء لا يستطيع أحد منذ الآن أن يتنبأ بمن سيغرقه طوفانها .
وذلك لان وراء كل الأطراف النشطين على مسرح الأحداث العربية حاليا شعبا عربيا
متوتر الانتباه لن يسمح لأحد ، أي احد ، بأن يشتري سلامته الشخصية أو سلامة أي ارض
عربية مقايضة مع العدو بأرض فلسطين أو بجزء من أرض فلسطين . ولا نبالغ اذا قلنا ان مسؤولية هذا المصير الدموي ، ومسؤولية تجنيب الشعب العربي أهواله وعذابه ، يتوقف بالدرجة الأولى على موقف الثورة الفلسطينية من المستقبل القريب .
من هنا فان
الشعب العربي يقف من الثورة الفلسطينية - في هذه المرحلة – موقفا واحدا ذا وجهين :
الوجه الأول : التأييد الكامل لكل خطوة دعائية أو سياسية
أو اقتصادية أو عسكرية تكسب للثورة
موقعا متقدما على المستوى الدولي . انه يدعم ويبارك تقدم الثورة على طريقها الطويل
ولو كان تقدمها معنويا فقط . انها كلها مكاسب لا بد من أن تؤخذ ولا يجوز التفريط
فيها لأي سبب لا يتناقض مع الهدف الاستراتيجي للثورة : استرداد أرض فلسطين .
الوجه الثاني : رفض وإدانة ومنع (بالوسائل المناسبة)
التنازل الصريح أو الضمني عن الهدف الاستراتيجي للثورة مقابل الحصول على انتصارات
تكتيكية أو مرحلية . اعني رفض وإدانة ومنع (بالوسائل المناسبة) تصفية الثورة .
ان لهذا
الموقف الواحد ذي الوجهين أسسا عقائدية لن تزعزعها كل قوى العالم ولن يستطيع أحد
ان يناور عليها أو يلتف حولها . خلاصتها انه لا الشعب الفلسطيني ممثلا فى منظمة تحرير فلسطين ولا الشعب العربي كله ولا الدول العربية مجتمعة أو منفردة تملك حق التصرف في أرض فلسطين . انها جزء من الوطن العربي تملكه الأجيال المتعاقبة من الشعب العربي
كله ولا يملكه أحد ليتصرف أو يساوم عليه .
ثم نقول :
ان الوجه
الأول من الموقف هو المطروح في هذه المرحلة . ان الثورة الفلسطينية تكسب وتتقدم وبالتالي
تستحق الدعم والتأييد . ولكن الثورة الفلسطينية لم تتجاوز مكاسبها التكتيكية الى أي تنازل صريح أو ضمني عن هدفها الاستراتيجي . من هنا فإننا لا نستطيع أن نفهم
موقف من يسمون أنفسهم " جبهة الرفض " الا على أساس انه موقف من "
نوايا " تتصل بالمستقبل ، وليس موقفا من واقع متعين في الحاضر . ولقد قلنا من
قبل ان المكاسب والخسائر لا تتحقق بالنوايا ولكن بالواقع المتعين . لهذا فان الشعب
العربي لا يستطيع - من ناحية - حجب تأييده لما تحققه الثورة الفلسطينية استنادا
الى الاتهامات الموجهة الى " النوايا " ولا يستطيع - من ناحية أخرى ـ أن
يقبل من الثورة الفلسطينية مجرد " النوايا " ضمانا
للمستقبل .
وهذا هو
بيت القصيد .
والحديث
موجه الى القادة والكوادر والقواعد المقاتلة في الثورة الفلسطينية . لقد تقدمت الثورة
الفلسطينية الى موقع الاعتراف العربي الكامل بمنظمة تحرير فلسطين للشعب الفلسطيني
ولكن هذا الاعتراف كان مصحوبا بتحميل الثورة الفلسطينية وحدها مسؤولية تقرير مصير
فلسطين . وهو ما يعني تماما التخلي عن مسؤولية الإسهام في تقرير مصير فلسطين بالأسلوب
الذي اختارته الثورة . وتقدمت الثورة الفلسطينية الى موقع كسبت به صلاحية تلقي أي ارض تتحرر وإقامة سلطة وطنية عليها ، ولكن الأرض المقترح تقديمها الى الثورة
الفلسطينية ذات حدود مع باقي فلسطين مطلوب أن تضمن السلطة الوطنية أمنها . وتقدمت
الثورة الفلسطينية الى موقع كسبت به إجماع الرأي العام العالمي على استحالة استقرار
السلام في " الشرق الأوسط " في غيبة الشعب الفلسطيني ، ولكن هذا الرأي
العام العالمي نفسه ما يزال يجمع على أن ذات السلام الذي لن يستقر في غيبة الشعب
الفلسطيني لن يستقر أيضا الا بقبول الوجود الإسرائيلي في فلسطين . وتقدمت الثورة الفلسطينية
فكسبت مقعدا لمراقب في هيئة الأمم المتحدة وعومل قائد الثورة فيها معاملة رؤساء
الدول ، ولكن هيئة الأمم المتحدة تعطي إسرائيل فيها مقعد العضوية لا مقعد المراقب
وتعامل رئيس دولة الصهاينة ـ لو ذهب إليها -
معاملة رؤساء الدول أيضا .
لقد فتحت
الثورة الفلسطينية الطريق وتقدمت عليه وحققت مكاسب لا يمكن إنكارها أو فرضت الثورة
الفلسطينية على القوى المعادية أن تفسح لها الطريق فتقدمت عليه وحققت مكاسب لا
يمكن إنكارها . يستويان في الحاضر ولكن المستقبل يختلف . ان ذات القوى المعادية للأهداف الإستراتيجية للثورة قد أقامت في نهاية الطريق سدا معلوما ومعلنا أساسه الاعتراف الصريح أو الضمني بإسرائيل أو ضمان أمن حدودها ، أي تصفية الثورة .
ان الثورة
الفلسطينية تتقدم ولكن على طريق مسدود .
وغدا أو
بعد غد ، ستصل خلال تقدمها الى السد .
ولن يقول أحد انه قد فوجئ فان كل شيء مفضوح . فما الذي ستفعله الثورة حينئذ ؟
انه سؤال
صعب . صعب الة درجة أن قوى كثيرة تجزع من مجرد مواجهته . اعني أنها تفضل التوقف من
الآن قبل أن تصل الثورة الى مواجهة التحدي التاريخي الذي يمثله هذا السؤال . قبل
أن تصل الى السد القائم في طريقها . وهو أصعب بكثير من أن تترك الإجابة عنة للظروف
بمنطق ، سنرى حينئذ ماذا علينا أن نفعل . ولا ترجع صعوبته الى مجرد انه سؤال مصيري
يتوقف عليه مصير الثورة ذاتها أو مصير كثير مما هو قائم الآن في الوطن العربي ، بل
يضاف الى هذا ان كل القوى التي تراجعت أمام الثورة حتى الآن ستدير ظهرها الى السد
وتواجه الثورة من موقف عداء سافر . ان الذين مهدوا من قبل للتخلي عن المسؤولية سيقفون بعيدا ويقولون للثورة قرري أنت مصيرك فان " الشعب الفلسطيني مسؤول عن تقرير
مصيره " . واللذين اعترفوا بوجود الشعب الفلسطيني سيقولون له قد
آن الأوان لتعترف بالوجود الإسرائيلي . والذين استقبلوا قائد الثورة في هيئة الأمم
المتحدة وقدموا للثورة مقعد المراقب سيطلبون من الثورة أن تلتزم بميثاق هيئة الأمم
٠" فلا تستولي على الأرض بالقوة " وتحترم قراراتها التي
تعترف بالوجود الإسرائيلي . باختصار عند السد ستكون الثورة الفلسطينية مطالبة "
بالثمن " من الأعداء والحلفاء والأصدقاء وعلى المستوى الرسمي العربي والدولي
. وفى مواجهة كل هؤلاء سيكون عليها أن تجيب على السؤال الصعب .
ماذا تفعل
؟
واضح ان الأمر أكثر جدية وخطورة من أن يقول لنا الثوار : ثقوا فينا وفي إرادتنا الثورية فسنتخطى هذا السد أيضا كما تخطينا من قبل سدودا كثيرة . ان أحدا لا يستهين بإرادة الثورة
الفلسطينية أو يشك في نواياها . ولكن المكاسب والخسائر لا تتوقف على النوايا وحدها
بل على المعطيات العينية . ولا يمكن لأحد أن يزعم أن إرادة الثورة وهى تواجه كل
أعدائها وأصدقائها وحلفائها السابقين ستكون بمثل النفاذ الذي كان لها يوم أن كانت
تواجه أعداء على خطوطها الخلفية . لهذا فان الشعب لا يقبل رهان المستقبل على ثقته
بالثورة . ويكون على الثورة – لكسب رهان المستقبل - أن تحول إرادتها ومن الآن الى
معطيات تتراكم وهي تتقدم حتى اذا ما بلغت السد كانت قادرة على اقتحامه ومواصلة
مسيرتها " ثورة حتى النصر " .
ما هي تلك
المعطيات ، وكيف تتحقق ، وكيف تتراكم حتى تصبح من القوة بحيث تمكن الثورة - غدا أو
بعد غد - من اقتحام السد القائم على طريقها ومواصلة مسيرتها ، ثم ، أين تتحقق تلك
المعطيات ، في قوى الثورة أم في الأرض المحتلة أم في الأرض العربية أم على المستوى
الدولي ؟.. كل هذه الأسئلة والأجوبة الصحيحة عليها تحتاج الى دراسات علمية أكثر
عمقا من أية دراسة وتحتاج الى جهود مكثفة أكثر ثورية من القتال المسلح ذاته .
والانشغال بها ـ بعد - هو المحك الحقيقي لفرز الثوار حقا من أدعياء الثورة . وانه
لأجدى ألف مرة ، من اجل تحرير فلسطين ، ان يساند الثورة في مسيرتها وهي تتقدم نحو
السد بما يساعد على اقتحامه من أن تطوق ومنذ الآن بحزام " الرفض " الذي
يضعف مقدرتها على مواجهة التحدي التاريخي الذي ينتظرها .
ـ 2 ـ
غدا أو
بعد غد .. كل القوى التي تراجعت أمام الثورة " الفلسطينية " حتى الآن
ستدير ظهرها الى السد وتواجه الثورة من موقف العداء السافر . الذين مهدوا من قبل
للتخلي عن المسؤولية سيقفون بعيدا ويقولون للثورة قرري أنت مصيرك فان " الشعب الفلسطيني مسؤول عن تقرير مصيره " . والذين اعترفوا بوجود الشعب الفلسطيني
سيقولون له قد آن الأوان لتعترف بالوجود الإسرائيلي والذين استقبلوا قائد الثورة
في هيئة الأمم المتحدة وقدموا للثورة مقعد المراقب سيطلبون من الثورة أن تلتزم
بميثاق هيئة الأمم المتحدة " فلا تستولي على الأرض بالقوة " وتحترم
قراراتها التي تعترف بالوجود الإسرائيلي . باختصار عند " السد " ستكون
الثورة الفلسطينية مطالبة " بالثمن " من الأعداء والحلفاء والأصدقاء
وعلى المستوى الرسمي والعربي والدولي ، وفي مواجهة كل هؤلاء سيكون عليها أن تجيب
على السؤال الصعب ، " ماذا تفعل
" ؟.
تلك هي
المحصلة المتوقعة " اذا " ما تطورت الظروف تلقائيا بدون تدخل ثوري يغير مسيرة
تطورها. ونعني بالظروف المعطيات الموضوعية في الثورة الفلسطينية نفسها وفى العالم العربي
والدولي .
ومن هنا
يتحدد الواجب الأساسي للثورة في هذه المرحلة . الواجب الذي يلزم إعطاءه أولوية
مطلقة على كل الواجبات المرحلية الأخرى . انه على وجه التحديد العام ، استثمار كل الإمكانيات
المتاحة لتطوير الظروف ، ظروف الثورة . وظروف العالم العربي والظروف الدولية بقصد تحقيق
أمرين :
الأول : الحيلولة دون أن تصل الثورة الى غاية
الطريق المسدود ، اما بتحطيم المجهودات التي تتجمع لتقدم سدا على طريقها أو بشق
طرق احتياطية تستطيع الثورة أن تنفذ منها مستأنفة مسيرتها بدون حاجة الى مواجهة كل
القوى في نقطة تجمع واحدة .
الثاني
: تنمية إمكانيات الثورة بحيث تكون -
في اللحظة الحاسمة - قادرة على تحدي كل القوى التي تتجمع لتسد عليها طريقها الى
غايتها الإستراتيجية .
والأمران
متكاملان في أسلوب تحقيقهما . فمن خلال النضال الثوري ، اليومي ؛ وعلى كل المستويات
لتحقيق الامر الأول ، تنمي الثورة إمكاناتها الكفيلة - في اللحظة الحاسمة - بتحقيق الأمر
الثاني ، وخلال كل هذا تغير الثورة ـ أو يمكن ان تغير - ظروفها أو ظروف العالم
العريي والظروف الدولية أيضاً .
أما عن
ظروف الثورة فتنقسم الى قسمين :
1ـ ظروف داخلية تتمثل في قواها البشرية
وتوزيعها على النشاطات العسكرية والسياسية وعلاقاتها فيما بينها وبين قواعدها
الجماهيرية ، ومقدار ما هو متحقق فيها من وحدة وانضباط وديمقراطية . وهي ظروف كما
تبدو للكثيرين سيئة ، بمعنى أنها معوقة لفاعلية الثورة . وكما تبدو لنا يعتبر استمرارها الى أن تصل الثورة الى مرحلة التحدي التاريخي الذي تكلمنا عنه انتحارا مؤكدا . اننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن كل ما نعرف حتى لا نصبح طرفا في صراع لا
يحقق شيئا سوى إضعاف الثورة . كما لا نستطيع أن نتحدث عن التفاصيل والمواقف الذاتية
. ولكننا نتحدث عن " نواقص " عامة ونختار منها اثنتين الوحدة
والديمقراطية .
ان الوحدة التي تعنينا هي وحدة التنظيم وليس وحدة الرأي لأن وحدة
التنظيم ممكنة ووحدة الرأي مستحيلة ومن هنا فإننا لا يمكن أن نطالب أحدا بان يشتري الوحدة التنظيمية بالتنازل عن معتقداته أو رأيه . ولا نقول القول البديهي الذي يعرف
كل المناضلين من أنه عند اختلاف المنطلقات الفكرية وحتى الأهداف الإستراتيجية بين
الذين يناضلون في سبيل غاية مرحلية واحدة ضد عدو مشترك تكون الجبهة هي الأسلوب العلمي
الوحيد للوحدة أداة الثورة . والجبهة تعني أن يؤجل كل طرف فيها الصراع حول
منطلقاته الفكرية وغاياته البعيدة . نقول يؤجل ولا نقول يتنازل .. هذا قول بديهي
يبدو ان كثيرا من فصائل الثورة لا تراه مقنعا . فنضيف انه بصرف النظر عن كل بحث
عقلاني فان وحدة فصائل الثورة ولو في جبهة ستصبح قريبا ضرور غريزية : اعني انها
ستكون الملاذ الوحيد ، التلقائي ، للدفاع عن النفس . عن الثوررة نفسها بكل فصائلها
. ومن هنا تبدو الفرقة الحالية مغامرة انتحارية لا لفصيل من فصائل الثورة ، بل لكل فصائلها جملة ، المخطئ والمصيب . والواقع ان الشعب العربي لا يستطيع ، على ضوء
توقعات المستقبل ان يلحظ الفارق بين الانقسام في أداة الثورة وبين خيانة أهدافها
الا حسن النية . وليس حسن النية عذرا عن الهزيمة . فعندما تحل الهزيمة سيجرف تيار
الانتقام كل أطرافه ولن يتوقف أحد ليرى من كان مخطئا ومن كان مصيبا ، من كان حسن
النية ومن كان يتآمر على الثورة من داخلها !..
ثم نحدد
فنحاور الإخوة الذين اختاروا مواقعهم فيما يسمى " جبهة الرفض " . إنكم شركاء
في الثورة ومن حقكم أن ترفضوا ما تعتبرونه مهددا لمسيرتها . هذا لا شك فيه . ولكن
الذي يحيط به الشك أن يكون انقسام أداة الثورة – تنظيميا - هو الأسلوب الصحيح
لحماية الثورة ومسيرتها مما ترون فيه خطرا عليها . ان الانقسام لن يفعل شيئا الا إضعاف الثورة ذاتها ، ثم إعطاء كل طرف الحرية في أن يحقق ما يريد بدون عائق . انه
يبدو لنا بحثا عن البراءة الذاتية عن طريق الهروب من الحوار أو حتى الصراع داخل
الثورة حماية للثورة بما تتخوفون – والحوار أو الصراع ، أيهما ، يتم من خلال
الالتحام والنشاط الايجابي ولا يتم من خلال الفرقة وتبادل الاتهامات من الخارج .
اننا نعرف ما يمكن أن يرد به على هذا . انه المشكلة الأخرى ، مشكلة الديمقراطية .
والديمقراطية
تعني ـ أساسا ـ الاحتكام ، عند الاختلاف ، الى
القواعد المنظمة وقبول الأقلية بتنفيذ رأي الأغلبية . ويقتضي هذا قواعد كثيرة
منظمة للمشاركة في الحوار وطرح الآراء وفي معارضتها والدفاع عنها كما يقتضي قبل كل
شيء قبول كل الأطراف للديمقراطية أسلوبا للتعامل فيما بينهم . وهذا بدوره يعني
الالتزام بأن تطرح للحوار كل الأمور التي لا يتم الاتفاق عليها ، وفي أوقات منتظمة
محددة مسبقا ، أو طبقا لإجراءات محددة من قبل . نريد أن نقول انه لا يكفي للاحتكام
الديمقراطي أن تطرح للمناقشة الأمور التي يعرف طارحوها مقدما ان الأغلبية ستتبنى
رأيهم فيها ، أو في الوقت المناسب لتبنيها ، وتحجب عن الطرح الديمقراطي الأمور التي يخشى فيها من رأي الأغلبية .
بغير وحدة
أداة الثورة ، ستفشل الثورة في اقتحام ما يعد على طريقها من سدود . وبغير الديمقراطية
لن تتحقق وحدة أداة الثورة وعلى الثوار حقا ان يطوروا
- قبل فوات الأوان - الظروف الداخلية للثورة لتصبح قوة ضارية واحدة في
مواجهة أعدائها ديمقراطية في داخلها . وعندما تتحقق لأداة الثورة هذه الوحدة الديمقراطية ستكون قادرة على حل بقية مشكلات الممارسة داخلها وخارجها ومنها إعادة
التوازن بين القوى الثورية المقاتلة والقوى السياسية والدعائية المساعدة للنشاط الثوري
، أو المفروض أن تكون مساعدة . وعل وجه خاص تكون قادرة على تصحيح ظروفها الخارجية
.
2- نعني
بالظروف الخارجية للثور الفلسطينية علاقتها الحالية بمن هو خارجها من أفراد
ومجموعات ونظم وعلاقته أيضا - ويشكل خاص -
بالأرض . فما تزال الثورة الفلسطينية ثورة من أجل الأرض ولكن بدون أرض .
ندعي أرضا خاصة بها محجوبة أو مسدودة دون أية سلطة أخرى . أو نعني قاعدة حشد
وتعبئة وانطلاق . ان أرض الثورة ما تزال أرضا مستعارة " تنتفع " بها مؤقتا
كالمستعير برخاء الدول العربية . حتى انتفاعها الحالي بأرض لبنان قائم الآن نتيجة
قبول الدول العربية لهذا الانتفاع " المؤقت " . وهو مؤقت
بقبول الدول العربية وآية هذا انه في كل مرة وفي كل مكان ، رفضت الدول العربية
انتفاع الثورة بأراضي احدى الدول لم تستطع الثورة أن تأخذ من تلك الأرض قاعدة لها
. وفى أيلول الأسود عام ١٩٧٠ واجهت الثورة الفلسطينية أبشع تصفية جسدية في الأردن
تحت سمع وبصر كل الدول العربية . وفي كل مرة ، وفي كل مكان ، سمح للثورة الفلسطينية
بقاعدة من الأرض كان قبول الدول العربية المعنية مرتبطا بمصالحها وخططها الإقليمية
.
ولقد آن
الأوان لتفكر الثورة الفلسطينية بأكبر قدر من الجدية في المخاطر الكامنة في هذا
الموقف ، لا نعني موقف أن ليس لها " أرض - قاعدة " بل نعني أن حصولها
على " ارض ـ قاعدة " متوقف وجودا وعدما على قبول الدول العربية الصالحة
أرضها لتكون قاعدة انطلاق الى فلسطين المحتلة . ان المخاطر الآن ليست معدومة حتى لو
كانت محدودة لان الدول العربية مشتركة في صراع عسكري حينا وسياسي حينا من اجل
إزالة أثار العدوان يقصدون عدوان ١٩٦٧ ، ومن هنا فان للدول العربية المعنية مصالح
" إقليمية " في الإبقاء على الثورة الفلسطينية ودعمها والسماح لها بان
" تنتفع " " بأرض- قاعدة
" . ولكن هذا القول كان وما يزال مشروطا باسبابه . وغدا أو بعد غد . اذا
استمرت ظروف الثورة وظروف الدول العربية والظروف الدولية كما هي في تطورها
التلقائي ستكون الدول العربية في موقف الخيار بين الثورة الفلسطينية وبين إزالة آثار
عدوان ١٩٦٧ . لا أقول الأغبياء بل أقول المجانين فقط هم وحدهم الذين يتصورون ان
الاختيار حينئذ سيكون لمصلحة الثورة الفلسطينية . أعني لمصلحة فلسطين وهذا يعني ان
الأرض ـ كل الأرض العربية ـ ستكون محرمة على الثورة .
لا نشك
لحظة في أن الظرف "الإقليمي" كان وما يزال وسيكون مصدر أشد المخاطر على
الثورة الفلسطينية . نقول كان وما يزال وسيكون لأنه ظرف لصيق بالثورة الفلسطينية
منذ نشأتها وصاحبها في مسيرتها ويهدد الآن مستقبلها بالهزيمة والتصفية . فلقد نشأت
أداة الثورة الفلسطينية وما يزال نظامها الداخلي قائما على أساس شرط الانتماء الى
الإقليم الفلسطيني .
ولم تسمح
لغير المقيمين أو النازحين من فلسطين الا بمساندتها فرادى ومن خارج المؤسسا ت التي
يتضمنها تنظيمها العسكري والجماهيري . وهكذا نشأت واستمرت مستقلة التكوين عن
الجماهير العربية ولما كان الاستقلال علاقة ذات طرفين فان الجماهير العربية كانت
وما تزال مستقلة التنظيم والحركة عن الثورة الفلسطينية . وبقيت العلاقة بين الثورة
الفلسطينية ومؤسساتها من ناحية وبين الجماهير العربية من ناحية أخرى علاقة خارجية
حتى لو أخذت طابع التأييد الجماهيري والدفاع والمساندة للثورة . ان أقصى صيغة جماعية
وصلت اليها هذه العلاقة هي " الجبهة المساندة " التي تكونت منذ سنين على
هامش الثورة وما تزال باقية على هامشها . ولم تصل تلك العلاقة - أبدا- الى حد
الالتحام العضوي التنظيمي . فانفردت الثورة الفلسطينية باتخاذ القرارات وقيادة
تنفيذها ولم تترك مجالا لعربي من غير فلسطين الا ان "يتطوع" لتنفيذ
القرار الفلسطيئي تحت القيادة الفلسطينية ، وهو مجال كان وما يزال هامشيا .
ولما كانت
الثورة في حاجة مستمرة الى دعم إعلامي ومالي وعسكري والى " أرض " على وجه
خاص فإنها في " قوقعتها " الإقليمية لم تجد سبيلا الى ما تحتاج
اليه الا التعامل مع الدول العربية الإقليمية مستفيدة في هذا من معطيات مرحلة ما
بعد ١٩٦٧ التي فرضت على الدول العربية أن تكون شريكة سلاح من أجل إزالة آثار
العدوان وكان أقصى ما استطاعت الثورة أن تحمي نفسها به هو إعلانها المتكرر بأنها
" لا تتدخل في شؤون الدول العربية ولا تسمح للدول العربية بالتدخل في شؤونها
" . والواقع انه شعار لم يفد الثورة شيئا ولم يضر الدول العربية شيئا . فمن حيت
عدم تدخل الثورة الفلسطينية في الشؤون الداخلية للدول العربية قدمت الثورة تأمينا
للدول العربية ضد الالتقاء الثوري بين جماهيرها والثورة الفلسطينية ولو على أرض
معركة فلسطين وكسبت انحياز الثورة الفلسطينية اليها بدلا من انحيازها ضد جماهيرها
. ومن حيث عدم تدخل الدول العربية في شؤون الثورة فقد كان وما يزال شعارا غير ذي
مضمون . ان اعتماد الثورة اعتمادا أساسيا على الدعم الإعلامي والمالي والعسكري و
" أرض " الدول العربية هو واقعيا أقصى درجات التدخل في شؤون الثورة الفلسطينية من قبل الدول العربية التي تدعمها وتمنحها " الانتفاع
" بأرضها . وليس التدخل الظاهر في صميم مؤسسات الثورة وفصائلها الا مظهرا
ملموسا للتدخل الموضوعي المتمثل في أن استمرار الثورة متوقف الى حد كبير على قبول
الدول العربية استمرارها .
ولسنا
نستطيع القول بأن الثورة مسؤولة مسؤولية كاملة عن هذا الموقف . ان نحن لا نشك حتى
الآن في صحة ما كتبناه في العام ١٩٦٩ تحت عنوان " ما العمل "
ونحن نتحدث عن الحركة الوطنية لتحرير فلسطين " فتح "
. قلنا حينئذ :
" .. في الساحة منظمة ذات مقدرة متعاظمة . انها فتح . الجسم
النامي لتلك الحفنة الرائدة من الشباب الذين غالبوا الظروف القاسية فغلبوها فخرجوا
من بين أنقاض المعركة الخاسرة منتصرين لمقدرة الجماهير العربية انتصارا تاريخيا .
ان ذلك الانتصار قد ربط بين " فتح " المنظمة وبين ملايين
الجماهير العربية التي انتصرت في يومين حاسمين من شهر حزيران (يونيو) ١٩٦٧ في سد
طريق التراجع . كل كان مثلا للصمود العربي بطريقته بينما الإقليمية منهارة انهيارا
شاملا . وبهذا الرباط أصبحت منظمة " فتح " أملا تتطلع
الجماهير العربية اليه ، أو أصبحت عند
الجماهير العربية أملها الخاص في المستقبل المنتصر .
... ولكن " فتح " النامية في أحضان الجماهير العربية
كانت تمثل خطرا ناميا في اتجاهات عدة . كانت تمثل أولا خطرا عاجلا على الوجود
الإسرائيلي بما هي قادرة عليه من إنهاك لهذا الوجود حتى تتولى الأمة العربية الإجهاز
عليه . ثم كانت تمثل ، ثانيا ، خطرا آجلا على الدول الإقليمية . ذلك لان فتح
النامية المتطورة خلال تفاعلها مع الجماهير العربية الواسعة كانت قابلة لان تصبح
نواة التنظيم القومي الثوري الذي تفتقده الأمة العربية منذ زمن طويل .. غير أن اهتمام
الدول الإقليمية لم يكن مقصورا على " فتح " اليوم بل على "
فتح " الغد . " فتح " كما تتطلع اليها الجماهير العربية
طليعة للثورة العربية الشاملة . وتعرضت المنظمة الناشئة ـ خلال عامين - لكل أنواع
الضغوط والمناورات السياسية .. وقبلت " فتح " أن تحمل على
كاهلها الناشئ ميراث الإقليمية الفاشلة .
لقد كانت " فتح " أمام اختيار تاريخي وقد اختارت وهي مسؤولية تاريخية .
ولكن هل تركت الإقليمية لمنظمة " فتح " فرصة الاختيار؟.. هذا سؤال
تاريخي أيضا .
لقد عرقلوا انطلاقتها اولا ، ثم أوقفوها أمام خيار دقيق ثانيا ، ثم
حسموا الخيار لمصالح الإقليمية أخيرا ، وبدلا من أن يتركوا المنظمة الجماهيرية
الناشئة تكمل صياغتها من خلال الواقع الموضوعي لمعركة تحرير فلسطين ، يقينا منهم
بان الواقع الموضوعي سيصوغها صيغة قومية ، جردها الإقليميون من إمكانية التطور حتى
لا تكون خطرا عليهم . فأحالوها منظمة تحرير فلسطين . ان فتح هنا ترمز الى الثورة الفلسطينية بكل فصائلها ، واذا كان أحد قد شك في صحة ما قلتاه في حزيران (بونبو)
١٩٦٩ فانة حتى في حدود الرؤية القصيرة يبدو ، السد الذي بنته الإقليمية داخل
الثورة وخارجها قائما على طريقها وهي تتقدم ولكن على طريق مسدود .
المهم الآن ، هو الإعداد لاقتحام السد .
وهذا لن
يكون الا بأن تمرق الثورة الفلسطينية إطارها الإقليمي الضيق وتتحرر من الحصر
الإقليمي داخلها وتحطم قيود الإقليمية خارجها لتلتحم عضويا ، تنظيميا وماليا
وعسكريا وسياسيا ، على مستوى القواعد والكوادر والقيادة بالجماهير العربية ، وبشكل
محدد بالقوى القومية التقدمية فى الوطن العربي بعيدا عن الدول العربية وحدودها
وقيودها . أن تكون قوى الثورة موجودة ومنظمة وملتزمة ومتحركة ومناضلة في كل مكان
من الوطن العربي ، هي التي تمول وترغم الآخرين على التمويل ، هي التي تدعم وتمنع
الآخرين من التراجع ، هي التي تربط ربطا موضوعيا من خلال نضالها اليومي سلامة
الدول العربية ذاتها بسلامة الهدف الاستراتيجي للثورة : تصفية الوجود الإسرائيلي
واسترداد أرض فلسطين للشعب العربي .
ان هذا
يقتضي من الثورة الفلسطينية ثورة أكثر أصالة وعمقا وخصوبة تولد به من جديد مولدا يلائم
المخاطر التي تنتظرها على الطريق . ولسنا نجهل الصعوبات الجسيمة التي تواجه الثوار
من أجل المولد الجديد ولكنا نحسب أن المصاعب هي محك الاختيار الثوري . ان المسألة ليست
مجرد كلمات كبيرة تقال اليوم ولكنها نذير على أكبر قدر ممكن من الجدية يردد ما قلناه
فى مطلع العام ١٩٧٠ ونحن نتحدث عن " المقاومة من وجهة نظر قومية " .
قلنا :
"
... لننتظر ماذا بعد إزالة آثار العدوان . عندما ينفض حلفاء المرحلة ويعود حرس
الحدود الى الحدود وتطرح قضايا الأمن الداخلي والالتزامات الدولية عندئذ ستكون تلك
المنظمات أمام اختبار دقيق . اما ان تصفي قواعدها أو تقبل تصفيتها . واما ان
تستولي على قواعد فى الدول العربية بالقوة المسلحة أي تدخل معارك ضد الإقليمية
العربية ذاتها . ولن تكون حجتها في هذا الا أن لها حقا في الأرض العربية خارج
فلسطين ، أي الا اذا لاذت بالمنطلق القومي ، عندئذ ستتبين كم أخطأت عندما اختارت
الملاذ الإقليمي ، ولن تكون لها فرصة كسب المعركة الا اذا قبلت أن تكون للجماهير
العربية حقا فيها وفي فلسطين لان ذلك هو المبرر لالتزام تلك الجماهير بتمكينها من
النصر في قلب الأرض العربية خارج فلسطين وعندئذ ستتبين أن الإقليمية تساوي الفشل
ولو بعد حين . فان قبلت تحولت الى قوة قومية . ولا بد أن تقبل . نقول لا بد لان الحقيقة الموضوعية لمعركة تحرير فلسطين انها معركة قومية لا تنتصر فيها الا القوى
القومية . وبرغم كل قصر النظر وكل حسن النية أيضا ، فان المنظمات الإقليمية
الفلسطينية ستجد نفسها في وقت ليس ببعيد انها اما أن تصبح قومية واما ان تهزم ..
"
الفرق بين العام .١٩٧ و ١٩٧٥ هو ان الثورة الفلسطينية قد اقتربت - وهي
تتقدم – من نهاية المطاف وعليها أن تتمرد على ذاتها لتكون قابلة للالتحام العضوي
مع القوى القومية التقدمية إيذانا بمولد الثورة العربية . وبكل الإخلاص الصادق
الذي لا تملك غيره ـ الآن ـ نقول ان مرحلة
" الثورة الفلسطينية " قد أوشكت على نهايتها وحققت فيها أقصى ما تسمح به
طاقاتها وظروفها الإقليمية وعليها أن تعد نفسها من الآن لتكون جزءا عضويا من
متطلبات المرحلة المقبلة : الثورة العربية .
ان مسؤلية
هذا الميلاد التاريخي لا تقع على الثورة الفلسطينية وحدها وان كانت تتحمل قدرا
كبيرا من المسؤولية ، أما باقي المسؤولية فتقع على أولئك الذين يطيب لنا الحديث عنهم
تحدت عنوان " القوى القومية التقدمية " . وسنتحدث عنهم واليهم قريبا .
ـ 3 ـ
... بكل
الإخلاص الصادق الذي لا نملك الآن غيره نقول ان مرحلة " الثورة الفلسطينية
" قد أوشكت على نهايتها وحققت فيها أقصى ما تسمح به طاقاتها وظروفها
الإقليمية وعليها أن تعد نفسها من الآن لتكون جزءا عضويا من متطلبات المرحلة
القادمة : الثورة العربية .
لا يكفي
لهذا الإعداد أن تطور الثورة الفلسطينية أدواتها ومؤسساتها وعلاقاتها الداخلية بحيث
تسمح بتحويلها الى أدوات ومؤسسات وعلاقات قومية . كما لا يكفي القبول الإعلامي آو الدعوة
الفكرية إليه . أهم من هذا كله أن تتحول الكلمات الى افعال . ان تتحول الدعوة الى ممارسة
. فبهذا ـ قبل كل شيء ـ تولد الثورة الفلسطينية ميلادا جديدا من رحم الأمة العربية
فتصبح جزءا عضويا من الثورة العربية .
كيف ؟
بالممارسة
الثورية على امتداد الوطن العربي دفاعا عن قضايا الشعب العربي كله أعني على وجه التحديد ان تتحرر الثورة من استقلالها الإقليمي الذي لا جدوى منه .
لقد عملت القوى الإقليمية في الوطن العربي ، وأعداء الأمة العربية في العالم كله ، منذ أكثر من
ربع قرن على التركيز ضيّق الأفق على قضية تحرير فلسطين . ركزوا عليها كما لو لم
تكن ثمة أرض مغتصبة أو محتلة الا أرض فلسطين . وركزوا على قضية المشردين العرب من أرض
فلسطين كما لو لم يكن في الوطن العربي مشردون الا من ارض فلسطين . اما الحق فهو ان
قضية تحرير فلسطين : استرداد أرضها للشعب العربي المشرد منها ، قضية كانت وما تزال
- أضعاف ما بذل من اجلها من جهد ولكن الباطل الذي أبقوه في الظل هو فصم العلاقة
بين قضية - تحرير فلسطين والقضايا القومية الأخرى عن طريق النزول بالقضايا القومية
الأخرى الى الدرجة الثانية أو العاشرة بحجة أن الأولوية يجب أن تكون لقضية تحرير فلسطين . ان هذا يعني أن قضية تحرير فلسطين منفصلة عن القضايا القومية الأخرى ، بحيث
يمكن أن يتحقق نصر فيها غير متوقف على الانتصار في القضايا الأخرى . أو يعنى انه
يمكن أن يتحقق النصر في قضية تحرير فلسطين بدلا ، أو على حساب ، النصر في القضايا
القومية الأخرى .
وكل هذه
أوهام باطلة .
أما انها
وهم غايته فيما ينتظر الثورة الفلسطينية وهي تتقدم الآن على طريق مسدود .
وتقوم الف
" لو" تعبيرا عن الخطأ الذي ارتكبه الإقليميون منذ
ربع قرن واستدرجوا اليه الثورة الفلسطينية وحصروها فيه .. " لو " كانت
الجماهير العربية متحررة . " لو " كانت الامة
العربية موحدة وفي يدها كل هذا البترول تدخل به ميدان الصراع لا ميدان الكسب .
" لو " كانت الجماهير العربية مذظمة . " لو " كانت فلسطين ما
تزال جزءا من الشام .. " لو .. لو "
لسحقت الثورة دولة إسرائيل بضربة عسكرية واحدة ، أو لصفتها في جولة
دبلوماسية واحدة . أو على الأقل لما شعرت الآن بأنها تتقدم على طريق مسدود .
ان
الايجابي في كل تلك الأماني انها دروس مستفادة من حصيلة النضال الإقليمي . ومع ان
الماضي لا يمكن إلغاؤه والعودة الى البداية الأولى الا أن الدروس المستفادة منه
يمكن أن تطور المستقبل تطورا يعوض ما فات ويختصر فترة المعاناة . من الدروس
المستفادة أن تحرير الجماهير العربية من القهر السياسي والاقتصادي الذي يشل حركتها
في أماكن كثيرة من الوطن العربي هو من صميم الشروط الموضوعية لتحرير فلسطين . من
الدروس المستفادة أن التحام تلك الجماهير في منظمة ثورية قومية غير مجزأة إقليميا
هو من صميم الشروط الموضوعية لتحرير فلسطين . من الدروس المستفادة ان " دولة الوحدة " ـ النواة أو الشاملة - هي
من صميم الشروط الموضوعية لتحرير فلسطين .
اذن ،
فحيث يقهر الشعب العربي سياسيا أو اقتصاديا ثمة معركة يجب أن يخوضها المناضلون من أجل
تحرير فلسطين . وضد الإقليمية بكل مضامينها الفكرية والسياسية والأدبية وحتى
الفنية يجب أن يقاتل المناضلون من أجل تحرير فلسطين ، لان ذلك هو " الطريق
" الى تحرير فلسطين وكل طريق غيره مسدود بسدود الإقليمية .
ولنأخذ
مثلا لا يستطيع احد ان ينكر واقعيته الاستعمار الأمريكي .
لا ينكر
احد حتى عملاء الولايات المتحدة الأميركية والمتعاملين معها انها المسؤولة الأولى عن
إقامة دولة إسرائيل على الارض الفلسطينية وعن تشريد العرب من أرضهم ، وعن ابقاء
دولة إسرائيل " حية " حتى اليوم بما تقدمه لها من غذاء مالي واقتصادي ودولي ، وانها - أي الولايات المتحدة الأميركية ـ هي التي تحول دون هزيمة إسرائيل
هزيمة تسحقها لو تركت لقوتها الذاتية ، وانها ـ أي الولايات المتحدة الأمريكية -
هي التي تزيد فتضع تحت تصرف إسرائيل القوى الدولية والاقتصادية والسياسية
والعسكرية والبشرية التي مكنتها من أن تهزم الدول العربية سنة ١٩٤٨ وسنة ١٩٥٦ وسنة
١٩٦٧ وتصد هجومها في ١٩٧٣ وتفتح الثغرة غرب القناة وتعود الى المرتفعات السورية
وهي - اي الولايات المتحدة الأمريكية - التي تقدم لإسرائيل الدعم المالي
والاقتصادي والفني والدولي لبناء المستعمرات في الأرض المحتلة بعد ١٩٦٧ وتهويد
الأرض العربية او محاولة تهويدها ، وتعوق المجهودات الدولية الى ان تستقر إسرائيل
في الأرض . وهي - أي الولايات المتحدة الأمريكية - التي حولت إسرائيل منذ ١٩٧٣ الى
ترسانة أسلحة معقدة ومتطورة أخذتها لا من الفائض الأميركي بل من مخازن القوات
المسلحة الأمريكية ذاتها .
لا ينكر
احد هذا ويتحايلون عليه بالصمت تارة او بالرجاء غير الواقعي ان تكون الولايات الأمريكية قد غيرت سياستها في " الشرق الاوسط " بعد أن وهبها الله
الدكتور هنري كيسنجر أو بعد ان عرفت من أمر الجندي العربي وبسالته ما كانت تنكره وليس
من المستبعد أبدا - مع ثبات تلك السياسة - ان تغير الولايات المتحدة الأمريكية
أسلوب ممارسة تلك السياسة . والواقع ان الدكتور هنري كيسنجر يمثل مرحلة هامة في
تغيير أسلوب ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية سياستها في الشرق الأوسط وفي
العالم كله فالدكتور هنري كيسنجر أستاذ " البراجماتية " السياسية . انه
ضد المبادئ العامة التي تحدد لصاحبها أساليب الممارسة المتفقة معها . ولكنه "
نفعي " يحقق غايته جزءا جزءا من خلال تغيير الواقع جزءا جزءا بدون أن يجد من
حركته بخطط إستراتيجية طويلة الأمد . ولكن الغايات تبقى كما هي . وهي فى التحليل
الأخير الحفاظ وتنمية المصالح الأمريكية في الوطن العربي (او في العالم) . غير ان
المصالح الأمريكية في الوطن العربي لا تنحصر في قيام دولة إسرائيل . بل نستطيع ان
نقول ان قيام دولة إسرائيل ودعمها اقتصاديا وعسكريا لا تمثل بالنسبة الى الولايات
المتحدة الأمريكية الا مصلحة تابعة لمصالحها الأصلية . ان دولة إسرائيل تقوم
" كلب حراسة " أمريكي في الوطن العربي تحرس التجزئة والتخلف وتحرس
النشاط الاقتصادي والمالي والثقافي والدعائي للولايات المتحدة من هنا فان تغذية
وتقوية وشحن أنياب " كلب الحراسة "
مرجعه الى الموضوع الذي يحرسه وليس الى هواية تربية الكلاب .
اين توجد هذه المصالح الأمريكية وكيف تتجسد ؟
انها لا
توجد في ارض فلسطين وحدها بل هي موجودة على طول الوطن العربي وعرضه .
لا تكاد
تخلو ارض عربية من مصالح أميركية مالية او اقتصادية او عسكرية او ثقافية وتتجسد تلك
المصالح في علاقات تبعية واضحة او خفية تربط الدول المعنية بالولايات المتحدة
ماليا او اقتصاديا وعسكريا او ثقافيا ، بحيث لا تستطيع - مهما بلغت طهارة وإرادة
الحاكمين فيها - ان تصوغ حياة الجماهير على الوجه او الى المدى الذي لا يتفق مع
تلك العلاقات . وتترك تلك العلاقات عادة هامشا يختلف اتساعا من دولة الى دولة تستعرض
فيها الدولة بدون مساس بعلاقة التبعية استقلالها عن الولايات المتحدة الأمريكية
ويمثل المجال الإعلامي والدعائي في بعض الدول العربية هامشا عريضا لاستعراض
الاستقلال و" التحرر " .
غير انه
مهما اتسع الهامش الدعائي ومهما ملأه الضجيج فانه لا يخفى عن الجماهير العربية
الواقع الموضوعي الذي تعانيه في حياتها اليومية من علاقة التبعية للولايات المتحدة
الأمريكية . ذلك لأن الجماهير تدرك عن طريق الحياة اليومية الملموسة ، وبدون حاجة
الى " تحليل" فكري ان انحدار مستوى المعيشة بالرغم من اكتشاف مزيد من مصادر
الثروة ومزيد من الإنتاج ، وتدهور القيمة الشرائية لدخولها النقدية المحدودة أصلا
، والغلاء المستمر الذي يقفز يوما بعد يوم ومزاحمة الرأسماليين لها في حاجاتها
الضرورية ، وتعلق مقدرتها على وجبة " غذا نية " من اللحم مثلا بارتفاع
سعر الدولار الأمريكي او انخفاضه وموجة إغراق سوقها القومي بالسلع الاستهلاكية الترفيهية
.. تدرك ان كل هذا لا يمكن ان يكون مرجعه الى جهل الحاكمين او خياناتهم بل لا بد ان
تكون له أسباب موضوعية لا يستطيع الحاكمون مغالبتها ، اعني تدرك انه مع زيادة
الثروة القومية والفقر معا وعجز الحكام عن توجيه الثروة الى حيت تحتاجها الجماهير
لا يمكن ان يرجع الا ان " ثمة " مصالح أجنبية تتحكم في " الثروة "
وإنتاجها وتوزيعها في الحكام أنفسهم بالرغم حتى من حسن نواياهم . فتكتشف الجماهير
- من مجرد المراقبة لما هو محسوس - ان المصالح الأمريكية وراء ما تعانيه في حياتها اليومية
وتخرج من هامش الاستقلال الدعائي الى حيث تدرك علاقة التبعية المفروضة عليها وتعي
وعيا صحيحا لماذا نحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية في الأرض العربية بكلب حراسة
تغذيه وتنميه وتشحن أنيابه وتسميه إسرائيل .
وعندما
تتململ الجماهير او تتمرد او تثور يعوض الحكام " عقدة الذنب " بالبطش .
اذ يبدو للحكام ان تململ الجماهير او تمردها أو ثورتها أمرا " غير طبيعي
" و "غير مقبول " ما داموا هم لم يقصروا . مع ان المسألة ليست
مسألة تقصير ثابت ولا مسألة اتهام بتقصير ، المسألة هي ان الجماهير - الناس
العاديين - لا يستطيعون الاستمرار في الحياة كما هي قائمة الآن في الوطن العربي .
ويرون
انها لا بد ان تتغير حتى لو لم يعرفوا كيف تتغير ، وان كانوا يعرفون معرفة اليقين
انهم لا يستأثرون لأنفسهم بكل الثروات المادية والبشرية المتاحة فى أمتهم العربية
، بل تستأثر بقدر كبير منها الولايات المتحدة الأمريكية وتقيم إسرائيل حارسا لما
تستأثر به . وتردد الجماهير العربية - الناس العاديين - مقولات تبدو بسيطة وساذجة
فى حين انها خلاصة أي تحليل علمي لما يجري في الوطن العربي . يقولون وهم يسمعون
بالمبالغ الجسيمة التي تمنحها بعض الدول العربية قروضا للدول الرأسمالية الحليفة
للولايات المتحدة الأمريكية ، وبالمبالغ الجسيمة التي تشتري بها بعض الدول العربية
عقارات واسهما في مصانع وشركات وبنوك في جميع أطراف الأرض وان كانت بنوكا او شركات
ومصانع أميركية او مشتركة بين الأميركيين وغيرهم ، وبالمبالغ الجسيمة التي تشتري بقاعا
كاملة من الأرض لتقيم عليها المصايف تشجيعا للسياحة قرب الشواطئ الأمريكية ،
وبالمبالغ الجسيمة التي تدفعها الدوائر الأمريكية والرأسمالية رشاوى وسمسرة
للرأسماليين العرب ليمكنوا لها من المال العربي .. تقول الجماهير : ألسنا أولى من
أعدائنا ؟ أليس عمال أبو زعبل أولى من عمال مرسيدس ؟ أليس اللاجئون بدون مأوى في
حمص واللاذقية والقناة أولى من الشركات العقارية في لندن وباريس وجنيف ؟ أليس
الفقراء أولى من الأغنياء ؟... ان كان المسيطرون على الثروات العربية قد فقدوا حتى
التمييز بين القتلة والضحايا وهو قول حق في بساطته وفي تأصيله العلمي .
فما تفعله
بعض الدول العربية بأموال وثروات الشعب العربي ليس أكثر ولا اقل من تصحيح موازين المدفوعات
للدول الرأسمالية لتقوية بنيتها الاقتصادية ، لتثبيت عملتها ، لمنع إفلاس منشآتها
، لمحاربة البطالة فيها .. باختصار. للمحافظة على المعسكر الرأسمالي الامبريالي والمد في أجله وحمايته من الانهيار . والعمود
الفقري للمعسكر الرأسمالي الامبريالي هو الولايات المتحدة الأمريكية . فالدول
العربية عن طريق التمويل والتبادل وفتح الأسواق العربية لا تفعل أكثر او اقل من
دعم الولايات المتحدة الأمريكية ماليا واقتصاديا وحمايتها من الانهيار .
ولا نقول
ان أحدا من الحكام العرب يخون وطنه أو أمته ولا نقول ان أحدا منهم سفيه لا يعرف
ماذا يفعل بأموال الشعب العربي التي وضعتها الإقليمية تحت تصرفه ، ولا نقول ان
أحدا منهم يجهل انه يمد حياة الدول التي احتلت أمته دهرا واستنزفت قواها
الاقتصادية وامتصت طاقاتها البشرية وأذلت شعبها وقتلت أبناءها ووضعت السلاح في أيدي
الذين أذلوا الشيوخ واغتالوا الشباب وبقروا بطون النساء وشردوا الأطفال ..
واغتصبوا الأرض وأقاموا عليها دولة إسرائيل .
بل نقول
ان الوطن العربي في حالة تبعية للولايات المتحدة الأمريكية ، وان الولايات المتحدة
الأميركية أقامت دولة إسرائيل وتدعمها للحفاظ على هذه التبعية ، وان الدول العربية
عاجزة عن ان تتحرر من هذه التبعية بل انها تحت تأثير القوى الرجعية العربية شريكة
الاستعمار الأمريكي ، تدعم وتحافظ على هذه التبعية . وان الجماهير العربية - الناس
العاديين - يلمسون هذا ويحسونه من معاناتهم اليومية .
ان الثورة الفلسطينية في إطارها الإقليمي - في المنطلقات والغايات والأسلوب ـ كانت وما تزال تناضل في جبهة فلسطين . وفي تلك الجبهة من ساحة المعركة كانت وما تزال تواجه إسرائيل
" كلب الحراسة " . ولم يكن في ذلك باس لو ان الاختيار الإقليمي كان
تطبيقا لتقسيم النضال والمناضلين على جبهات متعددة على مدى الساحة العربية كلها .
ولكن الأمر جرى ويجري على غبر هذا . فمنذ ربع قرن والقوى الإقليمية تركز الضوء على
مشكلة فلسطين لتبقى في الظل والظلام مشكلات الجماهير العربية الأخرى ، وبينما كان
أبطال الثورة الفلسطينية من المقاتلين يواجهون إسرائيل ويوجهون الى كلب الحراسة ضربات
موجعة تردد صداها فتبالغ في آثارها أجهزة الدعاية والإعلام في الدول العربية ، كان
الإمداد المالي والاقتصادي والعسكري وحتى الدعائي يصل الى إسرائيل " من جبهات
الظل " خلال قنوات التبعية للولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في الوطن
العربي . ان ثروات الوطن العربي تغادره بألف أسلوب وأسلوب ، من أول الخوف من
الشيوعية الى آخر صداقة " العالم الحر " . وما بينهما من متاجرة ،
ومقامرة ومغامرة وسمسرة ، لتتحول في ترسانات " العالم الحر " الى أسلحة
وفي بنوكه الى أموال تعود عن طريق الولايات المتحدة الى إسرائيل لتواجه بها الثورة الفلسطينية .
وهكذا
أسفر الواقع الإقليمي التعس الذي حصرت الثورة الفلسطينية نفسها فيه او حوصرت فيه
عن حقيقة جديرة بان تفزع كل شريف من الوطن العربي وتحرض على الثورة كل قادر عليها
في الوطن العربي الكبير ان العرب يقاتلون أنفسهم في معركة تحرير فلسطين . العرب من
فلسطين وثورتهم فى مواجهة الصهاينة تدعمهم أمريكا بأموال وثروات العرب.
ليس كل
هذا الا مثلا من الاستعمار الأمريكي الجديد .
ونستطيع ان نضرب أمثلة من كل مجال وكل قضية .
نستطيع ان
نضرب أمثلة من قضية الاستبداد الذي حال ويحول دون ان يلتحق الشباب العربي - الا
بإذن الدول - بالمقاتلين فى صفوف الثورة الفلسطينية
. نستطيع ان نضرب أمثلة من قضية التحرر الاجتماعي حيث بحول الرأسماليون في الوطن
العربي دون ان تبلغ معركة تحرير فلسطين الحد الذي يقطع خيوط التبعية المالية
والاقتصادية التي تربطهم بالرأسمالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة
الأميركية.
نستطيع ان نضرب
تلك الأمثلة وغيرها لنؤكد حقيقة موضوعية واحدة : ان معركة تحرير فلسطين ليست الا
جزءا من معركة الجماهير العربية في الوطن العربي كله ضد الاحتلال والاستبداد من اجل الحرية . ضد التجزئة الإقليمية من اجل الوحدة . ضد التخلف والاستغلال من اجل
التقدم الاجتماعي في هذه المعركة الشاملة لا أحد يستطيع ان يقف على الحياد لانه لا
يسمح لأحد بان يقف على الحياد . فإما مع الجماهير العربية المقهورة المجزاة واما مع
أعدائها . صحيح ان لكل معركة مضمونها المرحلي وقواها المناضلة وتكتيكها ولكن ذلك
هو شأن الغرق والألوية والكتائب والفصائل متنوعة الأسلحة والمهمات والخدمات في
الجيش المقاتل الواحد . وكما أن ضرب سلاح الطيران مبكرا سنة ١٩٦٧ قد أدى الى هزيمة
الجيش البري والبحري ، وكما ان هزيمة سلاح المخابرات الإسرائيلي مبكرا سنة ١٩٧٣ قد
أدى الى هزيمة أسلحة الجيش الصهيوني الأخرى ، وكما ان سلامة خطوط الإمداد لازمة
لاستمرار الجيوش في القتال ..
كذلك الأمر
بالنسبة الى معركة تحرير فلسطين . ان النصر النهائي فيها متوقف على النصر في معارك
التحرر العربي من الاستعمار القديم والجديد . على تحرير الشعب العربي من القهر السياسي
والاستغلال الاقتصادي . على هزيمة الإقليمية وتحقيق الوحدة . باختصار متوقف على ان الثورة الفلسطينية من الآن وعلى ضوء دروس الماضي على الا تقول بعد مرحلة قادمة "
لو "... مرة أخرى .
لا يكفي -
في هذا - كما قلنا ان تطور الثورة الفلسطينية أدواتها ومؤسساتها وعلاقاتها الداخلية
بحيث تسمح بتحويلها الى أدوات ومؤسسات وعلاقات قومية. كما لا يكفي القبول الإعلامي
أو الدعوة الفكرية إليه . أهم من هذا كله ان تتحول الكلمات الى أفعال . ان تتحول الدعوة
الى ممارسة. وهذا يعني - باكبر قدر من الوضوح - أن تدفن الثورة الفلسطينية شعارها الذي
لا مضمون له " استقلالها عن الدول العربية او استقلال الدول العربية عنها
" . والشعار المثالي الهروبي المفروض عليها : " مسؤولية شعب فلسطين عن
تحرير فلسطين " ثم تخوض معركة تحرير فلسطين على اتساعها وعمقها الموضوعيين .
الاتساع القومي والعمق القومي . وأن تكون جزءا لا يتجزأ ، وقوة مناضلة ، في كل
ساحة عربية - مع الجماهير العربية ، من اجل قضاياها القومية وفي ساحات الممارسة
ومخاطرها سيتم اللقاء بالقوى الجماهيرية القومية التقدمية التي استقلت عنها الثورة الفلسطينية طويلا فاستقلت هي عن الثورة الفلسطينية . وسيكون اللقاء في ساحات
الممارسة ومخاطرها والالتحام في وهج نيرانها هو الطريق الصحيح الذي تولد به الثورة
من جديد ، متجاوزة مرحلة ، الثورة الفلسطينية الى " الثورة العربية "
.
ان الثورة
لن تخسر بهذا الا الإقليمية المترددة المتخاذلة ولكنها ستكسب الأمة العربية وجماهيرها
القادرة وحدها على تحقيق التزامها بالشعار المرفوع " ثورة حتى النصر " .
- ٤ -
... على
الثورة الفلسطينية ان تدفن شعارها الذي لا مضمون له " استقلالها عن الدول العربية
واستقلال الدول العربية عنها". والشعار الثاني الهروبي المفروض عليها "
مسئولية شعب فلسطين عن تحرير فلسطين " ..
ولكن
الثورة الفلسطينية ستواجه حينئذ " عقدة العقد " التي تعوق الشعب العربي
منذ خمسين عاما عن التحرر والتقدم المتكافئ
مع الموارد المادية والبشرية المتاحة في أمته . ستواجه جراثيم العبودية
والتخلف التي ما تزال تسمم حياة الشعب العربي وتكاد تشل مقدرته على التقدم .
ستواجه الدول العربية بكل ما تملكه الدول العربية من قوى اقتصادية وإعلامية
وعسكرية بكل شرطتها ومحاكمها وسجونها بكل حدودها وقيودها . فهل تستطيع الثورة الفلسطينية ان تواجه كل هذه القوى بالإضافة الى إسرائيل ومن وراء إسرائيل ؟ . . .
نعم لسببين :
الأول : ان الدول العربية وان كانت كلها مؤسسات
إقليمية معادية ، من حيث هي مؤسسات مضادة لوحدة الجماهير العربية ووحدة الوطن العربي ، وبالتالي عاجزة او معوقة لتحرير فلسطين ، الا ان هذه الهوية المعادية لا
تتطابق او تتفق دائما مع هوية الحاكمين فيها ان هذه المفارقة جديرة بانتباه كل
الذين يحلمون بتغير الواقع العربي او يعملون من اجل تغييره ـ ذلك - ان الدولة من
حيث هي مؤسسة عبارة عن هيكل متكامل من الأوامر والنواهي تنتظم في مجموعة كثيرة من
النصوص القانونية أعلاها الدستور واقلها الأوامر الإدارية وما بينهما من قوانين ولوائح
. كل هذه النصوص ملزمة للحاكمين في الدولة ولرعاياها أيضا . وكلها محدودة النفاذ بالإقليم
الذي تقوم عليه الدولة . وكلها تحمي مصالح مالية واقتصادية وثقافية هي المضامين العينية
التي شرعت تلك النصوص لحمايتها . وكل هذا إقليمي ولا يمكن الا ان يكون إقليميا . بمعنى
ان الدولة لا يمكن ان تتجاوز في سيادتها الإقليم الذي تقوم عليه ، ولا يمكن ان
تتجاوز في رعايتها من يحملون هويتها السياسية ولا يمكن ان تتجاوز في إرادتها
مصالحها الإقليمية .
ولكنا تعرف ان
هذا الواقع الإقليمي الذي تجسده الدولة وتستقل به وتعزله " سياسيا " ليس
مستقلا ولا معزولا " موضوعيا " عن الواقع القومي الذي هو جزء منه .
وهكذا يكون لكل واقع إقليمي مضمون قومي . وبينما تقوم الدولة بتجسيد ورعاية وحماية
هذا الواقع من حيث هو إقليمي ، لا يكف مضمونه القومي عن التأثير فيه والتأثر به .
من هنا تعجز أية دولة عربية عن التزام كيانها كدولة . تعجز عن التحصن ضد التأثر
بالإحداث القومية . وتعجز عن كف تأثيرها في الأحداث القومية . وكلما أثرت دولة
عربية او توهمت ، إمكان التقوقع في حدودها فرضت عليها الوحدة الموضوعية لمشكلات
الأمة العربية الخروج من قوقعتها او اقتحمت عليها الحدود لتخرجها . هذا الواقع "
القومي ـ الإقليمي " المتداخل في كيان الدول العربية ينعكس في وعي حكامها
فلا يستوون . فمنهم من يعي فشل الحصر الإقليمي حتى في حل مشكلات الحياة اليومية في
دولته فيتطلع الى الجانب القومي من تلك المشكلات محاولا تعويض " عجز "
الإقليمية المتجسدة في دولته ، اما عن طريق الممارسة القومية (المحدودة) أو عن
طريق الدعوة الى التعاون والتفاهم والتقارب محتجا بوحدة المصير العربي والأخوة
العربية ... الخ.. ومنهم من يسخر دولته وقوى البطش فيها لتأكيد عزلتها الإقليمية
وحمايتها . ولما يتحول العجز الإقليمي الى متاعب سياسية أو اقتصادية يلجأ الى
الدول الأجنبية ليبيعها " حرية " الدولة ذاتها في مقابل ما تمنحه من
معونات سياسية أو اقتصادية . الشيء الذي يتفق فيه كل الحاكمين في الدول العربية هو
" عجزهم " عن إلغاء دولهم لحساب الدولة القومية (الوحدة) .
إذن فان
إسقاط شعار " الاستقلال " عن الدول العربية لا يعني حتما ان تدخل الثورة
معارك تصادمية ضد حكامها وان كان لا تستبعد دخول تلك المعارك ضد الحكام المعادين لوحدة الشعب العربي ووحدة الوطن العربي وبالتالي معادين موضوعيا لتحرير فلسطين .
بعكس هذا تقوم –
حاليا - فرصة تاريخية لمواجهة كثير من الدول العربية عن طريق إنقاذ حكامها من المآزق
الإقليمية التي تعجز دولهم عن الخروج منها .
وأوضح مثل
على هذا ما حدث ويحدث منذ حرب تشرين (أكتوبر) ١٩٧٣ .
فالواضح
الآن ان دول المواجهة – مثلا - قد بذلت من اجل تحرير أرضها المحتلة بعد سنة ١٩٦٧ تضحيات
بشرية واقتصادية ومالية ونفسية تتجاوز بمراحل مقدرتها الذاتية . وجاء الفرق بين ما
بذل وما تقدر عليه أصلا إضافات ستتحملها الأجيال القادمة بعد أن كاد الجدل الحاضر
أن يستنفذ آخر سعر حراري في جسمه الحي . وبالرغم من الإرادة ، والتصميم ،
والتخطيط، والبذل ، والتضحية ، تجد تلك الدول نفسها بعيدة عن هدف تحرير الأرض التي
احتلت بعد ١٩٦٧. كما تجد نفسها في حالة إحباط اقتصادي ونفسي .. اقتصادي من فرط التضحيات
ونفسي من فرط " لا مبالاة " الدول العربية الأخرى التي حولت دماء
الشهداء في ساحة النضال الى مصدر استثمار ضاعفت به ثروتها عدة مرات . هذه المشكلة
المزدوجة تفتح للثورة مجالا واسعا للتخلص من شعارها " الاستقلال عن الدول العربية
" .
ان
الاستقلال هنا يعني الموقف الموحد بالنسبة الى حكام كل الدول العربية بدون تفرقة بين
مواقفهم من معركة تحرير فلسطين وهنا بدوره يعني انضمام الثورة نفسها الى فريق "
اللامبالاة " الذي يقفه المنتفعون من المعركة من الدول العربية التي ضحت وما
تزال تضحي سواء كانت من دول المواجهة العسكرية أو من غيرها . والتناقض القائم
حاليا بين الدول المنتفعة من المعركة والدول المضحية من اجل المعركة ينعكس في
حقيقة التناقض الأصلي بين قومية المعركة وإقليمية الدول . هذا التناقض لا يمكن ان
تحله الدول العربية لانها هي ذاتها طرف فيه من حيث هي مؤسسات إقليمية . لا يملك
حكامها في إطار استقلالها بنفسها عن الغير واستقلال الغير عنها ؛ الا المساومة
والاقتراض وحتى الاستجداء من الذين احتموا باستقلالهم الإقليمي للاستئثار بمنابع
الثروة في الوطن العربي .
هنا يأتي دور الثورة .
فالثورة
من حيث هي قوة بدون دولة غير ملزمة لا بالوقوف سلبيا من أية دولة عربية أو ما تعانيه
، ولا بعدم التدخل في شؤون أية دولة عربية أو ما تنتفع به من وراء معارك التحرير .
ويكون على الثورة واجبان أساسيان :
1- الوقوف بحزم وحسم وبكل الوسائل الممكنة المتاحة للثوار ـ وقد لا
تكون متاحة للحكام ـ مع حكام الدول العربية في معركة تحرير ما احتل من أرض بعد
١٩٦٧ . في المجال الدعائي وفي المجال السياسي وفي المجال العسكري يجب أن تجد الحكومات
التي تقود شعوبها من اجل تحرير أرض دولها مساندة كاملة من الثورة . ونخص بالذكر
المجال العسكري . لقد كانت الأرض المحتلة منذ سنة ١٩٦٧ أرضا " مغلقة "
تماما أو الى حد كبير في وجه النشاط الثوري .
كانت
الدول المعنية ـ حينئذ - خارج نطاق التحالف العسكري مع الثورة . الآن هي ليست كذلك
. ولن تكره أية دولة عربية أو حتى تقدر على منع الثوار من توجيه ضرباتهم الى حيث يوجد
الصهاينة على الأرض المحتلة ان هذا وجه من أوجه تجاوز الثورة إقليميتها وشمول
معاركها التحررية الأرض العربية داخل وخارج فلسطين .
2- الوقوف
بحزم وحسم وبكل الوسائل الممكنة المتاحة للثوار ـ وقد لا تكون متاحة للحكام ـ ضد
موقف " اللامبالاة " الاستغلالي ، الانتهازي الرخيص ، الذي تقفه بعض
الدول العربية المنتفعة بالمعارك من تضحيات الشعب العربي في الدول الأخرى .
ان "
الإقليمية " التي تفرضها الثورة على نفسها فترضى من الحكومات التي أثرت من
وراء المعارك بمعوناتها الهزيلة " للثورة " مقابل استقلالها عن المشكلات
التي يعانيها الشعب العربي في دول عربية و " اللامبالاة " التي تقفها
دول عربية أخرى من هذه المشكلات ليست الا إفسادا للثورة نفسها . ذلك لان ما يعطى
للثورة نظير استقلالها ليس الا رشوة . رشوة منافقة ويتعين على الثورة أن تتولى هي
تبني ، والدفاع عن حق الجماهير المضحية في ثروات وطنهم العربي . أيان كان المضمون
وأيان كانت الثروة . ولن تكره أية دولة عربية أو حتى تقدر على منع الثوار من إرغام
المنتفعين من معارك التحرير على المشاركة في تضحيات الشعب العربي أو تعويض خسائره
ان هذا وجه ثان من أوجه تجاوز الثورة إقليميتها وشمول معاركها التحررية الشعب
العربي داخل وخارج فلسطين .
الثاني : واضح من السبب الأول ان ثمة ظروفا واقعية
تسمح للثورة بالتخلي عن " استقلالها "
الإقليمي ومد نشاطها على أبعاده القومية بدون أن يؤدي هذا الى تصادم عدائي
مع بعض الدول العربية . ولكن هذا الظرف الواقعي هو ظرف " مرحلي " أيضا .
معنى هذا انه يخلخل "عقدة
العقد" ولكن لا يحلها . وعندما تعود - ان عادت - الدول العربية الى حدودها
ستدير ظهرها للسد وتواجه الثورة من موقفها الإقليمي الأصيل فهل تستطيع الثورة حينئذ أن تواجه كل تلك القوى ؟ قلنا : نعم
لسبب ذكرناه . أما السبب الثاني فهو ان الثورة التي تكون خلال الوقت القليل
المتبقي بين موقعها الآن والسد الذي ينتظرها على الطريق قد:
أ - أدركت منذ الآن الخطر الذي يهدد مصيرها
وهي تتقدم على طريق مسدود .
ب - فعملت
منذ الآن على تغيير ظروفها الداخلية فوجدت أداتها في بناء ديمقراطي تؤجل فيه
الصراع الدائر حول المنابع الفكرية والأهداف الإستراتيجية البعيدة .
ج ـ ومزقت
إطارها الإقليمي الضيق فالتحمت ، تنظيميا وماليا وعسكريا وسياسيا ، على مستوى
القواعد والكوادر والقيادات بالجماهير العربية ، وبشكل محدد بالقوى القومية التقدمية في الوطن العربي بعيدا عن الدول العربية وحدودها وقيودها .
د - وكان
التحامها غير مقصور على الدعوة الفكرية أو الدعاية الإعلامية بل عن طريق الالتقاء
والالتحام في معارك الجماهير العربية حيت تدور تلك المعارك ، ومن أجل غاياتها حرية
أو ديمقراطية أو اشتراكية أو وحدة .
هـ -
فأسقطت استقلالها عن الدول العربية واستقلال الدول العربية عنها ، فحددت موقفها
كحليف للدول العربية التي خاضت معارك التحرير أو ضحت في ميدانها ضد دول اللامبالاة
المنتفعة من معارك التحرير المستغلة لثروات الشعب العربي فيها .
الثورة
الفلسطينية التي تكون قد فعلت كل هذا ستكون قادرة - في اللحظة الحاسمة - على
مواجهة كل الدول والقوى التي تقيم الآن على طريقها سدا يحول بينها وبين الاستمرار
في مسيرتها حتى " النصر" النهائي . حتى إزالة دولة إسرائيل واسترداد أرض
فلسطين للشعب العربي . ذلك لأنها تكون خلال الممارسة قد ولدت من جديد . تكون
الثورة الفلسطينية قد أنهت مرحلتها بنجاح مرموق وبدأت " الثورة العربية
" .
ليس حلما
على أي حال . انه العلم لا شيء غيره . ان بدا لبعض الناس أكثر مما تطيقه الظروف
" الموضوعية " للواقع العربي الراهن ، فلأن الثورات تتعامل مع الواقع
لتطويره لا لقبوله؟ الثورات لا تتابع - من موقع الذيل - حركة الواقع في تغييراته
التلقائية بل تقحم إرادتها لتطوير الواقع على ما تريد مستفيدة في ذلك بذات القوانين
التي تحكم حركته . الثورة معاناة هائلة من اجل اختصار زمن المعاناة وأهواله وان
بدا لبعض الناس أكثر من ما تطيقه الظروف
الذاتية للثورة الفلسطينية . أعني ان الواقع " الذاتي "للثورة الفلسطينية يحول دون أن تولد من جديد في رحم الثورة العربية فلسنا نستطيع أن
نقول الا ما قلناه عام ١٩٦٨ تحت عنوان "
وحدة القوى العربية التقدمية " .
قلنا:
"...
ان ذلك متوقف على موقف المناضلين في سبيل تحرير فلسطين . انهم - أرادوا أم لم يريدوا-
في موقع اختبار " تاريخي " فاما أن يكونوا نواة حركة ثورية عربية واما أن
يكونوا حركة تحررية فلسطينية . وفي أيديهم أن يختاروا لانهم في البداية وفي أيدي
القوى العربية التقدمية أن تأخذ أماكنها من معركة النضال الثوري في الأرض المحتلة
فتحسم الخيار لمصلحة الثورة العربية .
"
وهناك من خلال المعارك الحية تستطيع أن تنسج وحدتها .
"انها
فرصة تاريخية سيدفع الذين يضيعونها على الأمة العربية ثمنا غاليا . والأمر بعد
ليس بما يقال ويعلن ولا حتى بالمقدرة القتالية ولكنه متوقف على ما اذا كانت
حركة المقاومة في الأرض المحتلة تجسد شكلا ومضمونا الثورة العربية . على مقدرتها
على أن تكون بذرة تحتوي في ذاتها كل إمكانيات النمو الثوري العربي كما تحتوي
البذرة كل عناصر الشجرة الباسقة .
" ان
هذا لا يعنى ان تتخلى الجماهير العربية عن مساندة المقاومة في الأرض المحتلة ولو ظلت
- كما أسميت للأسف - مقاومة فلسطينية تحت تأثير إرهاب القوى التي لا تريد لها أن تكون
مقاومة عربية . بل ان الأمة العربية كلها وراء المقاومة والثورة . كل ما في الأمر
اننا نتمنى للأبطال المقاتلين في الأرض المحتلة ان يتجاوزوا شكلا ومضمونا حدود
الممكن ليجسدوا شكلا ومضمونا ما يجب أن يكون . والا فان انتصارهم الذي لا بد منه
سيكون نصرا في معركة عربية ويتبقى على القوى العربية التقدمية مسؤولية تحقيق النصر
العربي . اقامة دولة الوحدة . وبعد فان أرفع تحية للأبطال أن نكون معهم صادقين
" .
ولقد كنا
معهم صادقين فدفعوا أثمانا فادحة للاختيار الإقليمي . ونصدقهم الآن فنقول لهم حذار
. انكم تتقدمون ولكن على طريق مسدود والثمن مطلوب منكم
ـ هذه المرة اما - قضية فلسطين واما تصفيتكم فلا تغرنكم النوايا فتلقوا
بأنفسكم إلى التهلكة (١)
(١) يا شهداء الثورة في لبنان من المسؤول عن
دمائكم ؟!!!
مقال نشر تباعا في جريدة السفير أسبوعيا
ابتداء من يوم ٢٧/١/١٩٧٥ .
المهمات المرحلية الملحة أمام النضال العربي .
1 ـ عندما فشل "الرجل المكوك " هنري كيسنجر في استدراجنا " خطوة ، خطوة " الى قبول الشروط الإسرائيلية ثمنا لاسترداد بعض أرضنا ، سقطت كل الحلول السلمية لاسترداد تلك الأرض بما فيها حل " جنيف " . نقول سقطت ، لا تقريرا لحدث وقع فعلا ، بل تحريضا على ما يجب أن يحدث . بمعنى انه يجب أن يسقط المزيد من البحت عن الحلول السلمية حتى لا تلهينا أوهام السلام عن متطلبات الحرب . وحتى ننتبه انتباها كاملا ومركزا على الإعداد البشري والمادي لتحقيق النصر النهائي في المرحلة القادمة من الصراع . أي ـ في التحليل النهائي ـ حتى نقضى قضاء نهائيا على الحرب بالتصفية النهائية لقوى العدوان التي لم تتح لنا فرصة منذ ربع قرن لنتمتع بالسلم ومنجزاته التقدمية .
وعندما تكون الكلمات تحريضا، وليست تقريرا ، لا تكون خطابا الى الكافة . انما نخاطب بها الذين يعنيهم بالدرجة الأولى تحرير الأرض العربية عن الطريق الوحيد الذي فرضه العدوان عليها . الذين لا يخشون مخاطره لأنهم يعرفون انه ، في معارك التحرير القومية ، لا يكون حساب الخسائر المتوقعة ، قبل أن تقع ، الا مدخلا للاستسلام . هذا يعني انه لن ينقرض من الأرض العربية الذين يبحثون ، من أجل التحرير أيضا ، عن طرق سلمية لا وجود لها . انهم موجودون ، وسيتبعون أوهامهم الى أن يفشلوا مرة أو أكثر من مرة . حينئذ ، اما أن يدعوا صراحة إلى الاستسلام واما أن ينضموا الى قافلة المناضلين من أجل الحرية .
الطريق اذن مفتوح الى الحرب . الحرب بمفهومها التقليدي ، أي اشتباك الجيوش النظامية ، مرحلة غير قابلة - لأسباب كثيرة - للتحديد الزمني السابق على وقوعها الفعلي . لا أحد منذ الحرب العالمية الثانية ، أصبح يعنى " بإنذار " عدوه بموعد القتال . تلك " فروسية " رومانتيكية فارغة انقضت أيامها ، وأصبحت المفاجأة فنا أساسيا من فنون القتال . ثم ان ضراوة الحرب ومدى ما تسفر عنه من تضحيات بشرية " غالية " ، وما تستهلكه من أموال ، ومدى ما تحدثه من تخريب ، يستوجب ضبط حساباتها على الوجه الذي يتيح اكبر فرص النصر بأقل التضحيات . هذا مسلم . فاذا كنا ندعو الى إسقاط أوهام الحلول السلمية ونحرض على القتال فنحن ندعو ونحرض من أجل قتال منتصر وليس مغامرة فاشلة .
أمامنا ، اذن ، مرحلة زمانية - لا نظنها طويلة - تفصل بين الواقع الراهن وبين الحرب الفعلية الهجومية . نقول الهجومية لان قرار القتال ليس متوقفا على إرادتنا وحدنا ، فقد يلجأ العدو ذاته الى بدء القتال فيكون علينا أن نقبل التحدي دفاعا لنحوله الى مطاردة هجومية .
فما هي المهمات الملحة التي تطرحها علينا هذه المرحلة القصيرة ؟
2 ـ نعتقد أن تلك المهمات ، على اختلاف طبيعتها ، تنقسم الى قسمين تبعا لقسمة المسؤولين عنها . القسم الأول يتضمن تلك المهمات التي يتعين على دول المواجهة المعنية ، والدول العربية الأخرى ، ان تقوم بها للإعداد للقتال . هذه المهمات غير قابلة للطرح العلني . أولا : لأنها من الشؤون العسكرية التي لا نحيط بها علما كافيا للحديث عنها . وثانيا : لان كتمان أمرها قاعدة أولى من قواعد الإعداد للقتال .
غير ان هذا لا يعني بأي حال ، أنه لا شأن للجماهير العربية بما تعد الدول العربية ، لان تلك الجماهير هي التي ستدفع الثمن من حياتها ذاتها ، فيما لو كانت " الفنون العسكرية التي لا يعرفها الا المتخصصون " أو" سرية الإعداد العسكري التي لا يجوز إفشاؤها " غطاء لعدم الجدية في الإعداد للقتال . قد لا يهم الجماهير العربية أن تعرف ماذا تفعل الحكومات من أجل التجهيز للقتال ، ولكن يهمها - ومن حقها ـ أن تعرف ، وتتأكد ، من أن الحكومات تمارس هذا الإعداد بأكبر قدر من الجدية . فكيف يمكن أن تعرف ، وتتأكد ، قتطمئن الجماهير العربية الى جدية الإعداد للقتال بدون تعرض " لفنية" الإعداد السكري أو سريته ؟ .. عن طريق رصد وتقييم المواقف السياسية . ذلك لان جرثومة عدم الجدية في الإعداد للقتال ستفضح نفسها عن طريق أثرها الظاهر في المواقف السياسية . فعندما ترى الجماهير العربية ، وحين ترى ، أن أوهام الحلول العلمية ما تزال تحدد المواقف السياسية واتجاهاتها يكون من حقها ان تجزع - من الآن - على مصير المعارك المقبلة . لان الباحثين عن الأوهام لا يعتقدون - كما نعتقد نحن - أنها أوهام ، وبالتالي فان القتال عندهم قضية مؤجلة ، أو موقف " احتياطي " للمناورات السياسية وفي خدمتها . وهذا بدوره يجرد الإعداد العسكري من الجدية التي تمليها رؤية القتال موقفا أصليا ومحتوما ومصيريا. ولعل أصدق مؤشر الى الجدية هو اختفاء الشلل والعناصر الكيسنجرية من مراكز المعاونة السياسية . ان طائفة من الوزراء والمستشارين والكتاب والصحفيين روجوا منذ تاريخ سابق حتى على حرب أكتوبر 1973 " للحل الأمريكي " وصعدوا الى مراكز القيادة والرأي ومنابر الإعلام والصحافة في مرحلة اختبار الحل الأمريكي التي تلت الحرب ، كل هؤلاء لم يعد لهم مكان بعد فشل التجربة . بدون محاكمة أو اتهام ، بل طبقا لتقاليد سياسية علمية ، أو " على الأقل طبقا لأقل قدر من الإحساس بالكرامة الشخصية والولاء الوطني ، ينبغي على هؤلاء جميعا أن يتنحوا والا وجبت تنحيتهم .عندئذ سيكون هذا مؤشرا جيدا الى الفهم الصحيح لواقع المرحلة : الجديدة ، وجدية الإعداد للمستقبل القريب . ثم ان وقود الحرب ، بعد البشر ، هو الاقتصاد . وقد يختلف الناس بين النظم الاقتصادية الرأسمالية الاشتراكية أو المختلطه " الانتقالية " وقت السلام ، أما وقت الحرب فانه " اقتصاد حرب " وأهم ما يميز اقتصاد الحرب هو تحرير الاقتصاد الوطني من سيطرة السوق والحد من الاستهلاك الترفيهي أو حتى الضروري ، طبقا لخطة مركزية واحدة تعبئ النشاط الاقتصادي كله من أجل خدمة الحرب . وهذا هو الفارق بين اقتصاد الحرب والاقتصاد الاشتراكي . نفس الأسلوب ولكن خدمة الحرب تكون غاية الخطة في النظام الأول والتنمية تكون غاية الخطة في النظام الثاني . وفي الحالتين لا يكون ثمة أي محل للمضاربة الرأسمالية في الإنتاج أو التوزيع أو الاستهلاك . لا يكون ثمة أي محل للبحت عن الأرباح الخاصة عندما يكون مصير الوطن وأرواح البشر في كفة الميزان . هكذا فعلت وتفعل حتى الدول الرأسمالية العتيدة في ظروف الحرب . وهكذا لا يمكن أن تفهم الجماهير العربية جدية الإعداد للقتال اذا لم تلمس في حياتها اليومية انحسار ، أو إلغاء ، الأسلوب الرأسمالي في إدارة الاقتصاد الوطني ، والبدء في تحويله الى اقتصاد حرب . ثم انه ، على المستوى الدولي ، ستنتهي ـ بالحرب - كل المواقف " الدبلوماسية " ، وتفزز القوى فرزا حادا ولن يكون أحد محايدا خفية حتى لو أعلن الحياد ظاهريا . ولن تطيق الحرب أية مجاملات على حساب الأرواح البشرية التي ستفنى . ومهما تكن الحرب مفاجئة فانه من الغباء أن نفاجئ الدول بمواقف جدية عندما يبدأ القتال . لهذا يدخل في نطاق الإعداد للقتال ، إعداد علاقاتنا الدولية كما لو كان القتال قد بدأ ، بحيث نفرز من سيكون معنا ومن سيكون مع العدو ، من الآن ، ونطور علاقاتئا مع حلفائنا بحيث يكونون " معنا " فعلا عندما نكون في حاجة إليهم . ومع ان مجال التحالف متسع أمامنا ويمكن أن يكون لنا حلفاء في جميع أطراف الأرض ، الا أن حلفاء أعدائنا معينون ومفرزون ومحددون من الان . على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية . ان تلك الدولة الباغية ستكون ضدنا في أي قتال جديد مع إسرائيل كما كانت ضدنا دائما . وهذا الموقف المحدد يمكن أن يخدم خططنا في التحالف لو أخذناه نقطة انطلاق . ان أعداء الولايات المتحدة الأمريكية كلهم سيكونون معنا . والمنافسون للولايات المتحدة الأمريكية يمكن ان يكونوا معنا . و التابعون المتذمرون من تبعيتهم للولايات المتحدة الأمريكية يمكن ان يقفوا محايدين ظاهريا ويساعدوننا خفية . أما عملاء الولايات المتحدة الأمريكية دولا او جماعات أو أفرادا ، عرب أو غير عرب فسيكونون مع إسرائيل. وهكذا لا يمكن ان تفهم الجماهير العربية جدية الإعداد للقتال اذ لم تلمس إنحسار أو إلغاء علاقات التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية وردع عملائها في الوطن العربي . وهناك مؤشرات أخرى كلها سياسية . وكلها بعيدة عن الأسرار العسكرية . ولكنها كلها صادقة الدلالة ، أصدق من الكلمات على مدى " جدية " الإعداد للقتال . وهي التي ستحدد موقف الشعب العربي في كل دولة عربية من دولته .
3 ـ القسم الثاني من المهمات الملحة التي تطرحها المرحلة يخص الشعب العربي والقوى الجماهيرية المقاتلة ( فصائل المقاومة) والخطاب في هذا الحديث الى هؤلاء أساسا . لأن هؤلاء هم أصحاب الأرض التي يجب تحريرها وأصحاب المصلحة في التحرير ، ودافعو ثمن تحريرها في الحرب والسلام معا .
أمام هؤلاء مهمات ثلاث ملحة .
أولا : تحديد الأهداف الإستراتيجية تحديدا قاطعا .
ان العالم الموالي لنا ، كما يقول يطرح علينا الآن ما يسمى " الحقوق المشروعة لشعب فلسطين " .
وفي انتظار ما تسفر عنه المناورات التكتيكية على المستوى الدبلوماسي امتنعت كل الأطراف عن بيان ما تعنيه على وجه الدقة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين . اما وقد انقضت المناورات التكتيكية بفشل الرجل المكوك فقد آن الأوان ليحدد كل طرف ما يعنيه بذلك التعبير الغامض . ولم يعد لأحد عذر في ان يحيل على الشعب الفلسطيني . بمعنى انه لا يعفيه من تحديد موقفه أن يقول ان " الحقوق المشروعة لشعب فلسطين " يحددها شعب فلسطين لان الشعب العربي لم يخف أبدا ان حقه المشروع هو حق استرداد أرضه ، كامل أرضه ، التي سلبت منه عام 1948 . تجاهل هذا الموقف الثابت منذ ربع قرن ومطالبة الشعب الفلسطيني بان يحدد ماهية حقوقه المشروعة هو دعوة موجهة على خجل الى الشعب الفلسطيني ليعيد النظر في موقفه السابق ، أي يحدد هو ويتحمل مسئولية تحديد حقوقه المشروعة على وجه اقل من استرداد أرضه ليبقي فرصة للوجود الإسرائيلي . دعوة مخجلة الى ان يساوم الشعب العربي على حقوقه بدون ان يتحمل الداعون مسؤولية دعوتهم او مشورتهم وهذه مناورة تكتيكية آن الأوان ان تنتهي بانتهاء مرحلتها ، وعلى كل طرف لديه تفسير خاص للحقوق المشروعة لشعب فلسطين أن يقول بصراحة ويعلن قوله .
الى ان يفعلوا يتعين على الشعب العربي وقواه المقاتلة (المقاومة) ان يفلت من شباك المناورات السياسية التي التفت حول موقفه في السنة الأخيرة ، وألا يختفي هو أيضا وراء غموض كلمة الحقوق المشروعة . ان مصدر الغموض في هذا التعبير هو كلمة " المشروعة " اذ ليس للشرعية مصدر واحد وبالتالي لا يمكن معرفة الحقوق المشروعة الا اذا عرفنا من أين اكتسبت شرعيتها . اذا كان الواقع مثلا هو مصدر المشروعية فيكون للشعب الفلسطيني حق الوجود فإن إسرائيل وجود واقع ، وما يكون حقا مشروعا لشعب فلسطين يمكن أن يكون حقا مشروعا للصهاينة . وإن كان القانون الدولي هو مصدر المشروعية فيكون من حق الشعب الفلسطيني تقرير مصيره فإن القانون الدولي قد يمنح الصهاينة في إسرائيل حق تقرير مصيرهم وان كانت قرارات الأمم المتحدة هي مصدر المشروعية فكما أصدرت الأمم المتحدة قرارا بحق الشعب الفلسطيني في العودة او التعويض أصدرت قرارا بتقسيم فلسطين وأصدرت قرار الاعتراف بإسرائيل عضوا فيها .. كل هذه مصادر للمشروعية كامنة في أذهان كثيرين ممن يكتفون بالحديث عن الحقوق المشروعة بدون ان يفصحوا عما يعنون بتلك الحقوق . وكل هذا يجب إسقاطه صراحة وعلنا وقطعيا من جانب الجماهير العربية وقواها المقاتلة (المقاومة) ...
ان المصدر الوحيد لشرعية حقوق الشعب الفلسطيني هو حقه التاريخي في أرضه وفي مواجهته يكون العدوان الإسرائيلي غير مشروع وتكون الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هي ببساطة حقه في استرداد أرضه ـ كامل أرضه ـ من غاصبيها .
هذا التحديد القاطع يجب ان يكون قاطعا من جانب الشعب العربي وقواه المقاتلة بحيث يقطع الطريق على أية مناورات تهدف الى تمييع حقوقه المشروعة والالتفاف حول هدفه الاستراتيجي على ركب من الكلمات الغامضة . وعندما يتحدد على هذا الوجه القاطع ، يكون على كل طرف ان يختار بين الحق والعدوان . بين الشعب العربي ودولة إسرائيل . ان هذا يعني بأكبر قدر من الوضوح ان الهدف الاستراتيجي للنضال العربي هو إلغاء وتصفية دولة إسرائيل . ولقد اختفى وضوح هذا الهدف فترة طويلة في غبار الإرهاب الفكري والدعائي الذي شنه أعداء الأمة العربية يتهمون فيه امتنا بأنها لا إنسانية ، وانها دموية وانها اذ تنادي بإلغاء وتصفية دولة إسرائيل تريد أن " تلقي اليهود في البحر " ومع ان الصهاينة لم يخفوا أبدا أنهم يريدون إلقاء العرب في الصحراء فإنهم لم يتعرضوا لمثل ما تعرضنا له من إرهاب فكري ودعائي ولقد كان الإرهاب من القسوة الى حد أن أسهمت جماعات من المثقفين العرب فيه. يرهبون أمتهم ويشهرون بها .
أيا ما كان الامر ليكن كل هذا واضحا.
نعم ان الهدف الاستراتيجي للنضال العربي هو إلغاء دولة إسرائيل وتصفيتها نهائيا ٠ والدولة كما بعرف حتى الذين يشهرون بنا هي تلك المؤسسة القانونية السياسية التي تجسد سيادة شعب بعينه على ارض بعينها . فحين نقول ان هدفنا الاستراتيجي هو إلغاء وتصفية دولة إسرائيل نعنى ما يعرفه حتى الذين يشهرون بنا ، نعنيه تماما ، وهو إلغاء وتصفية سيادة الصهاينة على أرضنا العربية واسترداد أرضنا العربية لسيادتنا العربية . لا يمكن أن يثور أي لبس في هذه الجزئية ولا تقبل أي قدر من الغموض . ثم تأتي بعد هذا النتائج التي يمكن ان تترتب على إلغاء دولة إسرائيل ٠ فإلغاء دولة إسرائيل وتصفية السيادة الصهيونية على الأرض العربية لا يعني ان تظل تلك الأرض بدون دولة او سيادة . كلا . ستقوم عليها دولة العرب التي تجسد سياسيا وقانونيا سيادة الشعب العربي على أرضه . ما هو شكلها الدستوري ونظامها الاقتصادي والاجتماعي ؟ هذه أسئلة ستترك للشعب فيها ليختاره ديمقراطيا ـ بعد وليس قبل ـ التحرير الكامل .
ان كل من يتطوع منذ الآن بمصادرة حق الشعب العربي في اختياره شكل دولته ونظامها الاقتصادي والاجتماعي ، ينذر ـ منذ الآن - الشعب العربي في فلسطين المتحررة بسلب حريته الداخلية بعد تحرير وطنه انه ديكتاتور صغير " مثالي" يريد منذ الآن ان يكون له حق إملاء شكل معين للدولة ، ونظام اقتصادي واجتماعي معين متجاهلا ان كل هذا من حق الشعب وليس من حقه . اذن فلا يملك أحد ان يربط قضية تحرير الأرض منذ الآن بنظام دستوري أو اقتصادي أو اجتماعي ٠ كل ما يملكه أي واحد هو أن يعبر عن موقفه في نوع النظام الذي سيقترحه على الشعب بعد تحرير وطنه على ان يقبل ومن الآن نوع النظام الذي يختاره الشعب ديمقراطيا٠ ان أي استعمال لكلمة ديمقراطية يتضمن قيدا مسبقا على ممارسة الشعب العربي لإرادته ديمقراطيا داخل دولته هو مصادرة للديمقراطية في دولة فلسطين العربية . اذا كان الأمر كذلك وهو كذلك لا يكون من حق احد ان يطلب الى ممثلي الشعب العربي في ثورته ان يلتزموا بمصادرة حق الشعب ذاته وذلك بان يتفقوا أو يتعهدوا أو يعدوا بان يقوم في فلسطين المتحررة نظام محدد الهوية سلفا الا ان يكون ديمقراطيا . ولو قبل ممثلو الشعب العربي في ثورته التحررية ان يتفقوا أو يتعهدوا أو يعدوا يمثل هذا النظام فانهم يخذلون قضية التحرير ذاتها . ان الشعوب لا تناضل من اجل التحرر من العدوان الأجنبي لتضع نفسها تحت سيطرة المستبدين من أبنائها ، بل هي تناضل من أجل التحرر لانه الشرط الأول لممارسة الحرية . الهدف الاستراتيجي للنضال العربي ، اذن ، هو إلغاء وتصفية دولة إسرائيل واسترداد الأرض لأصحابها ثم تركهم يحددون ـ ديمقراطيا ـ نوع دولتهم ونظامها الاقتصادي والاجتماعي ٠ ولكن الدولة ، أي دولة ، لا تخلو من البشر .
هنا تثور تلك القضية المغلوطة ، والتي ساهم في غلطها كل أعداء الأمة العربية وكثير من أبناء الأمة العربية ، ونعني بها قضية البشر الذين حملتهم الصهيونية الى الأرض العربية ليكونوا شعبا في دولة إسرائيل . ما الموقف العربي الاستراتيجي منهم ؟ ومنهم من كان موجودا في الأرض العربية قبل 1948 وأبناؤهم ٠ ومنهم من جاءها بعد قيام الدولة النازية وأبناؤهم ٠ ومنهم من فرضت عليهم هوية إسرائيل، ومنهم يهود ومنهم مسيحيون ومنهم مسلمون ومنهم ملاحدة لا يهتمون بأي " دين " ومنهم " مجرمون " بكل معنى ومنهم مغلوبون على أمورهم ، ومنهم من استولوا لأنفسهم على ثمرة العدوان ومنهم من يعيش على الأرض العربية مشردا لا يملك الا أوهامه القديمة . ومنهم الشيوخ والنساء والأطفال والعجزة والمرضى . ومنهم من لا يزال يحتفظ بجذوره خارج فلسطين ومنهم من قطعت جذوره . ومنهم صهاينة ومنهم من لا يهتمون بالعقائد أصلا .. ومنهم من لا هوية له ومنهم من يملك أكثر من هوية بالإضافة الى هوية " إسرائيل" ... ما هو الوقف الاستراتيجي العربي من كل هؤلاء ؟..
ان إيرادنا أمثلة للاختلاف في مواقف الأشخاص المقيمين في فلسطين ، وتعدد نوعية تلك المواقف قد أردنا به أنه لا يمكن أن يكون الموقف العربي من كل هؤلاء البشر موقفا واحدا على المستوى الاستراتيجي .. وبالتالي فان تحديد " حل " نمطي مجرد يطبق على الجميع أو على كل واحد منهم لن يكون الا تجريدا مثاليا قد يؤديـ مثلا- الى أن يكون الموقف من العربي الذي خان أمته هو الموقف من غير العربي الذي جندته الدولة قسرا في قواتها المسلحة . أو يكون الموقف من الذين كانوا في أرض فلسطين قبل 1948 هو ذات الموقف من الذين جاءوا اليها سنة 1967 ، حاربوا ثم حصلوا على مكافآتهم هوية إسرائيلية .
بالرغم من هذا ، فان هذه المسألة ، قد آن الأوان لحسمها أيضا حتى على المستوى الاستراتيجي ليكون هدفنا الاستراتيجي في المرحلة القادمة على اكبر قدر من الوضوح والتحد يد . ولسنا نملك في هذا الا تحديد ضوابط قائمة على أساس من فهمنا القومي لقضية تحرير فلسطين .
الضابط الاول :
هو انه بمجرد انتهاء الصراع وتحرير الأرض العربية تصبح سلامة وأمن كل البشر المقيمين في فلسطين في مسؤولية وضمان الشعب العربي . بانتهاء الصراع تنتهي كل أساليبه غير الإنسانية ويصبح البشر ، كل البشر ، في مأمن من أية نزعة انتقامية ، وعلى وجه القطع لن يلقي بهم أحد في البحر . نقول هذا لان قضيتنا كما نفهمها لم تكن ، وليست ، ولن تكون إرضاء غرائز الانتقام بين الأفراد بل هي تحرير الأرض وإلغاء دولة معتدية . وفي الأرض المحررة ستكون مصونة لكل البشر كل حقوق الإنسان كما يعرفها العالم ، وسيكون القانون هو صاحب السيادة الوحيدة بالنسبة لكل البشر ، قانون الدولة العربية .
الضابط الثاني :
هو ان موقف الدولة العربية من هؤلاء البشر لن يعتد ، أو يقيم وزنا ، او يتأثر بالديانات التي يعتنقها كل منهم ، لا نقول ان الدولة العربية ستساوي بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، بل نقول أكثر من هذا . لن تنظر الدولة العربية الى المعتقدات الدينية أصلا لا من اجل المساواة ولا من أجل التفرقة .
الضابط الثالث :
هو ترجمة خالصة لموقفنا القومي من قضية تحرير فلسطين . ان هذا الموقف يحول بيننا وبين معاملة " العرب " (ايا كانت دياناتهم) معاملة الغزاة الذين خانوا أممهم وجاءوا يحتلون أرضنا . ان أرض فلسطين ليست ملكا خاصا لشعب فلسطين بل هي ملك للشعب العربي كله باعتبارها جزءا من الأمة العربية . وبالتالي فان لكل عربي (أيا كانت ديانته) حقا مشروعا في أن يقيم ويعمل ويتنقل في أي مكان من الوطن العربي . وفي أرض فلسطين عرب تمسكوا بالبقاء فيها بالرغم من الاحتلال الصهيوني . وهم يحملون الآن الهوية الإسرائيلية وبعضهم يقاتل في صفوف جيش إسرائيل . وفي أرض فلسطين عرب جاءوا اليها من أرض عربية ، أخرى ، من العراق واليمن ومصر والمغرب ومن كل مكان تقريبا في الأرض العربية ، جاءوا اليها نتيجة بواعث شتى . ولقد كان من ضمن تلك البواعث - بالنسبة لبعضهم - ما لاقوه في وطنهم العربي من عنت غير عادل . عنت حملهم سؤولية الصهيونية ودفعهم الى أحضانها وتجاهل انتماءهم العربي ... ان لكل هؤلاء العرب حقا قوميا متساويا في الوطن العربي في فلسطين أو في غير فلسطين . وسيضمن لهم الشعب العربي الإقامة والعمل والأمن الذي يتمتع به أي عربي في وطنه . وقد يغفر لهم ما ارتكبوا في حق أمتهم يوم أن انحازوا الى أعدائها ، ولكنهم كانوا عربا وسيبقون عربا بعد تحرير أرض فلسطين . ولقد أتمنى ان يعي كل عربي في الأرض المحتلة ، أيان كانت الأرض العربية التي جاء منها ، ان النضال العربي من أجل تحرير الأرض العربية لا يدور ضده بل يدور في الحقيقة من أجله ويتخذ من الصراع الموقف الذي يمليه ولاؤه القومي إلى أمته العربية بدلا من ولائه الى سادته من الصهاينة . أما بواعثه القديمة التي حملته على أن يغادر جزءا متحررا من وطنه العربي ، الى جزء محتل لتستغله الصهيونية المعتدية في خدمتها داخليا والقتال من أجلها خارجيا ، فان مغفرة أمته ستتسع لها تبعا لموقفه من الصراع المقدم .
اننا كقوميين نقدر المأزق الذي يجد هؤلاء العرب أنفسهم فيه . ان النازحين من الأمم الأخرى الى فلسطين المحتلة ما يزالون يحتفظون بعلاقاتهم ظاهرة أو خفية مع وطنهم الأصيل . وفيه يبقون بعض أسرهم ومنازلهم وأموالهم وانهم يحتفظون بمأواهم الأول ليعودوا اليه يوم أن يضطروا الى العودة أو يرغبون فيها . ولكن العرب الذين وفدوا الى أرض فلسطين المحتلة - بصرف النظر عن البواعث ـ يجدون أنفسهم في مأزق حقيقي . انهم بعد أن تورطوا في خيانة أمتهم لا يجدون سبيلا للإفلات الا المزيد من الخيانة.
ولعل هذا أن يكون السبب في أنهم - في القتال - أكثر ضراوة من غيرهم . ان واقعهم يطرح سؤالا واقعيا. الى أي أرض يذهبون وليس لهم أرض الا أن تكون أرضا عربية ؟ .. اليكم الحل . انكم عرب وقد كنتم عربا وستبقون عربا ، ولكم في كل مكان من الوطن العربي حق مشروع في البقاء والعمل والأمن ، فكفوا عن الخيانة ... أما الذين وفدوا الى فلسطين المحتلة من أمم أخرى ، فعليهم ـ كمبدأ - أن يعودوا الى أوطانهم وستبذل الدولة العربية والمجتمع الدولي- كل مساعدة ممكنة .. فان اختاروا البقاء فان قوانين الدولة العربية التي ستنظم الإقامة فيها والحصول على هويتها وشروط كل هذا ستطبق عليهم . ولن تكون الدولة العربية في هذا بدعة بين الدول فكل الدول لها قوانين تنظم الإقامة فيها وكيفية الحصول على هويتها وشروطها .. ولكنهم في كل الحالات لن " يلقى بهم في البحر " . الضابط الرابع :
هو ان كل المسؤولين عن جرائم الحرب منذ سنة 1948 حتى يوم التحرير سيحاكمون محاكمة عادلة وعلنية كما حوكم مجرمو الحرب في نورمبرج لن يفلت أحد من العقاب . لن يفلت من العقاب كل اولئك الذين أسسوا المنظمة الصهيونية وأداروها وألفوا العصابات المسلحة وقتلوا الرجال واعتدوا على النساء وفتكوا بالأطفال ودمروا القرى وطاردوا البشر المسالمين الى خارج حدود وطنهم .
كل هؤلاء سينالون عقابهم العادل الرادع بصرف النظر عن دياناتهم وبصرف النظر عن انتماءاتهم القومية .
على هذا الوجه يتحدد الهدف الاستراتيجي من الأرض والدولة والبشر تحديدا واضحا في نطاق المهمات الملحة التي تطرحها علينا المرحلة القادمة . وهي المهمة الأولى . أما المهمة الثانية فهي مواصلة الاشتباك مع العدو بصرف النظر عن مواقف الجيوش النظامية . وسيكون هذا موضوع الحديث المقبل .
مقال نشر في جريدة السفير 13 / 5 / 1975 .
مواصلة الاشتباك مع العدو .
قلنا في حديث سابق : " أمامنا ـ إذن ـ مرحلة زمانية ، لا نظنها طويلة ، تفصل بين الواقع الراهن والحرب الفعلية " . وتساءلنا : فما هي المهمات الملحة التي تطرحها علينا هذه المرحلة القصيرة ؟.. هناك ، في ذلك الحديث السابق ، ذكرنا المهمات التي تنتظر الدول العربية (النظم الرسمية) . وبدأنا الحديث عن المهمات التي تنتظر الشعب العربي وقواه الجماهيرية المقاتلة ( فصائل المقاومة) . وقلنا: ان أمام هؤلاء مهمات ثلاث ملحة . أولاها : تحديد الأهداف الإستراتيجية تحديدا صريحا قاطعا . ثم اجتهدنا في ان نسهم في تحديد ما ندعو الى تحديده . وختمنا حديثنا الذي سبق بقولنا : " اما المهمة الثانية فهي مواصلة الاشتباك مع العدو بصرف النظر عن مواقف الجيوش النظامية وسيكون هذا موضوع الحديث المقبل ".
وهذا هو الحديث الذي كان مقبلا .
مواصلة الاشتباك مع العدو :
ان كان موضوع الاشتباك مع العدو قد جاء في سياق تحديد المهمات المرحلية التي تواجه النضال العربي فليس مرجع هذا الى انه مهمة مرحلية. أبدا. مرجعه إلى ا نه العنصر المشترك ” الثابت ” في كل مراحل النضال العربي الى ان تتحرر فلسطين . كان لازما منذ البدا ية وهو لازم الان، وسيبقى لازما حتى النهاية . حتى النصر انما نتحدث عنه كواحد من المهمات الملحة في المرحلة القادمة لنعيد التركيز عليه كعنصر أساسي وجوهري من عناصر النضال العربي . ثم لندفع عنه المخاطر التي تنطوي عليها دعوات السلام والحلول الدبلوماسية.
فالاصل ان تكون دعوة السلام مشروطة باسترداد الحق المغتصب. ودعوة كهذه لا تتنافى مع مواصلة الإشتباك مع العدو ولكن عندما تتحول دعوة السلام الى بديل عن استرداد الحق المغتصب فهى تتضمن الكف عن الاشتباك مع العدو واتاحة الفرص للمساومة على الحق ذاته . كذلك الاصل في النشاط الدبلوماسي أن يكون مساندآ، وتابعا، لاساليب الصراع العنيفة. وهو على هذا الوجه لازم لزوم البندقية ذاتها حتى لو وصل الى حد الجلوس في المؤتمرات فمن قبل استطاعت الثورة الفيتنامية المسلحة ان تكسب على كل مستوى دبلوماسي وان تجلس في مؤتمر في باريس اشهرا طويلة، ولكنها في كل حركة، وفي كل كلمة، وفي كل اجتماع ، كانت تساند القتال المسلح وتستند اليه، وتضع الدبلوماسية في خدمة محركة التحرير . اما عندما تصبح الدبلوماسية مطروحة كبديل – ولو وقتي – عن القتال فان عنصر ” مواصلة الاشتباك مع العدو ” يتعرض الى مخاطر جسيمة ليس اخطر هذه المخاطر التبرع للعدو بهدنة يلتقط فيها انفاسه ويعبىء فيها قواه بل اخطرها القذف بالمقاتلين انفسهم الى مياه البطالة الاسنة وتعريضهم لمرض الملل والركود الذي يسحق قواهم المعنوية ثم تجهيز الشعب نفسه إقتصاديا واجتماعيا ونفسيا للاستسلام عن طريق استمراء حياة السلم والحقوق ما تزال مغتصبة …
كيف يمكن حل كل تلك المشكلات المعقدة ؟ .. السلام عن طريق الحرب . التمكن من الاعداد للحرب بدون إعطاء فرصة للعدو للاعداد لها . الاستمرار في الدبلوماسية على الا تؤدي الى الاستسلام؟ يتم كل هذا بمواصلة الاشتباك مع العدو .
ان هذه قواعد عامة ، مصدرها خبرة المنتصرين في معارك التحرر . ثم تعطينا معركة تحرير فلسطين مبررا جديدا، واصيلا يكاد يمزج بين الحق نفسه وبين مواصلة الاشتباك مع العدو، ويجعل فض الاشتباك مع العدو يكاد يمتزج بالتفريط في الحق .
اذن ما الذي تريده الصهيونية ؟
اعني ما هو الهدف الاساسي الذي من اجله تكونت الحركة الصهيونية؟ انه كلام معاد ومع ذلك فلا بأس في أن نعيده لأن الاجابة الصحيحة على هذا السؤال يجب أن تظل حاضرة دائماً في وعي الشعب العربي وقواه الجماهيرية المقاتلة ، حتى لا تتوه تلك الجماهير في متاهات التكتيكات المرحلية عن هدفها الأصيل . إذ أنه وراء كل المواقف المرحلية والتكتيكية والمناورات السياسية والتنظيمات الفدائية يبقى الهدف الأساسي لمعركة التحرير العربي هو هزيمة الصهيونية في هدفها الاساسي أيضاً .
لم يكن هدف الصهيونية الاساسي تجميع اليهود وتدريبهم وتسليحهم ونقلهم إلى الأرض العربية . هذه خطوة على طريق الهدف الأساسي . وليس هدف الحركة الصهيونية الاساسي هو إقامة دولة على الأرض العربية تحمل إسم إسرائيل وتحيي أحلامهم الميتافيزيقية . هذه خطوة إلى الهدف الأساسي . وليس هدف الحركة الصهيونية تحطيم الجيوش العربية وهزيمتها لمجرد أن تثبت اسطورة التفوق لشعب الله المختار . هذه ايضاً خطوة على طريق الهدف الأساسي.
يتبقى الهدف الأساسي وراء كل هذا هو ان ” يعيش الصهاينة على
الارض العربية حياة آمنة ومستقرة تسمح لهم بأن يتفاعلوا مع الارض وان يحققوا الرخاء والمتعة للذين جمعوهم من أطراف الأرض . والافكار الصهيونية التي تطرح حركتها كحركة قومية ، وتطرح اليهود كأمة، تعلم علم اليقين بأن الوجود القومي لأي شعب لا يتم بمجرد تواجده على قطعة جغرافية بل يتم بتفاعله الحر مع تلك الارض وبناء حضارة قومية خاصة عليها.
من أجل هذا، تقاتل الصهيونية بكل ما تملك من قوة دولتها، لتنتزع من العرب اعترافا ، بوجود اسرا ئيل على الأرض العربية. وهو اعتراف لا يغني عنه اعتراف الدول الاخرى ، لأن الاعتراف في حد ذاته ليس الهدف الاساسي . انما الهدف الاساسي الامن والا ستقرار للحياة في الارض المحتلة، وهذا لا يوفره لإسرائيل الا اعتراف عربي . لهذا أيضا تربط اسرائيل ربطا حتمياً بين الاعتراف والحدود الآمنة. وتستغني عن انهاء الحرب باقامة العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو الثقافية، أي باتاحة فرصة الحياة الآمنة عمليا حتى لو بقيت الحرب معلنة شكليا .
الاستقرار على الارض والامن فيها ، هذا هو ما تريده الصهيونية. ولا تأتي كل الوان الصراع وأساليبه الا كخطوات على الطريق الى هذه الغاية الحياتية.
وليس العرب أعداء أي طموح بشري الى الاستقرار والأمن . ولكن الذي يعادونه وينكرونه ويناضلون ضده هو أن تختار “زمرة ” من البشر تحقيق أمنها على حساب أمنهم . تحقيق حياتها المستقرة على حساب إستقرار حياتهم بأن تنتزع لها أرضاً من أرضهم . تلك هي القضية في جوهرها وهي لا تحتمل إلا حلاً وا حدآ : استرداد الأرض لأصحابها.
من أجل أن تسترد الارض المغتصبة يتعين على العرب أن يثبتوا للصهاينة خاصة أن مشروعهم العدواني مشروع فاشل ، ويكون فاشلأ حتى في وعي الصهاينة أنفسهم عندما يثبت لهم بالممارسة العربية انهم لن يستطيعوا، مهما طال الزمن، ومهما كانت الظروف المحلية أو القومية أو الدولية، ان يعيشوا على الارض العربية عيشة مستقرة آمنة، وهكذا تتحدد خصائص معركة التحرر العربي تحديدا يناسب خصائص معركة العدوان على الارض العربية. ويبرز، أكثر من أية تجربة تحريرية في العالم عنصر ”
مواصلة الاشتباك مع العدو”. إن المواصلة هنا تحقق هدفأ لا يقل أهمية عن هدف الاشتباك ذاته. المواصلة تعني تحريم الامن والاستقرار على العدو ” في كل زمان ومكان وبكل أسلوب وتحت كل الظروف، بصرف النظر عن حجم أو نوع الخسائر المادية أو البشرية التي تصيب العدو .
من هنا تكون مواصلة الاشتباك مع العدو في كل وقت وزمان وبكل أسلوب هى الخط الاساسى للنضال العربي الذي يجب أن يبقى متصلاً مهما كانت الظروف الدولية التي تحكم عناصر الصراع الأخرى . ويصبح متعيناً على كل عربي ، أياً كان موقعه ، أن يدخل هذا الاشتباك في حياته اليومية وأن يمارسه بنفس الاطراد والاصرار والاستمرار ” والسهولة ” أيضاً التي يمارس به الاستيقاظ من النوم كل صباح . أعني أن أن يصبح الاشتباك مع العدو ويقصد تحريم الأمن والاستقرار عليه ” عادة عربية ” عادة على المستوى الجماعي وعادة على المستوى الفردي .
كيف؟
لنأخذ الاشتباك مع ” الدولة ” الاسرائيلية مثلاً.
ان دولة اسرائيل مثل كل الدول مؤسسة ذات وظيفتين فهي جهاز ردع . وهي جهاز إدارة . من حيث هي جهاز ردع تملك أدوات الردع الخارجي من القوات المسلحة و قوات التجسس والتخريب كما تملك ادوات الردع الداخلي من شرطة وحراس ومحاكم وسجون ومشانق..الخ الاجهزة الاولى لتحقيق الاستقرار على الأرض والاجهزة الثانية لتحقيق الامن داخل الأرض . لهذا كان طبيعياً أن تجذب الدولة كمؤسسة ردع داخلي وخارجي
ضربات المقاومة الجماهيرية ، التي كادت ان تكون قوى مقابلة . ففي مواجهة القوة المسلحة المدربة على القتال تملك قوات مسلحة ومدربة على القتال . وتأخذ المقاومة شكل هجمات صدامية بين قوى التحرير وقوى العدوان، تستعمل فيها انواع الاسلحة التي تستعمل عادة في الحروب. وفي مواجهة قوى الامن الداخلي تملك المقاومة قوى فدائية تتسلل الى الارض من خارجها او تثبت على الأرض المحتلة من الداخل وتختار صراعها مع العدو و قوى أمنه الداخلي بالاساليب التي تدخل في صلاحيات تلك القوى . التفجير والتدمير والقتل ومحاولات إرغامه على أن يبلغ احكامه التعسفية ويطلق سراح المعتقلين … الخ . حتى تلك العمليات التي كانت في ظاهرها بعيدة عن المواجهة المباشرة بين قوى الأمن الصهيوني وقوى الفدائيين العرب كخطف الطائرات والقبض على أفراد العصابات الصهيونية في الخارج ما لبثت بشكل نمطي أن كشفت عن الدائرة التي تتم في نطاقها فهي أيضاً موجهة إلى قوى الأمن الصهيوني . فقد أتخذت كل الرهائن من الطائرات والبشر وسائل ضغط للافراج عن المسجونين .
ان كل هذا لازم وضروري . كما أن تصعيده لازم وضروري ولكنه بمفرده لا يحقق عنصر مواصلة الاشتباك مع العدو على الوجه الممكن فعلياً . فمن ناحية لا تستطيع المقاومة الجماهيرية أن توظف في هذا النوع من الاشتباك إلا جزءاً قليلاً من قواها البشرية والمادية وبالتالي تبقى الجماهير العربية العريضة خارج نطاق معركة الاشتباك ومن ناحية أخرى لا يستطيع هذا النوع من الاشتباك ان ينال من أمن العدو واستقراره الا قدرا محدودا اقل مما هو ممكن فعلياً فتبقى الدولة الصهيونية قائمة بوظائفها. وربما كان من شأن الاقتصار على هذا النوع من الاشتباك المحدود هجوما ودفاعا ان يوفر لدولة اسرائيل من حيث هي مؤسسة ردع فرصة احكام قبضتها على الصهاينة داخلها والزامهم نوعا من الانضباط والطاعة لأنها تحمي امنهم واستقرارهم ولتتوافر لها كامل الكفاءة لاداء تلك الحماية .
كيف يمكن اذن تحريم الامن والاستقرار بالاضافة الى وبشكل أكثر تأثيراً من الصدام العنيف المسلح .
بأن نتذكر ان اسرائيل ”
الدولة ” ليست مؤسسة ردع فقط بل مؤسسة ادارة . على هذا الوجه الاخير تقوم الدولة على مجموعة كثيفة من القوانين المدنية والجزائية واللوائح التنظيمية والأوامر الادارية والتعليمات والخطط الاقتصادية والمشروعات الاجتماعية والتعليمية والترفيهية… كل هذه القوانين واللوائح التي تحدد في النهاية شكل الحياة ومجالها على الارض المحتلة . وفي نطاقها ينام الصهاينة ويحلمون ويستيقظون ويعملون للمستقبل الذي لا يستحقونه- ويتسع هذا المجال المتنوع لنشاط الدولة كجهاز اداري لكل ا ساليب المقاومة وهي مقاومة سهلة الاداء وسهلة المخاطر . وهي مقاومة قد لا تحتاج الى عنف ولا تعرّض صاحبها الى عنف ، وهي مقاومة يستطيع الأفراد أن يمارسوها يومياً وكأفراد بدون حاجة الى تخطيط وإعداد وتنظيم ذلك أن غايتها إفشال ” الدولة ” من حيث هي جهاز إدارة . وعلى الذين قد لا يهتدون الى تفاصيل الأسلوب أن يتذكروا كيف ولماذا
تثور الشعوب على دولها فتسقطها .
يوم ان لا يأمن الفرد ان تستمر الاضاءة لأن ” كابل ” قد قطع ولا يأمن ان يغتسل لان ماسورة مياه قد انفجرت ولا يأمن أن يصل الى موقع عمله لان دواليب المواصلات قد اتلفت ولا يأمن أن يعتذر لأن ” الهاتف ” ولا يأمن أن يأكل لأن الخبز محشو بأشياء غريبة ولا يأمن على المواد الغذائية لأنها من حين إلى آخر تنقطع إما لاتلاف تنقطع المحصول او لاتلاف المواصلات أو لاتلافها هي ولا يأمن العلاج لان بعض الادوية مغشوشة ولا يأمن التعامل لأن بعض اوراق النقد مزورة، ولا يأمن السير في الطريق لأن سيارات هوجاء تصدمه، ولا يأمن نظام المرور لان الناس لا يحافظون على نظامه ، ولا يأمن قضاء سهرة لان أشخاصا يتضاربون دائماً فيفسدون السهرات ، ولا يأمن الخدمات لان الضرائب لاتدفع ، ولا يأمن العدالة لان الاحكام لا تنفذ، ولا يأمن صحة المعلومات لأن الصدق محرم عليه… يوم ان تصبح ” الحياة ” العادية اليومية لاتطاق لأن ملايين التصرفات الصغيرة المحدودة ولكن المستمرة تجعل الحياة لاتطاق … يوم ان يتم كل هذا لا تغني الدولة لا قواتها المسلحة ولا قوات امنها . تنهار الدولة من الداخل لانها فاشلة .
فاذا اضيف الى هذا ان ادارة الدولة للاقتصاد فاشلة فقطع الغيار غير متوافرة والمصانع تتوقف يوميا أو من يوم إلى يوم ولو عشر دقائق ، حرائق صغيرة تشب من حين إلى حين حتى في النفايات المتروكة، والبضائع المعدة للتصدير لا تكون مطابقة للمواصفات ، وخطابات البريد- التي توضع باليد في صناديقها لاتصل إلى أصحابها كأن أشباحاً تفرغها ، وتعبئة البضائع رديئة ، وما يكتب في ورقة يكتب في عشر ورقات ، وحتى ساعات ضبط الوقت لا تنتظم ، والبرقيات لا تكون واضحة والاتصالات اللاسلكية لا تسمع جيداً .. وحوادث عجيبة تحدث في الموانىء في جميع أنحاء العالم فتعطل إبحار البواخر في المواعيد المحددة ، وتعطل الطائرات عن الوصول في المواعيد المحددة … إلى آخر ألف مليون مهمة لا يدخل في أكثرها أي نوع من أنواع العنف ولا تتطلب أسلحة أو تنظيمات ولكنها كلها ترشح أي دولة للانهيار ولا تعوضها أية تعبئة معنوية أو فكرية…
وهذا هو المجال المفتوح
للجماهير العربية في الارض المحتلة. لوكا نوا يستمعون إليّ هناك، لقلت لهم، ان الدولة كجهاز اداري عبارة عن مجموعة من الاوامر والنواهي تجدونها في القوانين واللوائح . وعلى كل عربي ان يخرق كل يوم أمرا أو اكثر من أمر. ان يفعل شيئا ممنوعا أو اكثر من شيء ممنوع . وستكون هذه هي ” العادة ” الفردية اليومية . لا يهم مضمون الامر والنهي . المهم اضعاف بناء الدولة بتخريبه كل يوم . بانتزاع لبنة من لبناته بكل يوم . يتحرم الامن والاستقرار اليومي على الصهاينة في الارض المحتلة. وليفعل كل واحد- يوميا وباستمرار- ما يستطيع .
أما على المستوى الدولي، فان دولة اسرائيل متواجدة كجهاز ادارة معاملات مالية وا قتصادية وثقافية مع الدول الاخرى . واما على مستوى الوطن العربي فان الدول المتحالفة مع اسرائيل ذات وجود اقتصادي واجتماعي وثقافي وبشري أيضا. والساحة مليئة بملايين ملايين مجالات الاشتباك مع العدو وحلفائه بأساليب قد تبدو صغيرة ولكن مواصلتها يحولها الى خطيرة . قد تبين عابرة ولكن مواصلتها يحولها الى قاهرة . وتبدو هينة ولكن مواصلتها تحولها الى مميتة وقاتلة. قد لا تبدو ضربة قاضية للعدو ولكنها استنزاف لقواه.. وهي بعد الاقوى أثرا في جر الصهاينة المقيمين على الارض الى دائرة الصراع ومخاطرها بدلا من تركهم يجتمعون وراء دولتهم من حيث هي جهاز ردع .
وهكذا تنهش الجماهير العربية الجسد المزروع الغريب في أرضها، وتحرم عليه الامن والاستقرار الذي يحلم به على هذه الارض . ويفلت النضال العربي من مأزق الحصر التقليدي الذي علق معركة التحرر دهرا على الجيوش النظامية للدول العربية ، ويكاد يعلقها الان على نفر من الفدائيين ، ثم تبقى الجماهير العادية البسيطة بعيدة عن المعركة، مع أن
مواصلة الاشتباك مع العدو لا تتحقق تحقيقا كاملا الا من خلال دخول الجماهير العادية البسيطة خضم المعركة بالاسلوب المناسب . وما يزال باب الاجتهاد في الاسلوب مفتوحا. انما نحاول من خلال الأمثلة أن نؤكد خطاً لا يجوز أن ينقطع أو يتوقف أبدا ، في أي زمان وفي أي مكان وبأي أسلوب هو : مواصلة الاشتباك مع العدو .
مقال نشر في جريدة السفير يوم 17 / 5 / 1975 .
مقياس الخطر من الوجود الاجنبي في الوطن العربي .
يتساءلون ، أين نحن من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية ، ويقولون ان الامر كان واضحا حين كنا منحازين الى الشرق . حين اقتصرنا على اسلحته وخبرائه . حين فوضناه في أن يتحدث باسمنا . حين عرضنا عليه الدفاع عن وطننا . حين بذلنا فوق ما نطيق مالا وبشرا في العراك مع الولايات المتحدة الامريكية واصدقائها . حين اخترنا الاشتراكية . ولقد كان الامر واضحا لان حدود الانتماء ـ كما يقولون ـ كانت واضحة . فلقد كان العالم منقسما انقساما حادا الى قوتين متصارعتين ، الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية . في تلك الظروف كان من الممكن أن نجد للانحياز مبررا . ولقد حاولنا وحاول غيرنا ان نبني كتلة عدم الانحياز من دول العالم الثالث ، ولكنا ـ وا قعيا ـ كنا منحازين . المهم ان الظروف قد تغيرت . وان المتغيرات الدو لية قد اصابت علاقات كل الدول بالتغيير . وحل الوفاق محل الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية . انهم يتعايشون معا ويتفقون معا ويعقدون الصفقات طويلة الامد . وان هذه لفرصة تاريخية لنعود الى استقلالنا ونتعامل مع كل الدول بدون تمييز ولا نزج بانفسنا في معتركات السياسة الدولية . وان اخشى ما نخشاه من خطر على قضيتنا أن نقع فريسة الاستقطاب مرة أخرى ، واخشى ما نخشاه من خطر على حريتتا أن نفقد المقدرة على اتخاذ قراراتنا طبقا لما يتفق مع مصالحنا .. الخ .
الموقف الاول ، يعيد التذكير بتاريخ علاقتنا بالاتحاد السوفيتي . لم يكن الاتحاد السوفيتي هو الذي تقدم فدس أنفه في شؤوننا الداخلية . كانت البداية منا . نحن الذين تقدمنا اليه ننشىء معه علاقات اقتصادية ومالية وثقافية وعسكرية فرحب وقبل . ولم نتقدم اليه مختارين . تقدمنا اليه بعد أن استنفذنا كل الوسائل في محاولات استغرقت سنين طويلة أردنا بها أن ننمي علاقاتنا الاقتصادية والمالية والثقافية والعسكرية مع المعسكر الغربي والولايات المتحدة الامريكية بالذات . وكانت للولايات المتحدة الامريكية شروط لا تنسى لانها شروط تمس استقلالنا وحريتنا ” ولما رفضناها ضرب علينا الحصار الاقتصادي ، وجمدت أرصدتنا المالية في الولايات المتحدة الامريكية ، وتوقفت الاعانات ، وسحب عرض بناء السد العالي ، وغزت اسرائيل أرضنا تحت مظلة حلف الاطلنطي . كان المطلوب منا لكي نحتفظ وننمي علاقاتنا مع الولايات المتحدة الامريكية أن نكف أنفسنا عن الاهتمام أو التدخل في شؤون العالم العربي ، أن نصطلح ونعترف باسرائيل ، لأن نقبل رقابة مالية على خزانتنا ، الا نقيم مشروعا اقتصاديا الا بعد الاذن من البنك الدولي . باختصار كانت تبعيتنا الى الولايات المتحدة الامريكية هي ثمن أية علاقة اقتصادية أو مالية أو ثقافية أوعسكرية . والمرحوم دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة . هو الذي قال لنا : اما معنا واما ضدنا لان موقف عدم الانحياز موقف غير اخلاقي …
ولقد لجأنا الى الاتحاد السوفيتي فتعامل معنا في الحدود التي ارتضيناها وقبل شروطا لا تتفق حتى مع مبادئه العقائدية . صفقة الاسلحة تمت
سنة 1955 بينما كان كل الشيوعيين في السجون . وبينما كان خبراء الروس ينفذون مشروع السد العالي ، ويخططون لمجمع الحديد والصلب ، ويوردون الاسلحة ، كان الشيوعيون أيضا في المعتقلات في الواحات ، وعندما هزمنا في عام 1967 قدم لنا الاتحاد السوفيتي تعويضا عن اسلحتنا مكننا من استئناف القتال في حرب الاستنزاف . وعندما بدأت غارات العمق ذهبنا ، نحن الذين ذهبنا، لطلب الاسلحة المتطورة ، ونطلب الخبراء ، ونطلب ، نحن الذين طلبنا أن يتولى طيارون من السوفيت حماية اجوائنا الداخلية الى أن يتم تدريب طيارينا . وعندما قلنا تعالوا نتفق على انهاء مهمة الخبراء قال السوفيت ليس هذا من شأننا لنتفق عليه ، انه من شأنكم انتم فان اردتم فانهوا وجودهم في بلدكم . فلما طلبنا مغادرتهم في موعد ، حددناه نحن ، غادروا هم قبل الموعد الذي حددناه . فلماذا نخشى التعامل مع الاتحاد السوفيتي وهذه خبرتنا معهم ..
الموقف الثاني يقول ان هذا ليس الا جانبا واحدا من المشكلة . جانبها الثاني هو اننا عندما نقتصر في تعاملنا الاقتصادي أو المالي أو الثقافي أو العسكري على الاتحاد السوفيتي فاننا نكون قد اصبحنا تابعين له سواء اردنا او لم نرد . ان الاتحاد السوفيتي لم يعطنا كل ما أعطانا حبا فينا أو استجابة لمبادئه ونظرياته . ولو كان يتبع في سياسته الخارجية مبادئه النظرية ما تخلى عن الماركسيين . ولو كان يتبع في تعاونه الدولي مبادئه لما عرض اقتصادالصين الشعبية وهي دولة ماركسية للخراب عندما سحب خبراءه فجأة في وقت كانت الصين في أشد الحاجة اليهم . انما هو يبحث منذ قرون عن سبيل الى المياه الدافئة ، ولقد فتحنا له مياهنا فاصبح له وجود عسكري قوي في المتوسط ، وفي محيطات الجنوب ونقل بذلك صراعه مع الولايات المتحدة الامريكية الى ارضنا . وفي هذا الصراع لا يمكن الحياد . فهو يسعى باساليبه الخاصة لاحتوائنا وهو يستعمل في سبيل هذا امضى اسلحته وهو السلاح الفكري . ما بين عام 1964 وعام 1967 لم تمض الا ثلاث سنوات قضاها الماركسيون خارج السجون فبلشفوا العقول و سمموا افكار الجيل الجديد من الشباب، واشاعوا الفساد والالحاد .. وفي الاوقات العصيبة لم يتردد الاتحاد السوفيتي في الضغط علينا بما يملك تحت يديه من ادوات اقتصادية ومالية وعسكرية . حبس عنا قطع الغيار . وهو يرفض جدولة الديون . وهو يرفض ان يعوضنا خسائرنا في الحرب كما فعل مع سورية وكما تفعل الولايات المتحدة الامريكية مع اسرائيل . ثم بماذا يفيدنا الاتحاد السوفييتي ؟ ان ازمتنا اقتصادية . ولقد أصبحنا افقر الدول بعد أن كنا اغناها. ما نريد الان هو ان نوقف الاستنزاف الدائم لمواردنا الاقتصادية والبشرية بالكف عن الحرب . على اسرائيل اذن أن تترك أرضنا بدون قتال ولا يستطيع أن يحملها أحد على هذا الا الولايات المتحدة الامريكية. ثم ان الولايات المتحدة الامريكية هي وحدها التي تستطيع ان تقيلنا من عثرتنا الاقتصادية لانها اقوى قوة اقتصادية في الارض . ألم يلجأ اليها حتى السوفيت ليحلوا ازماتهم الاقتصادية المستعصية . لقد ارهقنا الفقر والحرمان سنين طويلة ولا نريد الا وضع حد لهذا الفقر والحرمان ، فلنفتح أبوابنا للولايات المتحدة الامريكية . لن يأتي الينا الاسطول الامريكي فانه لا يفتقد القواعد . ولن يأتي الينا الجيش الامريكي فقد انسحب حتى من جنوب شرقي اسيا . انما ستأتي الينا الاموال الغزيرة ، والتكنولوجيا المتقدمة ، ومشروعات الاستثمار المدروسة . فتتحول بلدنا الى جنة كما تستحق
بدون أن نفقد حريتنا .
الموقف الثالث يقول : اننا ، فوق كل شيء وقبل كل شيء ، يجب أن نحافظ على استقلالنا فلا نقع في شباك التبعية لا للاتحاد السوفيتي ولا للولايات المتحدة الامريكية . وبناء عليه يجب أن نتعامل معهما معا ، لا نعادي أيهما ولا ننحاز الى أيهما وبالتالي نفلت من كليهما ونستفيد من علاقاتنا بالجميع . على هذا الوجه يجب أن يكون التزامنا الاسترا تيجي ، أما المواقف التكتيكية فتتنوع وتتغير تبعأ للظروف المتنوعة المتغيرة . ولكن المقطوع به أننا لن نسمح في أي حال بوجود سوفيتي أو وجود أمريكي في أرضنا العربية .. فلا قواعد عسكرية . ولا احتكار للسلاح . ولا تعامل منفرد إقتصاديأ ، ولا رأسمالية ، ولا شيوعية ، بل انفتاح على كل الدول وكل المذاهب وكل النظم .
ومعارك الكلمات وما تخفيه ، ما تزال مستمرة .
ونحن نريد بهذا الحديث أن نقيم حدا بين المواقف . اذ لن يضيرأمتنا أبدا أن تفرز القوى من خلال مواقف محدودة بحيث يعرف كل واحد الى أين ينتمي . ان هذا الفرز مقدمة صحيحة وصحية للحل الصحيح . انما تضار أمتنا حقا ، اعني جماهير
أمتنا العربية ، عندما تختلط في اذهانها المواقف فلا تعرف كيف تختار موقفها هي .. ولاختلاط المواقف سبب غير خفي فان جميع المتعاركين يدخلون الى موا قفهم المتناقضة مدخلا واحدا : الوطنية . الحرية . الاستقلال وعدم التبعية … الى آخره . وهو مدخل الجماهير أيضا . فلا أحد يستطيع أن يقنع أحدا في الوطن العربي بخيانتة وطنه أو بيع حريته أو التنازل عن استقلاله . ومع ذلك فان المواقف التي اختلطت في مدخل واحد ، مدخل الوطنية ، مواقف متناقضة فلا بد لها من أن تفرز حتى تعرف
جماهير أمتنا أي موقف تختار لنفسها.
ليس غاية هذا الحديث اذن ، تحقيق ادعاءات الاطراف المعنية او محاكمة مواقفها ، بل غايته أن يضع بين أيدي الجماهير العربية مقياسا للخطر، مفترضا ان الموقع الاستراتيجي لوطننا العربي وما فيه من ثروات يرشحه لمطامع كل الذين يحتاجون إلى” وجود ” سواء كان وجودا عسكريا أو اقتصادياً ، ولن نعقد مقارنة بين كل الدول والقوى لنقول من منها الذي يحتاج إلى ” الوجود ” في الوطن العربي . انما نقصر الحديث على بيان كيف تتواجد القوى والدول خارج حدودها .
والمقارنة للايضاح ، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.
ان الولايات المتحدة الامريكية هي التي هددت صراحة بغزو
الوطن العربي وهي التي تتواجد عسكرياً في اسرائيل وهي التي تملك القواعد في بعض الاقطار العربية . يقول أصحاب الموقف الثاني أن الولايات المتحدة هددت ولكنها لم تنفذ مع انها قادرة على التنفيذ . وهي ليست قوة عسكرية موجودة في اسرائيل بل هي حليفة تبيع لاسرائيل السلاح كما تبيع للاردن وللمغرب ، وهذا يجري به العرف الدولي . أما قواعدها في بعض الاقطار العربية فقد أقيمت على أرض مؤجرة من تلك الاقطار وما تزال لها قاعدة في كوبا لم تستخدمها في اسقاط كاسترو رغم محاولاتها اسقاطه بطرق أخرى . ولقد استطاعت ليبيا ان تنهي هذا الوجود بمجرد طلب انهائه وأخلت أمريكا قاعدتها هناك .
ليكن . منعا للجدال . لنستبعد اذن المقياس العسكري ولنقل أن أياً من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية لن يجسد وجوده خارج حدوده عنوة بالقوة المسلحة والاحتلال . انه الاستعمار “القديم ” الذي انقضى عصره . كيف يتجسد وجود الدولة خارج حدودها إذن ؟
كل بالاسلوب الذي يتفق مع نظامه الداخلي .
الاتحاد السوفيتي دولة اشتراكية خالية تماما من المؤسسات الفردية . الدولة هي التي تنتج السلاح وهي التي تبيعه . الدولة هي التي تملك ” ادوات الانتاج وتتعامل ـ خارجيا ـ في المنتجات الصناعية والزراعية وغيرها . وكل الناس في الاتحاد السوفيتي عاملون في الدولة ، ولا يستطيع أي واحد منها أن يؤجر قوة عمله الى غير دولته ولكنها تملك تشغيله في خارج الدولة تنفيذا للاتفاقات التي تعقدها الدولة مع الدول . والدولة هي التي تملك الصحف والاذاعة وتطبع الكتب وتنشرها وتوزعها داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه .
وهكذا يكون الوجود السوفيتي خارج حدوده وجودا ظاهرا ومحددا ومعروفا لانه يتم من خلال الدولة وفي نطاق علاقاتها بالدول الاخرى . الوجود الاقتصادي يتم في شكل مكاتب متخصصة ترفع العلم السوفيتي علناً . في شكل عقود يبرمها مندوبون مفوضون من الاتحاد السوفيتي رسميأ. في شكل مصانع وأدوات صناعية وأسلحة وذخائر تسلّم من الاتحاد السوفيتي الى الدولة المعنية طبقأ لاتفاقات معروفة. في شكل خبراء معروفة أسماؤهم وأسماء أسرهم وأعدادهم ومحال إقامتهم وأرقام هوياتهم لدى سلطات الدولة التي يوجدون فيها . والوجود الثقافي في شكل مكاتب ثقافية ومكتبات وصحف وكتب تحمل كل منها شعار واسم الاتحاد السوفيتي . وفي شكل وفود زائرة معروفة العدد والاسماء ومدد الاقامة والغرض من زيارتها ووفود مدعوة بالاسم او بالصفة لمدد معلومة تقدم دعوتها الى الدول التابعة لها . لا شيء يجري في الخفاء، ولا شيء يمكن أن يضلل أحدا في ” الوجود ” السوفييتي عندما يريد الاتحاد السوفيتى أن يكون له وجود خارج حدوده ..
ان هذا الوجود العلني ، والذي لا يمكن الا ان يكون علنيآ هو الذي سمح ويسمح بحملات التشهير بالوجود السوفيتي . ففي كل دولة يستطيع رجل الشارع العادي ان يعرف ما اذا كان للاتحاد السوفييتي وجود في دولة ام لا . وما شكل هذا الوجود . وما حجمه وبالتالي يستطيع ان يقدر ما اذا كان هذا الوجود يمثل خطرا على استقلاله او لا يمثل .. فالمشهّـرون بالوجود السوفيتي لا يحتاجون الى معلومات . كلها متاحة وغير منكورة فيبقى لهم ان يفسروا ويأولوا ويستنتجوا ما يريدون من وجود لا ينكره احد .
على أي حال ، فان أي ”
وطني ” يحرص على استقلال بلاده لن يخطىء ابدا في معرفة بدء وشكل ومضمون وحجم الوجود السوفيتي في بلاده . وسيكون عليه هو ان يقدر مدى اتفاق او عدم اتفاق هذا الوجود مع استقلاله الوطني ، وان يحد منه او ينهيه ولن يكلفه هذا شيئا سوى مراجعة او تعديل او انهاء العقود والاتفاقات التي ابرمها مع دولة الاتحاد السوفييتي .
نأتي الى الطرف الآخر.
الولايات المتحدة الامريكية دولة رأسمالية اقتصاديا ليبرالية سياسيا . الدولة هنا لا تتدخل بشكل عام الا في شكل القوة المسلحة التي استبعدناه . لان الدولة في الولايات المتحدة الامريكية ذات وظيفة محددة : حماية مصالح رعاياها واشخاصهم فقط لا غير . اما العلاقات الاقتصادية او المالية او الثقافية بالدول الاخرى فيقوم بها الافراد والمؤسسات الخاصة . حتى الاسلحة تنتجها وتبيعها مؤسسات خاصة تلك المؤسسات الخاصة قد تقيم علاقاتها مع دولة او مع مؤسسات خاصة ا يضا في الدول . وغاية كل هذا النشاط الذي يقوم به الافراد والمؤسسات الخاصة من الامريكيين خارج الولايات المتحدة الامريكية هو الحصول على الارباح . اكبر قدر من الارباح ، وهكذا يتبع الوجود الامريكي مصادر المواد الخام والعمالة الرخيصة والعرض الاستهلاكي أينما كان متاحا بشروط افضل .. ولا تحتاج دولة الولايات المتحدة الى الظهور كطرف في علاقات رعاياها بالدول او المؤسسات او الافراد خارج حدودها . كل ما تحتاجه هو اكبر عدد من العيون والرقباء والعملاء الذين ينشطون خفية للتحقق من أن ” الظروف ” الداخلية في أية دولة لا تهدد مصالح رعاياها اما بتقييد نشاطهم أو بمحاولة الحد من الارباح التي يغرفونها فتظهر حينئذ في شكل قوة عسكرية . وقلة من هؤلاء من يلحقون بسفاراتها كموظفين . الكثرة يتواجدون ايضا تحت شعار النشاط الاقتصادي أو المالي أو الثقافي . وليس مطلوبا من أي وطني حريص على استقلال بلاده ان يكشف حقيقة كل هؤلاء الامريكيين الذين يفدون الى بلاده ، يحملون وعود الرخاء ودعوات السلام . هذا فوق طاقة اي وطنى .
كيف يمكن اذن ان يعرف أي وطني حريص على استقلال بلاده بدء وشكل ومضمون وحجم الوجود الامريكى في بلاده ؟ بمراقبه ودراسة تتبع النشاط الاقتصادي والمالي والثقافي في بلاده ذاتها عندما يبدأ دخول رؤوس الأموال الخاصة في بلده يكون قد بدأ الوجود الأمريكي سواء جاءت رؤوس الأموال تلك من الولايات المتحدة أو من المانيا الغربية أو من اليابان أو من أي طرف من أطراف الأرض لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي ” امبراطورة ” الرأسمالية العالمية كل ثغرة تفتح لتتسرب منها مضاربات السوق الرأسمالي إلى الداخل يدخل معها السوق الأمريكي في شكل مضاربين على احتياجات الشعب في السوق الحرة . كل صفقة دولية تعقدها مؤسسة خاصة “
وطنية” هي اسلوب خاص للوجود الأمريكي في الوطن . كل فرع بنك أجنبي هو تجسيد للوجود الأمريكي . كل سلعة استهلاكية لا يحتاج إليها الشعب هي جزء من الوجود الأمريكي . كل مشروع امريكي اقتصادي أو مالي أو ثقافي ، هو وجود أمريكي .. كل دعوة ليبرالية هي دعوة إلى أمريكا لتتواجد . كل نظام رأسمالي هو في التحليل الأخير وجود أمريكي في شكل نظام .
وفوق طاقة الجماهير العربية العادية أن تراقب وتتبع هذا الوجود منذ بدايته إلى أن يسلبها استقلالها الوطني . فماذا تفعل لمنع مخاطر الوجود الأمريكي في بلادها ؟ هل تقاطع أمريكا ؟
لا ..
ألاّ تتعامل مع أمريكا ورعاياها من المؤسسات والأفراد إلاّ عن طريق دولتها . أن تكون الدولة هي المتعاملة المتعاقدة المتاجرة المبادلة ، مالياً واقتصادياً وثقافياً ، مع أمريكا وكل النظم الرأسمالية . أن تكون الدولة هي صاحبة الصلاحية وحدها ، فيما يدخل أو لا يدخل حدودها من أموال أو بضائع أو ثقافة ، وتكون هي الطرف الوحيد في كل مشروع طرفه الآخر مؤسسة رأسمالية . ان الانفتاح على المؤسسات الأمريكية هو استدعاء للوجود الأجنبي في
أرض الوطن .
مقال نسر في جريدة السفير يوم 28 / 7 / 1975 .
حرية الارادة الوطنية بين الشكل والمضمون .
من مشكلات السياسة التي ظهرت منذ بداية الخمسينات من هذا القرن ، مشكلة مدى تحقيق حرية الإرادة الوطنية في القرارات التي تصدرها السلطة في أي دولة ..
فمن قبل ، وعلى وجه خاص ، قبل الحرب العالمية الأخيرة ، لم يكن إسناد القرارات التي تصدرها السلطة في أي دولة الى الإرادة الوطنية ، أو عدم إسنادها ، يثير أي لبس . كان العالم منقسما الى دول مستعمرة ودول خاضعة للاستعمار . وكانت الدول المستعمرة تمارس سيطرتها على الدول الخاضعة ممارسة ظاهرة ، وتنفذ إرادتها تحت حماية القوات العسكرية المرابطة في ارض الدول الخاضعة . كان ذلك عصر الاستعمار القديم وأسلوبه المكشوف ، ولم يكن احد يخطئ في معرفة صاحب الإرادة في صدور أو نفاذ أي قرار . فمن حيث الشكل كان صدور القرار الذي يبدأ بزيارة من ممثل الدولة المستعمرة الى الحاكم المحلي لتبليغه مضمون القرار الذي يريد أن يصدر . وقد يطلبه كتابة ، وقد يأخذ شكل البلاغ العلني أو حتى الإنذار المصحوب بتهديد باستعمال القوة كما حدث في مصر في فبراير 1942 .. أما من حيث المضمون فقد كانت القرارات كلها ذات مضامين تخدم مصالح المستعمرين بالدرجة الأولى .. أو بالدرجة الوحيدة .. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وانتهت تاركة أثرين خطيرين :
ـ أولهما أن الدول الاستعمارية التقليدية قد أنهكتها الحرب ماليا واقتصاديا وبشريا ، وأصبحت في أشد الحاجة الى توفير نفقات الاحتلال المباشر ومصروفات إنشاء القواعد العسكرية أو المحافظة عليها ، فكان لا بد من أن تنهي الوجود المادي الظاهر للاستعمار في الدول الخاضعة له ..
ـ ثانيهما خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب اقوى عسكريا وماليا واقتصاديا من وقت دخولها ، وتوليها قيادة المعسكر الاستعماري بدلا من القوى التقليدية المنهكة ..
وأدّى هذان الأثران الى تغير في شكل الاستعمار الرأسمالي .. فهو موجود لكنه في أشكال خفية ، وتتولى الولايات المتحدة الحفاظ عليه ، ولكن بأساليب غير مباشرة . هذا التغيير أدى بدوره الى تغيير في الشكل السياسي الذي كانت تعيش فيه المستعمرات ، فقد كسبت تلك المستعمرات ـ الكثير منها أو اغلبها ـ التحرر من التبعية الظاهرة ، فكسبت الاستقلال الظاهر .. أعني جلت عن أرضها الجيوش المحتلة ، وتشكلت فيها حكومات " وطنية " ، واختارت أعلامها ، وأنشأت علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى ، وتحصلت على اعتراف الدول الأخرى بذلك الاستقلال ، وحظيت بمقاعدها في هيئة الأمم المتحدة .. وأصبح الاستقلال الوطني في كل شكلياته الدولية والدستورية حقيقة معترفا بها .. وبه انتهى أيضا عهد إملاء الإرادة على السلطات الوطنية ، وأصبحت كل القرارات التي تصدرها السلطة في أية دولة " مستقلة " تستند من حيث الشكل الى الإرادة الوطنية ..
بقيت مشكلة المضمون ، أي مدى اتفاق مضمون تلك القرارات مع المصالح الوطنية . وفي هذا انقسمت الدول المتحررة حديثا الى قسمين رئيسيين وان كانا متداخلين ..
فمجموعة كبيرة من الدول التي " استقلت " شكلا بقيت خاضعة " موضوعا " للاستعمار في شكله الجديد . والشكل الجديد هو التبعية الاقتصادية والمالية والثقافية . فمع بقاء المصالح الاستعمارية بالرغم من الاستقلال الشكلي ، أصبحت الإرادة الوطنية في مضمونها محكومة بما يتفق مع الحفاظ وتنمية تلك المصالح ،
وانقلبت السلطة الوطنية الى حارس وطني للاستعمار بدلا من الجيوش التي جلت عن ارض الوطن .. وكان هذا أقصى ما يتفق مع إرادة المستعمرين .. حيث تتحمل الدول المستقلة تكاليف وأعباء الحفاظ وتنمية مصالحهم ، فتحمل الاستعمار اقل تكلفة وبالتالي تزيد من معدلات الربح ..
مجموعة أخرى من الدول التي " استقلت " شكلا أرادت ان تستقل مضمونا . ان تتحرر اقتصاديا وماليا وثقافيا من الدول الاستعمارية . والواقع انها لم تكن تطمح الى مقاطعة تلك الدول والدخول معها في صدام انتقامي يعوض مذلة السنين الطويلة . بل كان همها الأول ان تحول الاستقلال الوطني الذي تم شكلا الى استقلال حقيقي . استقلال اقتصادي ومالي وثقافي .
وكانت على استعداد لان تلتمس أسباب تقدمها الاقتصادي والاجتماعي في أي مكان من العالم المتقدم بما فيه الدول الرأسمالية الاستعمارية . أي ان أقصى ما كانت تطمح اليه السلطة الوطنية في تلك الدول هو ان تتعامل مع كل القوى ولكن بدون " تبعية " مع اعترافها بان العزلة او الانعزال عن العالم ودوله ومصالحه ـ في هذا العصر - غير ممكن وغير مفيد ، وبالتالي استعدادها لتبادل الخدمات والمعونات والمصالح عند نقاط التقائها مع أية دولة ولكن بدون " تبعية " .
ولم يكن هذا الاتجاه ليعجب المستعمرين . المستعمرون لا يتعاملون ولا يتبادلون ولكن يستولون ويأخذون ما يريدون عنوة او خفية . ولا يهم المستعمرين ان تعبر أي دولة بأقصى ما يتيحه لها استقلالها من وسائل التعبير عن إرادتها الوطنية في اتخاذ قراراتها . ولكن الذي يهمها ولا يمكن ان تتساهل فيه هو ان تكون مضامين تلك القرارات غير مناقضة لمصالحها اذا لم تكن مطابقة لها . وهكذا بدأ الصدام بين القيادات الوطنية التي تريد ان تحتفظ بحرية إرادتها الوطنية شكلا ومضمونا وبين القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قد تسمح بالشكل الوطني للإرادة ولكنها لا تسمح بأن يكون مضمونها وطنيا .
وبدأ الصدام ودار جزؤه الأكبر على الأرض العربية .
فقد كانت مصر ، تحت قيادة عبد الناصر ، هي المحك الذي كشف طبيعة الاستعمار الجديد وأساليبه المبتكرة ، واستفادت دول كثيرة في العالم من ذلك الدور القيادي الرائد الذي وضعت به مصر ، تحت قيادة عبد الناصر ، قوى الاستعمار الجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية موضع الاختبار السلمي والعنيف معا ، لتعرف الدول المتحررة حديثا مدى حقيقة استقلالها ومدى استعداد القوى الاستعمارية لاحترام هذا الاستقلال .
فمنذ ١٩٥٢ بدأت القيادة الوطنية في مصر تتجه بقوة الى حل مشكلات التخلف الاقتصادي والاجتماعي بالتركيز على مشروعات التنمية الصناعية والزراعية وتوسيع فرص التعليم لتحضير القوى البشرية المؤهلة لبناء الدولة الجديدة . وكان الاتجاه رأسماليا لا شك فيه بالرغم من " الإصلاح الزراعي " الذي استهدف القضاء على كبار الإقطاعيين وتحرير الفلاحين من القهر الاجتماعي بدون مساس بعلاقات الإنتاج . ولجأت الثورة في سنواتها الأولى الى الدول الرأسمالية عامة ، والى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة ، تلتمس عندها رؤوس الأموال والخبرة ، وأصدرت قوانين " مثالية " لجذب رؤوس الأموال الأجنبية حتى متطلبات التسليح ـ حفاظا على الاستقلال ـ حاولت الحصول عليها من الولايات المتحدة الأمريكية أولا . لم تحصل على ما تريد وان كانت قد بقيت تحاول الى ان بدأت مشكلة بناء السد العالي . وفي مشكلة بناء السد العالي تبينت القيادة الوطنية في مصر ما الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية .. تبينته لأنه ابلغ اليها واضحا وصريحا في بنود محددة . الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تحتفظ مصر المستقلة بحرية اتخاذ القرارات تأكيدا لاستقلالها الوطني على ان تكون مضامين تلك القرارات متفقة مع المصالح الأمريكية لا مع مصالح الشعب العربي في مصر . انها لا تقدم المعونات بدون مقابل ، ولا تعطي رؤوس الأموال في مقابل الفائدة ، ولا تبيع في مقابل الثمن ، ولا تبادل فائضا بفائض كما يحدث بين الدول المستقلة . ولكنها تريد ان تختار هي نوع المعونات والمشروعات التي تستثمر فيها رؤوس الأموال ونوع البضائع التي تبيعها ، ونوع الفائض الذي تقبله .
ورفضت مصرتحت قيادة عبد الناصر ان تبيع استقلالها مقابل تنميتها اقتصاديا على وجه تكون ملحقا وامتدادا للسوق الأمريكي استثمارا وإنتاجا واستهلاكا .. فسحبت أمريكا عرضها بتمويل السد العالي ، فأمم عبد الناصر القناة للحصول على موارد مالية لبناء السد .
بـ "
السوبرنطيقا " . علم التحكم غير المباشر . وهو علم نما ونضج في ممارسات الحرب العالمية الثانية ، ثم امتد بعدها ليطبق بنجاح في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وتطبقه الولايات المتحدة بمهارة في سياستها الدولية .
يبدأ الاسلوب بالسؤال ، ماذا تريد السلطة الوطنية في الدولة المعنية ؟ .. وفي الاجابة على هذا السؤال تستعمل كل اساليب البحث العلمي والعقول الالكترونية . ولا يقتصر البحث على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية وعادات وتقاليد وتراث كل شعب فحسب ، بل يمتد وبعناية بالغة لدراسة " اشخاص " القادة في ادق تفاصيلها . من اول نوع القراءات والهوايات والامزجة الى اخر السلامة العقلية والنفسية والجسدية والمحيط الاسري ايضا ، كل هذا ليصلوا الى تحديد ماذا يمكن ان تريده السلطة الوطنية . وعندما تنتهي الاجابة يبدأ التخطيط بعيد المدى واصطناع وقائع في داخل الدول المعنية أو خارجها ، وعلى مستويات فردية ومستويات عامة .. ليصلوا في النهاية الى أن " تريد " السلطة الوطنية ـ بكامل استقلالها وحريتها في الاختيار ـ ذات الذي يريده المستعمرون .. وبينما تكون عجلة الدولة تحت قيادتها الوطنية منطلقة على الطريق الذي اختارته ، تتفادى مخاطره ، وتلف مع منحنياته وهي حريصة تماما على سلامة القيادة ، مفتحة العينين حتى آخرهما ، فخورة بإرادتها الحرة ، تجد نفسها في النهاية في الموقع الذي كان يراد لها أن تصل اليه من قبل .. فمن بين كل الطرق عبد لها طريق بعينه .. وعلى الطريق وضعت لها علامات : " من أجل سلامتك ، هدئ السرعة " .. " أمامك منحني خطير ".. " الاتجاه الى اليمين " .. " الطريق الجانبي مغلق ".. الخ .. وهي التي اختارت ... وهي التي سارت ... وهي التي احتاطت ... وهي التي وصلت ... ولكن الى حيث يراد لها ..
ولقد بدات استعمال هاذا الاسلوب
مع مصر ايضا
عندما
عجزت الولايات المتحدة الأمريكية عن إسقاط عبد الناصر بالطرق المباشرة . ودرست
ظروف مصر ودرست شخصية الرئيس الراحل وبدأ التخطيط الذي اشتركت فيه قوى كثيرة وهي فيكامل وعيها وبدون أن تدري وانتهت بها جميعا الى كارثة ١٩٦٧ . التصالح بين عبد الناصر وقيادة النظام
القائم في سورية بعد صراع طويل . ثم معاهدة دفاع مشترك مع ذات القيادة . ثم تصعيد
الموقف بين سورية وإسرائيل . ثم تهديد إسرائيل بغزو دمشق . ثم استغاثة سورية. ثم -
وهنا حصيلة دراسة شخصية الرئيس الراحل وشعوره الحميم تجاه سورية - أمر الرئيس عبد
الناصر بتحريك القوات الى سيناء .
وكادت
الخطة تفشل عندما قبل يوثانت أمين هيئة الأمم طلب عبد الناصر انسحاب قوات الأمن الدولية من القطاع الشمالي من الجبهة فقط . فطار بانش الأمريكي ومساعد يوثانت في
ذلك الوقت الى مواقع قوات الأمن الدولية ليقنع الأمين العام الدولي بان يطلب من
عبد الناصر اما التراجع عن طلب سحب القوات او ان تنسحب من كل الجبهة . وكانوا
يعرفون مقدما ماذا سيكون رد فعل عبد الناصر . فلما ان انسحبت قوات الأمن الدولي من
كل الجبهة . أتموا إكمال الخطة باثارة الملاحة في خليج العقبة .. ثم ، تحطيم
القوات المسلحة العربية في ضربة خاطفة . وكان ذلك هو المقصود قبل الاخير . فقد كانت
نهاية حساباتهم سقوط عبد الناصر فور الهزيمة . ولكن جماهير الأمة العربية أحبطت
الخطة في جزئيتها الأخيرة . وفرضت الصمود وبدأت مرحلة صراع جديدة .
ونستطيع ان نضرب مما يدور في
الوطن العربي حاليا عشرات الأمثلة من دول وقادة وساسة وأحزاب وأفراد وصحف .. كلها تتحرك وهي في كامل وعيها ، ولكنها لا تنفذ في الواقع إلا ما يراد لها ، ولا تقف إلا الموقف الذي أوصلتها إليه قوى عاتية حريصة على ألا تمس من قريب أو من بعيد شعور الاعتزاز باستقلال الإرادة الوطنية ، الاستقلال الشكلي ، ما دامت تلك الإرادة تحقق لها ما تريد ..
هل هي عمالة ؟
ليس بالضرورة . ان
العملاء الذين ينشطون بناء على تعليمات صادرة إليهم من الولايات المتحدة الأمريكية في مقابل أجور معلومة كثيرون في الوطن العربي ، ولكن ليس كل من ينشط لتحقيق ما تريده الولايات المتحدة عميلا لها . انه فقط ضحية عجز كفاءته عن أدراك أصول ومخاطر لعبة السياسة الدولية في عصر " السوبرنطيقا " .. وحتى العملاء الصريحون لم يعودوا يعملون بناء على عقود ثنائية الأطراف معقودة مع مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية . يكفي بألف طريق وطرق غير مباشرة ، أن يستدرج الى نشاط اقتصادي أو مالي كشريك أو سمسار أو وكيل لأحدى المؤسسات الرأسمالية في أوروبا أو أمريكا وأن ينجح .. أي أن يمكنوه من تحقيق مزيد من الأرباح ، ليجد نفسه وقد "
اقتنع " بأن " المصلحة الوطنية " لا تتحقق الا بالاقتصاد الحر ، ثم بالتعامل مع العالم الغربي ، ثم مع أقوى دول العالم الغربي أمريكا ، ثم ـ من أجل المصلحة الوطنية ـ لا بد من الحفاظ على مصالح أمريكا .. فيصبح " عميلا " موضوعيا بالرغم من أنه لا يقبض أجر عمالة ، ولم يمل عليه أحد آراء ، ولم يحدد له أحد موقفه تحديدا مباشرا ..
أولا :
وقبل كل شيء بان ندرك بأن أساليب الاستعمار قد تغيرت وتطورت وتقدمت فلا ننخدع فنتصور انه ما دامت القوى الأجنبية لم " تطلب " منا أو تشير علينا باتخاذ قرار ما
فان هذا القرار يكون قد صدر ونحن نمارس كامل حرية إرادتنا الوطنية . لأننا عندما ننخدع
يكون غرورنا هو الثغرة " المدروسة "٠ا
لتمر المضامين التي اخترناها بعد أن اختيرت لنا بعناية كبيرة .
ثانيا :
ان نستغل الى أقصى درجة نقطة الضعف في أسلوب التحكم غير المباشر : فله هو أيضاً نقاط ضعف مثل كل أسلوب أخر. ونقطة ضعفه انه يدفع بنا الى مواقف إستراتيجية
غير - من خلال ثغرات تكتيكية ، جزئية أو مرحلية . يضع أمامنا في كل جزئية أو في كل
مرحلة أهدافا مغرية لنختارها ثم ينتقل بنا الى أهداف مغرية أخرى .. وهكذا في سلسلة من
الجزئيات نجد أنفسنا بعدها وقد أصبحنا أمام أمر واقع لا بد لنا من أن نقبله بعد أن قطعنا كل
تلك المراحل اليه ونحن فى كامل قوانا العقلية وبكامل إرادتنا . ان الاستغراق في التكتيك
، وفرحة تحقيق الانتصارات الشكلية أو الجزئية يرشحان أحسن الناس نية - ليكون ضحية سهلة للتحكم غير المباشر فى حركته . وبالتالي فان وسيلة الإفلات من هذا الشرك هو التركيز على الأهداف الإستراتيجية في كل مرحلة ، وفى كل جزئية . واتخاذها مقياسا حاضرا فى كل حين لقياس
مدى سلامة أية خطوة . التركيز ـ مثلا ـ على هدف استرداد أرض فلسطين المحتلة منذ ١٩٤٨ ، سيضرب كل خطط التحكم غير المباشر التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تصل
بنا من خلالها إلى الاعتراف بإسرائيل . ان الولايات المتحدة الأمريكية لن تطلب من منظمة
تحرير فلسطين مثلا أن تعترف بإسرائيل ، انها حتى لا تعترف بمنظمة تحرير فلسطين ، ولكن ..
من
مذبحة أيلول عام ١٩٧٠ إلى مذابح لبنان عام ١٩٧٥ ، جرت وتجري أحداث في أماكن كثيرة
من الوطن العربي بقصد أن تختار منظمة تحرير فلسطين بكامل حرية إرادتها الوطنية أن
ترسم على الخرائط الحدود الفاصلة بين دولتها "
الفلسطينية " والدول المجاورة ومن بينها إسرائيل .
فهل ننتبه
، أم نذهب إلى الهاوية بكامل إرادتنا الوطنية ؟
مقال تشرفي
جريدة السفير يوم ٤ / ٨ / ١٩٧٥
ارض الوطن بين الحرب والسلام .
ليست الحرب مباراة رياضية بل هي
صراع وحشي . ان الذين يسقطون ضحايا في الحروب ، ونسميهم شهداء ، ونُشيد بهم وقد نقيم لهم النصب التذكارية ليسوا "أعداء " بل هم بشر متعدّدون . لا بد ان يكون كل منهم قد عانى ـ قبل أن يموت ـ أفظع الآلام التي يمكن أن يعانيها البشر . ثم انهم بشر من أسر، يموتون ويخلفون لاسرهم مع العزاء النفسي الموقوت الثكل واليتم والحزن وانقلابا لا شك يصيب كل أسرة في أسلوب معيشتها وآمالها بعد ان تكون قد فقدت أحد ، أو أكثر عناصرها البشرية . ثم ان هؤلاء البشر، الشهداء ، ضحايا الحروب ، هم بشر من مجتمع يفقدهم مجتمعهم ويفقد معهم كل ما تدمّره أو تخرّبه أو تبدّده الحروب من مصادر للثروات وموارد للتنمية وفرص للتعليم والثقافة وتقدّم نحو حياة أفضل .. باختصار ان الحرب ليست صراعا وحشيا فقط بل هي أداة تخريب بشري واقتصادي واجتماعي وثقافي ..
من هنا تصدق الدعوة إلى السلام ، على أساس ان السلام ، والسلام وحده ، هو الشرط الذي لا بد منه للتقدّم البشري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، حيث يتفرّغ في كل مجتمع لآداء وظيفتهم الانسانية الاصيلة ، الصراع ضد ظروفهم المادية لتوظيف مواردهم المتاحة من أجل مزيد من اشباع حاجاتهم المادية والثقافية المتجددة أبدا . أعني تطوير مجتمعهم الى مجتمع الرخاء والحرية . الرخاء والحرية لكل فرد فيه . وفي ظل الرخاء والحرية تتاح الظروف الموضوعية للابداع الانساني والتقدم الى ما لا نهاية ... غير ان استمرار كل هذا يكون متوقفا على أن تظل الموارد المادية المتاحة في كل مجتمع متاحة له بدون انتقاص . منوليس اللازم أن يكون أي مجتمع في كل زمان عارفا بكامل الموارد المادية المتاحة له ، غير ان الانسان المبدع ، القادر، الذي لا يتوقف ولا يمكن ان يتوقف ، عن التقدم الاجتماعي كاتجاه تاريخي نام أبدا بصرف النظرعن تعرجاته المرحلية ، كفيل ؛ في ظل السلام ، ان يحيط معرفة بكل ما يملك وأن يستثمره استثمارا مطرد التفوق في أدواته ووسائله الى أن يحوّل كل " ذرة تراب " الى لبنة في بناء الرخاء والحرية . وهذا هو ما فرض على البشرية من قبل ، ويفرض عليها اليوم ، وسيفرض عليها غدا ، القيمة المتساوية لكل ذرة تراب من ، "
أرض الوطن " فلا تفريط في ، ولا تتنازل عن ، شبر من أرض الوطن حتى لو كان الشبر مستنقعا من الماء العفن ، أو كان بقعة مجهولة في فيافي الصحارى التي لم تكتشف بعد ، ويسمون مثل هذا التفريط أو التنازل "خيانة ". وهي ليست "خيانة " لأنها هدم أو تعويض لبناء اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي قائم فعلا ، وليس من الضروري أن تكون كذلك . انها خيانة ان لم تكن لحياة قائمة متوقفة عليها فلحياة قادمة ستقوم عليها . وبهذا تكتسب "الوطنية" أو "
الخيانة " البعد التاريخي الذي يصل ما بين أقصى الماضي وبين أقصى المستقبل . وتصبح أرض الوطن وكل ذرة من ترابه ملكية تاريخية مشتركة بين الاجيال المتعاقبة ، وتصبح الوطنية هي الحفاظ لا على أرض الوطن كما هي في زمن معين فحسب بل الحفاظ على بقاء ملكيتها التاريخية للاجيال القادمة ، وتصبح الخيانة الوطنية أو الاعتداء على الوطن ليس مجرد حالة قائمة تهدّد الوضع القائم ، بل حالة قائمة تهدّد الوضع القادم ، ولهذا يموت الناس ، أي يفقدون علاقتهم باوطانهم نهائيا ، من أجل الاحتفاظ باستمرارية الوطن للاجيال القادمة .
اذن ...
فان الدعوة الى السلام ، والسلام الفعلي ، لا يمكن أن يأخذ أحدهما ، أو كلاهما ، شكلا واحدا في الممارسة ، ذا قيمة واحدة " وطنيا" بصرف النظر عن علاقة السلام بسلامة أرض الوطن ..
والدعوة الى السلام بصرف النظر عن علاقة السلام بسلامة أرض الوطن ، دعوة ان لم تكن مثالية منافقة فهى دعوة انهزامية .. وممارسة السلام بصرف النظر عن علاقة السلام بسلامة أرض الوطن ان لم تكن استسلاما للهزيمة فهي خيانة وطنية .. وبعكس هذا كله ، وفي ظروف تاريخية محدّدة بان أرض الوطن مسلوبة ، تصبح الدعوة الى الحرب التي هي دعوة الى القتل ، هي الدعوة الوحيدة الصادقة للسلام . وتصبح الحرب التي هي ممارسة للقتل والتخريب هي الممارسة الوحيدة الصادقة " للسلام " .
وعندما يبدأ العدوان لا بد أن يبدأ القتال دفعا له ودفاعا عن أرض الوطن . بكل مقياس ذاتي أو موضوعي ، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي ، بكل مقياس وطني ، اذا تعرضت ارض الوطن للاعتداء يسقط موضوعيا ، الحديث عنالسلام في ظل العدوان ، أو الدعوة اليه سواء كانت دعوة الى الوطنيين أو المعتدين ، أو ممارسته ما دامت " أرض الوطن " لم تتحرّر نهائيا ، وكل شبر فيها ، نقول يسقط "موضوعيا" لان العدوان كظرف موضوعي يجعل من الدعوة الى القتال وممارسته هي الدعوة الوحيدة والممارسة التي لا ممارسة غيرها ، الصاد قة "موضوعيا" من أجل السلام .
ليس مفهوم السلام وحده هو الذي يتغير فيصبح قتلا وقتالا عندما تتعرض"
أرض الوطن" للعدوان ، بل ان "أرض الوطن" ذاتها تصبح ذات مفهوم جديد . انها في ظرف الحرب ليست ذلك المكان الجغرافي المعبأ بالموارد المادية . الذي يباشر الناس فيه مقدراتهم الابداعية لتحويل تلك الموارد الى منتجات مادية وثقافية ويحققون فيه الرخاء والحرية .
لا .. في الحرب تصبح أرض الوطن مصدراً للتعبئة ، ومكانا لحشد القوى وتدريبها ، وقواعد انطلاق ، وميدان مناورة وتكتيك وكرّ وفرّ ودرعا لتلقي الضربات . أعني تدخل"
أرض الوطن " مع أصحابها أتون المعركة عنصرا مؤثرا ومتأثرآ وتكف عن أن تكون مجرد امتداد جغرافي معلوم الحدود . ذلك لأنه عندما يبدأ القتال من أجل تحرير أرض الوطن ، تصبح غايته ، لا مجرد استرداد مساحة من الارض ، بل تدمير وتصفية مصادر وقوى العدوان نهائيأ والى الأبد ليعود السلام ، وفي ظل السلام فرص الرخاء والحرية ..
فمثلا قد يقتضي " النصر" في معركة تحرير أرض الوطن التخلي عن جزء من أرض الوطن بل وحرقه وتدميره . وقد مارس المدافعون عن الوطن الروسي هذا الاسلوب الناجح في عام 1812 عندما انسحبوا أمام جيوش نابليون الى ان دخل موسكو فأحرقوا مدينتهم الغالية . وعندما انسحبوا أمام القوات النازية الى أن اقتربت من موسكو . كما مارسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما أمر بالانسحاب عام 1956 حتى يحول دون تطويق قواته من الخلف بالقوات الانجليزية والفرنسية التي أنزلت في بورسعيد ...
ومثلا قد يقتضي " النصر " في معركة تحرير أرض الوطن نقل القتال الى ما يتجاوز حدوده ومطاردة المعتدين ، أو للوصول الى مراكز تعبئتهم وتدمير وتضييق قواهم وتأمين عدم امكان عودتهم إلى الاعتداء أو الاستمرار في المقاومة . وهذا ما فعلته قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عندما لم تكتف بتطهير الاراضي التي كان النازيون قد احتلوها ثم التوقف عند حدودهم الوطنية بحجة أن " ارض الوطن " قد استردّت بل أقتحموا معقل العدوان " ألمانيا " وحطموا دولة النازي مرة واحدة وإلى الابد ثم جردوا ألمانيا من امكانية العودة الى الاعتداء بأن قسموها الى دولتين ...
ننتهي من هذا كله الى نتيجة هامة هي :
في
حروب التحرير الوطني لا يعتبر كل تخل عن جزء من أرض الوطن هزيمة أو " خيانة " وكل استرداد لجزء من أرض الوطن انتصارا أو " بطولة " ، انما يتحدد الموقف من أرض الوطن تبعا وطبقا لمتطلبات تدمير وتصفية قوى العدوان الذي لا بد أن يتم مهما طال الصراع ، ولا يتم النصر الا به .. حينئذ ، حين تصبح القوى المعتدية في حالة عجز كامل شامل دائم عن استئناف عدوانها ، تكون أرض الوطن قد تحرّرت فعلا ويكون النصر قد تم فعلاً .. هذا يعني تماما أن أية دعوة للسلام أو ممارسته قبل أن يتم تحرير أرض الوطن بهذا المعنى ، هو اما قبول للهزيمة أو تخل عن جزء من السيادة الوطنية على أرض الوطن أو منح قوى العدوان فرصة زمانية لتعبىء قواها من جديد وتعود إلى الاعتداء .
كل هذا ينطبق على الصراع العربي ضد الاحتلال الصهيوني ويضبط المواقف الصحيحة عن مسألة الحرب والسلام .
ان الصهيونية قد اعتدت على الارض العربية وأحتلت فلسطين وتجاوزتها إلى مزيد من الارض العربية . والصهيونية منظمة عالمية يقع مركز قيادتها والمجالات الرئيسية لنشاطها خارج الارض العربية .. ويتسع نشاطها ليتغلغل في كل أنشطته على وجه الارض سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية او ثقافية . وهي التي جندت اليهود طواعية وارغاما ، وعلمتهم ، ودربتهم ، ومولتهم ، وسلحتهم ، ونقلتهم الى الأرض العربية ليحتلوها . وهي التي أقامت على الأرض العربية رأس جسر أسمتها دولة اسرائيل . وهي التي ما تزال تجند وتعلم وتدرب وتمول وتسلح وتنقل اليهود طواعية او ارغاما لدعم التكوين البشري الغريب الذي يجسد احتلالها للارض العربية . وهي التي تستعمل كل ما تملك من مقدرة سياسية واقتصادية وثقافية " لابتزاز " دول العالم وارغامهم على تجنيد وتعليم وتدريب ، وتمويل وتسليح ونقل اليهود من تلك الدول الى اسرائيل . وهي التي تستعمل كل ما تملك من مقدرة سياسية واقتصادية وثقافية لتفرض على كثير من الدول في العالم مواقف الدعم لاسرائيل أو حجب الدعم عن حركة التحرر العربي .
ان المنظمة الصهيونية " المعششة " في الدول الاوربية والامريكية ودول أخرى هي مكان حشد وتعبئة قوى العدوان على الارض العربية ، وهم أقدم من اسرائيل . وأكبر من اسرائيل وأقوى من اسرائيل . لان اسرائيل ليست الا أداتها .
ان اسرائيل الدولة ليست الا أداة الصدام المتقدمة بين الصهيونية والشعب العربي . ولأنها آداة الصدام والتجسيد الحي للاحتلال الصهيوني للارض العربية فان المقاومة العربية قد اتجهت إليها منذ البداية وما تزال تركز نضالها التحرري ضد هذا الكيان الذي يجسد الاعتداء ، غير ان ضيق الأفق الذي لم ير حرب التحرير العربية الا في نطاق ذلك الجزء المحتل فعلا قد حال ـ دهرا ـ دون ان ترى القوى العربية جبهة الصراع على اتساعها ، ودون ان تمارس دفاعا ضد مراكز تجميع وحشد وتعبئة القوى المعادية ، أي ضد الصهيونية حيث يكون للصهيونية نشاط . هذا في حين انه حتى لو استطاعت القوة الغربية ان تنتزع من الأرض دولة اسرائيل فان هذا لن يكون نهاية الصراع . فكما قال احد قادة اسرائيل
بعد حرب 1967 رداً على سؤال ، ما الذي كان سيحدث لو ان العرب استطاعوا دخول اسرائيل واقامة دولة عربية ؟ .. قال : كانت حكومة اسرائيل ستنتقل الى الخارج لتواصل القتال الى ان تعود ... دولة اسرائيل .
المهم ... ان رؤيتنا الضيقة لطبيعة الصراع ومداه وقواه حبستنا عند عد اشبار أو أميال الارض المحتلة ، ما أخذوه وما استرجعناه ، فأخضعنا الحرب واستراتيجيتها وتكتيكها للعامل الجغرافي وحده وأصبح صراعنا من أجل ان " نسترجع أرض الوطن " لا من أجل " تحرير
ارض الوطن "..
الاول استرجاع مادي مؤقت تحت ظل التهديد بالغزو مجددا ، والثاني تصفية لاسباب العدوان ، وتحرير أرض الوطن من مخاطر الاعتداء عليها مرة أخرى ... ان الرؤية العربية غير الواقعية ، أي التي لا تحيط بواقع الصراع وحقيقة قواه ، هي التي مكنت قوى العدوان من ان تلتقط انفاسا في هدنة 1948 لتعود فتستولي على مزيد من الارض ، هي التي مكنتها من ان تعد عدتها ثم تعود للاستيلاء على الارض منزوعة السلاح وتقيم لها ميناء على خليج العقبة ، هي التي مكنتها بأن تأخذ الوقت الكافي للاعتداء على سيناء سنة 1956، هي التي مكنتها لتبدأ سنة 1957 للتعبئة والتدريب والاستعداد لتنفيذ خطة العدوان الذي وقع سنة 1967 ، هي التي مكنتها من ان تعيد تنظيمها داخليا وتعوض ما خسرته في حرب 1973 استعدادا لاعتداء جديد ، بل للبقاء على الارض التي احتلتها سنة 1967 .. ذلك لاننا في كل مرة كنا ننظر تحت أقدامنا لنعد ونقيس الاشبار والامتار التي تقهقرنا عنها او تقدمنا اليها.. متصورين خطأ أن " ارض الوطن " ـ في خلال الحرب ـ هي قيد على حركة قتالنا وليست جزءا من أدوات ذلك القتال... وتكاد هذه الرؤية الضيقة أن تقود خطانا إلى المأزق في استكشاف فرص السلام .
لا شك في انه ما دامت حالة الحرب قائمة فان النشاط القتالي أو التوقف عنه مؤقتا ، التقدم أو التقهقر، صوت المدافع أو صوت الدبلوماسية لا يتناقض ـ اذا توافرت اسبابه الموضوعية ـ مع استمرار الصراع ... وأسبابه الموضوعية قد تكون أي شيء الا " اليأس " من النصر، أي " اليأس " من تحرير
أرض الوطن ، لان اليأس عنصر ذاتي وليس عنصرا موضوعيا . ومن اليأس انهاء حالة الحرب وممارسة السلام قبل ان تتحرر أرض الوطن ، اي قبل ان تدمر وتصفى قوى العدوان ..
ومع ذلك ، فانها هي الدول الكبرى تعرض علينا السلام بدلا من الحرب . وتقدم تلك الدولة من مقدرتها على الحيلولة دون العدوان ضمانا تقول انه يغني عن القتال . ويدور الحديث ويذهب السيد كيسنجرو يجىء " كالماكوك "، وتبارك كثيرا من الدول مساعيه من أجل السلام ، ومطلوب من العرب انهاء حالة الحرب ...
ولكنهم ، يستغلون رؤيتنا الضيقة للصراع مداه وقواه ، ويقيسون فرص السلام بالاشبار والامتار أو الاميال من أرض الوطن . واسترداد كل شبر من أرض الوطن أمر لا بد منه ، والتخلي عن أي شبر من أرض الوطن خيانة ، ومع ذلك يبقى الفيصل بين الحرب والسلام هو تحرير أرض الوطن بتصفية قوى العدوان عليه وليس مجرد الزحف الى الحدود الوطنية . فما الذي تقدمه الدول الكبرى أو الصغرى ليغرينا بالسلام بديلاً عن الحرب..؟
في أرض فلسطين يقدمون لنا بعض الارض ثمنا لبعض الارض .. وهكذا تتحول معارك التحرر الوطني الى مساومة على " أرض الوطن ". ان ما يقدمونه في الضفة الغربية او غزة أرض عربية ان يتخلى عنها العدو وتعود إلى اصحابها ، نحن .. ولكن هذا لا يعني ان ما بقي من فلسطين محتلا ليس أرضا عربية من حقنا نحن .. انهم يقدمون لنا " رشوة " من أموالنا ذاتها ، نقبض شيئا لنفقد شيئا آخر . والشيء هنا هو ذلك الشيء الذي لا يملك أحد المساومة عليه أو التنازل عنه أو التفريط فيه . انه أرض الوطن ..
وفي غير أرض فلسطين يقدمون لنا أرضنا بدون سيادة .. أرضآ تكون " مقيدة " باسمنا في سجل الدولة ، نرفع عليها رايتنا ولكن لا نقيم فيها ولا نستثمرها ولا نوظفها من اجل تقدمنا لانها ارض "منزوعة السلاح "، اي مجردة .. فمن يحميها..؟ كأن ارض الوطن مجرد موضوع لملكية فارغة وليست مصدرآ للحياة . ومن هم اولئك الذين سيذهبون للحياة في أرض مجردة عمن يحميهم من الاعتداء الممكن المتربع قريبا منهم ..؟
ثم تقدم لنا تلك الدول ارادتها ضمانا لتحرير
أرض الوطن .. وقد تكون ارادتها صادقة لاتفاق مصالحها "الحالية" مع انهاء القتال في منطقة النفط العربي ، ولكن اي ضمان تقدمه تلك الدول ضد مخاطر المستقبل . مستقبل تكون مصالحها متفقة فيه مع ردع العرب عن التقدم الى الوحدة مثلا ، أو الاشتراكية مثلا .. انه مستقبل يبدو من الان غير مضمون فان الولايات المتحدة الامريكية تهددنا علنا بالغزو عندما تقرر هي ان اقتصادها وصل الى تلك المرحلة الغامضة مرحلة تسميها " الاختناق " .
أكثر من هذا وأفدح .. ان تلك الدول التي تساومنا على السلام مع اسرا ئيل ، واسرا ئيل ليست الا رأس جسر الصهيونية ، هذا في الوقت الذي تسمح بأن توجد على أرضها وتنشط المنظمة الصهيونية التي هي مركز تجنيد وتعبئة القوى المعتدية . الولايات المتحدة الامريكية ودول اوربا تسمح للقوى المعادية للأمة العربية بأن تقيم على أرضها مؤسسات وتدير نشاطات غايتها تجنيد وتعبئة وتدريب ونقل المعتدين إلى الارض العربية والاتحاد السوفياتي يستجيب ـ في هذه الخصوصية وحدها ـ للابتزاز والضغط الصهيوني ويسمح لرعاياه "بحق" التخلي عن انتمائهم اليه ، وهو مفهوم ليبرالي لا يتفق مع ابسط قواعد الماركسية وهو يعلم انهم يتخلون عن مواطنتهم السوفيتية لتجندهم الصهيونية وتعبئهم وتدربهم وتنقلهم الى
الارض العربية ، دعما للعدوان على "أرض الوطن" ...
ثم يدعوننا جميعا الى السلام .. امريكا تقدم السلام خطوة خطوة .. والاتحاد السوفياتي يريدنا ان نحضر صفقة السلام دفعة واحدة في جنيف .. وهو من هنا ومن هنا سلام زائف لا علاقة له بسلامة " أرض الوطن " ، وطننا ، حتى لو كان فيه قدر موهوم من سلامة ارض اوطانهم .. ان الشيء الوحيد الذي يمكن ان يقنع الشعب العربي بان تلك الدول تريد السلام لنا ، ولا تشتري سلامة ارضها بأرضنا هو ـ على الاقل ـ ان تمنع وتصفي قوى العدوان علينا التي تقيم على أرضها وتعبىء رعاياها وتبتز اموالها . ان اية دولة تبيح للصهيونية ان تنشط في ارضها متنازلة عن سيادتها ذاتها ، أو تخضع للضغط الصهيوني متنازلة عن حق رعويتها ، انما هي فعلا ، وموضوعيا ، تساهم في تعبئة قوى العدوان على الامة العربية وفي ظل هذا المسلك لا تكون كلمة السلام منها صادقة ، بل تكون استدراجا لنا باسم السلام لننهي حالة الحرب ، لنكف عن معركة تحرير ارضنا ، لندفع من "أرض الوطن" الغالي ثمنا لسلامة الدول ، وفرصة لتعُدّ الصهيونية العدة من جديد لاقامة دولتها على
الارض العربية من النيل الى الفرات ..
وهذا لن يكون ..
مقال نشر في جريدة السفير يوم 1 / 4 / 1975 .
الصهيونية في العقل العربي .
مقدمة :
كانت إحدى المجلات العربية تتضمن في كل عدد شهري مقالا بعنوان " على السفود" وبتوقيع " أبو ذر" وكان صاحب التوقيع المستعار لا يكف ، في أي مقال عن الحديث الى الشباب العربي عن مخاطر جسيمة كان يتوقعها . كان يحذر وينذر تكاد كلماته تشعل النار في صفحات المجلة . كان ذلك في عام 1974 و1975 . تلك الفترة الزمنية التي قيل ان منظمة تحرير فلسطين ، والدول العربية ، قد حققت فيها أروع انتصاراتها على المستوى الدبلوماسي . عام اتفاق رؤساء الدول العربية على ان منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني . عام تعهد الرؤساء العرب ، وقبول منظمة التحرير ، ان يكون القول في شأن فلسطين من شأن
منظمة التحرير الفلسطينية . عام حضور قيادة الثورة جلسة هيئة الامم والخطاب التاريخيي لأبي عمار .. عام الاعتراف المتزايد من قبل الدول والمؤسسات الدولية بالشعب الفلسطيني ومنظمته القائدة . عام قلنا فيه اننا قد صدرنا الهزيمة والتمزق الى اسرائيل .
ولقد كانت كل تلك مكاسب حقيقية . اعني انني كنت اراها كذلك . وبالتالي كنت ارى انه ليس رفضها من الحكمة في شئ ، او من الثورية في شئ . ولكن الجزع والفزع من المستقبل كان يتراكم في نفسي مع كل مكسب جديد . ذلك لانني كنت ارى معالم " الرشوة " في كل ما قدمه العالم لنا على المستوى الدبلوماسي . كان عربونا لثمن ارض فلسطين ذاتها وكانت المشكلة الأساسية ، في تصوري، هي كيف نقبض العربون ولا نبيع فلسطين . فبدأت ، في ذلك العام نفسه ، وعلى مداه ، اكتب أسبوعيا ما يمكن ان يكون رسائل موجهة الى الشعب العربي عامة ، والى المناضلين من الشعب العربيي الفلسطيني خاصة تحت عنوان موحد هو : " التقدم على الطريق المسدود" ، غيرت جريدة " السفير" البيروتية عناوين الرسائل ، ولكنى كنت اكتب إليها تحت هذا العنوان معبرا ، او محاولا التعبير عن المأزق : إنهم يفتحون للثورة سبلا تتقدم عليها او أنهم يتركونها تتقدم بدون مقاومة على الصعيد الدبلوماسي والدولي . وعليها أن تتقدم بصرف النظر عن نوايا أعدائها او أصدقائها . ولكنهم يعدون لها على سبيلها سدا يقطع مسيرتها ، فعلى الثورة ، وعلى الشعب العربي المساند لها ، ان يعد نفسه وقواه لمرحلة الارتطام بالسد او تجاوزه .. وقلت بصريح العبارة ، ان السد الذي ستكتشف الثورة انه يقف في طريقها . ويقطع مسيرتها سيكون مبنيا من إرادات كل الدول التي تتعاطف معها في ذلك الوقت ، او ترشوها ، وعلى رأسها الدول العربية . عام كامل نحذر وننذر بكلمات تكاد تشعل النار في صفحات الجريدة .
وفى أواخر عام 1975 حين فطن الراشون الى أن الثورة الفلسطينية تأخذ ولا ترتشي ، او هكذا كان موقفها المعلن ، بدأت محاولة إرغامها على إتمام الصفقة بقوة السلاح في لبنان . وفي أواخر عام 1975 وقعت اتفاقية سيناء الثانية ، وكان ما كان من تلك المرحلة التي اسميها مرحلة " تل الزعتر " .. وان كانت المذبحة خاتمة لها ..
في ذلك الوقت غرق ابو ذر في ظلمات اليأس ، وودع قراءه ، في عدد مجلة الشورى الذي صدر أوائل أكتوبر 1975 ، تحت عنوان " مأساة ابو ذر ".. قال :
" يؤمن أبو ذر إيمانا مطلقا بان الاكتفاء بالحديث عن الحرية والوحدة والاشتراكية والثورة العربية وفلسطين المغتصبة … الخ ، قد أصبح عارا وضرار ، وبأن قد سقطت قيمة الكلمات اذ انتهكت مضامينها ، واهترأت ألفاظها، فالحر ية عبودية ،
والوحدة انفصال ، والاشتراكية استغلال ، و
الثورة العربية استرخاء على صفحات المجلات في حفل المبارزات الكلامية ….. وفلسطين المغتصبة قد حملت سفاحا . ووضعت خيانة . هكذا يؤمن ابو ذر ، ولكنه ـ وهذا جوهر مأساته ـ عاجز عن تجسيد هذا الإيمان إلا بالكلمات المرصوصة على الورق يبذل فيها جهدا ضائعا . ويتقزز أبو ذر من الشعور الزائف بالرضى عن النفس الذي يتلو رص الكلمات . ومع ذلك فهو لا يستطيع ان يدين الكلمات الكبيرة الا بكلمات اكبر . لا يستطيع ان يحارب العار إلا إذا شارك فيه . لا يستطيع ان يلتزم افكاره الا إذا ألقاها . من يعرف منكم عذابا أكثر هولا من هذا العذب فليقل عسى ان يكون فيما يقول عزاء .. أما الذين لا يعرفون فليصلوا من اجل أبى ذر عسى ان يمنحه الله بعض شجاعة الغفاري فيصمت او يعتزل".
قال هذا ثم كف عن الكتابة . وما ان كف حتى كففت عن الرسائل أنشئها تحت عنوان : " التقدم على الطريق المسدود" . لماذا ؟ لنفس الأسباب التي شكلت مأساة أبا ذر . ذلك لان أبا ذر وانا لم نكن إلا شخصا واحدا ، أحس بالخطر القادم فحذر فانذر فلما بلغت الأمور حدا لا تجدي معه الكلمات صمت واعتزل حفاظا على بقية من شرف الصدق مع النفس .
من قاع الصمت تلقيت الدعوة الى الحديث إليكم ، وقيل لي . تحدث عن " الصهيونية والفكر العربي " . أعود مرة أخرى الى الكلمات الكبيرة الرنانة الطنانة المحذرة التي استهلكنا فيها طاقتنا حتى كادت تحل بنا الهزيمة النهائية . كلا ، فوق طاقتي ان اعتذر عن دعوة الحديث الى شباب هذه الأمة ، ولكن فوق طاقتي أيضا ان أعود فأستهلك معاني استهلكت فعلا . فما الذي سأتحدث فيه تحت عنوان " الصهيونية والفكر العربي "؟
سأحدثكم حديثا تقريريا . لن احذر من شئ . لن أعود الى شئ . فكفى جيلنا عارا دعوة . الشباب الى ما لا يستطيع هو ان يوفي بمسؤولياته ، وما استطاع ان يوفي قط بذات دعوته ودعاويه . ولكنى سأحدثكم حديثا غايتهه ان تكونوا على يقين من ان الصهيونية توشك ان تنتصر انتصارها النهائي ، اعني ان
امتنا العربية توشك ان تنهزم هزيمة نهائية ، اعني أن فلسطين توشك ان تضيع نهائي … على أيدي جيلنا الغبي التعس ، وان مصير الأمر كله ، امر الصهيونية ، وأمر الأمة العربية ، وأمر فلسطين ... قد أصبح متوقفا على شباب هذه الأمة من الجبل الجديد ، عليكم انتم .. وان عليكم انتم ا ن تقرروا ما تريدون وتحققوه ان أردتم ، وعسى ان لا تستهلكوا قواكم فى الكلمات الكبيرة التي استهلكنا فيها قوانا … فان لم تفعلوا ، فلا حول ولا قوة الا بالله .
فلنبدأ الحديث بعد مقدمته الحزينة ..
ما الصهيونية :
فى البدء كانت الصهيونية نظرية ، أصبحت إستراتيجية بالعناصر الثلاثة لكل إستراتيجية : التنظيم . الخطة. الهدف. ثم أصبحت الصهيونية مواقف وحركة ومعارك تكتيكية . ولا يعني قولنا ان الصهيونية كانت ثم أصبحت أنها انتقلت من مرحلة انقضت الى مرحلة جديدة ، بل يعني انها قد تمتت وأضيف الى مضمونها الفكري مضمون استراتيجي ثم مضامين تكتيكية . فهي نظرية على المستوى الفكري. وهي تنظيم ذو خطط وأهداف محددة على المستوى الاستراتيجي وهي حركة جزئية او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية او جماعية ، على المستوى التكتيكي ، وكلها صهيونية .
يكون من المفيد لنا ، نحن العرب ، حين نتحدث عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها ، أن نعرف ونحدد المستوى الصهيوني الذي يدور عليه الحديث او تجري عليه المواجهة . قلت مفيدا ، وأقول انه حيوي . اعني أن هذه المعرفة بمستويات الصهيونية ، والاستفادة بها مسألة حياة او موت بالنسبة إلينا نحن العرب . بحيث ان أي خلط او خطأ ، أي جهل او تجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدي ـ في صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لا نعرف كيف وقعت . وأفدح الهزائم وأكثرها تدميرا هي التي لا يعرف المهزوم كيف وقعت .
ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :
السبب الاول : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات أية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده . فالنظرية هي المبدأ والمقياس الثابت. فهي تحكم الإستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الإستراتيجية ، مهما تعدلت خططها ، او حتى تغيرت ، لا تستطيع ان تفلت من إطار النظرية . وستبقى غايتها دائما تحقيق الهدف الذي حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية او الحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التي تقع على مدى التكتيك تكون محكومة بالإستراتيجية طبقا لهذا يكون من الحيوي بالنسبة إلينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين نواجهها ، ان نميز بين تلك المستويات الثلاثة ، ثم نتعرف أين يقع الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كل تمويه ، حقيقة
الموقف التكتيكي بردّه الى الخطة الإستراتيجية لنعرف على أي وجه يخدمها . ثم نراقب الإستراتيجية وننتبه الى ما قد يصيبها من تغيرات لا بد لها من ان تكون أكثر ملاءمة عند أصحابها ، لتحقيق الهدف . فإذا غم علينا الأمر رددناه الى النظرية .. اذ هي المصدر الأول لكل حركة والمقياس الأخير لكل موقف .
السبب الثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات أية حركة سياسية أخرى ، تتراكم وتتراكم متجهة .من الفكر المجرد الى الواقع العيني . من النظرية الى الإستراتيجية الى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية متنوعة المضمون متنوعة القوى متنوعة الأسلحة . ولكن خط ، الانتصار أو الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ من الواقع العيني الى الفكر المجرد . يتم النصر أو الهزيمة على المستوى التكتيكي ، وبتراكمه تهزم الإستراتيجية أو تنتصر ، ولكن النصر النهائي، او الهزيمة ، لا تتم إلا بهزيمة النظرية ذاتها ، أي حين لا تجد أحدا يقتنع بها وينطلق منها الى إستراتيجية جديدة ، أو بانتصار النظرية ذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكيا واستراتيجيا من صياغة الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الأخطاء القاتلة لأي طرف ان يحسب النصر التكتيكي نصرا استراتيجيا أو يحسب النصر الاستراتيجي حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبر الهزيمة التكتيكية هزيمة إستراتيجية أو يعتبر الهزيمة الإستراتيجية حسما نهائيا للصراع .
في عام 1967 أدرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها ، وقدم مثالا رائعا للقائد الذي يعرف طبيعة المعارك التي يخوضها ، فبعد شهرين فقط من الهزيمة الجسيمة رفع شعار " ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة " ، وشعار " لا مفاوضة ، لا صلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، ابا ايبان ، عما إذا كانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب في تدمير إسرائيل فقال : كنا سنبدأ من جديد لإقامة دولة إسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمة التكتيكية للنصر الصهيوني والهزيمة العربية عام 1967.
الصهيونية نظرية :
الصهيونية نظرية في القومية . تقول : ان اليهود امة . ولا بد أن ننتبه الى هذا المفهوم الصهيوني للأمة ..
أولا : لان معرفته معرفة واضحة هي الضابط النهائي للمواقف الصحيحة من الصراع العربي الصهيوني .
وثانيا : لان مشكلة الأمة والقومية مشكلة قائمة في الوطن العربي على المستويين الفكري والحركي . أي أننا ـ على وجه ـ نستعمل في حديثنا عن الأمة العربية ومستقبلها ذات الألفاظ التي يستعملها الصهاينة عن الأمة اليهودية ومستقبلها . وقد يؤدي هذا الى أن تختلط في أذهاننا المفاهيم فنتصور ان لنا ولهم نظرية واحدة في الأمة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممن يؤمنون بذلك الدين ، ولما كان الإيمان بالدين ، أي دين ، لا يتوقف على الجنس او اللون او اللغة او الانتماء الاجتماعي ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فإننا نستطيع ان تتبين بسهولة ان اليهود ، لمجرد أنهم يهود ، لا يكونون امة . والواقع انه لا توجد في التراث العالمي كله ، على كثرة ما فيه من نظريات في الأمة والقومية ، نظرية تقول أن اليهود امة إلا النظرية الصهيونية . فالأمة في الصهيونية لا تحتاج في تكوينها التاريخي الى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الأرض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفي لتكوين الأمة الانتماء الديني وما يولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الأمم .
وتختلف هذه النظرية اختلافا أساسيا عن مفهوم الأمة والقومية في
الفكر العربي الحديث . حيث الأمة " مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارض معينة خاصة ومشتركة تكون نتيجة تطور تاريخي مشترك ". ويدخل في هذا التعريف كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من امة الى امة تبعا لظروف لتطور التاريخي الذي كوّنها أما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . وأما الحالة النفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات في الأفراد عن وعيهم الانتماء الى امة قائمة ، ولكن الوجود القومي ، الأمة ، لا يتوقف عليها .. على أي حال فان الفارق الأساسي بين النظرية الصهيونية و
النظرية العربية في الأمة هو الاختصاص بالارض والتفاعل معها حضاريا .
الصهيونية استراتيجية :
للإستراتيجية عناصر ثلاثة : الآداة . الخطة . الهدف.
(1) أما الآداة الصهيونية ، فهي المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية المسماة اسرائيل ، كما قد يتبادر الى الذهن . الصهيونية منظمة هي التي جمعت الصهاينة وحشدت جهودهم من اجل هدفها . وهي التي بدأت بالغزو السلمي قبل 1948 لأرض فلسطين في شكل الهجرة وشراء الأراضي ، وهي التي عبأت ودربت وسلحت قواها استعدادا للغزو المسلح . وهي التي غزت ثم أقامت دولة اسرئيل على قطعة محدودة من الأرض العربية . وهي التي تقف وراء اسرئيل وتستخدمها كقاعدة انطلاق الى اسرئيل الكبرى التي تمثل الهدف النهائي .
او ينبغي ان ندرك ، ان القول الفصل في مصير
الصراع العربي الصهيوني ليس ما تقوله و تفعله او تقبله اسرئيل القائمة بل ما تقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمة على المستوى العالمي . والواقع ان اسرئيل ليست إلا المشروع المصغر للهدف الصهيوني . وهي لا تمثل من بين أدوات الغزو الصهيوني أخطرها وأقواها تأثيرا فيجاورها ووراءها وأقوى منها أثرا تلك القوى العالمية التي عبأتها الصهيونية المنظمة من دول وجماعات وأفراد وأفكار وأموال وعلام لتدعم قوة إسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدم عليها بأقل خسائر ممكنة .. وقد تجنح حكومة في اسرائيل الى السلام وقد تقبل التخلي عن التوسع ولكن هذ ا لن يكون عند المنظمة الصهيونية الا استسلاما او خيانة من حكام الدولة القاعدة ولن تلبث الصهيونية ان تغير من تشكيل الحكم في دولتها الصغرى لتستأنف مسيرتها الى دولتها الكبرى .
(2) اما الخطة الإستراتيجية الصهيونية ، فتتميز أساسا بأنها عدوانية . ذلك ، لأنها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ، لابد ان تكون هجومية . وقد تقف إسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقر ولكن هذا لن يكون الا موقفا تكتيكيا في معركة تكتيكية في نطاق إستراتيجية هجومية عدوانية أصلا . وهو ما يعني تماما انه بعد أي توقف او تقهقر لا يملك الصهاينة ، وأداتهم إسرائيل ، إلا ان يعودوا الى الهجوم الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجي او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهي اذن إستراتيجية هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانية منسوبة الينا نحن العرب.
(3) أما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجه لا يستطيع أي صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته على الآتي : مادام اليهود امة فان من حقهم ان يفعلوا ما تفعل كل الأمم ، وان يعاملوا كما تعامل الأمم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن أية أمم او شعوب أخرى . وهو ما يعني ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لا تقوم الا من شعب معين على ارض معينة . أما الشعب فهو كل اليهود أيا كانوا من أطراف الأرض . عليهم ان يجتمعوا على ارض دولتهم . أما عن الأرض المعينة ، فهم يقرأون في كتاب يسمونه التوراة ، وهو كتاب ظهر لأول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقرأون " لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين إصحاح 15 اية 18). ألا أنها أرضهم تاريخيا ؟ ..
لا.
يقرأون وعد "يهوه" لإسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) .
وماذا عن سكانها وأصحابها ؟..
يقرأون : " اني ادفع الى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .
وهكذا نعرف ما يعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجي الاستيلاء على ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ، وإخلاؤها من سكانها ليقيم فيها يهود العالم كله دولتهم القومية .
الصهيونية تكتيكا :
لا يمكن حصر المواقف والأساليب و
المراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الإستراتيجية . ذلك لأنه على المستوى التكتيكي تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الإطراف المشتركة بحيث لا يستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكي غير متأثر بالموقف المضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الأسلحة التي يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكي الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلين والقادة ، لا في ميدان القتال فقط ، ولكن في المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة .. والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الىى حد كبير على الإدراك الثابت للتناقض بين الخطط الإستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل او مشترك في الصراع ان يطور من أساليبه التكتيكية بأقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيث لا تنتقل أساليبه من مجال خدمة إستراتيجيته الى مجال خدمة إستراتيجية العدو . فيكون قد هزم نفسه .
ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد أطلقوا حركة الصهيونية من أية قيود إنسانية او خلقية من أول القتل الى الكذب وقالوا يوصون أبناء صهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ، ادخلوا بيوتهم واهدموها ، تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".
الهزيمة والاستسلام :
طبقا للمقاييس التي ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها بإحدى طريقتين هزيمة العرب او استسلامهم .
اما بالاستيلاء على الأرض العربية عنوة وإخلائها من البشر وإقامة دولة إسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الأرض وتركها لهم خالية ليقيموا عليها دولتهم . ولا نقصد من قولنا خالية ألا يوجد فيها عربي على الإطلاق ، ولكن نقصد ان لا يقيم فيها إلا العربي الذي تقبل إسرائيل إقامته . ذلك لأنه لا يخفى ان دولة إسرائيل ستكون في حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون أبناءها من عبء العمل المرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس أيضا.
المهم انه نتيجة الخلط المضطرب في المفاهيم في المرحلة الحالية أصبح من اللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .
ان الهزيمة هي التخلي عنوة عن هدف تكتيكي او استراتيجي . أما الاستسلام فهو قبول التخلي عن هدف تكتيكي او استراتيجي بدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكي . اذ قد يتم الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكي نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنب خسائر محققة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع التي يجيدها الراسخون في علم الصراع وفنونه . وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلي عن الأرض ، بل حرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجي . كما فعل الروس مرتين أمام نابليون وهتلر. وفي صراعنا مع الصهاينة ، اعني الصراع العسكري ، هزمنا عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . في عام 1948 و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربي في فلسطين عن الأرض وغادروها وكان ذلك يبد واستسلاما ، ولكن حين تحول
الشعب العربي الفلسطيني خارج الأرض المحتلة الى منظمات مقاتلة وبدا القتال اقتحاما أصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما . وحين أمر الرئيس عبد الناصر بسحب الجيش المصري من سيناء عام 1956 حتى لا تطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .
ولكن الفارق بين الهزيمة والاستسلام يبدو واضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكي فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجي ، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجي فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهوو هنا استسلام لأنه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فيي
المعارك التكتيكية ، اعني الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجي ، وبالتالي يكون التراجع الاستراتيجي غير مبرر ، أي تراجعا بدون صراع أي استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجي لا تعني ان الصراع قد حسم وإنما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين . وأروع مثال على كل هذا معارك العرب ضد الغزو الصليبي . انهزم العرب في أكثر من موقعة تكتيكية ولكنهم لم يسلموا أبدا بحق الصليبيين في احتلال الأرض العربية ، لم يقبلوا أبدا ، ولم يتبنوا النظرية الصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الأرض وهزموا أعداءهم . ومثاله الأخر حركات التحرر الوطني في العالم كله . بذرة نموها التي لم يصبها العفن أبدا ، هو رفض النظرية الاستعمارية ، نظرية تحضير العالم أوروبيا ، نظرية تفوق الرجل الأبيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادي عن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .
أليس هذا واضحا ؟.
فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..
الاستسلام الوشيك :
هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الإقليمية في خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية . وفي مقابل هذا كنا ندرك ان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الى مقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذي انهزم يعوضونه ماليا عن دخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولا صلح ولا اعتراف ". ومن مرحلة الاعتراف بالخطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت أكثر من دولة عربية كل قواها المادية والبشرية لإعادة إنشاء الجيوش التي سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حرب الاستنزاف بعد اقل من ستة أشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على أساس أن ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظ الاختبار التاريخي حين واجه جنودنا جنود الصهاينة في فرصة متكافئة وانهزم الصهاينة في معركة تكتيكية أيضا .. ولكنها أمدتنا بأقوى أسلحة النصر النهائي : الثقة في إننا نستطيع ان ننتصر .
بكل منطق قومي أو وطني أو علمي أو حتى نفسي .. كان ذلك يعني :
أولا : ان يدرك العرب ان
نصر اكتوبر 1973 كان نصرا في موقعة تكتيكية ، لم يحسم الصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجي . ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب .
ثانيا : ألا يتركوا للعدو فرصة التقاط أنفاسه واسترداد قواه والتحول من الدفاع الى الهجوم .
ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التي قدمها إليهم الجنود بعد ان اشتروها بدمائهم الغالية .
رابعا : ان يكمل العرب ما ينقصهم من عناصر القوة فيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة إستراتيجية شاملة بعيدة الامد ..
خامسا : ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذي تحقق في أكتوبر 1973 أصوله المبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ما حقق عنصر التنسيقق العربي من نصر مدى ما تتضمنه الوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية التجزئة عن مرحلة الهزائم .
بكل منطق كان يجب ان نوالي انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجي ، لنصوغ الحياة على الأرض العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بها ليبحث كل منهم عن أرضه التي جاء منها .
ضد كل هذا ، ضد معطياته العينية ، المادية والبشرية والفكرية ، حدث ما لم يحدث في تاريخ الشعوب كلها بقدر ما اعرف من تاريخ الشعوب . وفي ذات اللحظة التي انتصرنا فيها في معركة تكتيكية استسلمنا أو نحن على وشك الاستسلام ، لا أقول على المستوى الاستراتيجي ، بل أقول على المستوى المبدئي . كان أمامنا خيارات عدة تقع جميعها على مستوى المعركة التي انتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان في إمكاننا أن نتوقفف مرحليا . كان في مقدورنا حتى أن نتخلى عن المكاسب التي حققناها ، وهو أقصى ، وأقسى ، ما يمكن ان يختاره المقاتلون على المستوى التكتيكي . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، من الظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفا سياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ، وسواء كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكنا سنختلف في هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ما كان لها ان تتجاوز مستواها التكتيكي ، أي أن أقصى ما كنا سنختلف فيه هو : "
كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميع مستوياتها .
ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..
الذي حدث أننا بطريقة غريبة على التاريخ ، غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربي بالذات ، انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكي الى استسلام مبدئي ، موفرين على عدونا عناء الصراع على المستوى الاستراتيجي .
ذلك لأننا سلمنا ببساطة بان من حق اليهود ان يقرروا مصيرهم ، أي أنهم امة . أن من حق هذه الأمة أن تكون لها دولة قومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الأرض العربية ، وان يكون هذا الجزء بالذات ما أشارت إليه التوراة التي يقرأها الصهاينة . لم يحدث أبدا أن أرغمنا الصهاينة على تبني نظريتهم هذه . لأنه لم يحدث أبدا ان هزمونا على المستوى الاستراتيجي ، ولم يحدث أبدا أن حققوا من الانتصارات ما يحسم الصراع بالنسبة إليهم على المستوى التكتيكي ، وقد كان آخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول : أننا لم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …
السنا مشغولين بوجود الشعب الفلسطيني ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، أو بعض أعداءنا بان هناك شعبا فلسطينيا ، وان من حقه أن يكون له موطنا ، وليس حتى وطنا ؟ السنا نتحاور ونتشاور ونجادل ونختلف حول صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة أم في اتحاد فيدرالي او كونفدرالي مع الأردن او سورية . السنا نركض في أنحاء الأرض جميعا ، فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة أفقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبول الوجود الصهيوني على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية ، دبلوماسيا وعلى مقاهي أوروبا ، ملتمسين من الصهاينة أن يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا في قبول جوارهم ، على الأرض العربية .. أليس على
الأرض العربية في جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيوني ـ عربي " موحد الأسلحة والإمدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. أيها الشباب الا نسمي الآن ، وطننا العربي ، منطقة الشرق الأوسط ؟..
فما الذي بقي ؟..
يقولون :" أنها خاتمة جولة وستأتي بعدها جولات " .. غدا تسترد دولة الضفة والقطاع ما بقى من إسرائيل ؟..غدا نقوى فنستأنف الصراع ؟ .. غدا .. يأتي جيل يلغي ما فعلناه والتاريخ طويل؟ .
لا يصدق من هذا القول الا القول الأخير . نعم ، غدا يأتي جيل عربي يلغى كل ما فعلوه ، ولماذا غدا ، انه قائم قادر لن يولد غدا ، بل سيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذا يطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون على اختصاره ..؟ ألسنا جيلا فاشلا ؟.. أفلا يكفيه فشله فيخون جيلا ناشئا.
أما عن الجولة التي ستأتي بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التي ستحرر باقي فلسطين ، فلا أقول انه عناء . أقول انه احتيال . نصب . خديعة . إننا لم نحرر الضفة او القطاع او حتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا . ولو تم شئ من هذا ولو في القطا ع وحده ، ولو في مدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين في مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادل والأمن المتبادل .. ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد.. سيستنأف الصهاينة مسيرتهم العدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التي لا ينكرونها.. فقط بالأسلوب الجديد .. أسلوب الاستسلام العربي . ان كان احد يشك في هذا فقد جاء كارتر يعلنه ، فتح الحدود ، التبادل الثقافي والتجاري والسياحي والدبلوماسي .. لينتشر الصهاينة في داخل دولتهم المقبلة . حينئذ سيعرفون كيف تكون لهم وبأي أسلوب .
هل في هذا شك ؟ .. هل يشك احد في أننا نوشك ان نستسلم ؟ إني لا اشك . وبالله عليكم . لا يقولن احد ، هذا ، فقد خدعنا أنفسنا أكثر مما يجب . ان
الحاكم العربي الذي يعلن ما ارفضه ، هو فقط ، أشجع الذين يقولونه وأكثرهم صدقا مع نفسه ، واني لأعلم من أمر الآخرين ، كثير من الآخرين ، بما فيهم فئات تتحدث بمثل ما أتحدث به وان كان أكثر حدة وصخبا ، ما يسمح لي بالقول ان الفارق الوحيد ان هناك استسلاما صريحا وهناك استسلاما خفيا ، لا أكثر ..
وبعد ، فلماذا استسلم العرب أو يوشكون على الاستسلام ؟ .. هل هي خيانة ؟ لا اعتقد . لا املك دليلا على خيانة احد. ولا اقبل ان اتهم عربيا بالخيانة بغير دليل . ولكني اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا عسكريا في جبهة القتال في أكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريق الى النصر النهائي ، فبدلا من احتلال أرضنا جزءا جزءا بدأوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة .
بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..
جردونا من نظريتنا العربية ودسوا في رؤوسنا نظريتهم الصهيونية .
رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل . وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . أولئك هم الإقليميون الذين أنكروا أمتهم ، فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لا تمس بل تتدعم اذا ما أعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا من الوطن العربي مقابل ان تسكت عن اغتصاب الإقليمين باقي أجزائه..
ولما أنكر الإقليميون أمتهم ، وفقدوا قوميتهم ، تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، وما استطاع الإقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ، ان تكون لهم إستراتيجية موحدة في مواجهة الصهيونية . ما كان ولن يكون للإقليميين أداة نضال عربية واحدة . ما كان ولن يكون للإقليميين خطة مواجهة واحدة . لم يلتق الإقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا .
في شباط (فبراير) 1968 كتبت ونشرت تحت عنوان " وحدة القوى العربية التقدمية " حديثا طويلا عن المستقبل قلت فيه مخاطبا المقاومة الفلسطينية وكانت في ذلك الوقت تحمل ما بقي من أمل لهذه الأمة قلت : احذروا غدا او بعد غد ستخذلكم الإقليمية من حولكم والإقليمية من داخلكم . وفي نيسان ( ابريل) 1970 في عمان في ندوة مشتركة بقاعة نقابة المحامين اشترك فيها ممثلون عن اغلب فصائل المقاومة قلت ان إسرائيل قامت ونمت وتوسعت في ظل حماية الدول الإقليمية . فمن حقي أن أقول الآن : ان الشعب العربي يوشك ان يستسلم بالفعل وفي رعاية القوى الإقليمية دولا وأحزابا وجماعات وأفرادا ..
ما العمل ؟
لا تسألوني فقد لا اعرفه . ولو كنت اعرفه فقد اعترفت من قبل أنني غير قادر على الوفاء بمسئولياته فآثرت الصمت ـ مهزوما وليس مستسلما ـ الى أن دعيت الى الحديث إليكم ، ها أنا ذا قد تحدثت إليكم هذا الحديث . لا يناسبه عنوان " الصهيونية والفكر العربي" بل أولى به عنوان يقول :" الصهيونية في الفكر العربي " او" الصهيونية في العقل العربي " . أو . وهذا ما كنت أريده …"
العرب الصهاينة "..
وأخيرا ..
فأنى اعتذر عما أشرت إليه أكثر من مرة من آراء سبق أن قلتها كأني أبحث لنفسي عن براءة كاذبة . وعذري في هذا أنني أحاول أن استرد ثقتي المفقودة بالمستقبل . أحاول أن أقول لنفسي إذا كانت رؤيتنا قد صحت من قبل فان الانسحاب صمتا او اعتزالا هو انهزام لا ينبغي لقومي ان يقع فيه بينما يوشك الإقليميون أن يجروا الأمة كلها الى مواقع الاستسلام ، وإننا لعلى قدر من المقدرة في مواجهة معارك العقول …. ثم إنني أخاطب الجيل العربي الجديد … وهو قمين بأن يذكرني بما كنت اذكره في مثل سنه … قولا تعلمته من شاب عربي بدأ نضاله على ضفاف النيل ضد إمبراطورية لم يكن يجرؤ احد على تحديها ، وأنشأ حزبه الوطني الذي تحول الى مدرسة …… في تلك المدرسة تعلمنا ذلك الدرس الذي كدنا ننساه وها نحن نلتقطه مرة أخرى من عيون الشباب العربي :
وهكذا ترون أنني أتحدث إليكم ولكنى أخاطب نفسي واني لأولى بحديث اليقظة منكم لأنني في حاجة إليه أكثر …
محاضرة ألقيت في جامعة الكويت في 6 ابريل 1977 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق