عن التعويضات واجهاض العدالة
الانتقالبة في تونس .
د.سالم لبيض .
يبدو أن خطبة رئيس مجلس شورى حركة النهضة (التونسية)، عبد الكريم الهاروني، مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، في رهط من الإسلاميين الغاضبين المتجمهرين في ساحة القصبة الحكومية في العاصمة، ودعا فيها رئيس الحكومة، هشام المشيشي، بلغة مشحونة بالتهديد والوعيد، إلى تفعيل صندوق الكرامة الذي أقرّته حكومة يوسف الشاهد قبل خمس سنوات، تنفيذاً لما ورد بقانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة
2013، وذلك قبل يوم 25 يوليو/ تموز الجاري، المتزامن مع ذكرى عيد الجمهورية، يبدو أن تلك الخطبة أنتجت حركة احتجاجية – افتراضية حادّة وعامة من مختلف الشرائح الاجتماعية والنخبوية، ضدّ حركة النهضة، الإسلامية، بلغت حدّ الدعوة إلى اعتماد ذلك التاريخ موعداً للنزول إلى الشوارع، وإسقاط الحزب الإسلامي من الحكم، وتغيير النظام السياسي برمّته.
وقد أسند ذلك الفعل الاحتجاجي بيانات الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية من حلفاء
"النهضة"
في الحكم ومعارضيها، وردود أفعالهم الرافضة والمندّدة بدعوة الهاروني تفعيل صندوق الكرامة الذي سيمكّن نشطاء الحركة الإسلامية من مبالغ مالية، أشيع لدى الرأي العام بأنها ستكون في حدود ثلاثة آلاف مليون دينار، بناء على طريقة احتساب محدّدة، لجبر أضرار
29950 من الضحايا، أغلبهم من الإسلاميين، وفق التقرير الختامي الشامل لهيئة الحقيقة والكرامة.
ومن أسباب انتشار خطبة الهاروني، وهو الرجل الثاني في حركة النهضة بعد راشد الغنوشي، في فيسبوك ويوتيوب، والتداول في شأنها ونقاش مضامينها في الوسائل الإعلامية المحلية والمنتديات الشعبية على نطاق واسع، طابعها الاستفزازي ومنزع التحدّي والصلف تجاه الحكومة ورئيسها، ومحاولة ابتزازه لخدمة شأنٍ حزبيٍّ صرف. ولم يتردّد الهاروني في مخاطبة المتجمهرين المعتصمين في ساحة القصبة بأنه
"واحد منهم"
وفق قوله، مؤكّدا على انتمائهم الحزبي الإسلامي النهضاوي، ونافياً عنهم البعد الوطني الشامل المتعدّد الانتماءات، إذ لم يشارك في هذا التحرّك ضحايا آخرون للاستبداد من أنصار تيارات سياسية يسارية وقومية عربية وليبرالية ونشطاء منظمات نقابية كبرى، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، وحقوقية على غرار الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ممن تعرّضوا للقمع والاضطهاد والتعذيب والانتهاك والقتل والتصفية على خلفية الهوية السياسية، والموقف المعارض لنظامي الرئيسين الراحلين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. فضلاً عن أن الفصل 11 من قانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة
2013 ينصّ على أن "جبر ضرر ضحايا الانتهاكات حق يكفله القانون، والدولة مسؤولة عن توفير أشكال الجبر الكافي والفعال بما يتناسب مع جسامة الانتهاك ووضعية كل ضحية، على أن يؤخذ بعين الاعتبار الإمكانات المتوفرة لدى الدولة عند التنفيذ"، الأمر الذي تجاهلته حركة النهضة بإصرارها على تفعيل صندوق الكرامة في هذا الظرف المالي الصعب الذي تمرّ به الدولة التونسية.
وتحتاج
"النهضة"، وهي الحركة الإسلامية الكبرى في تونس، ونخبها القيادية التي انطلقت في حملة اتصالية وإعلامية موازية ومضادّة، إلى جهد كاسح واستثنائي لإقناع المواطن التونسي بأن مطلب الهاروني لا يمثل دعوة غنائمية نهمة، في واقعٍ يشعر فيه هذا المواطن بالغُبن والقهر والهزيمة أمام وباء كورونا المتفشّي في مختلف أرياف تونس وقراها ومدنها وحواضرها وأحيائها وشوارعها وأزقتها ومستشفياتها التي تفوح منها رائحة الموت والمآتم. وتعيش الدولة أزمة مالية غير مسبوقة، قد تؤدي إلى عجزٍ في خلاص الديون المتفاقمة وسداد الأجور، ما دفع دولاً كثيرة إلى اعتبار تونس دولة منكوبة وبائياً، تحتاج إلى التدخلات الإنسانية والمساعدات السريعة.
وتعترض جهود النهضاويين من أجل تنقية صورتهم مما علق بها من شوائب غنائمية صعوباتٌ لا يمكن تخطّيها بسهولة، فيردّد تونسيون أنهم استفادوا أيما استفادة من الثورة التونسية، وورثوا نظام بن علي وحزبه التجمع الدستوري الديمقراطي في المجالات كافة، سيما الاقتصادية والمالية منها. كتب المؤرخ الهادي التيمومي في الجزء الثاني من كتابه موسوعة الربيع العربي في تونس
2010-2020 (منشورات دار محمد علي)، قائلاً
"استقال يوم 27 جويلية
2012 وزير المالية، حسين الديماسي، لأسبابٍ تخصّ إسراف الحكومة في النفقات وخاصة التعويضات لمناضلي حركة النهضة، وهي تعويضات مكلفة جداً لميزانية الدولة".
وفي السياق ذاته، صرّح أبو يعرب المرزوقي، أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية والنائب السابق عن حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي ومستشار رئيس الحكومة الأسبق حمّادي الجبالي، يوم 7 مارس/ آذار
2013، لصحيفة الشروق التونسية، عشية تقديم استقالته، قائلاً
"الحكم زمن الترويكا تحوّل إلى توزيع مغانم على الأقارب والأصحاب والأحباب من دون اعتبار لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب"، مؤكّداً ما ذكره القيادي النهضاوي، عبد الفتاح مورو، يوم 24 فبراير/ شباط
2012 لصحيفة حقائق، أن "من بين وزراء حمادي الجبالي أشخاصٌ قدراتهم محدودة وقع اختيارهم فقط للولاء، ومنهم من دخل للعمل لأول مرة، وذلك في منصب وزير وهناك من لم يعمل في حياته، ولو يوماً واحداً وأول مرّة يعمل في حياته يتولى منصب وزير".
سابق الإسلاميون في تونس الزمن منذ سنة 2011، من خلال أغلبيتهم القارّة في المجالس التشريعية وتوليهم الحكومات أو المشاركة فيها أو إسنادها، بسن قوانين العدالة الانتقالية ومختلف نصوصها الترتيبية، ويستثنى من ذلك المرسوم عدد 1 لسنة
2011 المتعلق بالعفو العام الذي وقّعه الوزير الأول الأسبق محمد الغنوشي. ومن أهم تلك التشريعات القانون عدد 4 لسنة
2012 المتعلق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العمومي، والأمر عدد 833 لسنة
2012 في كيفية تطبيق أحكام ذلك القانون، والأمر عدد 3256 لسنة
2012 المتعلق بضبط إجراءات العودة إلى العمل وتسوية الوضعية الإدارية للأعوان العموميين المنتفعين بالعفو العام. لقد مكّنت تلك النصوص كل الإسلاميين النهضاويين والسلفيين، بمن في ذلك من شارك في عملية سليمان الإرهابية سنة 2007، من التمتع بالعفو العام ومبدأي العودة إلى العمل أو الانتداب المباشر في الوظيفة العمومية. وتمتع العائدون بما يسمى إعادة بناء المسار المهني، أي الحصول على كل الرتب والترقيات المهنية خلال فترة طردهم التي دامت في أغلبها 20 سنة 1991-2011، وأن تتولى الدولة مساهمتهم في صناديق التقاعد والحيطة الاجتماعية، ما مكّنهم من أجور في مستوى بقية زملائهم المباشرين، والحصول على منحة تقاعد بالمستوى نفسه.
بالتوازي مع هذا المسار الذي اعتمدته حركة النهضة في حلّ مشكلات مناضليها وأنصارها بإدماجهم في مؤسسات الدولة التونسية، وتمكينهم من مواقع قيادية حساسة، كانت لها كلفتها المالية العالية، فتحت الحركة الإسلامية قنوات حوار مع رجال النظام القديم، متجاهلة مبدأي الاعتراف والاعتذار، وفي مقدمتهم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي التقى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بباريس صيف سنة 2013، واتفقا على تقاسم السلطة على أرضية عدم تصويت النهضة لقانون تحصين الثورة وعدم إدراج بند في الدستور يحدّ من سن رئيس الجمهورية. والحال أن السبسي هو من أبرز المشمولين بالعدالة الانتقالية لتوليه إدارة الأمن الوطني 1963-1965 ثم وزارة الداخلية 1965 - 1969. وقد عرفت تلك الفترة انتهاكات كبيرة شملت شرائح سياسية يوسفية ويسارية وقومية عربية وطلابية ونقابية، ولترأسه البرلمان التونسي سنة 1991 تحت سلطة بن علي المشمولة بدورها بالعدالة الانتقالية. ثم صوّت النهضاويون في البرلمان سنة 2017 لصالح قانون المصالحة الإدارية الذي اقترحته رئاسة الجمهورية، ومكّن رجالاً كثيرين من المنظومة القديمة المعنيين بالعدالة الانتقالية ممن علقت بهم تهم فساد ونهب المال العام وتجاوزات السلطة من عفو تمنحه المحاكم التونسية التي كانت أدانتهم في وقت سابق. وكذلك كان الأمر مع آخر أمين عام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، محمد الغرياني، قبل حله بحكم قضائي سنة 2011، الذي انتدبه رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، مستشاراً خاصّاً لديه. ولقد كانت حركة النهضة تعلم أن حلفاءها الدستوريين الذين ساعدتهم على العودة إلى الحياة السياسية، وتقاسمت معهم الحكم منذ سنة 2015، لم يعترفوا بجرائم حزبهم الدستوري الاشتراكي أو التجمعي، ولم يقرّوا بالانتهاكات التي مورست زمن حكمهم، ولم يعتذروا على ذلك، مرسّخة الفكرة السائدة بأن مسار العدالة الانتقالية انتهى غنيمةً نهضوية لا أكثر. أما العدالة الانتقالية، بما هي اعتراف واعتذار وإصلاح وإدماج ورد اعتبار وإنصاف لكل من مورس ضده الانتهاك، فرداً كان أم جماعة أم جهة، وحُرم من الحياة الكريمة، فإن ذلك كله قد تحوّل إلى مجرّد شعار، وإلى تقرير ضخم أصدرته هيئة الحقيقة والكرامة بانتهاء أشغالها سنة 2018 لينشر في موقع الرائد الرسمي التونسي، يحتاج هو بدوره إلى التصويب التاريخي الذي سيتولاه مؤرّخو الجامعة التونسية النزهاء بعد أن تبيّنت في كثير من تفاصيله رؤى الإسلام السياسي وتمثّلاته غيرالمحايدة.