ثورة يوليو والديمقراطية .
لقد كان لثورة يوليو
منذ البداية توجه شعـبي واضح لا يستطيع أي كان انكاره . وهي مسائل جوهـرية تتصل في العمق بمفهوم
الديمقراطية .. وبما ان التمشي الذي سلكته الثورة كان في مجمله من وحي أفكار
قائدها ، فان الحكم على الديمقراطية في مصر ارتبط الى حد بعـيد بعبد الناصر شخصيا ..
ولعل المتتبع للمسار الذي سلكته الثورة في هذا الخصوص يلاحظ جانبين مهمين يتصلان بموضوع الديمقراطية ويتمثلان في طريقة تفاعل الثورة مع عامة الشعـب من جهة ، و مع الاحزاب من جهة ثانية ..
بالنسبة للشعـب فان ثورة يوليواعـتمدت على الاتصال المباشر والتعـبئة الجماهـيـرية كاسلوب للتواصل والتاطـيـر الشعـبي الذي تتوفـر فـيه المصارحة والمشاركة معا ..
وفيما يخص المصارحة ، فانها تتجلى بوضوح في اللقاءات الجماهـيـرية المفـتوحة التي كان الزعيم الراحل يلتقي فيها بآلاف المواطنين في الساحات والميادين داخل مصر ، وبالجماهير العـربية في كل مكان من خلال وسائل الاعلام المسموعة التي كانت تنقل خطبه كاملة .. وقد كان عبد الناصر شديد الحرص على مصارحة الشعـب و نقل الحقائق اليه من خلال الحديث المطوّل الذي يدوم ساعات ، ويتطـرّق الى جميع المجالات التي تهم ظروف الناس ومستقـبلهم .. فكان يهتم بأدق التفاصيل ، ويعـتمد على آخـر الاحصائيات والارقام المتوفـرة في المجالات الاقـتصادية والاجتماعـية ، لتوضيح توجّهات الدولة وسياساتها الداخلية و تجاربها في مختلف المجالات .. وقد كان أحيانا يذكر ـ دون غـرور ـ ما حقـقـته الثورة من النجاحات والانجازات ، كما كان احيانا اخرى ينـتـقد ـ دون حـرج ـ ما تتعـرض له من اخـفاقات أو اخطاء .. لكنه كان دائما يشدّد على خيارات الثورة في مواجهة اعدائها ، وانتصارها لقضايا الشعـب المتعلقة بكرامة المواطن ، وتوفـيـر ضروريات الحياة ، وتحقيق العدالة الاجتماعية بكل ابعادها ، معـلنا في كثير من المناسبات عن القرارات الثورية التي كانت تتخذها الثورة تباعا لفائدة الفئات الضعيفة وعموم الشعـب ..
كما كان عبد الناصر يتحدث باسهاب ، في تلك اللقاءات المباشرة ، عن قضايا الامة ، مبرزا كل النضالات والتضحيات الجسيمة التي قدمتها الاجيال السابقة في سبـيل الحرية والاستقلال ، الى جانب الحديث عن سياسات مصر الخارجية وعلاقاتها الدولية ، وأهم الصراعات التي تدور في المنطقة والعالم وكل خفاياها ، معـبرا دائما عن تصميم الثورة على مواجهة الاحلاف و سياسات الهيمنة والتزامها بالدفاع عن قضايا الامة و مساندتها للحركات الثورية في كل مكان ..
أما فيما يخص المشاركة فقد كانت تتمثل في اسلوب التنظيمات الشعـبـية التي أنشاتها الثورة منذ مطلعها ، لايمانها بفكرة العمل الجماهيري الذي يمكّـن عامة الناس من التدرّب على الديمقراطية من خلال مشاركـتهم الفعالة في النقاش وطرح الحلول واتخاذ القرارات كما سنرى ، عـبـر مختلف الاطر الـتـنظـيمية التي أنشاتها الثورة .. وهو اسلوب عملي ساهم فعلا في الارتقاء بالممارسة النضالية للمواطن الذي لم تمكّـنه النظم الاستبدادية من اكـتسابها قـبل قـيام الثورة .. و حيث كان يقـتصر مفهوم الديمقراطية على المشاركة السلبية التي لم تتجاوز عملية التصويت يوم الانتخاب ، ليـنـتهي كل شئ بعودة كل طرف الى المربع الذي كان فـيه .. الشعـب يعود الى اللامبالاة وعدم الاكـتـراث بالشأن العام الذي علموه بأنه لا يخصه ، حتى تاتيه نفس الاحزاب بعد اربع او خمسة سنوات تطلب منه التصويت من جديد .. والاحزاب الفائزة والمهـزومة على حد السواء ، تعود الى الصراعات والتجاذبات وتصفـية الحسابات ، واقتسام المغانم والامتيازات بكل الوسائل المشروعة واللامشروعة التي لا يلتفت اليها الشعـب ولا يعلم عـنها شيئا .. وقد كان لزاما على الثورة في تلك المرحلة ان تقدم البديل بعد اقدامها على حل تلك الاحزاب فكانت فكرة التـنظـيمات الشعـبية بديلا موضوعـيا مناسبا لتحقـيق هدفـيـن هامين :
الاول يتمثل في تأطيرالناس لاخـراجهم من السلبـيـة وتدريـبهم على الممارسة الديمقراطية الحقـيقـية من خلال الانخراط في الشأن العام وتبادل الآراء وقـبـول الاختلاف ..
والثاني يتمثل في سحب البساط من تحت أقدام كل الاحزاب بما فـيها حتى حـزب الوفد نفسه .. و هي الى حد ذلك الحين تمثل أحزابا مهترئة اصلا ، بسبب ماضـيها وعلاقاتها بالملك و بسلطة الاحتلال .. وقد كانت هيئة التحرير أول تـنظيم شعـبي أنشأته الثورة ، في جميع ربوع مصر في 23 جانفي 1953 و بعد اسبوع واحد من حل الاحزاب .. " ، فجاءت هـيئة التحرير حجرا ألقي في بحـر الركود الشعـبي . و امتلأت القرى والكفور والاحياء الشعـبية بالاضافة الى المدن بمقار هـيئة التحرير ، ووقــّـع كل مصري تقريبا ، أو ختم ، أو بصم على طلب العضوية ، وظهرت في القرى صفات يتـنافس عليها الناس غـيـر العمودية و المشيخة و الخفر ، تلك هي صفة عضو هيئة التحرير ، واحتفض الاميون في جيوبهم ببطاقات عضوية هيئة التحرير قبل أن يعرفوا بطاقات اثبات الهوية ، ولم تتركهم الثورة يلتقطون انفاسهم . فهي تدعوهم و تجمّعهم و تحشدهم في كل مكان من ارض مصر وفي كل مناسبة وحتى بدون مناسبة ليستمعوا في فضول وعجب واعجاب الى رجال الثورة يتحدثون الـيهم احاديث طويلة ، عـن التحرير والحرية والاستعمار ومصر التي هي مصرهم ، والحكم الذي هو حـكمهم ، والمستقـبل الذي هو مستقـبلهم ، وتشهّـر امامهم عـلنا وبأقسى الالفاظ بالملوك والامراء والباشوات والباكوات والسادة الذين ما كان يخطر ببال المستمعـيـن قط أنه من الجائـز التـعـرّض لهم بالـتـشهـيـر ... " ( د.عصمت سيف الدولة / الاحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ) .
والواقع فان تلك التجربة لم تكن حلا نهائيا لمشكلة الديمقراطية كما كانت تطلبها النخب السياسية التي كان الكثيرون منهم يرون فيها تهريجا ومضيعة للوقت ، غـيـر ان الثورة لم يكن يعـنـيها كثيرا ما تفكر فـيه النخب التي خذلت الشعـب على مدى عقود طويلة وهي تلعـب معه لعـبة سخيفة تسمى الديمقراطية الليـبرالية ، بل اتجهت الى الشعـب واختارت طريقا صعـبا " فاقـتحمت كل المواقع ، وايقضت النيام و حملتهم حملا على ان يفـتحوا أعـينهم على القضايا العامة ، وان يستمعوا الى احاديث واناشيد الحرية .. وكان ذلك انجازا ديمقراطيا كبيرا بصرف النظر عمن بقي يقظا ومن عاد الى نومه ، وبصرف النظر عن كل أسباب الضحك مرحا او الضحك سخرية ، يكـفي دلالة على التقدم نحو الديمقراطية أن يقضة الشعب اثناء العدوان الثلاثي قد تجاوزت اطار تـنظـيـمها . و اثـبتت بذلك انها في حاجة الى ما هو اكـثـر فاعـلية من هـيئة التحريـر وكان ذلك قمة النجاح ديمقراطيا في ظروفه .. " ( المصدر السابق ) .
ولعل المراقـب لتطور الممارسة الشعـبية التي اتبعـتها ثورة يوليو كبديل لنموذج التـنافس الحزبي على الطريقة اللـيبـرالية التي رفضها دستور سنة 1956 مع الابقاء على التـنافس بين الافراد للتـرشح لمجلس الشعـب ، والنقابات والمجالس المحلية .. يلاحظ انه مع صدور قانون انشاء الاتحاد القومي لم يعد دور الشعب مقـتصرا على الانتخاب الدوري لمنـوّبـيهه كل فـتـرة نيابـية ، بل يتعـداه لاختيار ترشيح العضوية قـبل الانتخابات من طرف الاعضاء في الاتحاد القومي .. و هو ما يعـني ان الاتحاد القومي قد اصبح فعلا سلطة رابعة دائمة الانعقاد يشارك فـيها كل ابناء الشعـب الذين أصبح بامكانهم أن يقولوا كلمتهم في جميع المترشحـين للانتخابات ، فلا يمنحونهم فرصة الترشح اذا كانوا لا يثـقون بهم .. وهي طريقة ناجعة لازاحة المنافقين والانتهازيين الذين يكتشفهم الشعب .. وقد كانت تلك اضافة دستورية صادرة سنة 1956 ولم تكن معـروفة في غـيرها من الدساتير .. لذلك فان انشاء هذا التنظيم الشعـبي بتلك الصلاحيات ، كان دليلا واضحا على نية الثورة في الابقاء على الممارسة الشعـبـية .. ( المصدر السابق ) .
كما يضيف الدكتور عصمت سيف الدولة في نفس السياق المتعلق بطبيعة التنظيمات الشعبية الناشئة ، وهو خبير دستوري بامتياز يقول : " الى حد تلك الفترة كانت التجارب الديمقراطية تقوم على المشاركة الشعـبـية التي تؤمن بها الثورة ، غـير أنها لم تكن مكتملة في تجسيدها للديمقراطية بمعـناها الشامل ، باعتبار تواصل الرهان طوال فـتـرة الخمسينات على المسار الليبرالي .. الى ان اتضح من خلال التجربة ، فشل هذا الخيار الذي لم يقدم شيئا للاقتصاد الوطني .. وحيث ظل الراسمال الاجنبي يبحث دوما عن مصالحه ، كما ظل الراسمال الوطني مرتبطا به وتابعا له .. فكان اعلان الثورة عن الميثاق الوطني سنة 1961 بكل مافـيه من قرارات ثورية تتعـلق بالتوجه نحو الحل الاشتراكي ، واعتماد التخطيط الاقتصادي كآداة للسيطـرة على وسائل الانتاج الاساسية في المجتمع .. فكان انعكاس تلك الخيارات على الممارسة الديمقراطية واضحا ، باعتبار العلاقة العضوية بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقـتصادية .. كما تاثرمفهوم الديمقراطية بعد اعلان الميثاق والمبادئ الاشتراكية بالقوانين الصادرة لعـزل القوى المعادية للثورة . وقد صدر القانون رقم 1 لسنة 1962 و الذي بموجبه " تمت انتخابات الوحدات الاساسية للاتحاد الاشتراكي العربي . ثم توالت الانتخابات من 1962 الى : 1963 انتخابات اللجان النقابية . انتخاب ممثلي العمال في مجلس الادارة . انتخابات الجمعيات التعاونية الزراعـية . انتخابات مجالس ادارة النقابات المهنية . انتخابات مجلس الامة .... واصبحت عضوية الاتحاد الاشتراكي لازمة فـيمن يرشح لمجلس الامة ، ولعضوية النقابات المهنية ، والجمعـيات التعاونية ، ولمجالس الادارة النقابية ، والجمعـيات التعاونية ، والعمد والمشايخ ومجالس الادارة المحلية ..." ( المصدر السابق ).
والواقع فان الحكم على هذه التجارب الفريدة ليس سهلا ، وهو ما يقتضي الأخذ بعدة جوانب موضوعية عاشتها مصر اهمها :
ـ ان مصر مرت بفترات طويلة من الركود السياسي والتخلف الديمقراطي الذي لا يمكن الخروج منه الا بتدريب الشعـب تدريبا حقيقيا على الممارسة الديمقراطية مهما صاحبها من قصور .
ـ ان الثورة ذاتها كانت تعيش بين أمرين كلاهما مر : اما ان تنحاز الى الشعـب وتختار الطريق الصعـب الذي سيقودها الى المجهول لان من ستقاومهم سوف لن يستسلموا بسهولة ، و هو ما حدث فعلا .. و اما ان تسلّم امر البلد للـنخـب الفاسدة التي لا تعـترف الا بالديمقراطية التي توصلها الى السلطة ، في حين كان عامة الشعب لا يهمه من يحكمه بقدر ما كان يهمه من يحل مشاكله .. وقد كان الاختيار الأول هو خيار الثوررة ، الذي التقى بخيار الجماهير في مناصرتها والالتفاف حولها ، حينما وجدت فيها مصلحتها ، غير عابئة بما تقوله بعض النخب عن ديمقراطية ما قبل الثورة .. وقد كان تشبث الشعب بقائده في اكبر محنة عرفـتها مصر سنة 1967 ، حين تدفـقـت الامواج البشرية ايام 9 و 10 يونيو لرفض الاستقالة ، مطالبة جمال عبد الناصر بالتراجع عن قرار التـنحي ، أكبر دليل على خيارها المذكور ..
ـ ان تلك التنظيمات الشعـبية بقيت مفتوحة للانتهازيين والمنافقين الذين تسرّبوا اليها ، وعمل كثير منهم على تخريب الثورة من الداخل ، بافراغ تلك المؤسسات من أي مضمون ، او الانحراف بها عـن دورها الاساسي .. كما عمل غيرهم على الوصول الى السلطة من خلال تلك الاطر ذاتها ، فـتسرّب اعداء الثورة الى مواقع قيادية حسّساسة في العديد من القطاعات و المؤسسات .. كما كانت جهات مسؤولة في الدولة تعـمل دائما في الخفاء للسيطـرة عليها والتحكم فيها بواسطة الاجهـزة التنفيذية ، لتوظـيفها بعـيدا عـن مهامها الحقـيقـية .. و هو ما يعـني ان هناك مصالح متشابكة في المجتمع تؤثـرعلى مشكلة الديمقراطية ، فتــتـقـاذفها وتـتـلاعـب بها .. و قد تفـطـنـت الثورة بعـد مراحل طويلة من التجربة و الخطا ، الى كـثـيـر من السلبيات ، تدل طريقة معالجـتها لها ، على ان رؤيـتها كانت تـتطور من خلال الممارسة ، حيث " خطت خطوات كبـيـرة نحو تحـرير الفلاحين والعمال ( 1952 – 1961 ) واستعملت كل الاساليب التي خطرت على بالها لاخراج الشعـب من سلبـيته ، بالتعـليم والثـقافة والاعلام والتـنـظيم ( هيئة التحرير ، الاتحاد القومي ، الاتحاد الاشتراكي العربي ( ، واقـرّت للشعـب المنظم ، بسلطات دستورية محـدودة في دستور 1956 ، وبسلطة السيادة في دستور 1964 ، ولكن البـيـرقراطية المتحالفة مع الراسمالية الطـفـيلـية ، اغـتـصبت تلك المؤسسات الشعـبـية وسيطرت عـليها وسخّـرتها لمصالحها ، فاصبح كل منها ، منذ ان نشأ والى أن قضى تابعا للسلطة التـنفـيذية ... وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقـتضي رفع يد الحكومة عن الاتحاد الاشتراكي العربي ، و استقلاله من السلطة التنفيذية ، ليستطـيع أن يباشر حقوقه السيادية على كل السلطات .. " ( عصمت سيف الدولة – مصدر سابق .. (
أما بالنسبة للاحزاب ، فان الثورة بتلك التوجهات الشعـبية واتـباعها لسياسة اجتماعـية منحازة للشعـب ، نجحت في سحب البساط من تحت أقدامها جميعا ، وهي التي عرفت بفشلها الذريع قبل الثورة ، وانصرفت عن هموم الناس ، وحصرت اهـتمامها في المنافسة والصراع من أجل السلطة ..
والواقع فان قرار الثورة بحل جميع الاحزاب كان قرارا ثوريا بامتياز ، باعتبار أن تلك الاحزاب بالذات لم تكـن تمثل تطلعات الشعـب ، لانها ببساطة لم تخدم قضاياه ولم تقدم له شيئا يذكر قـبل الثورة ، بل على العكس من ذلك ، فانها كانت أحزابا انتهازية عميلة للملك والاحتلال معا .. ولذلك فان تلك الاحزاب لم تكن تمثل أي عمق شعـبي بالمعـنى الواسع في تلك الفترة التي كان فـيها أكثر من 90 في المائة من الشعـب خارج اللعـبة السياسية .. لان جل فـئاته غارقة في الفقر والجهل والحرمان ، فلم يكن أحد من بين هؤلاء يعـنيه حتى مجـرد الحديث عن السياسة أو الديمقراطية التي لا تعـني شيئا بالنسبة لهم اذا كانت غـيـر مقـترنة بتغـييـر جذري لاوضاعهم .. وقد كان وراء تلك الاوضاع سلطـتيـن عـدوتين للشعـب : أحدهما تتمثل في سلطة الاحتلال البريطاني الجاثم على صدر مصر وشعـبها ، والثانية تتمثل في سلطة الملك الذي يتـقاسم الثروة والنفـوذ مع أقلية لا تسأل عن معاناة الشعـب ومستقـبله ، وهي المعـروفة بجماعة النصف في المائة حيث كان 0.5 % فقط من المصريين يستحوذون على الملكية في مصر .. ورغم ان قـرار حل الاحزاب كان في نظر البعض اجراءا تعسفـيا منافـيا للديمقراطية ، الا ان هذا الموقف يقوم على خلفية مغايرة للتي تقاس بها الاشياء من منظور الثورة ، حيث بـيّـنت الظروف والوقائع ان مطلب تلك الاحزاب برجوع العسكريين الى الثـكـنات بعد الثورة ، عقب اجراء انتخابات برلمانية و رئاسية ، ليس مجرد مطلب سخيف ، بل ويقوم على انتهازية حزبية ، وخيانة للشعـب من طرف قادة الثورة لو وافـقوا على هذا الطلب .. لان ذلك كان يعـني باختصار تقديم السلطة للمنظومة القديمة الفاسدة التي قامت عليها الثورة نظرا لطبـيعة المرحلة المتمثلة في غـياب الشعـب كليا عن الممارسة السياسية ، اضافة الى جاهـزية الاحزاب التقليدية للمشاركة والفوز في الانتخابات بنفس الطريقة التي كانت تمارسها من قـبل .. و هو ما يعـني وقـتها الضحك على الثوار والشعـب معا .. ومهما كان الامر فان قادة الثورة لم يكونوا معغـفـلـين الى هذه الدرجة ، بل على العكس من ذلك كانوا ثورييـن حقا ، عـندما قبلوا التحدي و قادوا ثورتهم الى النهاية محقـقـين انجازات كبيـرة لم تتـحقـق للشعـب على مدى قـرون ..
واما ما يتردّد من اتهامات للثورة في الجوانب الديمقراطية فانه لا يمكن ان يقع فـيه الحكم الموضوعي الا بانظر الى التجربة في ظروفها التاريخـية .. ولعل ما ذكره الاستاذ سامي شرف في كتاباته حول نماذج من الممارسة التي انتهجـتها الثورة في التعامل مع خصومها السياسيين ، يكذب تلك الادعاءات . وهذه مقتطفات مطولة من شهاداته تبين كل التفاصيل حيث يقول : "
بعد حل الاحزاب استمرت المنظمات الشيوعية المختلفة الموجودة على الساحة المصرية فى نشاطها تحت الأرض فى مصر ، وكانت المعلومات تشير إلى أن الحزب الشيوعى المصرى هو أنشط تيار، تليه فى النشاط منظمة "حدتو " ( الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى ... وقد لوحظ فى الفترة التى أعقبت قيام الوحدة بين مصر وسوريا أى من العام 1958 حتى العام 1962 زيادة النشرات التى كانت تصدر عما كان يسمى بالحزب الشيوعى المصرى ، وكان التوقيع الذى يذيّل كل منشوراته يحمل أسم " الرفيق خالد " . ولقد اهتم الرئيس جمال عبد الناصر بما يكتبه و أراد أن يعرف من هو الرفيق خالد ، وكـُـلفت الأجهزة أن تتابع هذا الموضوع لكى تكشف من هو الرفيق خالد ، ولكن مضت مدة لم تكن قصيرة نسبيا ولم تستطع الوصول إلى نتيجة إيجابية .. وكانت التخمينات غير مؤكدة . مما ترتب عليه أن تدخل عبد الناصر شخصيا بمجهود ذاتى وشخصى منه للوصول إلى حقيقة هذه الشخصية ، وكان قد تكونت لديه انطباعات واستنتاجات عن حقيقة هذه الشخصية ، لكنه أراد أن يقطع الشك باليقين ...
استدعى الرئيس عبد الناصر فى أحد أيام شهر أكتوبر سنة 1964 " أحد الأشخاص " .. وكان لدى الرئيس انطباع قوى أنه يعرف من هو الرفيق خالد . قال له عبد الناصر : " . . . ح أسألك سؤال واحد ، وأنا واثق إنك ح تجاوبنى عليه بحكم العلاقة التى تربطنا ، وبحكم الوطنية التى تجمعنا وبحكم مصريتك ، وثق أن الغرض ليس أبدا أنى أطلب منك أن تفشى أسرار، أو أن تكشف عن شخص قد يكون عزيزا عليك . . ولكنى أرجوك أن تكون صادقا معى كما كنت طول عمرك . " إندهش الضيف وقال : " إسأل يا ريس . . إيه هو السؤال ؟!
سأله الرئيس : " مين هو الرفيق خالد ؟
كان السؤال مفاجئا ومباغتا، ولكن بعد تفكير قصير لم تطل مدته أكثر من دقيقة من الزمن قال للرئيس أن الرفيق خالد هو الدكتور فؤاد مرسى . كان الرئيس عبد الناصر قبل أن يستدعى هذا الضيف قد ظل حوالى شهرين يحلل ويقرأ كتبا وأبحاثا ودراسات لخمسة أشخاص بعينهم ، الدكتور فؤاد مرسى واحد منهم، ووصل إلى شبه قناعة شخصية أن الرفيق خالد قد يكون هو الدكتور فؤاد مرسى ، ولكنه أراد أن يقطع الشك باليقين، ويؤكد هذا الاستنتاج من شخص يعلم تماما أنه يعرف من هو الرفيق خالد ، وصدق ظنه واستنتاجه من أن الرفيق خالد هو الدكتور فؤاد مرسى . وقبل أن يغادر الضيف بيت الرئيس قال له الرئيس عبد الناصر : " ثق أن هذه المقابلة لن يعلم بها أحد ، فأنت كما كنت دائما شريفا وصادقا ولم تراوغ" ...
وعقب هذه المقابلة كلفنى الرئيس بالاتصال بالدكتور فؤاد مرسى ومقابلته ، كما كلف السيد على صبرى بنفس الشيئ . ... وفى لقاء آخر معى وكنت قد طلبت منه إبداء رأيه فى نقد التجربة والأوضاع الاقتصادية ؛ فقدم الرجل دراسة أبدى فيها رأيه بوضوح وبصراحة ، وفى نهاية اللقاء طلب مقابلة الرئيس عبد الناصر الذى حدد له موعدا بعدها بأقل من أسبوع . فى لقائه مع الرئيس عبد الناصر كاشفه قائلا له أنه كان يعلم أن الرفيق خالد هو نفس الدكتور فؤاد مرسى ، وحسب ما دار فى الحديث فقد أبدى الدكتور فؤاد مرسى اندهاشا واستغرابا . ولم ينكر الرجل ولكنه طلب أن يسأل سؤالا واحدا هو : هل الأجهزة هى التى اكتشفت هذه الحقيقة ؟ فقال له الرئيس : لا ، أنا من تتبعى وقراءاتى لما كتبته أنت والآخرين استنتجت أنك الرفيق خالد ، وبناء على ذلك تم الاتصال بك . وقال له الرئيس : أنا كنت شاكك فيك إنت أو الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله . وفى هذا اللقاء أيضا قال له الرئيس : " أننا نمر بمرحلة تعاد فيها صياغة المجتمع ، وهناك ضوابط بالنسبة للمجتمع المصرى وبالنسبة للتطبيق الاشتراكى ، ولا يمكن أن نطبق الماركسية فى مصر ؛ لأن لدينا ما يحول دون ذلك ، ومن ناحية المبدأ نحن لا نأخذ أقوالا ونطبقها ؛ لأن الذى يطبق النظم هم البشر ، ولا أستطيع أن أضع البشر الذين يصوغون التجربة عمليا فى قوالب جامدة ، فلنا تجربتنا الخاصة المختلفة والمتميزة ، والفوارق جوهرية بين النظرية الماركسية والتطبيق الذى نمارسه لاشتراكيتنا ، وهو على سبيل التحديد كما يلى :
ـ إن اشتراكيتنا تستند فى أساسها وتطبيقاتها على القيم الروحية ، وتلتزم بما نادت به رسالات السماء ، وعلى سبيل المثال تأخذ اشتراكيتنا بنظام الإرث ، وهو ما ترفضه الماركسية .
ـ إن اشتراكيتنا تؤمن بتذويب الفوارق بين الطبقات سلميا ، ولا تأخذ بأسلوب الصراع والعـنف ، فهى تصفى امتيازات ونفوذ الإقطاع والرأسمالية المستغلة ، ولا تصفى الإنسان إنما تحرره من الاستغلال .
ـ إن اشتراكيتنا تحترم إنسانية الإنسان ، وتتـيح له فرصة الحياة الكريمة ، ولا تنظر إليه كترس فى آلة ، وإنما ما عليه من واجبات ، وهى فى الوقت نفسه ترفض الأخذ بالماركسية التى تضحى بأجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة .
ـ إن اشتراكيتنا تؤمن بسيطرة الشعـب على وسائل الإنتاج والهياكل الرئيسية له ، وفى الوقت نفسه تتـيح قدرا من المشاركة لنشاط القطاع الخاص تحت الرقابة الشعـبـية ، فلا تأخذ بالتأميم فى كل جزئيات الإنتاج كما هو الحال فى النظم الشيوعـية ، والرأسمالية الوطنية الغـيـر مستغلة جزء أساسى من تحالف قوى الشعب العامل .
ـ إن اشتراكيتـنا تعطى القيادة ديموقراطيا لتحالف قوى الشعب العامل ( العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية غير المستغلة ) ، وترفض أن تقوم سلطة الدولة على ديكـتاتورية الـبـرولـيتاريا ( الطبقة العاملة .. (
ـ إن اشتراكيتنا فى التوزيع تقوم على مبدأ كل بقدر إنتاجه وعمله ، وليس بقدر حاجته ، وفى هذا تكريم للعمل وإثارة لحوافـز الإنتاج ، بعكس الماركسية التى تطبق مبدأ لكل حسب حاجـته .
ـ إن اشتراكيتنا لم تأخذ بتأميم ملكية الأرض ، وإنما آمنت بالملكية الخاصة فى قطاع الزراعة ، وبما لا يسمح بالاستغلال عن طريق تفـتيت الملكيات الكبـيـرة بمقـتضى قوانين الإصلاح الـزراعى، وزيادة عدد الملاك من صغار المعدمين من الفلاحـيـن .
ـ إن اشتراكيتنا هى بيت سعيد لكل أسرة يقوم على القادرين أى المهيئين للعمل رجالا ونساء ، مجتمع الرفاهـية ، مجتمع تكافوء الفرص ، مجتمع العدالة الاجتماعية .
ـ إن اشتراكيتنا هدفها مجتمع الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع ، مجتمع الكفاية والعدل ، نحن نؤمن بالله وكتبه ورسله ، وديننا واضح ، ونحن نتمسك بهذا الدين .
ثم قام الرئيس بشرح الفروق فى التطبيق وبين ما يحدث فى الكتلة الشرقية ...
كان الدكتور فؤاد مرسى واضحا وصريحا فى رد فعله على كلام الرئيس عبد الناصر ، فقال ( وأنا أذكر تماما نص كلامه ) : " يا سيادة الريس أنت بإصدارك القوانين الاشتراكية تجاوزت كل ما كنا نطمع فى تحقيقه ، ولو تلاحظ سيادتك أننا فى النشرات الأخيرة حاولنا أن نواكب التجربة التى تطبقها ؛ لأن نظرتنا كانت قاصرة منذ سنة 1952 حتى صدور القوانـيـن الاشتراكية سنة1961 ، وما واكبها وصاحبها من تطبـيق ، الحقيقة يا ريس كان على عـيوننا منظار أسود ، كنا متأثرين بأن الحكم العسكرى لن يستطيع أن يحقق التحول الاجتماعى فى مصر بالأسلوب الذى تقوم به وتعلن عـنه " .
ورد عليه الرئيس قائلا : أنه يرى أن القوة القادرة على إحداث التغـيـير فى المجـتمع من أجل مصر يجب أن تضع أيديها معا فى ظل الشرعـية ، وفى ظل إطار قانونى ، وفى ظل مبادئ يسلمون بها، وفى ظل قواعد متـفق عليها ، ومن المصلحة أن تلتقى كل الآراء من أجل الوصول إلى التغـيـيـر . وأضاف الرئيس عـبد الناصر بقوله : " يا دكتور فؤاد أنا بأطرح عليك رأيا لتفكر فـيه ، وهو غير ملزم ، كل ما أطلبه منك إنك تفكر ، وعندما تصل إلى قناعة أو إلى قرار ، فإن بابى مفتوح لك لنـتـناقش فيما وصلت إليه ؛ والموضوع باختصار شديد هو أن تـنضم العناصر اليسارية فى الساحة المصرية إلى تحالف قوى الشعب العامل بشكل أو بآخـر . . فكروا . . وقدموا مقـترحاتـكم.. ". وانتهى اللقاء عـند هذا الحد من الحديث ... "
ويضيف الاستاذ سامي شرف : " بعد هذا اللقاء أصدر الرئيس جمال عبد الناصر تعليماته لي ، لكى أبلغها للسيد على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى العربى والسيد شعراوى جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم للاتحاد الاشتراكى ولباقى الأجهزة بما دار من حديث ليكونوا على علم بالتطورات الجديدة ، كما أبلغت اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة أيضا بما استجد ؛ حيث كان الرئيس قد طلب أن تكـف الأجهزة المعـنية بالبحث عن الرفيق خالد لأننا عرفنا من هو ...
اتصل الدكتور فؤاد مرسى بعد ذلك وأبلغـنى ، كما أبلغ السيد على صبرى أيضا أنه قد تم بحث الأفكار التى طرحها الرئيس فى لقائه الأخـيـر معه ، وهم يرحـبون بالمساهمة فى الاتحاد الاشتراكى، ولو أن هناك مشكلة أن البعض يريد أن يكون لهم وضع خاص ...
كان رد الرئيس عبد الناصر قاطعا صريحا وواضحا لا لبس فيه ؛ وهو أن من يريد أن يشارك فى العمل العام يدخل كفرد عادى ولا يمثل إلا نفسه فقط ... وكل واحد عاوز ينضم ، عليه أن يتقدم بطلب للعضوية ، ويأخذ موقعه فى محل سكنه جغرافيا ، أو مهنيا فى مكان عمله . وبدأت بعد ذلك لقاءات مع السيد على صبرى حول هذا الأمر، وعـندما تم الاتفاق أصدرت قيادة الحزب الشيوعى المصرى تعمـيما داخليا للأعضاء بأن الأمور قد سُـوّيت ، وأنه يمكن للأعضاء أن يمارسوا النشاط ضمن تشكيلات الاتحاد الاشتراكى كأفراد و لا يمثلون إلا أنفسهم ...
و فى هذه المرحلة كان قد تم اتصال من السيد محمد حسنين هيكل مع الدكتور فؤاد مرسى بالاتـفاق مع الرئيس عبد الناصر ؛ حيث لعـب دورا فى تصفـية بعض العقبات على المستويات الشخصية ، وليس من ناحية المبدأ، و شارك معه كل من لطـفى الخولى ومحمد سيد أحمد بشكل أساسى . وكانت نتيجة كل هذه الاتصالات واللقاءات فى بداية سنة 1965 أن تم الاتفاق ، دون أى ضغط ، على إصدار بيان من الحزب الشيـوعى المصرى يعلـن فـيه حل نفسه ، وأن من يريد مباشرة أو المشاركة فى العمل السياسى فأبواب الاتحاد الاشتراكى مفـتوحة على مصراعـيها للجميع ، كما تم الاتفاق على أن يتم رفع العـزل السياسى عن أعضاء الحزب ، واصبح كل واحد منهم مثل أى مواطن عادى ليس له انتماء حزبى، وليس هناك تسلسل قيادى ولا تعليمات ولا تعميمات ، وهكذا بدأ أعضاء التنظيمات الشيوعية يدخلون فى وحدات الاتحاد الاشتراكى كأفراد ، وكانوا لا يزيدون عن 950 شخصا .. "
ولعل المتتبع للمسار الذي سلكته الثورة في هذا الخصوص يلاحظ جانبين مهمين يتصلان بموضوع الديمقراطية ويتمثلان في طريقة تفاعل الثورة مع عامة الشعـب من جهة ، و مع الاحزاب من جهة ثانية ..
بالنسبة للشعـب فان ثورة يوليواعـتمدت على الاتصال المباشر والتعـبئة الجماهـيـرية كاسلوب للتواصل والتاطـيـر الشعـبي الذي تتوفـر فـيه المصارحة والمشاركة معا ..
وفيما يخص المصارحة ، فانها تتجلى بوضوح في اللقاءات الجماهـيـرية المفـتوحة التي كان الزعيم الراحل يلتقي فيها بآلاف المواطنين في الساحات والميادين داخل مصر ، وبالجماهير العـربية في كل مكان من خلال وسائل الاعلام المسموعة التي كانت تنقل خطبه كاملة .. وقد كان عبد الناصر شديد الحرص على مصارحة الشعـب و نقل الحقائق اليه من خلال الحديث المطوّل الذي يدوم ساعات ، ويتطـرّق الى جميع المجالات التي تهم ظروف الناس ومستقـبلهم .. فكان يهتم بأدق التفاصيل ، ويعـتمد على آخـر الاحصائيات والارقام المتوفـرة في المجالات الاقـتصادية والاجتماعـية ، لتوضيح توجّهات الدولة وسياساتها الداخلية و تجاربها في مختلف المجالات .. وقد كان أحيانا يذكر ـ دون غـرور ـ ما حقـقـته الثورة من النجاحات والانجازات ، كما كان احيانا اخرى ينـتـقد ـ دون حـرج ـ ما تتعـرض له من اخـفاقات أو اخطاء .. لكنه كان دائما يشدّد على خيارات الثورة في مواجهة اعدائها ، وانتصارها لقضايا الشعـب المتعلقة بكرامة المواطن ، وتوفـيـر ضروريات الحياة ، وتحقيق العدالة الاجتماعية بكل ابعادها ، معـلنا في كثير من المناسبات عن القرارات الثورية التي كانت تتخذها الثورة تباعا لفائدة الفئات الضعيفة وعموم الشعـب ..
كما كان عبد الناصر يتحدث باسهاب ، في تلك اللقاءات المباشرة ، عن قضايا الامة ، مبرزا كل النضالات والتضحيات الجسيمة التي قدمتها الاجيال السابقة في سبـيل الحرية والاستقلال ، الى جانب الحديث عن سياسات مصر الخارجية وعلاقاتها الدولية ، وأهم الصراعات التي تدور في المنطقة والعالم وكل خفاياها ، معـبرا دائما عن تصميم الثورة على مواجهة الاحلاف و سياسات الهيمنة والتزامها بالدفاع عن قضايا الامة و مساندتها للحركات الثورية في كل مكان ..
أما فيما يخص المشاركة فقد كانت تتمثل في اسلوب التنظيمات الشعـبـية التي أنشاتها الثورة منذ مطلعها ، لايمانها بفكرة العمل الجماهيري الذي يمكّـن عامة الناس من التدرّب على الديمقراطية من خلال مشاركـتهم الفعالة في النقاش وطرح الحلول واتخاذ القرارات كما سنرى ، عـبـر مختلف الاطر الـتـنظـيمية التي أنشاتها الثورة .. وهو اسلوب عملي ساهم فعلا في الارتقاء بالممارسة النضالية للمواطن الذي لم تمكّـنه النظم الاستبدادية من اكـتسابها قـبل قـيام الثورة .. و حيث كان يقـتصر مفهوم الديمقراطية على المشاركة السلبية التي لم تتجاوز عملية التصويت يوم الانتخاب ، ليـنـتهي كل شئ بعودة كل طرف الى المربع الذي كان فـيه .. الشعـب يعود الى اللامبالاة وعدم الاكـتـراث بالشأن العام الذي علموه بأنه لا يخصه ، حتى تاتيه نفس الاحزاب بعد اربع او خمسة سنوات تطلب منه التصويت من جديد .. والاحزاب الفائزة والمهـزومة على حد السواء ، تعود الى الصراعات والتجاذبات وتصفـية الحسابات ، واقتسام المغانم والامتيازات بكل الوسائل المشروعة واللامشروعة التي لا يلتفت اليها الشعـب ولا يعلم عـنها شيئا .. وقد كان لزاما على الثورة في تلك المرحلة ان تقدم البديل بعد اقدامها على حل تلك الاحزاب فكانت فكرة التـنظـيمات الشعـبية بديلا موضوعـيا مناسبا لتحقـيق هدفـيـن هامين :
الاول يتمثل في تأطيرالناس لاخـراجهم من السلبـيـة وتدريـبهم على الممارسة الديمقراطية الحقـيقـية من خلال الانخراط في الشأن العام وتبادل الآراء وقـبـول الاختلاف ..
والثاني يتمثل في سحب البساط من تحت أقدام كل الاحزاب بما فـيها حتى حـزب الوفد نفسه .. و هي الى حد ذلك الحين تمثل أحزابا مهترئة اصلا ، بسبب ماضـيها وعلاقاتها بالملك و بسلطة الاحتلال .. وقد كانت هيئة التحرير أول تـنظيم شعـبي أنشأته الثورة ، في جميع ربوع مصر في 23 جانفي 1953 و بعد اسبوع واحد من حل الاحزاب .. " ، فجاءت هـيئة التحرير حجرا ألقي في بحـر الركود الشعـبي . و امتلأت القرى والكفور والاحياء الشعـبية بالاضافة الى المدن بمقار هـيئة التحرير ، ووقــّـع كل مصري تقريبا ، أو ختم ، أو بصم على طلب العضوية ، وظهرت في القرى صفات يتـنافس عليها الناس غـيـر العمودية و المشيخة و الخفر ، تلك هي صفة عضو هيئة التحرير ، واحتفض الاميون في جيوبهم ببطاقات عضوية هيئة التحرير قبل أن يعرفوا بطاقات اثبات الهوية ، ولم تتركهم الثورة يلتقطون انفاسهم . فهي تدعوهم و تجمّعهم و تحشدهم في كل مكان من ارض مصر وفي كل مناسبة وحتى بدون مناسبة ليستمعوا في فضول وعجب واعجاب الى رجال الثورة يتحدثون الـيهم احاديث طويلة ، عـن التحرير والحرية والاستعمار ومصر التي هي مصرهم ، والحكم الذي هو حـكمهم ، والمستقـبل الذي هو مستقـبلهم ، وتشهّـر امامهم عـلنا وبأقسى الالفاظ بالملوك والامراء والباشوات والباكوات والسادة الذين ما كان يخطر ببال المستمعـيـن قط أنه من الجائـز التـعـرّض لهم بالـتـشهـيـر ... " ( د.عصمت سيف الدولة / الاحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ) .
والواقع فان تلك التجربة لم تكن حلا نهائيا لمشكلة الديمقراطية كما كانت تطلبها النخب السياسية التي كان الكثيرون منهم يرون فيها تهريجا ومضيعة للوقت ، غـيـر ان الثورة لم يكن يعـنـيها كثيرا ما تفكر فـيه النخب التي خذلت الشعـب على مدى عقود طويلة وهي تلعـب معه لعـبة سخيفة تسمى الديمقراطية الليـبرالية ، بل اتجهت الى الشعـب واختارت طريقا صعـبا " فاقـتحمت كل المواقع ، وايقضت النيام و حملتهم حملا على ان يفـتحوا أعـينهم على القضايا العامة ، وان يستمعوا الى احاديث واناشيد الحرية .. وكان ذلك انجازا ديمقراطيا كبيرا بصرف النظر عمن بقي يقظا ومن عاد الى نومه ، وبصرف النظر عن كل أسباب الضحك مرحا او الضحك سخرية ، يكـفي دلالة على التقدم نحو الديمقراطية أن يقضة الشعب اثناء العدوان الثلاثي قد تجاوزت اطار تـنظـيـمها . و اثـبتت بذلك انها في حاجة الى ما هو اكـثـر فاعـلية من هـيئة التحريـر وكان ذلك قمة النجاح ديمقراطيا في ظروفه .. " ( المصدر السابق ) .
ولعل المراقـب لتطور الممارسة الشعـبية التي اتبعـتها ثورة يوليو كبديل لنموذج التـنافس الحزبي على الطريقة اللـيبـرالية التي رفضها دستور سنة 1956 مع الابقاء على التـنافس بين الافراد للتـرشح لمجلس الشعـب ، والنقابات والمجالس المحلية .. يلاحظ انه مع صدور قانون انشاء الاتحاد القومي لم يعد دور الشعب مقـتصرا على الانتخاب الدوري لمنـوّبـيهه كل فـتـرة نيابـية ، بل يتعـداه لاختيار ترشيح العضوية قـبل الانتخابات من طرف الاعضاء في الاتحاد القومي .. و هو ما يعـني ان الاتحاد القومي قد اصبح فعلا سلطة رابعة دائمة الانعقاد يشارك فـيها كل ابناء الشعـب الذين أصبح بامكانهم أن يقولوا كلمتهم في جميع المترشحـين للانتخابات ، فلا يمنحونهم فرصة الترشح اذا كانوا لا يثـقون بهم .. وهي طريقة ناجعة لازاحة المنافقين والانتهازيين الذين يكتشفهم الشعب .. وقد كانت تلك اضافة دستورية صادرة سنة 1956 ولم تكن معـروفة في غـيرها من الدساتير .. لذلك فان انشاء هذا التنظيم الشعـبي بتلك الصلاحيات ، كان دليلا واضحا على نية الثورة في الابقاء على الممارسة الشعـبـية .. ( المصدر السابق ) .
كما يضيف الدكتور عصمت سيف الدولة في نفس السياق المتعلق بطبيعة التنظيمات الشعبية الناشئة ، وهو خبير دستوري بامتياز يقول : " الى حد تلك الفترة كانت التجارب الديمقراطية تقوم على المشاركة الشعـبـية التي تؤمن بها الثورة ، غـير أنها لم تكن مكتملة في تجسيدها للديمقراطية بمعـناها الشامل ، باعتبار تواصل الرهان طوال فـتـرة الخمسينات على المسار الليبرالي .. الى ان اتضح من خلال التجربة ، فشل هذا الخيار الذي لم يقدم شيئا للاقتصاد الوطني .. وحيث ظل الراسمال الاجنبي يبحث دوما عن مصالحه ، كما ظل الراسمال الوطني مرتبطا به وتابعا له .. فكان اعلان الثورة عن الميثاق الوطني سنة 1961 بكل مافـيه من قرارات ثورية تتعـلق بالتوجه نحو الحل الاشتراكي ، واعتماد التخطيط الاقتصادي كآداة للسيطـرة على وسائل الانتاج الاساسية في المجتمع .. فكان انعكاس تلك الخيارات على الممارسة الديمقراطية واضحا ، باعتبار العلاقة العضوية بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقـتصادية .. كما تاثرمفهوم الديمقراطية بعد اعلان الميثاق والمبادئ الاشتراكية بالقوانين الصادرة لعـزل القوى المعادية للثورة . وقد صدر القانون رقم 1 لسنة 1962 و الذي بموجبه " تمت انتخابات الوحدات الاساسية للاتحاد الاشتراكي العربي . ثم توالت الانتخابات من 1962 الى : 1963 انتخابات اللجان النقابية . انتخاب ممثلي العمال في مجلس الادارة . انتخابات الجمعيات التعاونية الزراعـية . انتخابات مجالس ادارة النقابات المهنية . انتخابات مجلس الامة .... واصبحت عضوية الاتحاد الاشتراكي لازمة فـيمن يرشح لمجلس الامة ، ولعضوية النقابات المهنية ، والجمعـيات التعاونية ، ولمجالس الادارة النقابية ، والجمعـيات التعاونية ، والعمد والمشايخ ومجالس الادارة المحلية ..." ( المصدر السابق ).
والواقع فان الحكم على هذه التجارب الفريدة ليس سهلا ، وهو ما يقتضي الأخذ بعدة جوانب موضوعية عاشتها مصر اهمها :
ـ ان مصر مرت بفترات طويلة من الركود السياسي والتخلف الديمقراطي الذي لا يمكن الخروج منه الا بتدريب الشعـب تدريبا حقيقيا على الممارسة الديمقراطية مهما صاحبها من قصور .
ـ ان الثورة ذاتها كانت تعيش بين أمرين كلاهما مر : اما ان تنحاز الى الشعـب وتختار الطريق الصعـب الذي سيقودها الى المجهول لان من ستقاومهم سوف لن يستسلموا بسهولة ، و هو ما حدث فعلا .. و اما ان تسلّم امر البلد للـنخـب الفاسدة التي لا تعـترف الا بالديمقراطية التي توصلها الى السلطة ، في حين كان عامة الشعب لا يهمه من يحكمه بقدر ما كان يهمه من يحل مشاكله .. وقد كان الاختيار الأول هو خيار الثوررة ، الذي التقى بخيار الجماهير في مناصرتها والالتفاف حولها ، حينما وجدت فيها مصلحتها ، غير عابئة بما تقوله بعض النخب عن ديمقراطية ما قبل الثورة .. وقد كان تشبث الشعب بقائده في اكبر محنة عرفـتها مصر سنة 1967 ، حين تدفـقـت الامواج البشرية ايام 9 و 10 يونيو لرفض الاستقالة ، مطالبة جمال عبد الناصر بالتراجع عن قرار التـنحي ، أكبر دليل على خيارها المذكور ..
ـ ان تلك التنظيمات الشعـبية بقيت مفتوحة للانتهازيين والمنافقين الذين تسرّبوا اليها ، وعمل كثير منهم على تخريب الثورة من الداخل ، بافراغ تلك المؤسسات من أي مضمون ، او الانحراف بها عـن دورها الاساسي .. كما عمل غيرهم على الوصول الى السلطة من خلال تلك الاطر ذاتها ، فـتسرّب اعداء الثورة الى مواقع قيادية حسّساسة في العديد من القطاعات و المؤسسات .. كما كانت جهات مسؤولة في الدولة تعـمل دائما في الخفاء للسيطـرة عليها والتحكم فيها بواسطة الاجهـزة التنفيذية ، لتوظـيفها بعـيدا عـن مهامها الحقـيقـية .. و هو ما يعـني ان هناك مصالح متشابكة في المجتمع تؤثـرعلى مشكلة الديمقراطية ، فتــتـقـاذفها وتـتـلاعـب بها .. و قد تفـطـنـت الثورة بعـد مراحل طويلة من التجربة و الخطا ، الى كـثـيـر من السلبيات ، تدل طريقة معالجـتها لها ، على ان رؤيـتها كانت تـتطور من خلال الممارسة ، حيث " خطت خطوات كبـيـرة نحو تحـرير الفلاحين والعمال ( 1952 – 1961 ) واستعملت كل الاساليب التي خطرت على بالها لاخراج الشعـب من سلبـيته ، بالتعـليم والثـقافة والاعلام والتـنـظيم ( هيئة التحرير ، الاتحاد القومي ، الاتحاد الاشتراكي العربي ( ، واقـرّت للشعـب المنظم ، بسلطات دستورية محـدودة في دستور 1956 ، وبسلطة السيادة في دستور 1964 ، ولكن البـيـرقراطية المتحالفة مع الراسمالية الطـفـيلـية ، اغـتـصبت تلك المؤسسات الشعـبـية وسيطرت عـليها وسخّـرتها لمصالحها ، فاصبح كل منها ، منذ ان نشأ والى أن قضى تابعا للسلطة التـنفـيذية ... وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقـتضي رفع يد الحكومة عن الاتحاد الاشتراكي العربي ، و استقلاله من السلطة التنفيذية ، ليستطـيع أن يباشر حقوقه السيادية على كل السلطات .. " ( عصمت سيف الدولة – مصدر سابق .. (
أما بالنسبة للاحزاب ، فان الثورة بتلك التوجهات الشعـبية واتـباعها لسياسة اجتماعـية منحازة للشعـب ، نجحت في سحب البساط من تحت أقدامها جميعا ، وهي التي عرفت بفشلها الذريع قبل الثورة ، وانصرفت عن هموم الناس ، وحصرت اهـتمامها في المنافسة والصراع من أجل السلطة ..
والواقع فان قرار الثورة بحل جميع الاحزاب كان قرارا ثوريا بامتياز ، باعتبار أن تلك الاحزاب بالذات لم تكـن تمثل تطلعات الشعـب ، لانها ببساطة لم تخدم قضاياه ولم تقدم له شيئا يذكر قـبل الثورة ، بل على العكس من ذلك ، فانها كانت أحزابا انتهازية عميلة للملك والاحتلال معا .. ولذلك فان تلك الاحزاب لم تكن تمثل أي عمق شعـبي بالمعـنى الواسع في تلك الفترة التي كان فـيها أكثر من 90 في المائة من الشعـب خارج اللعـبة السياسية .. لان جل فـئاته غارقة في الفقر والجهل والحرمان ، فلم يكن أحد من بين هؤلاء يعـنيه حتى مجـرد الحديث عن السياسة أو الديمقراطية التي لا تعـني شيئا بالنسبة لهم اذا كانت غـيـر مقـترنة بتغـييـر جذري لاوضاعهم .. وقد كان وراء تلك الاوضاع سلطـتيـن عـدوتين للشعـب : أحدهما تتمثل في سلطة الاحتلال البريطاني الجاثم على صدر مصر وشعـبها ، والثانية تتمثل في سلطة الملك الذي يتـقاسم الثروة والنفـوذ مع أقلية لا تسأل عن معاناة الشعـب ومستقـبله ، وهي المعـروفة بجماعة النصف في المائة حيث كان 0.5 % فقط من المصريين يستحوذون على الملكية في مصر .. ورغم ان قـرار حل الاحزاب كان في نظر البعض اجراءا تعسفـيا منافـيا للديمقراطية ، الا ان هذا الموقف يقوم على خلفية مغايرة للتي تقاس بها الاشياء من منظور الثورة ، حيث بـيّـنت الظروف والوقائع ان مطلب تلك الاحزاب برجوع العسكريين الى الثـكـنات بعد الثورة ، عقب اجراء انتخابات برلمانية و رئاسية ، ليس مجرد مطلب سخيف ، بل ويقوم على انتهازية حزبية ، وخيانة للشعـب من طرف قادة الثورة لو وافـقوا على هذا الطلب .. لان ذلك كان يعـني باختصار تقديم السلطة للمنظومة القديمة الفاسدة التي قامت عليها الثورة نظرا لطبـيعة المرحلة المتمثلة في غـياب الشعـب كليا عن الممارسة السياسية ، اضافة الى جاهـزية الاحزاب التقليدية للمشاركة والفوز في الانتخابات بنفس الطريقة التي كانت تمارسها من قـبل .. و هو ما يعـني وقـتها الضحك على الثوار والشعـب معا .. ومهما كان الامر فان قادة الثورة لم يكونوا معغـفـلـين الى هذه الدرجة ، بل على العكس من ذلك كانوا ثورييـن حقا ، عـندما قبلوا التحدي و قادوا ثورتهم الى النهاية محقـقـين انجازات كبيـرة لم تتـحقـق للشعـب على مدى قـرون ..
واما ما يتردّد من اتهامات للثورة في الجوانب الديمقراطية فانه لا يمكن ان يقع فـيه الحكم الموضوعي الا بانظر الى التجربة في ظروفها التاريخـية .. ولعل ما ذكره الاستاذ سامي شرف في كتاباته حول نماذج من الممارسة التي انتهجـتها الثورة في التعامل مع خصومها السياسيين ، يكذب تلك الادعاءات . وهذه مقتطفات مطولة من شهاداته تبين كل التفاصيل حيث يقول : "
بعد حل الاحزاب استمرت المنظمات الشيوعية المختلفة الموجودة على الساحة المصرية فى نشاطها تحت الأرض فى مصر ، وكانت المعلومات تشير إلى أن الحزب الشيوعى المصرى هو أنشط تيار، تليه فى النشاط منظمة "حدتو " ( الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى ... وقد لوحظ فى الفترة التى أعقبت قيام الوحدة بين مصر وسوريا أى من العام 1958 حتى العام 1962 زيادة النشرات التى كانت تصدر عما كان يسمى بالحزب الشيوعى المصرى ، وكان التوقيع الذى يذيّل كل منشوراته يحمل أسم " الرفيق خالد " . ولقد اهتم الرئيس جمال عبد الناصر بما يكتبه و أراد أن يعرف من هو الرفيق خالد ، وكـُـلفت الأجهزة أن تتابع هذا الموضوع لكى تكشف من هو الرفيق خالد ، ولكن مضت مدة لم تكن قصيرة نسبيا ولم تستطع الوصول إلى نتيجة إيجابية .. وكانت التخمينات غير مؤكدة . مما ترتب عليه أن تدخل عبد الناصر شخصيا بمجهود ذاتى وشخصى منه للوصول إلى حقيقة هذه الشخصية ، وكان قد تكونت لديه انطباعات واستنتاجات عن حقيقة هذه الشخصية ، لكنه أراد أن يقطع الشك باليقين ...
استدعى الرئيس عبد الناصر فى أحد أيام شهر أكتوبر سنة 1964 " أحد الأشخاص " .. وكان لدى الرئيس انطباع قوى أنه يعرف من هو الرفيق خالد . قال له عبد الناصر : " . . . ح أسألك سؤال واحد ، وأنا واثق إنك ح تجاوبنى عليه بحكم العلاقة التى تربطنا ، وبحكم الوطنية التى تجمعنا وبحكم مصريتك ، وثق أن الغرض ليس أبدا أنى أطلب منك أن تفشى أسرار، أو أن تكشف عن شخص قد يكون عزيزا عليك . . ولكنى أرجوك أن تكون صادقا معى كما كنت طول عمرك . " إندهش الضيف وقال : " إسأل يا ريس . . إيه هو السؤال ؟!
سأله الرئيس : " مين هو الرفيق خالد ؟
كان السؤال مفاجئا ومباغتا، ولكن بعد تفكير قصير لم تطل مدته أكثر من دقيقة من الزمن قال للرئيس أن الرفيق خالد هو الدكتور فؤاد مرسى . كان الرئيس عبد الناصر قبل أن يستدعى هذا الضيف قد ظل حوالى شهرين يحلل ويقرأ كتبا وأبحاثا ودراسات لخمسة أشخاص بعينهم ، الدكتور فؤاد مرسى واحد منهم، ووصل إلى شبه قناعة شخصية أن الرفيق خالد قد يكون هو الدكتور فؤاد مرسى ، ولكنه أراد أن يقطع الشك باليقين، ويؤكد هذا الاستنتاج من شخص يعلم تماما أنه يعرف من هو الرفيق خالد ، وصدق ظنه واستنتاجه من أن الرفيق خالد هو الدكتور فؤاد مرسى . وقبل أن يغادر الضيف بيت الرئيس قال له الرئيس عبد الناصر : " ثق أن هذه المقابلة لن يعلم بها أحد ، فأنت كما كنت دائما شريفا وصادقا ولم تراوغ" ...
وعقب هذه المقابلة كلفنى الرئيس بالاتصال بالدكتور فؤاد مرسى ومقابلته ، كما كلف السيد على صبرى بنفس الشيئ . ... وفى لقاء آخر معى وكنت قد طلبت منه إبداء رأيه فى نقد التجربة والأوضاع الاقتصادية ؛ فقدم الرجل دراسة أبدى فيها رأيه بوضوح وبصراحة ، وفى نهاية اللقاء طلب مقابلة الرئيس عبد الناصر الذى حدد له موعدا بعدها بأقل من أسبوع . فى لقائه مع الرئيس عبد الناصر كاشفه قائلا له أنه كان يعلم أن الرفيق خالد هو نفس الدكتور فؤاد مرسى ، وحسب ما دار فى الحديث فقد أبدى الدكتور فؤاد مرسى اندهاشا واستغرابا . ولم ينكر الرجل ولكنه طلب أن يسأل سؤالا واحدا هو : هل الأجهزة هى التى اكتشفت هذه الحقيقة ؟ فقال له الرئيس : لا ، أنا من تتبعى وقراءاتى لما كتبته أنت والآخرين استنتجت أنك الرفيق خالد ، وبناء على ذلك تم الاتصال بك . وقال له الرئيس : أنا كنت شاكك فيك إنت أو الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله . وفى هذا اللقاء أيضا قال له الرئيس : " أننا نمر بمرحلة تعاد فيها صياغة المجتمع ، وهناك ضوابط بالنسبة للمجتمع المصرى وبالنسبة للتطبيق الاشتراكى ، ولا يمكن أن نطبق الماركسية فى مصر ؛ لأن لدينا ما يحول دون ذلك ، ومن ناحية المبدأ نحن لا نأخذ أقوالا ونطبقها ؛ لأن الذى يطبق النظم هم البشر ، ولا أستطيع أن أضع البشر الذين يصوغون التجربة عمليا فى قوالب جامدة ، فلنا تجربتنا الخاصة المختلفة والمتميزة ، والفوارق جوهرية بين النظرية الماركسية والتطبيق الذى نمارسه لاشتراكيتنا ، وهو على سبيل التحديد كما يلى :
ـ إن اشتراكيتنا تستند فى أساسها وتطبيقاتها على القيم الروحية ، وتلتزم بما نادت به رسالات السماء ، وعلى سبيل المثال تأخذ اشتراكيتنا بنظام الإرث ، وهو ما ترفضه الماركسية .
ـ إن اشتراكيتنا تؤمن بتذويب الفوارق بين الطبقات سلميا ، ولا تأخذ بأسلوب الصراع والعـنف ، فهى تصفى امتيازات ونفوذ الإقطاع والرأسمالية المستغلة ، ولا تصفى الإنسان إنما تحرره من الاستغلال .
ـ إن اشتراكيتنا تحترم إنسانية الإنسان ، وتتـيح له فرصة الحياة الكريمة ، ولا تنظر إليه كترس فى آلة ، وإنما ما عليه من واجبات ، وهى فى الوقت نفسه ترفض الأخذ بالماركسية التى تضحى بأجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة .
ـ إن اشتراكيتنا تؤمن بسيطرة الشعـب على وسائل الإنتاج والهياكل الرئيسية له ، وفى الوقت نفسه تتـيح قدرا من المشاركة لنشاط القطاع الخاص تحت الرقابة الشعـبـية ، فلا تأخذ بالتأميم فى كل جزئيات الإنتاج كما هو الحال فى النظم الشيوعـية ، والرأسمالية الوطنية الغـيـر مستغلة جزء أساسى من تحالف قوى الشعب العامل .
ـ إن اشتراكيتـنا تعطى القيادة ديموقراطيا لتحالف قوى الشعب العامل ( العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية غير المستغلة ) ، وترفض أن تقوم سلطة الدولة على ديكـتاتورية الـبـرولـيتاريا ( الطبقة العاملة .. (
ـ إن اشتراكيتنا فى التوزيع تقوم على مبدأ كل بقدر إنتاجه وعمله ، وليس بقدر حاجته ، وفى هذا تكريم للعمل وإثارة لحوافـز الإنتاج ، بعكس الماركسية التى تطبق مبدأ لكل حسب حاجـته .
ـ إن اشتراكيتنا لم تأخذ بتأميم ملكية الأرض ، وإنما آمنت بالملكية الخاصة فى قطاع الزراعة ، وبما لا يسمح بالاستغلال عن طريق تفـتيت الملكيات الكبـيـرة بمقـتضى قوانين الإصلاح الـزراعى، وزيادة عدد الملاك من صغار المعدمين من الفلاحـيـن .
ـ إن اشتراكيتنا هى بيت سعيد لكل أسرة يقوم على القادرين أى المهيئين للعمل رجالا ونساء ، مجتمع الرفاهـية ، مجتمع تكافوء الفرص ، مجتمع العدالة الاجتماعية .
ـ إن اشتراكيتنا هدفها مجتمع الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع ، مجتمع الكفاية والعدل ، نحن نؤمن بالله وكتبه ورسله ، وديننا واضح ، ونحن نتمسك بهذا الدين .
ثم قام الرئيس بشرح الفروق فى التطبيق وبين ما يحدث فى الكتلة الشرقية ...
كان الدكتور فؤاد مرسى واضحا وصريحا فى رد فعله على كلام الرئيس عبد الناصر ، فقال ( وأنا أذكر تماما نص كلامه ) : " يا سيادة الريس أنت بإصدارك القوانين الاشتراكية تجاوزت كل ما كنا نطمع فى تحقيقه ، ولو تلاحظ سيادتك أننا فى النشرات الأخيرة حاولنا أن نواكب التجربة التى تطبقها ؛ لأن نظرتنا كانت قاصرة منذ سنة 1952 حتى صدور القوانـيـن الاشتراكية سنة1961 ، وما واكبها وصاحبها من تطبـيق ، الحقيقة يا ريس كان على عـيوننا منظار أسود ، كنا متأثرين بأن الحكم العسكرى لن يستطيع أن يحقق التحول الاجتماعى فى مصر بالأسلوب الذى تقوم به وتعلن عـنه " .
ورد عليه الرئيس قائلا : أنه يرى أن القوة القادرة على إحداث التغـيـير فى المجـتمع من أجل مصر يجب أن تضع أيديها معا فى ظل الشرعـية ، وفى ظل إطار قانونى ، وفى ظل مبادئ يسلمون بها، وفى ظل قواعد متـفق عليها ، ومن المصلحة أن تلتقى كل الآراء من أجل الوصول إلى التغـيـيـر . وأضاف الرئيس عـبد الناصر بقوله : " يا دكتور فؤاد أنا بأطرح عليك رأيا لتفكر فـيه ، وهو غير ملزم ، كل ما أطلبه منك إنك تفكر ، وعندما تصل إلى قناعة أو إلى قرار ، فإن بابى مفتوح لك لنـتـناقش فيما وصلت إليه ؛ والموضوع باختصار شديد هو أن تـنضم العناصر اليسارية فى الساحة المصرية إلى تحالف قوى الشعب العامل بشكل أو بآخـر . . فكروا . . وقدموا مقـترحاتـكم.. ". وانتهى اللقاء عـند هذا الحد من الحديث ... "
ويضيف الاستاذ سامي شرف : " بعد هذا اللقاء أصدر الرئيس جمال عبد الناصر تعليماته لي ، لكى أبلغها للسيد على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى العربى والسيد شعراوى جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم للاتحاد الاشتراكى ولباقى الأجهزة بما دار من حديث ليكونوا على علم بالتطورات الجديدة ، كما أبلغت اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة أيضا بما استجد ؛ حيث كان الرئيس قد طلب أن تكـف الأجهزة المعـنية بالبحث عن الرفيق خالد لأننا عرفنا من هو ...
اتصل الدكتور فؤاد مرسى بعد ذلك وأبلغـنى ، كما أبلغ السيد على صبرى أيضا أنه قد تم بحث الأفكار التى طرحها الرئيس فى لقائه الأخـيـر معه ، وهم يرحـبون بالمساهمة فى الاتحاد الاشتراكى، ولو أن هناك مشكلة أن البعض يريد أن يكون لهم وضع خاص ...
كان رد الرئيس عبد الناصر قاطعا صريحا وواضحا لا لبس فيه ؛ وهو أن من يريد أن يشارك فى العمل العام يدخل كفرد عادى ولا يمثل إلا نفسه فقط ... وكل واحد عاوز ينضم ، عليه أن يتقدم بطلب للعضوية ، ويأخذ موقعه فى محل سكنه جغرافيا ، أو مهنيا فى مكان عمله . وبدأت بعد ذلك لقاءات مع السيد على صبرى حول هذا الأمر، وعـندما تم الاتفاق أصدرت قيادة الحزب الشيوعى المصرى تعمـيما داخليا للأعضاء بأن الأمور قد سُـوّيت ، وأنه يمكن للأعضاء أن يمارسوا النشاط ضمن تشكيلات الاتحاد الاشتراكى كأفراد و لا يمثلون إلا أنفسهم ...
و فى هذه المرحلة كان قد تم اتصال من السيد محمد حسنين هيكل مع الدكتور فؤاد مرسى بالاتـفاق مع الرئيس عبد الناصر ؛ حيث لعـب دورا فى تصفـية بعض العقبات على المستويات الشخصية ، وليس من ناحية المبدأ، و شارك معه كل من لطـفى الخولى ومحمد سيد أحمد بشكل أساسى . وكانت نتيجة كل هذه الاتصالات واللقاءات فى بداية سنة 1965 أن تم الاتفاق ، دون أى ضغط ، على إصدار بيان من الحزب الشيـوعى المصرى يعلـن فـيه حل نفسه ، وأن من يريد مباشرة أو المشاركة فى العمل السياسى فأبواب الاتحاد الاشتراكى مفـتوحة على مصراعـيها للجميع ، كما تم الاتفاق على أن يتم رفع العـزل السياسى عن أعضاء الحزب ، واصبح كل واحد منهم مثل أى مواطن عادى ليس له انتماء حزبى، وليس هناك تسلسل قيادى ولا تعليمات ولا تعميمات ، وهكذا بدأ أعضاء التنظيمات الشيوعية يدخلون فى وحدات الاتحاد الاشتراكى كأفراد ، وكانوا لا يزيدون عن 950 شخصا .. "
خلاصة القول :
أن كل ما تم ترويجه عن الاقصاء بعد حل الاحزاب في 16 يناير سنة 1953 غير دقيق بالمرة ، لأن محترفي السياسة قبل الثورة نفذو الى تلك التنظيمات التي أنشأتها الثورة ومارسو نشاطهم داخلها كما يحلو لهم ، وتمكنوا من تحقيق الكثير من مآربهم الدنيئة وهم جزءا من مؤسسات الدولة ، التي تفضي اليها تلك التنظيمات ..
وان ما نتعلمه من ثورة يوليو ـ رغم السلبيات والأخطاء والقصور في التجربة الديمقراطية ـ هو ان الديمقراطية مقدرة ذاتية على التطور قبل كل شئ ، تنهض بالمجتمع نهضة شاملة في ظل نظام يحفظ للإنسان كرامته وحريته بجميع أبعادها ، ويرتقي بجميع الافراد الى أعلى مستوى يمكن ان يبلغه غيرهم في المجتمعات المتقدّمة ..حينما يتيح لهم جميعا أعلى درجات المشاركة الفعلية في صناعة المستقبل .. وهو ما سعت إليه ثورة يوليو بآليات معينة تمثلت في تلك التنظيمات الشعبية التي كانت وليدة مرحلتها وظروفها .. وقد أرادت من خلالها دعم الديمقراطية بتقطع الطريق امام " سيطرة رأس المال والإقطاع على الحكم " ، وفي نفس الوقت إيجاد بدائل عملية للمشاركة الشعبية الواسعة .. فكان لها ما لها ، وعليها ما عليها .. غير أن الثابت في تلك التجربة بمضامينها السياسية والاجتماعية ، تفوّقها على كل " الديمقراطيات " السائدة في عصرها ومحيطها ، من خلال ما تحقق فعلا لعامة الناس في جميع النواحي الاجتماعية .. كما ان مصر لم تكن بتجربتها تلك هي الاسوء في المنطقة والعالم بأي معيار كان في الحكم على ما كان .. فضلا على ان الثورة كانت أكثر صدقا في نهجها الديمقراطي ، مقارنة بالانظمة القائمة حولها ، حينما سعت الى تطوير التجربة من خلال التركيز على مضامينها الاجتماعية ، وتطوير هيكلتها وهي تنتقل من تجربة الى اخرى : هيئة التحرير ، فالاتحاد القومي ، ثم الاتحاد الاشتراكي ، وهي تحاول في كل مرحلة أن تكون الاضافة لصالح الديمقراطية الشعبية .. حتى وان كانت لم تبلغ غايتها كاملة ..
( القدس )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق