عن عبد
الناصر في ذكرى الانفصال والرحيل ..
عندما نتأمل
الشخصيات التاريخية التي عاشت منذ زمن ورحلت الى العالم الآخر نجد أسماء لامعة
تذكرها الأجيال وهي لم تعايشها لتعرف بالملموس الأثر الذي حققته هذه
الرموز في الواقع ، سوى ما يصلها من أخبار عن هذه الشخصية أو تلك . وعادة نجد أن
الذين ينقلون لنا التاريخ يتفقون إجماليا حول الموقف منها جميعا لأنها عادة شخصيات
ضحّت وقاومت الظلم أو الغـزو الخارجي ، بالفكر أو بالسلاح ، أي أنها عبرت عن
هموم جماعية يتفق حولها أوسع الناس في المجتمع .. لذلك فان مثل هذا الإجماع
الايجابي له ما يبرره موضوعيا كما يبدو .. و يكفي هنا أن نذكر من بين العديد
من الشخصيات التاريخية اللامعة شخصيتين بارزتين لا تزال الأجيال المتعاقبة
تذكرهما ، الأول من التاريخ الوسيط وهو صلاح الدين الأيوبي ، والثاني من التاريخ
الحديث وهو عمر المختار، اللذان يمكن أن نبحث في جوانب مختصرة من شخصية كل منهما
...
أما عبد
الناصر فقد تباينت حول تجربته الآراء ، فنجد من تثور ثائرته و يفقد صوابه
عندما يسمع اسمه ، فتــُـذكر الأخطاء
و لا يـُـذكر التصحـيح ، و تــُـذكر
الهـزائم و لا تــُـذكر الانتصارات . و في المقابل نجد الملايين ممّـن لم يعـرفوه
و لم يروه سوى في الصور ، ورغم ذلك فهم لا
يملون مدحه وتمجيده ، وهو في نظرهم اعزّ عليهم من آبائهم و أهلهم جميعا
.. ! فلماذا بقى له كل هذا التأثير في هذه الأطراف
المتباينة ؟ و لماذا بقي حاضرا على امتداد أربعة عقود رغم ما تعـرّضت له تجربته من
حملات التشهـيـر والتشويه المنظمة منذ السبعـينات إلى الآن ؟
* أولا إن مثل تلك الشخصيات التاريخية العظيمة
المذكورة قد عاشت وأثـّــرت في أحداث كان لهم فيها خصوما وأعداء من ضحايا المشاريع
التي دافعوا عنها وضحّـوا من أجـلهـا وما نحـن الـيـوم إلا من أصحـاب المصلحة التي
تحققت لنا بفضل تضحياتهم لذلك نذكرهم فنمجدهم ونعـتـز بهم وبأعمالهم .. وهذا من
الناحية الإجمالية ، لكن إذا أخذنا صلاح الدين الأيوبي مثلا ، ونظرنا إلى
مسيرته بالتفاصيل سنجد أن له من الأعداء المباشرين من كان يكرهه و يحقد عليه ، أو
حتى من يودّ قتله .. فهل في ذلك غرابة ؟
قطعا لا
. لان صلاح الدين عندما قدم إلى مصر خاض فيها الحروب ضد الفاطميين ، فتتبّعهم
وانتقم منهم حتى استقـر حكمه نهائيا هناك ، ثم وجّه
جـيـشه إلى اليمن حتى أخضعـهــا لسلطـته ، واتجه بعد ذلـك إلى بلاد الشام لتطهير
بعض البؤر من العملاء للفرنجة .. وبهذ
ا التوحيد لشتات الأمة واجه الصليبيين فهزمهم ...
تراهم ماذا كانوا يقولون ؟
بقطع
النظر عن صحة القيل و القال ، الم يكن صلاح الدين
البطل متهما من بعض الخصوم التاريخيين بالتنكيل بأعدائه ، وباستعمال القوة من اجل
العظمة الشخصيه والجاه ، وانه ترك بعض الفلول للصليبيين على السواحل
فاتخذوها قواعد ، ثم منطلقا جديدا للهجوم بعد مماته ؟ الم يتهموه بأنه سمح
لليهود بالإقامة في فلسطين ومكنهم من بناء كنائس ومدارس لهم ؟ الم يقولوا انه
قام بمنح الامتيازات لأهله وقادته المقربين ؟ الم يتهموه بالتوريث وتمكين
أبنائه مما أدّى إلى الصراعات من بعده
وإضعاف صفوف المسلمين ؟ الم يكن متهما حتى بالقتل حيث أمر بتـنـفـيذ حكم الإعدام
في السهراوردي بإيعاز من رجال الدين ، الخ ..؟
إذا كان هذا عن صلاح الدين
الأيوبي فماذا عن عمر المختار ؟
بداية نقول أن عمر المختار لم يكن حاكما ولا طرفا في السلطة مثل صلاح الدين ، ورغم ذلك فانه لم يسلم من بعض الاتهامات بحسب المجال الذي تحرّك فيه وهو الجهاد ضد الغـزاة .. الم يكن عمر المختار في نظر خصومه وعملاء الاستعمار الايطالي مجرّد مغامر وفاشل تسبّب بتعـنته في الكوارث للشعب كما يقال اليوم عن عبد الناصر.. ؟
بداية نقول أن عمر المختار لم يكن حاكما ولا طرفا في السلطة مثل صلاح الدين ، ورغم ذلك فانه لم يسلم من بعض الاتهامات بحسب المجال الذي تحرّك فيه وهو الجهاد ضد الغـزاة .. الم يكن عمر المختار في نظر خصومه وعملاء الاستعمار الايطالي مجرّد مغامر وفاشل تسبّب بتعـنته في الكوارث للشعب كما يقال اليوم عن عبد الناصر.. ؟
فالى ماذا يُـفضي هذا المنطق إذن ؟
صلاح الدين الأيوبي وعمر
المختار ليسوا أبطالا .... !!
ولو
اتبـعـنا مثل هذا المنطق العدمي لوجدنا كل الأبطال متسلطين ، ومغـرورين الخ .. !!
* ثانيا إن
الأحداث التي اثر فيها عبد الناصر بأفكاره واجتهاداته لا تزال مؤثرة فينا لذلك نحن
منقسمين في حكمنا عليه وعلى تجربته حسب مواقعنا من المعارك التي خاضها عبد الناصر
إما لصالحنا أو ضدنا ، على عكس القادة التاريخيين المذكورين الذين لم يعد لهم خصوم
مباشرين أحياء في عصرنا وفي واقعـنا الخ .. لذلك فانه من البديهي أن نجد اليوم
حملات التشهير والتشويه لعبد الناصر أو لتجربته ، لان مشروعه موجه لـزعـزعة أفكار
لا يـزال لها أنصارها من المخالفين ، وهدم عروش لا يزال لها أصحابها من
الحاكمين ، و زلزلة مواقع لا يزال فيها أقدام الغاصبين والناهبين الخ ..
* ثالثا
ان العبرة ليست بتوجيه الاتهامات للإبطال من طرف بعض خصومهم ، بل بالنظرة
العامة لهؤلاء الإبطال من أغلب فئات الشعب والقاعدة الجماهيرية الواسعة التي
تستطيع ان تقول كلمتها بما تشعـر به من مصلحة متحققة لها بفضلهم . أي بما يستقـر
عليه الحكم من طرف العامة وليس الخاصة . أو بما يبقى في وجدان الشعوب كمعيار لا
يخطا على مر التاريخ في الحكم على الأبطال الحقيقيين لكل شعب و كل امة ..
وعليه فإننا
لو نظرنا الى موقف المخالفين لعبد الناصر بشكل مفصل وبحثنا في أسباب التهجم
عليه وعلى تجربته ، لوجدنا الأمر قائما منذ البداية على تناقض لا مجال
فيه للحلول الوسط . تناقض بين مصالح المخالفين وامتيازاتهم التي سحبت منهم (
مواقع سابقة في السلطة او تطلّع إليها ، فدادين ، باشوية ، عُمودية ، نفوذ ، جاه ،
ثروة ..) من جهة ، وبين نهج عبد الناصر الذي يهدف الى تجريدهم من أهم أسلحتهم المادية والسياسية ( حل الأحزاب
، الحد من الملكية ، العـزل السياسي ...) لمنع تلك الأحزاب من العودة إلى السلطة وإنتاج
نفس المنظومة الفاسدة التي كانت سائدة قبل قيام الثورة من جهة ثانية .. وهذا كان
سببا كافيا في نظر هؤلاء لاستخدام كل
أنواع الأسلحة ضده حيا وميتا (محاولات اغتيال ، تشويه ، اتهامات ، تحالف مع القوى
المعادية ..الخ ) .. وهو ما يدعو لطرح
السؤال الجوهري : هل كانت تلك القوى ديمقراطية فعلا لتصف عبد الناصر بالديكتاتورية
؟
من هذه
الناحية ، فإننا لو نظرنا إلى أكبر الأحزاب جماهيرية في تلك الحقبة لوجدنا كل من
حزب الوفد والإخوان المسلمين من أكثر الأحزاب
عداء للثورة وأكثرها حديثا عن الديمقراطية . فلنبحث في مسالة الديمقراطية
داخل كل منهما أولا .
بالنسبة
لحزب الوفد تكررت مسالة فصل الأعضاء من طرف القيادة – يقول الدكتور عصمت سيف
الدولة – حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي العـتـيـد . و يذكر منها العديد من
عمليات الفصل الجماعية لأغلب أعضائه (عشرة من أربعة عشر ) من طرف القيادة
بداية من سعد زغلول سنة 1921 وصولا الى زعـيمه مصطـفي الـنحـاس في عام 1932
بعـزل أغلبية الأعضاء ( ثمانية من إحدى عشر ) وقد تكررت مثل هذه القرارات الفردية
العديد من المرات الأخرى بفصل أشهر قيادات الحزب طوال تاريخه ، ولقد كان هذا
التقليد الاستبدادي من بين أسباب الانشقاقات التـي حصلـت في الحزب .. (
عصمت سيف الـدولـة ، هـل كان عبد الناصر ديكتاتورا ) .
أما
بالنسبة للإخوان المسلمين فيقول : " فمنذ أسس المرحوم حسن البنا
جماعة الإخوان المسلمين ، نشأت ونمت على أساس من نظام البيعة و التسليم الكامل
للقيادة ، احتجاجا بقوله تعالى : فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
[النساء : 65 ] .و كان على كل أخ مسلم من أعضاء الجماعة أن يتأكد من صدق ولائه
للدعوة بان يسال نفسه عما إذا كان مستعدا لان يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة
الصواب إذا ما خالف رأيه رأي القيادة ... " وقد كان كل هذا قائما في زمانه
على فكرة سائدة في المجتمع تستـند لقبول فكرة المستبد العادل . لذلك ردّ
عصمت سيف الدولة على نفاق الأحزاب التي تصف عبد الناصر بالديكتاتورية متوجها الى
الشباب العربي بقوله : " إذن في تلك المرحلة من التاريخ العربي ، يا أيها
الجيل الجديد من الشباب ، لم يكن الاستبداد اقل من أمنية يتمناها الجيل المصري
الذي كان في ذلك الوقت جديدا . فإذا أردتم ان تحاكموا استبداد عبد الناصر عام 1953
فحاولوا – ان استطعـتم – ان تحاكموه طبقا لقوانين جيله . و لقد علمتم الآن كيف ان
حجة الذين أنكروا على عبد الناصر في عام 1953 ، استـئـثاره بالسلطة كانت حجة داحضة
. فقد كانوا يسلمون أمورهم إلى قياداتهم تسليما غير مشروط و ينكرونه على عبد
الناصر . اعني أنهم لم يكونوا على أي وجه ديمقراطيين ليقيم الشعب وزنا لدعاويهم
الديمقراطية . ولقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت تنتهي – كخلاصة – إلى أن
يسلّم عبد الناصر السلطة الى الزعيم مصطفى النحاس أو إلى الأمام حسن الهضيبي
، و لم يكن في ذلك شئ يمت بصلة للديمقراطية . فحتى لو افترضنا فيهم العدالة فقد
كان كل منهم – عند أنصاره – مستبدا عادلا . و لم يكن عبد الناصر ، قائد
الثورة ، اقل منهم أنصارا .."
ثم إننا
لو القينا نظرة بسيطة على كل النظم من حوله لوجدناها جميعا على شاكلة النظام الذي
ثار عليه ، وقد ظل يقود شعوبها ويحـرّضها على الثورة طوال حياته لكن القدر
لم يمهله ليعيش ثورتها .. أمّا اليوم و قد نضجت الظروف و تهيأت لمثل هذا العمل
الثوري فان عبد الناصر لطالما كان يحلم بقدومه ، وهو القائل :
" إنني أومن إيمانا
قاطعا انه سيخرج من صفوف هذا الشعب أبطال مجهولون يشعـرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة " ..
أما نحن فنقول رحم الله عبد الناصر الذي عاش للوحدة ورحل في ذكرى الانفصال ..
( القدس ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق