هل كان عبد الناصر ديكتاتورا ؟ (2)
الدكتور عصمت سيف الدولة .
10 ـ النقد… والنقد الذاتي :
الخطأ في التجربة :
لقد عاقت تجربة عبد الناصر حل مشكلة الديموقراطية في مصر معوقات كثيرة . منها ما هو اجتماعي مثل التخلف العلمي والديموقراطي الكامن في الشعب نفسه نتيجة سنوات القهر الطويلة ، وتفشي الامية وسيادة القيم القروية الذليلة . ومنها ما هو تاريخي مثل قيام ثورة 1952 بدون تنظيم شعبي نتيجة لطبيعة النظام الذي كان سائدا قبل الثورة . ومنها ما هوحتمي مثل معارك التحرر الوطني وما فرضته من قيود ووضعته من حدود للممارسة الديموقراطية . ومنها ما فرض على الثورة مثل محاولات التآمر عليها وما اقتضته تلك المحاولات من اجراءات صارمة للدفاع عنها . ومنها ما يسأل عنه غير عبد الناصر مثل نكوص القوى والعناصر الوطنية والتقدمية عن مساندة الثورة نتيجة خطأ في تحليل الاحداث وتقييم الثورة ذاتها … وغير ذلك من المعوقات التي لا تدخل في باب ” الخطأ في التجربة “.. ذلك لأن من مبررات الثورة ومهامها ان تتغلب على معوقاتها وهو ما يعني ان المعوقات موجودة او متوقعة . كما ان من مهامها ان تتصدى وتسحق أعدائها دفاعا عن نفسها . ولكن الخطأ ـ كما نعنيه ـ هو ما وقعت فيه الثورة ذاتها ، اما في ادراك مشكلة الديموقراطية او في اكتشاف حلها الصحيح او في أسلوب حلها . وهو ما يعني انه كان من الممكن ـ موضوعيا ـ عدم وقوعه . نعني الخطأ .
الخطأ الأساسي :
في أكثر من موضع سابق من هذا الحديث نبهنا الى اختلاط المفهوم الليبرالي للديموقراطية مع المفهوم الاجتماعي في فكر ومواقف عبد الناصر من المشكلة . أقربها الى الذاكرة اختياره الاستقالة من مجلس قيادة الثورة احتراما لرأي الاغلبية ، وهو موقف ليبرالي ، ورفضه الخضوع لرأي الأغلبية وهو موقف غير ليبرالي . كما نذكر دستور عبد الناصر الذي أصدره عام 1956 وجمع فيه نصوص النظام النيابي ، وهو نظام ليبرالي ، مع تقييده بالاستفتاء الشعبي والاتحاد القومي و هي صيغ غير ليبرالية .. المهم ان عبد الناصر كان يعالج مشكلة الديموقراطية في مصر، حتى عام 1961 ، ويجرب حلها ، على ضوء مفهوم اجتماعي للديموقراطية متلبس بجرثومة أو جراثيم المفهوم الليبرالي . وما زالت التجربة ، برغم كل مابذل من أجلها من أسباب النجاح ، تعاني من تناقضها حتى كادت تجهز على الثورة ذاتها .. لولا ان صححها عبد الناصر بثورة جديدة .
قال عبد الناصر يوم 2 يوليو 1962 وهو يتحدث عن الفترة السابقة : ” ان الفكر الثوري في تلك الفترة ، وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داخل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به قد وقع في الخطأ حين توهم ان الطبقة المحتكرة التي كان لا بد ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن ان تقبل الوحدة الوطنية مع قوى الشعب صاحبة المصلحة في الثورة . ولقد كان من أثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم وما حدث داخلها من عوامل الصدام بين القوى الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة ما أصابها بالشلل وأقعدها عن الحركة بل وكاد ان ينحرف بها في بعض الاحيان عن الاتجاه الثوري الاصيل … ”
ان عبد الناصر في هذه الفقرة من أقواله وسنورد من أمثالها كثيرا ، لم ينسب الخطأ الى القوى المضادة للثورة ، بل اعترف بخطأ توهم الوحدة الوطنية بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة . ولما كان هو القائد المفكر الثوري فانه قد اعترف بوهم غلف التجربة بضبابه فأضل الرؤية الصحيحة .
من أين أتى هذا الوهم ؟
وهم المثالية :
ليست المثالية هي التطلع الى مثل أعلى كما توحي الكلمة لبعض الناس . المثل الاعلى قوة جاذبة الى التقدم . أما المثالية فوهم غير علمي لكيفية التقدم . المثل الاعلى يحدد الغاية . والمثالية تتعلق بالاسلوب . والمثالية كأسلوب ، تتميز بالتجريد الفكري وانكار الواقع الاجتماعي او تجاهله . الشعب في المثالية او الليبرالية (اذ الليبرالية نظرية مثالية) هو مجموعة من المواطنين وكل واحد من الشعب هو مواطن .
يقول جورج بوردو في كتابه عن الديموقراطية : “.. والمواطن ليس هو الفرد بجميع خصائصه بما فيها أنانيته وأطماعه وتعصبه الفكري في مواجهة المصالح الدائمة للجموع . بل هو الانسان الواعي المتحرر من الانحياز الطبقي ومن متاعب ظروفه الاقتصادية ، القادر على ان يدلي برأيه في الشئون العامة بصرف النظر عما يفضله لنفسه .. ان المواطن هو ذلك الانسان الذي منحته الطبيعة حرية لا تتأثر بالظروف المتغيرة ” .. وقال تارجت : ” اذا جردنا العسكريين ورجال الكنيسة ورجال القانون والتجار والمزارعين من مواقفهم التي تحددها مهنهم يصبح كل منهم مواطنا !! “ .
وواضح من هذا ان ” المواطن ” لا وجود له في الواقع . انه مجموعة صفات مجردة . انه مجرد فكرة … وهذه هي المثالية . في هذه الفكرة يستوي الناس ويصبح كل أفراد الشعب سواء ..
ولكن لماذا كان الواقع ان الناس يختلف بعضهم عن بعض طبقا لظروف كل واحد منهم وحصته من عائد وطنه . فإن صفة المواطن لا تكون لها دلالة الا وحدة الانتماء الى وطن واحد . ثم ـ فيما عدا ذلك ـ يختلف الناس اختلافا كبيرا . منهم الحكام والمحكومون الاغنياء والفقراء ، المتعلمون والاميون ، المستغلون وضحايا الاستغلال ، الملاك والمعدمون ، الأذكياء والاغبياء ، الاصحاء والمرضى ، الشيوخ والرجال والنساء والشباب والاطفال .. الى آخره .. ويتدرجون فيما بين تلك الحدود . فلا نكاد نعرف مواطنا شبيها بمواطن اخر. وتصبح مشكلة أي حكم ” وطني ” هي كيفية ازالة الفوارق او تخفيفها على قدر ما تطيق موارد الوطن الواحد . هنا تكون ” المساواة ” الشكلية مجرد هروب من الواقع . تكون مثالية . ففيما بين الحاكمين والمحكومين يكون المحكومون وحدهم هم الذين يحتاجون الى الديموقراطية . وفيما بين الاغنياء والفقراء يكون الفقراء وحدهم هم الذين يحتاجون الى رفع مستوى المعيشة . وفيما بين المتعلمين والاميين يكون الاميون وحدهم هم المحتاجون الى التعليم . وفيما بين المستغلين وضحايا الاستغلال يكون الضحايا وحدهم هم المحتاجون الى الحماية .. الى آخره .
ولكن المثالية ، جرثومة الليبرالية ، لا تعرف هذا ولا تعترف به . فتبيح كل شيء لكل الناس او تحرم كل الناس من كل شيء ثم تقف الدولة الليبرالية على الحياد خارج وفوق المجتمع وتناقضاته وصراعاته . وهذا الحياد لا يعني شيئا أقل من انحياز الدولة للاقوياء ضد الضعفاء ، للاغنياء ضد الفقراء ، للظالمين ضد المظلومين .. لانها تحجب حمايتها عمن هم في حاجة الى الحماية فتبيح ـ سلبيا ـ لمن هم في غير حاجة الى حماية فرصة افتراس الاخرين …
كيف تبرر المثالية موقفها ؟ .. تبرره مثاليا . تتعامل فكريا مع الافكار . وتتطلب من كل فرد ان ينهض الى مستوى الفكرة الصحيحة ما دام قد وعاها ، فتركز على التوعية وتكتفي باداء الرسالة ئم تدعو الناس الى ان يتخففوا من أثقالهم وان يتغلبوا على معوقات حركتهم . انها تدعو المرضى الى الشفاء ماداموا قد عرفوا انهم مرضى .. ومن لم يفعل ” فذنبه على جنبه ” .. وهو انكار تام للظروف الموضوعية التي تحول بين كل فرد وبين تحقيق ارادته ، وترغمه على ان يفعل ما لا يعتقد أصلاً انه صحيح . ولماذا يدعي كل اللصوص براءة الذمة ، لأنهم لا ينكرون الامانة فكرة ولكنهم يهدرونها مسلكا .. ولماذا وعد الله بعض ” المؤمنين ” بجهنم .. لأن الايمان لا يؤدي بالضرورة الى التقوى . أما المثالية فهي تكتفي بالفكرة وتحمل صاحبها مهمة فرضها على الواقع الموضوعي .. انها ، أعني المثالية ، الوجه الثاني من عملة الفشل، أما الوجه الاول فهو المادية .. تنكر الفكرة او تتجاهلها كعنصر في صياغة الحياة الواقعية .. وتفرض على البشر ارادة ظروفهم المادية .
وأرجو الا يسأل أحد : ماذا بقي اذن .. بعد المثالية والمادية ؟.. فان هذا حديث طويل لا يتسع له نطاق هذا الحديث .
مثالية عبد الناصر:
لم يكن عبد الناصر مثاليا خالصا حين قامت الثورة وتصدى لحل مشكلة الديموقراطية في مصر. فما نزال نذكر موقفه العدائي من الديموقراطية الليبرالية وموقفه الديموقراطي من الشعب ، ورؤيته الناضجة للعلاقة بين التبعية الاقتصادية للاقطاعيين ومشكلة الديموقراطية عند الفلاحين ، ورؤيته الجنينية للعلاقة بين الظروف الاجتماعية والحرية . وكان من نتائج ذلك الموقف المختلط ان أنجز ـ بذات الدرجة من الحماس ـ أمرين متناقضين :
أما الأول : فهو مشروعاته لحل مشكلة الديموقراطية : الأصلاح الزراعي ، منع الفصل التعسفي . هيئة التحرير، دستور 1956، السلطات الدستورية التي تقررت للتنظيم الجماهيري ، تنظيم الجماهير في الاتحاد القومي ، توسيع حقوق الأنتخاب ومضاعفة أعداد من لهم هذا الحق .. الخ .
أما الثاني : النقيض ، فهو اباحة تلك المشروعات ” لكل المواطين ” وترك المنافسة الحرة بينهم تضع كل قادر منهم في الموضع الذي تصل اليه قدرته وتبقي كل عاجز منهم في موضع عجزه . وضع الفلاحين في الريف في حلبة المنافسة الحرة على الجمعيات التعاونية وخدماتها مع الملاك .
أنشأ هيئة التحرير وجمع فيها كل الناس ثم ترك لهم حرية المنافسة على قيادتها . حوّلها الى اتحاد قومي ومنحه سلطات دستورية ثم ترك الناس ـ كل الناس ـ فيه يتنافسون على قيادته وعلى استعمال تلك الحقوق الدستورية . وجّه اليهم جميعا نداء ” ارفع رأسك يا أخي لقد مضى عهد الاستعباد ” وترك للمنافسة الحرة مهمة اختيار من يرفع رأسه ومن ينكسها .. الى آخره .. ثم بقي على الحياد . لأن الثورة التي كانت ما تزال تحتفظ بجرثومة المثالية الليبرالية كانت ترى فيهم جميعا ” المواطنين ” ولم تر البشر الواقعيين فجمعت بين الوحوش والفرائس في نطاق واحد ، فانطلقت الوحوش على الفرائس وفرض القوي ارادته . ولم يكن من الممكن ان تكون النتيجة غير ذلك … مهما تكن النوايا حسنة .
ولقد تجلى هذا الاتجاه المثالي الليبرالي في خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تلك الفترة كما لو كان قد كفى الشعب استبداد الاقطاعيين وسيطرة الرأسماليين وأوفى بوعده ، وأصدر لهم دستورا ثم نظر اليهم نظرة واحدة تدعوهم الى المحبة والوحدة والتعاون في سبيل الوطن …
تجلى هذا اولا في تصوره ان الحرية مقدرة ذاتية على كل واحد ان يكسبها لنفسه بصرف النظر عن ظروفه الواقعية . قال في منيا القمح يوم 30 نوفمبر 1953: ” اننا نهتف دائما بالحرية ونهتف بالعزة وليست العزة كلاما او هتافا و ليست الحرية أوهاما ينادى بها بلا وعي . ولكن الحرية هي التحرر من العبودية ومن الخوف ومن الفزع أفرادا وجماعات . لقد عشنا سنين طويلة تحدثنا فيها طويلا عن الحرية ولم نحقق منها شيئاً . فقد كانت الحرية وعودا وكلاما وصياحا أما اليوم فاذا قلنا الحرية فنحن نعني حرية القلوب وحرية النفوس وحرية العقول وهي كلها تتلخص في التحرر من الخوف الا من الله الذي خلق العالمين .. “
نعم ولكن كيف ؟ كيف يتحرر الخائف من خوفه ؟
وقال في المؤتمر الوطني بجامعة القاهرة يوم 3 ديسمبر 1953 : ” ان العامل الاول للحرية هو التجرد التام من روح الاستعباد وروح الخوف والفزع ويجب ان يكون الحاكم والشعب قوتين متعادلتين فاذا لم يكن الشعب قويا فان الحكم لا يكون عادلا ، ولكي يكون الشعب قويا يجب ان يكره الاستبداد وينفر من الاستعباد ولا يعرف للخوف والفزع معنى” .
نعم ولكن كيف ؟.. كيف يؤدي النفور من الاستعباد الى القوة ؟
وقال في فرع هيئة التحرير بالوايلي يوم 7 ديسمبر 1953:
” اننا الآن نلقي جميع الاوزار على الحكام السابقين وحدهم وأريد ان أقول ان أي حاكم اذا ترك وحده لن يستطيع ان يتغلب على نزعات نفسه والنفس أمارة بالسوء ولهذا يجب ان يكون الشعب متيقظا متسلحا بالمعرفة . وكلنا نعرف اننا كنا نحكم حكما ديموقراطيا له برلمان وكان له دستور ووثيقة تقول الامة مصدر السلطات . وهذه الامة كانت ضحية السلطات . اننا نريد اليوم لهذه الامة ان تكون مصدر السلطات وهذا لن يتأتى الا بالمعرفة والتيقظ ومعرفة كل فرد حقوقه وواجباته “ .
نعم ولكن كيف ؟.. كيف تؤدي معرفة الحق الى الحصول على الحق ؟
وقال في حفل كلية أركان الحرب يوم 29 نوفمبر 1954:
” ان العزة والكرامة كانتا دائما جزءا من الشعب واننا إذ نقول ان هذه الثورة أقامت العزة وأقامت الكرامة فإنما نعني ان هذه الثورة ثبتت العزة والكرامة وجعلتهما حقيقة واقعة لأن هذا الشعب كافح طويلا من أجل عزته ومن أجل كرامته واستشهد منه من استشهد وشرد منه من شرد من أجل هذه الكرامة التي كنا نراها دائما في الصدور وكنا نراها في النفوس التي كانت دائما تمثيلا خفيا او ظاهرا في كل فرد من أبناء الوطن ” .
نعم ولكن كيف ؟.. كيف تؤدي العزة الكامنة في الصدور الى الديموقراطية ؟ .
الحياد المستحيل :
من كل ما سبق ، وأمثاله كثير ، يتضح بجلاء أن الديموقراطية كانت ، في مفهوم الرئيس عبد الناصر، في تلك المرحلة ، مقدرة ذاتية قابلة للاكتساب بالوعي ومغالبة النفس حتى تتحرر من الخوف والفزع . وان الجماهير لا تنقصها إلا التعبئة والتوعية والثقة بالنفس بعد ان قضى على الاقطاع ” وسيطرة رأس المال على الحكم ” ، حتى تسترد الديموقراطية عافيتها وتفرض ارادتها . وأنها الى حد كبير كانت مسئولة عن الاستبداد بها فهي ـ حينئذ ـ مسئولة عن أن تأخذ بيدها زمام أمرها فلا تسمح بالاستبداد من جديد. وان وظيفة هيئة التحرير كانت ـ على وجه التحديد ـ تنظيم الشعب وتعبئته وحشده وتوعيته ودفعه بعيدا عن السلبية والركود السابق وتحريضه على ان يحرر نفسه من الخوف والفزع .
أجاب عبد الناصر ، اذن ، عن أسئلتنا : كيف ؟ .. ولقد كانت اجابته صحيحة الى حد محدود . ولكن بالرغم من ان تلك كانت خطوة تقدمية على طريق الديموقراطية في شعب كان ـ فعلا ـ قد لاذ بالسلبية وخرج عن نطاق الاهتمام بالمسائل العامة ، الا انه لا يمكن تجاهل الرؤية المثالية لمشكلة الديموقراطية التي كانت تواكب، وتتغلب في كثير من الاوقات ، على الرؤية الاجتماعية كأثر من اثار المفهوم الليبرالي العام للديموقراطية في هذه المرحلة .
ولقد كانت غلبة المثالية أكثر تجليا في الخطب المتكررة للرئيس الراحل عن التسوية الحيادية بين المواطنين . قال مخاطبا أصحاب محال القاهرة وضواحيها يوم 12 ديسمبر 1953 : ” ان هناك فرقا كبيرا بين الفوضى والحرية وان حرية صاحب العمل تبدأ عندما تنتهي حرية العامل وحرية العامل تبدأ عندما تنتهي حرية صاحب العمل . ان هذه الحكومة كانت اول حكومه تحمي العامل في حدود رعاية حق العمل ورسالتها التوفيق بين العامل وصاحب العمل فمن اشترط من الفريقين فقد هدم بناء التضامن الذي يقوم عليه مجد مصر“ .
وقال يوم 13 ديسمبر 1953 : ” اننا لا نود ان نقدم مطالب طائفة على اخرى ولا ان نرفع طائفة على مستوى الطوائف الاخرى وذلك حتى لا يرتفع مستواها الاجتماعي على حساب طوائف اخرى . واننا نود ان نقوم بحل المشكلة العامة لا المشاكل الخاصة . فهناك عمال متعطلون يريدون العمل ونحن بدورنا نعمل على ايجاد عمل لهم ونعمل على حماية العامل من أصحاب العمل ونحمي أصحاب العمل فنكون حكاما بين العامل وصاحب العمل “ .
وقال في شبرا الخيمة يوم 25 ديسمبر 1953: ” وإني اؤكد لكم انه لا يوجد شخص الان يستطيع ان يستغل الحكم في سبيل مصلحته الخاصة . نحن الان نعمل في سبيل صاحب العمل وفي سبيل العامل لأن مصالحهما مشتركة . يا اخواني : اننا نتجه الى المحافظة على مصلحة العامل وعلى مصلحة العمل الى بناء عهد جديد من الصناعة وهذا العهد هو الذي سيمكننا من ايجاد عمل للعمال المتعطلين “ .
وقال مخاطبا منظمات الشباب يوم 3 يناير 1954 : ” ان الرسالة التي ادعوكم اليها هي التعاون في الخير وليكن كل منكم عطوفا على الاخرين فتكون كتلة واحدة متحابة متآخية فلا تجاهروا بالعدوان ولا تكونوا معتدين . وإذا خرج واحد من الصف فانصحوه واثيبوه الى رشده فلا نكون كما كانت الحال في الماضي شيعا وأحزابا . كونوا على الدوام رسلا للوحدة والمحبة والتعاون فنحافظ على قوة الوطن المعنوية والمادية ” .
وقال في قوة عمال المحلة مساء يوم 3 أبريل 1954 : ” أنتم اليوم مسئولون عن هذا الوطن فيجب ان تحافظوا على وحدة أبنائه من أجل وطنكم وعائلاتكم ان تتعاونوا مع جميع طبقات الامة تعاونا وثيقا حتى تؤدي الثورة رسالتها كاملة . وأوصيكم ان تعتصموا بالصبر . كما أحذركم من شائعات المضللين الذين يندسون بينكم بالوعود الخلابة والكلام الزائف . ولست بحاجة الى ان أقول ان بلادنا تجتاز الان اولى مراحلها نحو التصنيع ولهذا يلزم ان تحافظوا على الثقة التي يجب ان تتوفر بين العمال وأصحاب العمل . ونحن الان في دور بناء لنهضتنا وسنصل بلا شك الى الاستقرار الصناعي قريبا جدا “ .
وقال مخاطبا ممثلي المحافظات في قاعة مجلس النواب يوم 23 اكتوبر 1954 : ” يا اخواني ، يجب ان يشعر كل فرد بان عزة المواطن الاخر تتمثل في عزته وبان كرامته جزء من كرامة أخيه . لان كرامتكم جزء من كرامتي وعزتكم جزء من عزتي وبهذا يا اخواني اذا دافعتم عن عزة الاخرين وكرامتهم وحريتهم فانما تدافعون عن عزتكم وكرامتكم” .
وقال مخاطبا وفود الوجه البحري والقناة يوم 24 اكتوبر 1954 : ” ان مصر التي تطهرت اليوم من الاستعباد والاستغلال لتهيب بكم ان تناصروها . ان مصر تريد منكم ان تنكروا ذواتكم من أجلها ومن أجل أبنائكم وأحفادكم لتعملوا على المحافظة على ما وهبنا الله من عزة وكرامة وبهذا نستطيع ان نسير في الطريق الذي نهدف اليه طريق العزة والحرية والاستقلال ولنعمل على المحافظة على ذلك وتحقيق هذه الاهداف فمصر تنتظر منكم عملا دائما واتحادا وتآلفا متناسين الخلافات والاحقاد سائرين في طريق تحقيق الهدف الاعظم وهو بناء مصر بناء شامخا عزيزا وايجاد عداله اجتماعية صحيحة والسلام عليكم ورحمة الله “ .
ولقد تكرر هذا المعنى في خطبة ألقاها في جامعة الاسكندرية يوم 26 اكتوبر 1954، وفي مؤتمر العمال بميدان الجمهورية يوم 29 أكتوبر 1954، وفي افتتاح أول وحدة مجمعة في قرية برنشت يوم 13 أبريل 1955، وفي القاهرة يوم 23 يوليو 1955.
ولعل من أكثر أقواله دلالة على الموقف الحيادي ما قاله في المنيا موجها خطابه الى ” الكافة “. قال يوم 5 يوليو 1955 ” اذا قلنا ان فترة الانتقال قد انتهت تماما فانما نعني انكم جميعا قد أصبحتم مجلس الثورة لا عشرة منكم فقط ، ان الشعب جميعا حينما تنتهي فترة الانتقال يصبح هو مجلس الثورة . هذا هو مجلس الثورة . هذا هو معنى الديموقراطية وهذا هو معنى الحرية وهذا هو معنى البرلمان “ .
لحظات التردد :
عرفنا من قبل ان دستور عبد الناصر (1956) قد نص على ان يكوّن المواطنون اتحادا قومياً لتحقيق الاهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الامة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية “. ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الامة و ” تبين طريقة تكوين هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية “ .
كان ذلك في 16 يناير 1956.
أما الاهداف التي قامت من أجلها الثورة فقد كانت معلنة ومعروفة ومن بينها القضاء على الاقطاع الذي ترجم فعلياً في قانون الاصلاح الزراعي ، ومن بينها القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم . اذن ، فان ” نظرية ” الاتحاد القومي كانت واضحة او قريبة من الوضوح . وتحمّل عبد الناصر شخصياً مسؤولية تكوين الاتحاد القومي .
وقد استنفد عبد الناصر، سنة وخمسة أشهر لوضع طريقة تكوين الاتحاد القومي بالرغم من الضرورات الدستورية ، أو الديموقراطية التي كانت تستوجب الاسراع في تكوينه. فقد بدأ تنفيذ الدستور، وفتح باب الترشيح لانتخابات مجلس الأمة وترشيح من ترشح دون ان يكون للاتحاد القومي وجود ليؤدي وظيفته الدستورية. وبعد قفل باب الترشيح أصدر عبد الناصر قرارا ( في 28 مايو 1957) ـ لا بتكوين الاتحاد القومي ـ ولكن بانشاء لجنة مؤقتة تدعى اللجنة التنفيذية للاتحاد القومي مشكلة من عبد اللطيف البغدادي وزكريا محي الدين وعبد الحكيم عامر .. هذه اللجنة التنفيذية المؤقتة هي التي شكلت او وضعت أسس تشكيل الاتحاد القومي ..
ان هذه الواقعة العابرة في تاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر لم تستحق الانتباه من الذين كتبوا التاريخ او كتبوا المذكرات ، في حين انها تكشف عن الصراع الخفي الذي كان يدور، في رأس عبد الناصر اولا، وفي مجلس قيادة الثورة ثانيا ، بين المفهوم الليبرالي والمفهوم الاجتماعي للديموقراطية والذي انتهى بانتصار المفهوم الليبرالي فأحدث في تاريخ حل مشكلة الديموقراطية في مصر انفصاما على جبهتين . انفصاما بين دستور عبد الناصر ونظريته الديموقراطية التي يمثلها الاتحاد القومي ، وبين الاتحاد القومي كما قام في الواقع . وانفصاما ما بين الاتجاه الديموقراطي الاجتماعي الذي كان يتجه اليه عبد الناصر اتجاها متزايدا وبين الاتجاه الليبرالي الذي تمثل بقوة في أعضاء اللجنة التنفيذية التي شكلت الاتحاد القومي فعلا .
ان هذا الانفصام الذي جاء بعد سنة وخمسة أشهر من الانتظار وانتهى بتخلي عبد الناصرعن مهمة اقامة الاتحاد القومي ، وتولى الاتجاه الليبرالي اقامته يوحي الينا ايحاء قوياً بان عبد الناصر كان مترددا في صيغة الاتحاد القومي الذي كلفه الدستور ببيان طريقة تكوينه وان ذلك التردد قد انتهى الى تخليه عن مهمته وسمح ـ في الوقت ذاته ـ بان يتصدى الاتجاه الليبرالي لاجهاض الرؤية الديموقراطية الاجتماعية التي تضمنها الدستور.. وينتصر .
ويبدو هذا واضحا من الفارق الجوهري بين رؤية عبد الناصر لكيفية تكوين الاتحاد القومي و بين الاتحاد القومي كما تم تكوينه فعلا .
قال في المؤتمر التعاوني الثاني يوم اول يونيو 1956 : ” قلنا نعمل اتحادا قوميا . وهذا الاتحاد عبارة عن جبهة وطنية تجمع أبناء هذا الشعب ما عدا الرجعيين وما عدا الانتهازيين وما عدا أعوان الاستعمار لأن الرجعيين أعوان الاستعمار والانتهازيين هم الذين تحكموا فينا وسلمنا لهم وأعطيناهم الفرصة ليمارسوا حريتهم في الماضي فخافوا هذه الامانة التي حملها لهم هذا الشعب واليوم عندما نقول هناك اتحاد قومي لا نستطيع اعطاء الفرصة للرجعية او الانتهازية ولا لاعوان الاستعمار ابدا . الفرصة ستكون للشعب ، الاغلبية العظمى من هذا الشعب ، الناس الذين حرموا من حريتهم أيام كانت هناك برلمانات زائفة كنا كلنا نشكو منها ونعرف انها لا تحقق رغباتنا ولا تعمل لصالحنا ، ولكنها تعمل لمصلحة فئة قليلة من المستغلين او من الاقطاعيين او من الحاكمين الذين يريدون حكما وشهوة وسلطانا. هذا الكلام كان في الماضي واليوم ، في هذه المرحلة الجديدة فلن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين او الرجعيين او أعوان الاستعمار. اذن الاتحاد القومي يشمل جميع أبناء هذه الامة . هذا هو الاتحاد القومي كما أتصوره . كيف سيكون هذا الاتحاد القومي ؟ .. انه سيستغرق وقتا طويلا ولا أقدر أبدا يوم الاستفتاء على الدستور يوم 23 يونيو ان أقول : ان هذا هو الاتحاد القومي هذا الاتحاد القومي الذي بعبر عن هذه الاهداف يجب ان تتمثل فيه جميع العناصر الخيرة في هذا الوطن . جميع العناصر العاملة، جميع العناصر البناءة في هذا الوطن . الاتحاد القومي لم يتكون حتى الان ولن يعلن تكوينه يوم 23 يونيو او يوم 25 يونيو بالكامل . لأن هذا الشعب يجب ان يأخذ الفرصة ليعمل ونتيجة عمله هي السبب الوحيد الذي يدخله الاتحاد القومي “ .
ويكرر هذا المعنى في خطابه في الاحتفال بالجلاء يوم 19 يونيو 1956، وهو يربط بين تصوره للاتحاد القومي وبين الديموقراطية السليمة ، أحد الاهداف الستة للثورة ، فيقول : ” وكان الهدف السادس من أهداف الثورة هو اقامة حياة ديموقراطية سليمة ولم نقل ديموقراطية فحسب . فقد كنا نعيش جميعا تحت اسم الديموقراطية وتحت اسم البرلمان والبرلمانية ، ولكنا لم نكن نتمتع من الديموقراطية الا باسمها . ولكن معناها وأصولها وجذورها كانت مفتقدة كنا لا نحس بها ولانشعر بها . وكنا نشعر ان هذه الديموقراطية ليست لنا ولكنها كانت علينا من أجل فئة من الناس . فقدت الديموقراطية معناها وروحها وأسبابها . وتحت اسم الديموقراطية تحكم فينا الرجعيون والمستغلون والانتهازيون . تحكمت فئة قليلة كانت تتجر بالديموقراطية . وكان الشعب ينظر ويكتشف ويعرف و يعلم . ونحن كشعب قاسينا طويلا نستطيع ان نعرف الخديعة والخداع والتضليل . تحت اسم الديموقراطية يا اخواني قاسينا كثيرا وكانت الديموقراطية كفاحا من أجل الحكم وكفاحا أجل السيطرة والاستغلال والثراء والسلطة والسلطان . ولهذا حينما كتبنا هذه المباديء قبل الثورة كنا نعبر عن احساس الشعب وعن آمال هذا الشعب . كتبنا الهدف السادس من أهداف الثورة وهو اقامة حياة ديموقراطية سليمة نتلافى بها ما فات . لا نكتفي منها بالبرلمانية ولا بالاسم ولكن بحياة ديموقراطية من أجل أبناء هذا الشعب جميعا . من أجل الاغلبية العظمى من هذا الشعب ، لا من أجل الاقلية ولا من أجل المستغلين و المستبدين ” .
حين قال عبد الناصر هذا لم يكن الاتحاد القومي قد تم تكوينه. ولا نستطيع ان نقطع بما اذا كان عبد الناصر يعبر عن رأيه في كيفية اقامة اتحاد قومي تعبيراً بدون ” خلفية ” ام انه كان يرد عن طريق مخاطبة الشعب على اتجاه في الرأي لم يقبل تصوره وقد كان من عادته ان يفعل ذلك حين يريد ان يشرك الناس في اختلاف الرأي في مجلس قيادة الثورة لاختبار اتجاه الرأي العام .
أيا ما كان الامر فان تصور عبد الناصر لتكوين الاتحاد القومي كان يقوم على محورين أساسيين . أولهما : عدم اباحة عضويته لعملاء الاستعمار والانتهازيين والرجعيين وهي مقاييس مجردة تجد فرصتها في التطبيق على أي شخص تبعا لموقفه ومسلكه من أهداف الثورة ومنجزاتها . ولا شك ان تعبير الرجعيين كان يلتقي التقاء موضوعيا مع الاقطاعيين ومن تناولهم قانون الاصلاح الزراعي وكبار الراسماليين . المحور الثاني ـ وهو منسجم مع المحور الاول ـ هو الا تباح عضوية الاتحاد القومي الا لمن ترشحه مواقفه ومسالكه لهذه العضوية من بقية أفراد الشعب . وبالتالي يبقى مفتوحا الى ان يتكون تبعا للفرز الفعلي للمواقف وأصحابها على ضوء برامج للثورة ومواقفها. وكان هذان المحوران يعنيان ـ بأكبر قدر من الوضوح ـ الا علاقة بين عضوية الاتحاد القومي ـ الذي سيصبح سلطة رابعة من سلطات الدولة ـ وبين ” المواطنة ” او بينها وبين ” حق الانتخاب “. وذلك ليبقى تنظيما جماهيريا للثورة وأهدافها …
ومع ذلك فان الاتحاد القومي قد تم تكوينه على غير هذين المحورين . فقد انتهى الامر بعد سلسلة من القرارات آخرها رقم 1055 لسنة 1959 باباحة عضوية الاتحاد القومي ” لكل الناس ” فيما عدا المحرومين من حق الانتخاب طبقا للقانون رقم 73 لسنة 1956.
أي أصبح ـ كما قلنا من قبل ـ تنظيما لهيئة الناخبين .. ففقد هويته السياسية ، وان كان قد احتفظ بهويته الدستورية ، وأصبحت الحقوق الدستورية المقررة للاتحاد القومي مباحة لمن يستطيع ان يتولى قيادته او يقترب من قيادته .
لماذا قبل عبد الناصر هذا المسخ لنظريته الديموقراطية ؟
سينتظر الجواب النهائي ما يكشف عنه المستقبل من صراعات في مجلس قيادة الثورة ولكنا نستطيع، بدون انتظار ان نقول أن عبد الناصر لم يكن حتى ذلك التاريخ قد حسم موقفه من التناقش بين المفهوم الليبرالي المثالي للديموقراطية والمفهوم الاجتماعي الواقعي للديموقراطية .
ولعل موقف عبد الناصر من الاتحاد القومي كما تشكل فعلا يؤيد هذا الرأي . ذلك لأنه ما ان تم تكوين الاتحاد القومي وأبيحت عضويته ” للانتهازيين والرجعيين وعملاء الاستعمار” .. حتى ارتضاه عبد الناصر وانبرى للدفاع عنه . فنجده يعود في يوم 14 نوفمبر 1958 فيقول في بني سويف ، بعد أن كان قد تم تكوين الاتحاد القومي : ” هذا هو الاتحاد القومي .. اتحاد يجمع بين أبناء الوطن العربي الواحد. لا انحراف إلى اليمين ولا انحراف الى اليسار.. لا تفرقة .. لا تنابذ .. وانما جمع كلمة من اجل رفعة هذا البلد. جمع الكلمة من أجل رفع راية القومية العربية التي قامت طويلا.. استطعنا بالاتحاد ان ننتصر ونستطيع أيضا بالاتحاد ان نحقق الامال الكبار وان ننتصر أيضا بعون الله… “
ويقول في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1959: ” وفي نفس الوقت أعلنا جميعا اننا أمة واحدة لا حزبية ولا بغضاء ولا فرقة ولا أحقاد .. قلنا اننا نكوّن اتحاداً قومياً يجمع بين أبناء هذه الجمهورية العربية المتحدة . نبني تحت راية هذا الاتحاد وطننا ونبني تحت راية هذا الاتحاد عزتنا ونبني تحت راية هذا الاتحاد مجدنا ونقيم تحت راية هذا الاتحاد المجتمع الذي نتمناه والمجتمع الذي نعمل من أجله “ .
النقد الذاتي :
أيا ما كانت الاسباب التي أدت الى ان يأتي الاتحاد القومي ، في التطبيق، مخالفا بل مناقضا للرؤية النظرية التي صاغها عبد الناصر في دستور 1956، فان عبد الناصر لم يلبث ان انتبه الى أخطاء التجربة وما تهدد به من أخطار.
ولقد بدأ نقد التجربة والافكار التي مهدت لها منذ 22 يوليو 1959 وانصب في البداية على التنببه الى القوى الانتهازية والرجعية التي تغلغلت في الاتحاد القومي ومن قبله هيئة التحرير وأساليبها في النفاق. قال يوم 22 يوليو 1959 : ” كلنا نعرف وكلنا قاسيا من هذا وسيقابلنا كذلك في الاتحاد القومي انتهازية ولكن علينا وعليكم أنتم الواجب ان تطهروا الاتحاد القومي من الانتهازيين “. وحذر غاضبا في خطابه الى عمال المصانع في بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1960 فقال : ” ليس الغرض ان احنا نكون في الاتحاد القومي ، ان احنا نتعين في مجالس المحافظات او نتعين في المنصب الفلاني . دا دليل على ان نجد ناس لا زالت رواسب الماضي متعلقة بيهم . في الاتحاد القومي او في الحكومة او في كل منصب من المناصب العامة ، كل واحد فينا بيؤدي دوره في الخدمة العامة من أجل بناء ترفرف عليه الرفاهية والشخص اللي مؤمن بان عليه دور يؤديه وبيقدر يؤديه في أي مكان وفي أي منصب .. اما الشخص اللي بيعتقد انه ليست الا وسيلة او ليس هذا الا سبيل بحيث انه يتنقل من حته لحته يبقى بيفكر في نفسه وينسى ان هو عضو في المجتمع وعليه أن يعمل من أجل رفاهية هذا المجتمع .. وده أمل الشعب طبعا في الاتحاد القومي وأمال الشعب في الحكم المحلي لأن الشعب اللي انتخب الاتحاد القومي واللي ايد فكرة الحكم المحلي واللي أيد الاتحاد القومي وعمل على تدعيمه واقامته يؤيده لاسباب انه بيعتبر ان آماله ستتحقق عن هذا الطريق “ .
ويضرب الرئيس الراحل أمثلة ساخرة ومرة لسباق النفاق الذي كان يعقده الانتهازيون والرجعيون ” احتفاء وحفاوة وتأييدا ” للثورة وقائدها فيقول يوم 25 نوفمبر 1961 : ” بعد سنة 1957 رفع الرجعيون يفط اشتراكيتهم وفعلا هم أصلهم بيكسبوا من زيادة الانتاج . واحد رجعي او رأسمالي مستغل أصلا اقطاعي . تلاقيه عامل جوابات ومعلق يفط الاشتراكية .. وكلام .. ليه ؟ .. طالما الاشتراكية يفط بس هم مبسوطين . طالما الاشتراكية شعارات بس هم زعلانين ليه ؟.. ده هم عايزين كده ؟.. مستعدين يحطوا شعارات في الاشتراكية اد الي نقولها عشرين مرة . بس ما نحطش الاشتراكية موضع التنفيذ وما نطبقهاش “. وبعد أربعة أيام أي يوم 29 نوفمبر 1961 يعود الى الحديث مرة أخرى عن انتهازية تلك المرحلة فيقول : ” أعطيتكم أمثلة في أول الثورة وكيف حاولنا احضار الأقطاعيين لنتفاهم معهم على القضاء على الاقطاع (أية مثالية ؟!!) ولم يمكن وبعد تحديد الملكية أدخلناهم الاتحاد القومي . أنا عارف أناسا كانوا من أشد الناس تحمسا وايمانا في المظهر. ولم أكن أستطيع ان أعرف ان هذا نفاق او غير نفاق . وبعد ذلك في سنة 1954 أنزلوا اليفط ورفعوا اليفط وعلقوا اليفط ونزلوا اليفط ورفعوا الصور وأنزلوا الصور .. هذا الكلام نعرفه جميعا ونعرف لماذا حصل .. نفاقا طبعا “ ..
يعترف عبد الناصر انه قد بدأ يستشعر الخطر على الثورة منذ عام 1960. فيقول في خطاب 25 نوفمبر 1961: ” في سنة 1960 أنا كنت أشعر ان احنا يمكن الدفع الثوري غير قائم . الثورة بدأت تتعثر . الرأسمالية المستغلة بدأت تنفذ وبدأت تتهرب وتتسلل الى الصف . والامثلة كانت أمامي واضحة وكانت أمامي باينة . كان الخطر في ايه ؟.. في الرأسمالية المستغلة والرجعية توشك ان تجند الوطنية وتلم الثورة لحسابها الخاص .. في سنة 1960 انا ابتدأت أشعر بالخوف او الخطر من سيطرة رأس المال على الحكم زي ما قلت لكم . مش يعني سيطرة رأس المال على الحكم اني أجيب اللي بيبقوا رأسماليين والمليونيرات ويكونوا وزارة بأي حال من الاحوال ، لا. ولكن دول كانوا زمان بيروحوا للوزارة ومعروف انهم بتتعمل وزارة من شركة فلان وده من شركة علان . ابتدأوا دلوقتي ينفذوا الى كبار الموظفين . اللي حصلت مثلا في مديرية التحرير دي تبين فعلا ان فيه خطورة من سيطرة رأس المال على الحكم . لأن كان اللي في الوزارة أصله أستاذ او استاذ مساعد في الجامعة وجه تولى مسئولية بهذا الشكل ثم بعد هذا قبل ان يأخذ رشوة وهو بعد ما بقي وكيل وزارة يبقى الواحد ساعات بيشعر بالقلق والخوف على مصيرنا وناس مشيوا بهذا الشكل ويبقى ده من سيطرة رأس المال على الحكم . لأن رفض انتاج مصانعنا والحصول على منتوجات خارجية رغم اننا في حاجة الى كل مليم من العملة الصعبة دي أيضا بيمثل ان هناك خطراً كبيراً لأن راس المال يريد ان يسيطر على الحكم وينفذ مش قادر يسيطر من فوق اهو بييجي يسيطر من أي حلقة من الحلقات يجدها ضعيفة ” (عليك رحمة الله يا عبدالناصر..) ..
ثم يعلن عبد الناصر بمرارة لا شك فيها ” فشل التجربة ” فيقول يوم 26 يوليو 1961: ” قلنا نقضي على الاقطاع هل قضينا على الاقطاع ؟.. الاسرة التي بقي لها 200 فدان و 50 لكل ولد من أولادهم كتلوا هذه الارض وأنا أعرف مناطق فيها 300 فدان ملكية لعيلة واحدة ولا زالوا يعتبرون أنفسهم أسياد البلد كما كانوا قبل الثورة ولا زالوا ينظرون الى الفلاحين كعبيد … هل نقبل هذا في عهد الثورة ؟..
هل تبقى هناك ثورة وهذا الكلام مستمر ؟.. لن تكون هناك ثورة تسير في الطريق السياسي وتسير في الطريق الاجتماعي لتحقق لهذا البلد ما تصبو اليه من آمال . لنقف ونقول الثورة انتهت وخلصت ونحن سرنا في الناحية السياسية فقط أما الثورة الاجتماعية لا. يقولون لنا ان هذا يؤثر على كفاية الانتاج وكفاية التنمية واتركوا ما فات كما هو . لا يمكن ، كيف تكون هناك عدالة؟.. كيف تكون هناك مساواة ؟.. كيف تكون هناك حرية ؟.. هل الحرية ممكنة او مستطاعة اذا كانت الاموال في يد 5% من الناس والباقيين محرومين ..؟.. هل يمكن ان تكون هناك مساواة او تكون هناك عدالة او تكون هناك ديموقراطية اذا كان هناك 95% من الشعب يشتغلون عند 5% من الشعب ؟.. طبعا لا يمكن أبدا “. ويقول يوم 3 ديسمبر 1961: ” العملية ليست ادانة بل كما قلت اننا نبحث عن الحقيقة . نريد ان نأخذها من تجربتنا في العشر سنوات وفي السنوات التي كانت قبل الثورة . على أي شيء كانت تدل تجربتنا. هل استطعنا ان نقيم عدالة اجتماعية ؟.. هل استطعنا إن نقيم ما يمكننا من القضاء على الظلم الاجتماعي ؟.. هل استطعنا ان نقضي على الاستغلال السياسي والاستغلال الاقتصادي والاستغلال الاجتماعي ؟.. أبدا لم نستطع “ .
لماذا ؟؟ ا!
من المسئول عن أخطاء التجربة ؟..
في الاجابة على هذا السؤال تتجلى عظمة الصدق مع الشعب في موقف عبد الناصر . أي أنه لا ينسب الخطأ حتى إلى الانتهازيين والرجعيين ، ولا يحملهم المسئولية ، بل يعترف بخطأ الثورة ، وبخطئه ، وبمسئوليته ..
وقال في خطابه الى الشعب يوم 16 أكتوبر 1961 :
” لقد وقعنا ضحية وهم خطير قادتنا اليه ثقة متزايدة بالنفس وبالغير. لقد كنا دائما نرفض المصالحة مع الاستعمار ولكنا وقعنا في خطأ المصالحة مع الرجعية لقد تصورنا انه مهما كان من خلاف بيننا وبين العناصر الرجعية فانهم أبناء نفس الوطن وشركاء نفس المصير ولكن التجربة أثبتت لنا خطأ ما كنا نتوهمه . أثبتت التجربة ان الرجعية وهي من ركائز الاستعمار لا تتورع عن الارتكاز عليه بدورها لتسلب النضال الشعبي تراثه الاجتماعي . أثبتت التجربة ان الرجعية على استعداد للتحالف مع الاستعمار ذاته لتستعيد مراكزها الممتازة التي تتمكن بها من مباشرة استغلالها حتى ولو أدى ذلك الى ان تمكن له من التحكم من مقدرات الشعوب التي تنتمي اليها . ولقد غير الاستعمار طريقة تسلله الى أرضنا في حين اننا لم نغير طريقة مواجهتنا له . و كنا وما نزال نقاوم أحلافه العسكرية وقواعده بينما كان يتوارى وراء الرجعية وفي قصورها العالية المشيدة من استغلال الجماهير ” .
وقال في نفس الخطاب : ” ويتصل بهذا الوهم وهم تصور امكان المصالحة مع الرجعية على أسس وطنية . ذلك اننا في الوقت الذي أعلنا فيه ايماننا بامكانية ازالة المتناقضات الطبقية سلميا داخل اطار من الوحدة الوطنية كانت الرجعية تمشي في طريق آخر معاكس . لم تكن القوى الرجعية بمثل طيبة الجماهير وسماحتها ونبلها ولقد رأينا في سوريا كيف تكتلت الرأسمالية والاقطاع والانتهازية مع الاستعمار للقضاء على مكاسب الجماهير ولضرب الثورة الاشتراكية ولاسترداد جميع امتيازاتها ولو بالقوة المسلحة ولو باراقة الدماء “ .
وقال في نفس الخطاب : ” لقد وقعنا في خطأ كبير لايقل أثرا عن الوهم الخطير الذي نسينا أنفسنا فيه . هذا الخطأ هو عدم كفاية التنظيم الشعبي . في هذا الوقت كله لم تظهر الرجعية بذرة من العرفان تجاه هذه الحرية التي تركت لها من غير استحقاق وانما العكس كان موقفها . فلقد استعملت هذه الحرية لتضرب الشعب ولتخرب ولتدمر ولتنقلب على أهدافه وخططه وأحلامه وتشعل فيها النار جميعا لا تهتم ولا تبالي .. لقد كانت وسيلتنا الى التنظيم الشعبي هي تكوين الاتحاد القومي ليكون اطارا من حول صراع الطبقات .. وكان خطؤنا اننا فتحنا لها الطريق الى الاتحاد القومي تمكنت من شل فاعلياته الثورية وحولته الى مجرد واجهة تنظيمية لا تحركها قوى الجماهير ومطالبها الحقيقية “ .
وقال يوم 25 نوفمبر 1961 : ” وواضح كل الوضوح ان الرجعية أقلمت نفسها والرجعية مشيت في الاتحاد القومي وبعدين مابقناش نقول ان ده رجعي . كنا بنقول والله راجل طيب وماشي . العملية مش فلان راجل طيب . لأن هو في العملية دي بيستغل مثلا عشرة آلاف جنيه ويعمل غدا ويوم الجمعة يعمل فول نابت وشوية عيش بخمسة جنيه ويلم الناس وكل الناس يقولوا ان فلان الفلاني ده راجل طيب . يعني العملية هي استغلال وتغطية للاستغلال . او يدبح دبيحة كل شهر او شهرين ويجيب الناس اللي هو واخد فلوسهم وواخد عرق جبينهم ويوكلهم أكله ويقولوا والله الراجل ده طيب دبح لنا دبيحة . العملية مش عملية حسنة ولا عملية صدقة بأي حال من الاحوال عملية حقوق وعملية واجبات . والله بكل أسف احنا برضه فكرنا في هذه الطريقة وانضحك علينا تمام زي ما نضحك على الفلاحين اللي بيدبحوا لهم الدبايح كل جمعة ويغدوهم او بيعشوهم وقلنا والله فلان ده راجل طيب و فلان ده راجل فيه شيء لله “. وأخيرا قال في نفس الخطاب : ” حاولنا نحل بالوسائل السلمية حاولنا نحل في اطار من الوحدة الوطنية ولكن النية كانت من طرف واحد . لأن هناك خلافات سياسية وخلافات جذرية ولقينا الرجعية اما بتستكين حتى تجد الفرصة وبتستكين لغاية الوقت المناسب وبتتزلف وتتملق علشان تحمي فلوسها وبتحمي نفسها ولكن بتستكين للوقت المناسب . ولكن هل نجح الكلام اللي قلناه ؟ .. هل نجح اللي قلناه ان احنا عايزين نحل المتناقضات داخل اطار من الوحدة الوطنية بالطرق السلمية لا ما نجحش . من جانبنا احنا كانت نوايانا يمكن سليمة وكنا بنقول عايزين نعمل محاولة جديدة تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا الشعب الاصيل في الحضارة . ولكن لا يمكن ان يتم عمل بالنية على اتمامه من جانب واحد، أما الجانب الاخر فهو ينتهز وينتظر الفرص المناسبة “ .
وفي يوم 29 نوفمبر 1961 يعيد تأكيد نقده للتجربة ويشير الى ” نسبية ” الاوضاع الاقتصادية وبالتالي يعبر عن نقلة فكرية جديرة التسجيل من التجريد الى الواقعية الاشتراكية فيقول : ” وقد رأينا في الاتحاد القومي انه حدث خطأ في التنظيم خطأ تنظيمي وأنا قلت هذا الكلام في أول يوم . الخطأ التنظيمي ان الرجعية والرجعية كلمة نسبية استطاعت ان تتسلل وتبقى لها القيادة في كثير من منظمات الاتحاد القومي. قلنا اننا نريد ان نعطي الفرصة لكل الشعب حتى ينظم نفسه في اطار من الوحدة الوطنية ويحل متناقضاته بالطرق السلمية رحبوا جدا واستطاعوا طبعا لأنهم أقوياء ولهم نفوذ استطاعوا ان يصلوا ويتولوا قيادات الاتحاد القومي . أريد ان أقول لكم انه بعد تحديد الملكية بمائة فدان انا كنت بالامس اطلع على أسماء العائلات وما يملكون من أرض ، العائلات التي عندها مائة فدان توجد عائلة بها 32 شخصا كل واحد يملك مائة فدان وهذا يعني ان الاقطاع موجود طبعا في القرية وهناك عائلات بها 15 و 18 فردا يملك كل منهما مائة فدان . لا نظن اننا قضينا على الاقطاع بتحديد الملكية بمائة فدان “ .
على مفترق الطرق :
ومرة اخرى وقف عبد الناصر على مفترق الطرق . ثورة او لا ثورة ؟ ديموقراطية او لا ديموقراطية ؟ و اختار الديموقراطية .. ومن أجلها قاد في مصر ثورة جديدة .. غير انه قبل الحديث عن ثورة عبد الناصر من أجل الديموقراطية ، يتعين ان نعرف لماذا غير عبد الناصر نفسه موقفه من تجربته ذاتها ؟ كيف اكتشف الخطأ ولماذا ثار عليه ؟.. لن يكون مصدر الجواب تأملاً فكريا . فقد قلنا منذ البداية ان عبد الناصر كان ينتهج التجربة والخطأ ولم يكن يطبق نظرية مسبقة في الديموقراطية . وقلنا أن عبد الناصر كان يعطي التجربة فكره ويسترد من التجربة أفكارا أكثر نموا ونضجا وتقدمية . كما قلنا ان دراسة عبد الناصر المفكر أكثر صعوبة وأكثر فائدة من دراسة أي مفكر يملك فرصة التراجع عن أفكاره وتصحيحها واعادة صياغتها ، لأن عبد الناصر كان يفكر ليعمل . كانت أفكاره مقدمة مباشرة لوضعها موضع التنفيذ في الحياة العينية . كما قلنا ان دراسة عبد الناصر الثائر أكثر صعوبة وأكثر فائدة من دراسة أي ثائر قصارى جهده ان ينفذ نظرية وضعت له من قبل ..
من هنا فان ” الدروس المرة ” التي تعلمها عبد الناصر من التجربة تستحق الذكر والانتباه . ربما أكثر من أي جزء آخر من الحديث . ولسنا ننكر ان تلك ” الدروس المرة ” التي دفع شعبنا العربى في مصر، وجمال عبد الناصر نفسه ، ثمنها الفادح ، كانت هي المحرك الاول لرغبتنا في الحديث عن ” عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر “.. ذلك لأننا نتحدث عن الماضي من أجل المستقبل ولسنا من هواة كتابة التاريخ او كتابة المذكرات . وليس من بين هواياتنا الكتابة على جدران المعابد ، ولو كانت معابد عبد الناصر.. انما هي حياة شعب .. من حقه وهو يشق طريقه الوعر الى المستقبل ان يستوعب دروس الماضي ولو كانت دروسا مريرة . ان يستثمر تجاربه ولو كانت مخطئة .. ان يكون مؤمنا ، ولا يلدغ المؤمن من جحر واحد الف مرة ..
ولقد وعى الزعيم الراحل دروس تجربته وثار عليها ليصححها، فهل يمكن ان تكون ثمة جناية على شعب أجهده العناء أكثر حماقة من العودة الى ذات التجربة .. التي دفع شعبنا ثمن الخطأ فيها .. لا نعتقد .
11 ـ دروس مرة لمن يريد ان يتعلم :
المراهنة على الجواد الخاسر:
كان من بين ما أدركه عبد الناصر ادراكا صحيحا منذ بداية الثورة ، الاهمية الحاسمة لحل مشكلة التنمية الاقتصادية في مصر . وهي حاسمة بالنسبة الى قضية الديموقراطية بوجه خاص . فمهما رفعت القيود المفروضة على حرية المواطن ، سيكون مصير تلك الحرية متوقفا ، في النهاية ، على مدى ما يتوفر لدى كل مواطن من امكانات اقتصادية للحفاظ على حريته اولا ثم لاستعمالها استعمالا ايجابيا ثانيا بدون ان يكون مضطراً لبيعها أو تعطيلها من أجل ” لقمة العيش “.. وفي لم لاحقة سيعبر عبد الناصر عن احد الدروس التي تعلمها من مجتمع ما قبل الثورة … فيقول في الميثاق : ” ان حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش ، ان حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة و أصبحت خديعة مضللة للشعب “ .
أما في الفترة التي نتحدث عنها فقد عبر عن ادراكه لأهمية التنمية بما قاله في حديثه الى الصحفي الهندي كارنجيا : ” انني أريد قبل كل شيء ان أوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل حرية اجتماعية و اقتصادية “. وقال يوم أول اغسطس 1953: ” لقد بدأنا بالقضاء على الاقطاع حتى نضمن للفلاحين حقوقهم ونحن نسعى لزيادة الانتاج حتى يستطيع ابناؤنا في المستقبل أن يعيشوا حياة أسعد من التي عشناها “.. وقال يوم 18 مارس 1955: ” ولما كانت الديموقراطية تقضي بان الدولة مسئولة عن الوطن والمجموع بدأنا في دراسة المشكلة وقابلتنا في سبيل ذلك مشاكل منها مشكلة التخطيط وكيفية التخطيط فبحثنا ووجدنا ان هذه العملية تستغرق وقتا طويلا جدا وانتهينا من اعداد مشروع السنوات الخمس الاولى وستبدأ السنوات الخمس الثانية فوجدنا ان هذا التوجه يحتاج الى دراسة واحصاءات فبدأنا بتنمية الانتاج القومي وبدأنا في المشروعات التي قيل انها غير مجدية ومستحيلة وبدأ مجلس الانتاج في توفير النقد الاجنبي . والدخل القومي يصل الى 700 مليون جنيه 700 مليون جنيه نستورد منها بحوالي 400 مليون جنيه من الخارج “. ويربط بين مقتضيات التنمية والوحدة الوطنية فيقول يوم 4 اغسطس 1959: ” والوطن لازم نبنيه على التعاون وعلى المحبة الذين وجدوا الفر صة والذين لم يجدوا الفرصة . كل واحد وجد الفرصة يشعر أن عليه مسئولية تجاه هؤلاء الذين لم يجدوا الفرصة ليصلوا الى ما وصلنا اليه. نطور مجتمعنا ونعيش في مجتمع سعيد فعلا لأن المجتمع لا يمكن ان يكون سعيدا اذا كانت أقليته تشعر بالسعادة واغلبيته تشعر بعبء الحياة وصعوبة الحياة “..
و لكن ،
لما كان مفهوم عبد الناصر في مرحلة ما قبل 1961 التي نتحدث عنها ما يزال مفهوما مثاليا ليبراليا وان كانت تخالطه مفاهيم شعبية واجتماعية ، على الوجه الذي أشرنا اليه من قبل ، فانه لم يدرك ، بالوضوح الكافي ، ان الديموقراطية الليبرالية التي كان يرفضها ليست الا الوجه الثاني للعملة التي تحمل على وجهها الاول النظام الرأسمالي . القانون الاساسي في كل منهما واحد وهو المنافسة الحرة . وهما لا ينفصلان . فحيث تقوم الليبرالية سياسيا تقوم الرأسمالية اقتصاديا … والعكس با لعكس .. وبالرغم من اتجاهات عبد الناصر ومشروعاته الديموقراطية غير الليبرالية، فانه قد راهن في التنمية الاقتصادية على الجواد الرأسمالي . وخسر الرهان في الحلبتين .. خسره في حلبة التنمية وخسره في حلبة الديموقراطية وتعلم الدرس المر وكان عليه أن يبدأ من جديد …
قضية التنمية الرأسمالية :
بعد اسبوع واحد من قيام الثورة أي في يوم 30 يوليو 1952 صدر القانون رقم 120 لسنة 1952 تعلن به الثورة انها تكفل للاجانب الذين يوظفون رؤوس أموالهم في مصر أن يكون لهم متى أرادوا 51% من مجموع رأسمال الشركة بدلا من 49% أي ان تكون لهم الاغلبية في رأس المال . وبالتالي المقدرة على توجيه أعمال الشركة على الوجه الذي يرونه احفظ لمالهم وأنتج لاستثماره . وتلاه المرسوم بقانون رقم 13 لسنة 1952 بانشاء المجلس الدائم لتنمية الاقتصاد القومي للانتفاع برؤوس الأموال المصرية والاجنبية .
في 15 يناير 1953، قبل مضي ستة أشهر على قيام الثورة صدر القانون رقم 31 لسنة 1953 ليؤجل سداد الضرائب المستحقة اذا طرأت ظروف عامة او خاصة بالممول تحول دون تحصيل الضرائب . وهكذا اطمأن كل الذين تهربوا من سداد الضرائب في المرحلة السابقة والذين يتهربون من سدادها فيما بعد الى انه يكفي ان يكون لدى الواحد منهم ” ظرف خاص ” لترجىء الدولة اقتضاء حقوقها او تقسيطها. وفي 18 فبراير 1953 وجهت الثورة نداء علنيا في صورة قرار يناشد الهيئات والشركات لاقامة مصانع في مصر . وفي 25 فبراير 1953 تقرر اعفاء المدينين من تعويضات السداد العاجل التي اجراها البنك العقاري الزراعي قبل وبعد عام 1946. وفي 4 مارس 1953 تقرر اعفاء شركات الطيران من دفع الرسوم على الوقود والزيوت وقطع الغيار وأجزاء الطائرات المستوردة . وفي الفترة من 10 مارس الى 16 مارس 1953 صدر القانون رقم 45 بالسماح للتجار والمستوردين باضافة تكاليف النقل الى أسعار السلع المحددة الربح (المسعرة) والقراران رقم 47 و 48 لسنة 1953 برفع نسبة الارباح على أسعار التكلفة الى 15% . ثم صدر القانون رقم 155 لسنة 1953 باطلاق يد شركة الملح والتعدين في المتاجرة في الملح وألغي القانون رقم 100 لسنة 1951 الذي كان يحتم بيع انتاجها للحكومة حتى يصل الى المستهلكين بسعر مناسب وبدون مضاربة على سلعة لا يستغني عنها احد . ثم صدر القانون رقم 66 لسنة 1953 الخاص بالمناجم و المحاجر (التعدين) متنازلا عن شرط الجنسية المصرية في الشركات التي تقوم على استغلال البترول وهو ما كان مشروطا بالقانون رقم 136 لسنة 1948.
ثم جاء القانون العتيد الذي ما يزال يراود أحلام الكثيرين ، قانون استثمار رؤوس الاموال الاجنبية . نعم . لقد كان ذلك اول ما جربته الثورة للتنمية الاقتصادية . صدر ذلك القانون برقم 156 لسنة 1953 وفيه يباح لمن يستثمر أمواله في مصر ، فضلا عن ان يكون له 51% من رأس المال اذا أراد ان يحول أرباحه الى الخارج سنويا وان يحول رأس ماله كله بعد خمس سنوات كما تحول اجور الاجانب الذين يحصلون عليها مقابل عملهم بالمشروعات . وزاد القانون تشجيعا ، بان انشاء إدارة خدمة للاجانب الذين يقبلون استثمار أموالهم في مصر، فنص على انشاء لجنة خاصة باستثمار المال الاجنبي من بين مهامها ” تيسير الحصول على تأشيرات الاقامة لرجال الاعمال والخبراء ورؤساء العمال القادمين من الخارج “. ولما كان الاجانب يخطئون بحسن نية او عمدا ، في احترام قوانين الاقامة المفروضة من أجل الامن الداخلي ، فان الثورة قد أعفتهم من العقوبة على تلك الجرائم (القانون 181 لسنة 1953) ولما كان النشاط الرأسمالي لا يهتم بدور الطفيليين من السماسرة ، وكان عدم دفع سمسرة اذا كانت الحكومة ذاتها طرفا في الصفقة قد ” يسد نفس الرأسماليين ” فقد أصدرت الثورة القانون رقم 188 لسنة 1953 بالسماح ” بالسمسرة ” في التعامل مع الحكومة ومع الشركات ( في 23 أبريل 1953) . والأجانب لا يحضرون !!
ربما لأن القوانين المصرية لا تسمح بالعمل لمن تجاوز سنه الستين فحرمت نفسها من خبرة ” عواجيز ” الاجانب . اذن ، يصدر القانون رقم 284 لسنة 1953 ، في 15 يونيو 1953 باستمرار تشغيل الاجانب بعد سن الستين . ربما لأن الرأسماليين أجانب ومصريين لا يكتفون بالارباح التي تعود عليهم من الانتاج والمتاجرة وانما يضيفون اليها أرباح المضاربة على أسهم الشركات والسندات في البورصة، وبورصة الاوراق المالية في مصر ليست منظمة. اذن ، يصدر القانون رقم 326 لسنة 1953 (في يوليو 1953) بتنظيم التعامل في بورصة الأوراق المالية وبالمرة كما جاء في المذكرة التحضيرية لأن الحكومة قد شرعت في ” تنفيذ قانون تحديد الملكية الزراعية وما قد يترتب على تنفيذ هذا القانون من توافر المال لدى أصحاب تلك الاملاك مما يسهل عليهم توظيف هذه الاموال في القراطيس المالية “. ربما لأن الاجانب يجلبون معهم ويستوردون تباعا بضائع كثيرة ، ومصر تفرض عليها رسوما جمركية في حين انها ” للاستعمال الشخصي ” وستعود اليهم حين يعودون . ” معلهش ” يصدر القانون رقم 372 لسنة 1953 (في 22 يوليو 1953) باعفاء السلع المستوردة على أن يعاد تصديرها بعد ذلك .
لماذا، أيها الاجانب لا تجلبون أموالكم من الخارج لاستثمارها في مصر بالرغم من كل هذه الاغراءات ؟
ربما لأن للاجانب أموالا كثيرة هربت من مصر الى الخارج ولو عادت فربما يتعرضون لجزاء التهريب . ” المسامح كريم ” ويصدر القانون رقم 143 لسنة 1953 بالعفو الشامل عن جرائم التهريب التي وقعت منذ عام 1947 اذا استعادها المهربون في خلال ثلائة أشهر من صدور القانون (صدر القانون في مارس 1953) .
لماذا 1947 بالذات ؟ لأن تلك هي السنة التي بدأ فيها الصراع ضد الصهيونية فبدأ الاجانب اليهود وغير الاجانب من اليهود تهريب أموالهم الى خارج مصر منذ ذلك الحين . وبالمناسبة كان اول قرار ” حراسة ” فرضته الثورة يوم 21 فبراير 1953 (رقم 59) على بنك حمصي نظرا لما ” تبين من التحريات ان بنك حمصي يقوم بتهريب الاموال الى الخارج وقد ضبط مديره في حالة تلبس بمعرفة النيابة “. ولم يكفوا بعد ذلك عن التهريب الى ان اضطرت الثورة أكثر من مرة الى تشديد العقوبة . وماذا عن الرأسمالية القائمة بعد تشجيع الرأسمالية على القدوم ؟
لقد فتحت لهم البورصة وأتيحت لهم السمسرة حتى في تعاملهم مع الحكومة . انهم يريدون من الدولة أموالا .. فلتعط الثورة لعلهم يفلحون . دعم شركات الغزل والمنشآت القطنية (قانون 251 لسنة 1953 في 31 مايو 1953) اعادة النظر في قوانين الشركات السابقة واصدار القانون رقم 26 لسنة 1954 (16 يناير 1954) الذي تقول مذكرته الايضاحية انه صدر ” للتيسير على المتعاملين والحرية الاقتصادية ومبدأ حماية حقوق المدخرين لحثهم على الاقبال على الاستثمار والتوسيع على رؤوس الاموال الاجنبية التي تستثمر في مصر فقد اشتمل المشروع على نصوص تكفل لهذا النوع من الاموال ما يغريه بالأقبال و المساهمة الجدية “. الغاء القرار رقم 189 لسنة 1953 بتحديد الاسعار والارباح (قرار رقم 21 لسنة 1954 في 1 فبراير 1954) تعويض فوائد وقيم استهلاك سندات البنك العقاري عن الضرائب التي فرضت من قبل على الارباح التجارية والصناعية (قانون 65 لسنة 1954 في 4 فبراير 1954) . دخول الحكومة شريكة في شركة مساهمة لصناعة الحديد والصلب مع ضمانها لكل من يكتتب حدا ادنى من الربح قيمته 4% وضمان سداد قيمة الاسهم والسندات عند استحقاقها والتعهد بشراء تلك الاسهم اذا أراد أصحابها بيعها ، وضمان تحويل قيمتها الى الخارج (قانون رقم 131 لسنة 1954 في 4 مارس 1954) . خفض الرسوم على الرهون العقارية التي تعقد مع البنك الصناعي (قانون رقم 178 لسنة 1954 في 11 مارس 1954) منح 106000 متر مربع أرض مباني بدون ثمن الى شركة التعمير والمساكن الشعبية لاقامة عمارات عليها ( قرار 10 مارس 1954) . بيع الاراضي البور للشركات وكبار المزارعين وأصحاب رؤوس الاموال مقابل 25% مقدم ثمن و يقسط الباقي على 20 سنة بفائدة 3% ولا تبدأ الاقساط والفوائد الا بعد خمس سنوات مع التصريح للمشترين باعادة بيعها بالثمن الذي يحددونه . ضمان شركة الفنادق المصرية لدى صندوق التأمين والادخار لتشجيعها على اعادة بناء فندق شهرزاد (قانون رقم 311 لسنة 1954 في 10 يونيو 1954 ) ضمان الحكومة للبنك الصناعي ( قانون رقم 298 لسنة 1954 ” أغرب من هذا كله الاعفاء المقنع للرأسماليين من الضرائب على الارباح الناتجة عن كل تلك التسهيلات ، وذلك في شكل قانون يقول باتخاذ عام 1947 أساسا لتقدير الضريبة ( قانون رقم 240 لسنة 1954) .
ويقول عالم الاقتصاد الرأسمالي الدكنور علي الجريتلي :
” هذا بالاضافة الى الاجراءات التشجيعية للصناعة وحمايتها . نذكر منها زيادة الرسوم الجمركية على الكماليات بين سنتي 1952 و1954 الى 100% وعلى الاصناف التي يكفي الانتاج المحلي منها مطالب الاستهلاك بين 20 و 50 %وتكرار حظر استيراد بعض المصنوعات بتاتا وتقييد استيراد البعض الآخر لاتاحة الفرصة لتسويق انتاج المصانع الجديدة ، وعلاج ميزان المدفوعات . ومن جهة اخرى خفضت رسوم الوارد على المواد الاولية والسلع الوسيطة والالات وأعفيت الصادرات الصناعية من رسم الانتاج مع التوسع في منح الدروباك وفي تطبيق نظام السماح المؤقت . وكان من عوامل تشجيع الصناعة الناشئة أيضا تعديل المواصفات الحكومية البالية لتشمل المنتجات المحلية بعد ان كانت تستبعد لعدم استيفاء الشروط العسيرة التي وضعت أصلا لصالح الدول الاجنبية ، وأخيرا اقترن التشجيع بانشاء صناديق لدعم صناعات القطن والحرير الصناعي والاسمنت وتشجيع تصديرها وهي تمول من حصيلة رسم الانتاج ورسم الدعم الذي يمثل نسبة مئوية من ثمن المواد الاولية او من المهايا والأجور. ومن ذلك أيضا بيع العملات الاجنبية للشركات الصناعية بسعر الصرف الرسمي المخفض ، وحظر تصدير بذرة القطن والقطن الاشموني وبعض المواد الاولية الا بعد الوفاء بحاجة الصناعة المحلية وتكليف المهندسين بالعمل في قطاعات محددة بأجر يقل عن أجر التوازن وتحريم انشاء مصانع جديدة اذا كانت الوحدات القائمة كافية “ .
ثم جاء الفيض من ” الغنائم “. فعلى إثر العدوان ” الانجليزي ـ الفرنسي الصهيوني ” عام 1956 فرضت الحكومة الحراسة على أموال الاعداء بسلسلة من الاوامر العسكرية بدأت برقم 4 لسنة 1956. والحراسة على أموال الاعداء اجراء عادي استعملته مصر لحساب بريطانيا عام 1939 حين فرضت الحراسة على أموال الرايخ الالماني . ومن شأن الحراسة ان ترفع يد أصحاب الاموال عن أموالهم وتديرها لحسابهم الى ان تنتهي الحرب . وهكذا وضعت أموال بمئات الملايين تحت الحراسة ووضع القطاع الاجنبي الرئيسي الذي كان يسيطر على الاقتصاد المصري تحت الحراسة . ولكن القائد المتحفز من أجل تحرير مصر سياسيا واقتصاديا ما لبث ان حول اجراء الحراسة الى عنصر من عناصر التحرير الاقتصادي ففرضت الحراسة في بيع المنشآت الاجنبية والاوراق المالية المملوكة لرعايا الاعداء ، أو من يقيم في البلاد من الأعداء ، للرأسماليين المصريين بثمن تصفيتها أي بعد خصم الديون من الاصول، وبدون اقتضاء الثمن عند البيع ، وهكذا كسبت البنوك المصرية وشركات التأمين والشركات الصناعية والعقارية ثروات هائلة بضربة ثورية واحدة بدون ان تدفع شيئا تقريبا .
الدفاع عن قضية خاسرة :
بكل حسن النية والثقة بالآخرين والآمال غير الواقعية التي تغذيها المثالية ، تولى عبد الناصر الدفاع عن التنمية الرأسمالية والاتحاد القومي معاً معبراً بذلك عن وحدة تصوره للأسلوبين ، الاقتصادي والسياسي لحل مشكلة الديموقراطية في مصر. معبراً عن أنه اختار التنمية الرأسمالية من أجل حل مشكلة الديموقراطية واختار الوحدة الوطنية كما يمثلها الاتحاد القومي لحل مشكلة التنمية بدون التفات إلى التناقض بينهما …
ففي خطبة طويلة القيت في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1957 دافع عن دور الرأسمالية في التنمية وربط هذا الدور بصيغة الاتحاد القومي وهاجم اليمين واليسار كليهما قال : ” ومعركة الانتخابات ظهرت فيها بعض الاتجاهات . كلنا لا بد أن نعرف ما هي هذه الاتجاهات وما هي مصلحتها . ظهر اتجاه يميني يشكك في عملية التمصير وكان يقول اننا نحن المصريين لن نستطيع أن نقوم باقتصادنا بأنفسنا ولا نقدر أبدآ أن نمشي في طريقنا إلا معتمدين على الأجانب وأثبتت الأيام أن هذا الاتجاه خاطىء لأننا كمصريين عندنا القدرة أن نعمل أي شيء . استطعنا أن ندير قناة السويس ونسيرفيها الملاحة وكانوا يقولون أنه لا يمكن للمصريين أن يديروا قناة السويس . واستطعنا أن ندير الاقتصاد والبنوك والشركات الممصرة ولكن الفرق بين اليوم وبين ما مضى أن الأوامر في الماضي كانت تأتي من الخارج واليوم تسير مع الثورة وأهداف مصر لمصلحتك ومصلحة أخيك ، لمصلحة هذا الشعب كمجموعة طبعاً الذين كانوا ينادون بهذه الاتجاهات اليمينية لعلهم كانوا يدافعون عن مصالحهم الشخصية لأنهم كانوا يستفيدون دائماً من هذه المؤسسات . كانت هذه المؤسسات تعطيهم مكافآت لأجل أن تكسب تأييدهم . وظهرت في أثناء المعركة اتجاهات يسارية ظهرت اتجاهات من أجل تحديد الملكية وتحديد الأرض مرة ثانية ومن أجل الاستيلاء على رأس المال الوطني وبعض الصناعات المصرية وأنا غير موافق على هذه الاتجاهات لأننا كثورة اجتماعية وكثورة سياسية لا بد أن تكون ملكية الشعب كله متناسقة . اليوم حددنا الملكية بـ 300 فدان تظهر اتجاهات لتحديد الملكية بـ 150 فداناً بدلاً من أن ننادي بهذه الاتجاهات ننادي بزيادة الأرض المزروعة . إننا فى تحديد الملكية كنا نقضي على الاقطاع وكان هدفنا من القضاء على الاقطاع تحرير الفرد وكان هدفنا من تحرير الفرد إقامة حياة ديموقراطية، الفرد يشعر أن عيشته سليمة ويشعر بأنه مطمئن على مستقبله واعتقد أن هذه الانتخابات اثبتت لكم أن كل فرد كان مطمئنا على مستقبله. كل واحد دخل وأعطى صوته بحرية وطبق الورقة ووضعها في الصندوق بحرص ولم يهدده أحد في حريته ولا في رزقه . اثبتت هذه الانتخابات أن الشعب يستطيع أن ينتخب من يريد بدون النظر إلى الفوارق وبدون النظر إلى الطبقات ” . ” طبعآ رأس المال الوطني إذا أردنا أن نحافظ عليه لأنه خاص بى وبك وبكل واحد عنده قرش في هذا البلد . هدفنا هو تنمية رأس المال الوطني ولكنا نتبع سياسة رأس المال الموجه ، رأس المال كما قال الدستور يستخدم في خدمة الشعب ولا يستخدم في أغراض تضر بمصالح الشعب ولكن الاتجاهات لا تتمشى مع أهدافنا وقد قلنا دائماً اننا نهدف إلى إقامة مجتمع تعاوني تتعاون فيه جميع الطبقات كل طبقة تعمل على أن ترفع مستواها وتعمل على ان تكون لها حقوقها وفي نفس الوقت تقوم بواجباتها . هذه الثورة ليست ملك طبقة من الطبقات ولكن هذه الثورة ملك الشعب كله بجميع طبقاته . هذه الثورة لن تقضي على الانتهازية إلا إذا قام فيها مجتمع تعاوني يتعاون فيه العامل مع صاحب العمل ويتعاون الفلاح في أرضه مع أخيه وتقوم جمعيات تعاونية للفلاحين من أجل أن يقدروا أن يقوموا بعملهم ، كل واحد يبحث عن مصلحة نفسه وفي نفس الوقت يبحث عن مصلحة أخيه هذا هو السبيل أيها الأخوة وهو الهدف حياة ديموقراطية سليمة وهو الهدف السادس من أهداف الثورة .
وهذا هو السبب الذي من أجله أقمنا الاتحاد الاتحاد القومي وقلنا إن المواطنين جميعاً يكونون الاتحاد القومي من أجل بناء هذا الوطن اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً . لقد مرت بنا خمس سنين إلى الآن ونحن نحتاج إلى تدعيم لنقضي على الانتهازية وننتهي إلى إقامة الحياة الديموقراطية السليمة “ .
وفي ختام ذلك العام ألقى في المؤتمر التعاوني المنعقد في جامعة القاهرة يوم 5 ديسمبر 1957 خطاباً قال فيه : ” يتضح من هذا كله أننا كدولة نهدف إلى القضاء على الاستغلال والقضاء على الفردية والانتهازية ولكننا لا نسعى لإقامة رأسمالية الدولة ، الدولة تشترك مع الشعب ونعتبر أن لها الولاية وهذه الولاية تضعها موضوع حماية مصالح صغار الرأسماليين وصغار المدخرين مع الرأسماليين الآخرين . ولا نترك صغار المدخرين حتى يقعوا في أيدي المستغلين وحتى يستغلوا أويستخدموا لتحقيق مصالح خاصة لقلة معينة أو لفئة من الناس .. لكن في نفس الوقت نحن لا نريد أن تكون رأسمالية الدولة بل نعتبر أن رأس المال الخاص حر، ما دام يعمل لمصلحة الشعب ويعمل للخير العام للشعب ، وفي نفس الوقت نتدخل بمعنى اننا لا نريد أن نقضي أو نصفي الرأسمالية ولكن نرى أن من واجبنا أن نراقبها ونعتبر أن رأس المال الوطني ضرورة لازمة في هذا الوقت من أجل تطور الاقتصاد القومي ولكنا يجب أن نلاحظ دائماً أن رأس المال هذا لا يتحكم في الحكم ولا يسيطر على الحكم من أجل استغلال الأغلبية العظمى لهذا الشعب “ .
وفي نفس الخطاب عقد مقارنة مثيرة بين موقفه من الاقطاع وموقفه من الرأسمالية ويلخص ـ تقريباً ـ رؤيته لعلاقة كل منهما بالديموقراطية . قال : ” وكيف نطبق؟.. طبقناه في القضاء على الاقطاع .. لقد بدأنا الاصلاح الزراعي للقضاء على الأقطاع وكان هدفنا أيضاً إقامة مجتمع ديموقراطي اشتراكي تعاوني ولم يكن هدفنا أبداً أن نقضي على الملكية. الدستور يقول إن الملكية الخاصة مصونة ولكن كان هدفنا أن نحول أجراء الأرض إلى ملاك ، الناس الذين اشتغلوا في هذه الأرض مدة طويلة وآباؤهم وأجدادهم اشتغلوا فيها كذلك كنا نهدف الى تحويل هؤلاء الأجراء إلى ملاك وبهذا نستطيع أن نقيم عدالة اجتماعية ونقرب الفوارق بين الطبقات .. هذه كانت معاملتنا مع الاقطاع .. لم نكن نهدف إلى تحويل ملاك الأرض إلى أجراء ولكن كنا نهدف إلى تحويل الأجراء إلى ملاك .. وبهذا يكون هناك مجتمع اشتراكي ديمقراطي تعاوني .. ولما تدخلت الدولة في الصناعة لم تكن أبداً ترى أن تكون الرأسمالي الوحيد .. كما قلت لكم .. اننا نعتبر الرأسمالية الوطنية ضرورة لازمة لتقويم اقتصادنا وللتنمية وللوصول إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي . ولكن الدولة كانت تتدخل لأنها تعتبر أن لها الولاية وانها مسؤولة عن حماية الأغلبية العظمى من أبناء الشعب ضد استغلال عدد معين وضد الاستغلال الاقتصادي الذي كان مسيطراً علينا قبل ذلك وضد الاستغلال الصناعي الاجتماعي الذي كان مسيطرا علينا في الماضي . تدخلت الدولة في الصناعة لا لتكون هي الرأسمالي الوحيد ولكن لتقضي على الاستغلال ولتعطي الفرصة لكل مواطن مدخر ليشترك في الصناعة وهو مطمئن إلى أن أمواله هذه في أيد أمينة .. والغرض هوعدم تمكين رأس المال لأن يسيطر على الحكم مرة أخرى ويفسده كما سيطرعليه وأفسده في الماضي .
” هل الهدف هو القضاء على الشخصية الفردية ؟. عندما نقول أننا نريد أن نقضي على الفردية الانتهازية شيء وعندما نقول اننا نريد أن نقضي على الفردية شيء آخر . لم نقل اننا نريد القضاء على الفردية اننا نؤمن بالفرد وبحرية الفرد وشخصية الفرد وحقه في العمل وحقه في الحركة ما دام هذا يتمشى مع الدستور ومع مصالح الشعب ولكن لا نؤمن أبداً بالفردية الانتهازية أو الفردية المستغلة والنظام الاشتراكي الديموقراطي التعاوني يعمل على الحد من الفردية الانتهازية وتشجيع الفردية الوطنية التي تتعاون من أجل خيرالشعب ومن أجل مصلحة المجتمع “ . ان استعمال الرئيس عبد الناصر لتعبير الفرد والفردية وحق الفرد في العمل وحقه في الحركة مؤشر لا يخطيء على المفهوم الليبرالي للتنمية الاقتصادية . وبالتالي يكمل هذا المؤشر دلالة ما أوردناه من قبل كمؤشرات على المفهوم الليبرالي للديموقراطية .
الضحايا :
ولكن ، هل نحن نتحدث عن موقف عبد الناصر من مشكلة التنمية الاقتصادية ، أو من الرأسمالية ، أو من الاشتراكية ؟ أم اننا نتحدث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية ؟.. لقد اطلنا في الحديث عن التنمية ومشكلاتها وقوانينها وارقامها وابطالها .. كأننا نريد أن ننتهز فرصة الحديث عن الديموقراطية لنشهر بالرأسمالية . لانستطيع أن نعتذر عن الإطالة .. لأن كل ” الأفكار ” والمشروعات الديموقراطية التي أولتها الثورة في تلك الفترة عنايتها و جهدها ومالها ، من أول الإصلاح الزراعي إلى الاتجاه المباشر الى الشعب ، إلى محاولات دفعه إلى الممارسة الديموقراطية ، الى منحه سلطات دستورية ، إلى مضاعفة اعداد المصريين الذين يتمتعون با لحقوق السياسية ، إلى جعل الممارسة السياسية اجبارية .. إلى آخره ، كل هذا أوقف عند خطواته الأولى واجهض من مضامينه وتحول إلى شكل ديموقراطي بفعل ” التنمية الرأسمالية ”.
وكان أول الضحايا ، ديموقراطياً ، هم العمال الذين تجاهلتهم الثورة .
أن تجاهل العمال لا يعني أنهم لم يصيبوا شيئاً من المكاسب الاشتراكية في الفترة التي نتحدث عنها . فقد سبق أن اشرنا الى القانون رقم 165 لسنة 1953 بمنع فصل العاملين تعسفياً ، وكان مؤدى ذلك أن للعامل الذي يفصل تعسفياً الحق في أن يلجأ إلى القضاء المستعجل ليحصل على قرار بإيقاف قرار فصله ودفع مرتبه إلى أن يحكم في الموضوع ، ولم يكن مؤاده استمرار العامل في العمل . وإنما نقصد هنا تجاهل العمال كقوة شعبية في مجال الممارسة الديموقراطية وعنصريها اللازمين : الأول : التحرير، والثاني : التشجيع على الممارسة الديموقراطية .
فمن حيث تحرير العمال من التبعية الاقتصادية لأصحاب العمل ، يصدم الانسان حقا حين يلاحظ أنه طوال تلك الفترة أي من 1952 حتى 1961 لم تضف الثورة شيئاً يذكر ـ فيما عدا ما ذكرنا ـ إلى القوانين 317 و 318 و 319 لسنة 1952 التي صدرت في الشهر السابق على الثورة . كل المكاسب جاءت في مرحلة تالية. ولكن في تلك الفترة التي نتحدث عنها لم يكسب العمال شيئاً مقارنا لما كسبه الفلاحون .
أما من حيث التشجيع على الممارسة الديموقراطية، فيبين الأمر من موقف الثورة من النقابات العمالية والنشاط النقابي . فحين قامت الثورة كانت نقابات العمال ينظمها القانون رقم 85 لسنة 1942 (10/9/1942 ) ولم يكن مسموحاً للعمال الزراعيين أو وكلاء أصحاب الأعمال أو الممرضين أو لموظفي الحكومة إنشاء نقابات وكان مسموحاً للعمال الذين يشتغلون بمهنة أو صناعة أو حرفة واحدة أو بمهنة وصناعات أو حرف متماثلة أو مرتبطة ببعضها أو يشتركون في انتاج واحد أن يكوّنوا فيما بينهم نقابات ترعى مصالحهم وتدافع عن حقوقهم وتعمل على تحسين حالتهم ” .
وكان ممنوعا على النقابات استثمار اموالها والاشتغال بالمسائل السياسية أو الفنية وكان مباحا للنقابات في كل مهنة أن تكوّن اتحاداً لها وكانت العيوب الأساسية في هذا القانون ـ بالنسبة إلى النشاط النقابي ـ هي أن حق تكوين النقابات كان مقيداً . ولم تكن هناك أية امكانات لبناء نقابي يمثل كل العمال النقابيين ، إذ كان أصحاب كل مهنة يعتبرون ـ في اتحادهم ـ طائفة مستقلة عن العاملين بالمهن الأخرى ، ثم حد من تنمية المقدرة المالية للنقابات عن طريق استثمار أموالها ، وأخيراً ذلك الحظر المفروض على اشتغال النقابات بالمسائل السياسية وهو يحرم على النقابات كل نشاط يدخل في نطاق تلك الكلمة واسعة الدلالة ” السياسية ” خا صة دلالتها المحددة : الديموقراطية : فجاء القانون رقم 319 لسنة 1952 الصادر قبل الثورة ( يونيو 1952 ) فأباح للمصريين والعاملين في المستشفيات غير الحكومية تكوين نقابات كما أباحه للعمال الزراعيين وأبقي الحظر مفروضاً على موظفي الحكومة ووكلاء أصحاب الأعمال (المادة1) .
فجاءت الثورة باضافة تتسق غرابتها مع غرابة الاتجاه الرأسمالي فأصدرت القانون رقم 513 لسنة 1954 (30 سبتمبر 1954) بإباحة تكوين النقابات لوكلاء رجال الأعمال . الإضافة الإيجابية الوحيدة كانت في 16 مارس 1955 عندما صدر القانون رقم 143 لسنة 1955 ينص على : في أي وقت يبلغ أعضاء نقابة المنشأة ثلاثة أخماس مجموع عمالها يعتبر الباقون أعضاء في النقابة ” . (المادة 5) . وبقي كل شيء على حاله حتى صدر قانون العمل الموحد رقم 91 لسنة 1959. تقول مذكرته الايضاحية إنه تجميع للقوانين التي كانت نافذة من قبل منذ عام 1933 فكأنها لم تضف شيئاً .
ولكننا نلاحظ في شأن نقابات العمال أنه بدلاً من أن يكون من حق كل العاملين في كل مؤسسة على حدة أن يكوّنوا نقابة لتمثلهم في مواجهة رب العمل الخاص بهم ، الغى القانون رقم 91 لسنة 1959 هذه النقابات وجعل من كل العاملين بمهنة أو صناعة واحدة أو بمهن أو صناعات متماثلة أو مرتبطة بعضها ببعض أو تشترك في انتاج واحد أن يكونوا فيما بينهم ” نقابة عامة ” واحدة ، على مستوى الجمهورية مع التصريح لها بأن تشكل نقابات فرعية في المديريات أو المحافظات كما لها أن تشكل لجان نقابية في المؤسسات المشتغلة بنفس الصناعة أو المهنة إذا كان عدد العمال المنضمين للنقابة في المؤسسة 50 عاملاً فأكثر.
فإذا لاحظنا أن عدد العاملين في المنشآت فقط ( بعد استبعاد الزراعة والتشييد والخدمات) كان عام 1959 ، تاريخ صدور القانون ، حوالي 650000 في حين أن الذين يعملون منهم في مؤسسات تشتغل أكثر من 50 عاملاً لم يكن يزيد عن 250000 ندرك كيف أن القانون رقم 91 لسنة 1959، كان قد حرم 400000 عامل أي ما يقرب من 2/3 من مجموع العمال الصناعيين ، من النشاط النقابي .
هذا بالإضافة إلى تركيز القيادة النقابية في النقابة العامة ” المركزية ” وما يترتب على هذا من إضعاف لمقدرة اللجان النقابية في مواقع العمل . أكثر من هذا ما نصت عليه المادة 170 من أنه ” لا يجوز لمن فصل نهائياً من المؤسسة أن يستمر في عضوية اللجنة النقابية لها “. ولما كان الفصل مباحاً ، ولو كان تعسفياً ، إذا أن الجزاء على التعسف هو التعويض النقدي ، وهو عبء يسير على الرأسماليين فقد كان أي رب عمل يستطيع أن يطرد أي عامل نقابي نشيط من اللجنة النقابية بأن يفصله من العمل بعد محاكمته أمام مجلس الإدارة !! (المادة 173) . في مقابل هذا أقر القانون لنقابات العمال بحق أنشاء ” اتحاد ” يرعى مصالحها المشتركة وبذلك أمكن الغاء تجزئة العمال وبايجاد رابطة علوية تنظيمية واحدة لهم . وكان ذلك من مفاخر الثورة . ولكن لكل شيء وجهين . فإذا كان القانون 91 لسنة 1959 قد أوجد للعمال سلطة مركزية واحدة فإنه من ناحية أخرى قد عرض حركتهم النقابية لمخاطر سيطرة هذه السلطة المركزية أو السيطرة عليها ، خاصة إذا لاحظنا إن هذا القانون ذاته قد نص على تحريم الاضراب (المادة 180 فقرة 2 جـ ) وهو تحريم ترعاه وتسأل عنه النقابة العامة واتحاد نقابات العمال بشكل مطلق، أي بصرف النظر عن اختلاف ظروف العمل من موقع إلى موقع وما قد يتوافر في موقع ما من مبررات الاضراب .
هذا هو كل ما أصابه العمال وما أصيبوا به في الفترة 1952 إلى 1961. وخلاصته تقوية الحركة النقابية في القمة وإضعافها في القاعدة وهو غير ديموقراطي . وقد برزت أضراره تماماً حين أنشئت وزارة العمل واختير لها من قمة الحركة النقابية وزيراً بعد وزير فأصبح مصب طموح النقابيين هو الالتحاق بالسلطة التنفيذية . هل هو إفساد متعمد للحركة النقابية ؟.. لا .. ولكنه أحد النتائج التي لا مفر منها للتنمية الرأسمالية. ان أحد وسائل تشجيع وتقوية الرأسماليين هو إحباط وإضعاف مقدرة العمال . ويستحيل استحالة مطلقة في مصر وفي غير مصر أن تكون الدولة مع مصالح الرأسماليين ومصالح العمال في نفس الوقت وبنفس القدر . لو قبله العمال والفلاحون ، وقد يقبلون ، فإن الرأسماليين والملاك لن يقبلوا المساواة أبداً .. لسبب بسيط هو أن مصالحهم لا تلتقي مع مصالح الذين يعملون .
الطبقة الجديدة :
قيل عنها ـ فعلاً ـ انها طبقة جديدة تلك التي سيطرت على حياة مصر السياسية والاقتصادية في الفترة التي انتهت عام 1961. وأ يقل أحد لماذا هي جديدة . وقد يذهب الظن إلى أنها طبقة نشأت حديثاً ولم تكن موجودة من قبل . ولكنا نعتقد أن مرجع جدتها إلى ” غرابتها ” إنها ليست طبقة بأي معنى اقتصادي لأن ليس لها موقع من علاقات الانتاج ، إذ انها أصلاً غير منتجة . ولكنها خليط غريب من البشر الذين لاينتجون شيئاً اجتمعوا حول الدولة وفي أجهزتها وتعاونوا جميعاً على امتصاص مواردها. منهم المؤسسة العسكرية التي تصاعدت سلطتها بعد عام 1955 وأصبحت دولة فوق الدولة وامتصت قيادتها قدراً لا بأس به من الدخل القومي فأصبح القادة العسكريون من بين قمم الأثرياء والمترفين والوسطاء في الصفقات المدنية والعسكرية ففسدوا هم أولاً وأفسدوا الحياة ثانياً وادى الأول والثاني إلى هزيمة 1967 فيما بعد . وقد ضربنا مثلاً لذلك القانون رقم 160 لسنة 1962 الذي وضع جهاز الدولة المدني جميعه في خدمة قيادة القوات المسلحة. ولما كان كبار القادة لا يعملون بالتجارة والسمسرة بأنفسهم فقد عملوا بها من خلال زوجاتهم وابنائهم وأقاربهم . ولكن لحسابهم وكان قطاع آخر من كبار القادة أكثر شطارة فغادر القوات المسلحة ، خاصة بعد 1956 ، ليشترك في غنائم الحرب فأصبح منهم رؤساء مجالس الادارات والمديريون العامون ومديرو المصانع ، و انتقل و احد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ليكون رئيساً للمؤسسة الاقتصادية . هذه طائفة .
أما الطائفة الثانية فهم البيروقراطيون . أولئك الذين كانوا موظفين تعساء في دولة راكدة عام 1952 قد أصبحت دولتهم الآن أكثر نشاطاً وتدخلاً ، وأصبحت مصالح الرأسماليين والأجانب والمصريين متوقفة إلى حد كبير على دراساتهم وآرائهم وقراراتهم وتوصياتهم فأصبح عدد كبير منهم يجمعون بين وظيفتين : موظفون في الدولة يتبعونها وموظفون لدى الدولة يتبعون الرأسماليين في الخارج ، ويقبضون من الطرفين ، ويشاركوا الطرف الثاني أن لم يكن بأنفسهم فبواسطة زوجاتهم وابنائهم وأقاربهم . ولكن لحسابهم ـ وهذه طائفة .
أما الطائفة الثالثة ، فهم الرأسماليون الذين لا ينتجون إنما يقومون بالأعمال الطفيلية كالوساطة والمقاولة والسمسرة والاستيراد والتصدير لبضائع لا يحتاجها إلا المترفون . ولقد كادت مكاتب الاستيراد والتصدير والوساطة والاستشارة والوكالة التجارية في القاهرة ـ في تلك الفترة ـ أن تقارب المقاهي عدداً . وبرز في مصر عدد من الأفاقين الدوليين لم يلبثوا أن أصبحوا من أصحاب الملايين وكان أحدهم ـ وهو أجنبي ـ يستورد المأكل والمشرب و” التسالي ” لولائمه من مطعم مكسيم في باريس بالطائرة وهي ولائم كانت مقصورة على الطوائف الأخرى السابقة . ثم طائفة أخرى من الكتاب والصحفيين والمثقفين والأنتهازيين الذين قدموا ما يملكون : اقلامهم وصحفهم وعقولهم في مقابل أن يشتركوا في مغانم الطبقة الجديدة فأصبحوا منها . أولئك الذين طبلوا وزمروا لكل كلمة ووافقوا على كل إجراء وصفقوا لكل متكلم وجروا وراء كل فرصة وبرروا كل شيء ..
أما الامتداد الريفي لهذه الطبقة الجديدة فكان يمثلها أولئك الملاك الذين كانوا تابعين للاقطاعيين فاصبحوا هم سادة. خدم الباشوات السابقين ومديرو عزبهم ووكلاؤهم والصف الثاني من أسرهم .
الآن خلى لهم مكان القمة وقفزوا اليه وأصبح اتصالهم بالسلطة مباشراً ، وأصبحوا هم المرشحين في الانتخابات بعد أن كانوا وسطاءها . وآصبحوا هم أصدقاء السلطة المحلية بعد أن كانوا لا يقتربون منها، ولا يقبلون، الا بتوصية من ” فوق “ ..
كل هؤلاء اجتمعوا وتعاونوا وتستر بعضهم على بعض وتبادلوا الهدايا والرشاوي وتجمعهم ” مصلحة ” واحدة : نهب الدولة من خلال تحقيق ما تأمر به قيادتها . ولما كان نهب الدولة ليس عملية اقتصادية بل هو ” سرقة ” فاننا لم نستطع أن نفهم كيف أن تلك الطبقة الجديدة إلا من حيث ” غرابتها “. ولا شك أن اجتماع طبقة على أن تسرق شيئاً غريباً ، ولكنه حدث في مصر . كان سبب حدوثه تلك الرغبة العارمة في التنمية الاقتصادية التي أخرجت الدولة من سلبيتها وزجت بها في مجال النشاط الاقتصادي ثم اختيار الأسلوب الرأسمالي للتنمية حيث يضع أهداف التنمية في أيدي المضاربين . ثم ضعف الرأسمالية المصرية حيث أصبح هدفها من التنمية هو الاختلاس وليس الانتاج وليس العمل أيضاً .
هذه الطبقة الجديدة عوقت حل مشكلة الديموقراطية وأجهضت مشروعات الثورة من ناحيتين .
الناحية الأولى : احتكارها لاتخاذ القرارات أو تشويه القرارات التي تتخذها قيادة الثورة وتوجيهها في التنفيذ إلى ما يتفق مع مصالحها والحيلولة بذلك دون أن تسهم الجماهير الشعبية في اتخاذ تلك القرارات. بمعنى أنها أصبحت طبقة فوق الشعب ، و تحت القيادة ، وعازلة بينهما ، لا تعلم القيادة من إرادة الشعب إلا ما تريد تلك الطبقة ولا يستفيد الشعب في الاتجاه الديموقراطي للقيادة إلا بالقدر الذي تريده تلك الطبقة وفي حدوده . ولما كانت الديموقراطية لا تعني مجرد تعبير الشعب عن إرادته بل تعني أن ذلك التعبير سيصوغ القرارات التي تصدرها الثورة فإن إرادة الشعب أو ما عبر به عنها لم تستطع في أغلب الأوقات أن تخترق هذا الجانب الحاجز الذي أقامته الطبقة الجديدة إلا بعد إعادة صياغته ، كما أن إرادة القيادة التي كانت تحاول جاهدة نسج خيوط اتصالها بينها وبين الشعب لم تصل إلى هذا الشعب الا بعد أن مرت بالحجاب الحاجز فلواها وعقدها. ومن ناحية أخرى فإن هذه الطبقة الجديدة هي التي أفشلت المشروعات الديموقراطية للثورة .
في الريف ـ كما في المدن ـ وببساطة ، قام الملاك والرأسماليون الطفيليون وأعوانهم من البيروقراطيين والانتهازيين المعششين في أجهزة الدولة أو ” المتشعبطين ” عليها بتنفيذ المشروعات الديموقراطية . هم الذين اختاروا أعضاء الجمعيات التعاونية الزراعية من خدمهم أو تابعيهم وانضم إليهم المشرفون الزراعيون كممثلين للبيروقراطية ومديرو فروع بنك التسليف الزراعي والتعاوني كممثلين للرأسمالية وسماسرة وتجارة المحاصيل والأسمدة والبذور وعلف الماشية كممثلين للطفيلين ، وسخروا الجمعيات التعاونية لأغراضهم فاستولوا في النهاية على البذور والأسمدة والأعلاف والسلف بأسماء وهمية وضاربوا على احتياجات الفلاحين وحولوا الريف كله إلى أسوأ سوق سوداء فلم يفد الفلاحون مما انشأت لهم الثورة شيئاً يذكر ووجدوا أنفسهم وقد تحرروا من الاقطاعيين وتحصنوا ضد الطرد من الأرض أسرى قوة جديدة لا تمكنهم من زراعة الأرض إلا بعد أن تستنفد طاقتهم وتستولي على محاصيلهم فظلوا كما كانوا ـ تقريباً ـ ولو أن السادة قد تغيروا . ثم ان هذه الطبقة الجديدة هي التي أنشأت وشكلت وقادت هيئة التحرير. وهي التي أنشأت وشكلت وقادت الاتحاد القومي (كان أحد إقطاعيي الصعيد عضواً في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد القومي . أما كيف وصل فلا أحد يدري) هم الذين يجمعون الناس في السرادقات . ليثبتوا للقيادة ” كفاءتهم ” الجماهيرية وهم الذين كانوا يتركونهم في السرادقات ويندفعون مودعين القيادة حين انصرافها ولا يعودون .
النكوص :
في عام 1960 كان عبد الناصر قد بدأ يدرك أنه قد خسر رهانه على التنمية الرأسمالية وأنه يوشك أن يخسر رهان الديموقراطية أيضاً . ولقد أشرنا من قبل إلى إعلانه بدء استشعاره الخطر على الثورة في ذلك العام .. والفقرات الثلاث الآتية ، من أقواله ، تبين كيف نما ادراكه مخاطر الفشل خلال عامين . بدأها وفيه بقية من أمل وختمها وقد وضع أصبعه على أسباب الفشل . الفشل في حل مشكلة الديموقراطية…في 9 يوليو 1959 ألقى خطاباً في افتتاح المؤتمر القومي العام للاتحاد القومي دعا فيه بحرارة إلى ضرورة الاستجابة إلى متطلبات التنمية الاقتصادية ، و علق ” قيمة ” الاتحاد القومي ودلالته الديموقراطية على مدى نجاحه أو فشله في إنجاز هذه المهمة . ويبدو من خطابه ذاته أن ثمة ” معوقات ” لخطط التنمية وان كان لم يفصح عن مصادرها..قال : ” وعلينا ـ أيها الأخوة ـ أن نذكر دائمآ أن ظروفنا لا تتحمل أي تردد أو أي انتظار. ان خطة مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات في الجمهورية العربية المتحدة لابد أن تنجح وينبغي أن تعقبها دائماً خطط متتابعة لمضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات أو أقل ، ذلك أنه من المحتم علينا أن نحقق انطلاقة واسعة المدى تجعل تطورنا سابقاً على الزيادة المنتظرة في عدد السكان وإلا فإن كل أمانينا سوف يصيبها الشلل إذا ما كان السبق لزيادة عدد السكان على سرعة النمو الاقتصادي والأجتماعي. كذلك علينا أيها الأخوة في هذا المجال ألا نتصور بحال من الأحوال أن مهمتنا هي الاحتفاظ بالحالة الراهنة . ان أي تنظيم شعبي ديموقراطي يتخيل أن واجبه هو الاحتفاظ بالأحوال كما تسلمها ، إنما يفقد أصالته الشعبية والديموقراطية. علينا أن ندرك بوعي أن مهمة التنظيم الشعبي هي تنظيم الدفع الثوري وتجديد قواه وهي إستمرار الحركة في إطار العقائد القومية نحو مزيد من العدل الاجتماعي . كذلك فإنه من المحتم علينا ألا ننسى أنفسنا. إن القيادات الشعبية يجب ألا تنعزل بأي حال من الأحوال عن قواعدها فإنها إذا فعلت ذلك وقعت في الخطأ الذي يقع فيه من يتصور أن الشجرة الخضراء الكبيرة اليانعة تقدر على الحياة إذا فقدت الصلة بجذورها ومن ثم فإن القيادات الشعبية ينبغي عليها دائماً أن تذكر سر قوتها . ولسوف يبقى الشعب دائماً هو سر القوة الخالدة . كذلك فإنه من أعظم ضمانات بقاء الصلة بين القيادات الشعبية وقواعدها أن تدرك القيادات بوضوح أن القيادة خدمة عامة و ليست انتفاعاً شخصياً .
بعد سبعة أشهر، ينذر بأن خطة التنمية لا بد أن تنفذ ويشير إلى مصدر المعوقات بشكل عام فيسميهم “ فئة من الاستغلاليين ” دون إيضاح أكثر : قال يوم 22 فبراير 1961 : ” فخطة تنمية الدخل القومي في عشر سنوات لا بد أن تنفذ لأنها تمثل ارادة الشعب الذي يريد لجمهوريته أن تنمو وأن تتطور، ويمثل إرادة الشعب الذي يريد لأبنائه العمل الشريف والعمل الكريم . أما إذا كانت هناك فئة من الاستغلاليين لا تريد لهذه الخطة أن تنفذ فإننا نقول لهم ان الشعب قد صمم على أن يقضي على الاستغلال السياسي أو الاستغلال الاجتماعي أو الاستغلال الاقتصادي .. ” .
بعد خمسة أشهر أخرى يعترف بأن مشكلة الديموقراطية ليست مشكلة دساتير وبرلمانات فقط ، وليست مسألة حريات سياسية فحسب ، بل هي ـ أولاً ـ مشكلة المساواة بين الناس في المقدرة على ممارسة الحقوق الدستورية والحريات السياسية ، وانه بدون هذه المساواة في المقدرة والتي هي مقدرة اقتصادية بالدرجة الأولى، فإن الأقوياء سيسلبون حرية الضعفاء .. ولا شك انه كان في ذهنه خلاصة تجربته الماضية وما انتهت إليه من سلب حريات الفلاحين والعمال التي صاغها لهم دستوراً وحاول تنفيذها في مشروعاته الديموقراطية .قال في عيد الثورة التاسع يوم 22 يوليو 1961 : ” الديموقراطية أيها الأخوة لا توجد . بمجرد إصدار دستور وقيام برلمان .. الديموقراطية لا يحددها الدستور ولا يحددها البرلمان . بل توجد بالقضاء على الاقطاع والقضاء على الاحتكار والقضاء على سيطرة رأس المال “.نلاحظ هنا ـ قبل أن نستطرد ـ أن عبد الناصر قد ميّز ” الأحتكار ” كمعوق للديموقراطية وأنه يتحدث عن ” القضاء على سيطرة رأس المال “.. ولم يقل كما كان يقول من قبل ” سيطرة رأس المال على الحكم “.. ذلك لأنه اكتشف خلال تجربته ان ليس من اللازم لإهدار الديموقراطية أن يسيطر رأس المال على الحكم سيطرة مباشرة ، بل يكفي أن يسيطر على الشعب من خلال علاقات الانتاج السائدة . وهذا واضح من باقي كلماته . استطرد فقال :
” فلا حرية ـ أيها الأخوة ـ بلا مساواة ولا ديموقراطية بدون مساواة مع الاقطاع ولا مساواة مع الاستغلال ولا مساواة مع رأس المال . الدستور يهب الحرية والدستور يعطي الديموقراطية ولكن الاقطاع يسلب الحرية والديموقراطية . الاستغلال يسلب الحرية والديموقراطية ديكتاتورية رأس المال تسلب الحرية والديموقراطية . فلا حرية حقيقية ولا ديموقراطية حقيقية إلا بالقضاء على الاقطاع والاحتكار والاستغلال وسيطرة رأس المال ” .
جيد .
ولكن ما الذي حدث بالنسبة لخطط وأهداف التنمية ؟..
الدرس المر:
ببساطة ، لقد خذلت الرأسمالية المصرية عبد الناصر ولقنته درساً لن ينساه ، وعاه وتعلم منه ، فبعد ما قدم إليها ، وبالرغم من ” محاباته ” لها على حساب العاملين ، أثبتت له أنها جواد خاسر، فأفشلت ، متعمدة ، متآمرة ، كل مشروعات التنمية ، بعد أن أفشلت ، متسللة ، منافقة كل مشروعات الديموقراطية … وقصة النكوص ، وما أسفرت عنه من دروس ، تستحق أن يتعلمها كل الديموقراطيين في العالم الثالث النامي ، و ليس في مصر وحدها .
12 ـ الشعب.. الشعب.. من هو الشعب :
يا لصلافة هؤلاء القوم :
منذ عام 1947 كان المهندس ، مصري الجنسية يوناني الأصل، أدريان دانينوس يطوف بمشروعه عن ” السد العالي ” على كل الحاكمين والحكومات والنواب والشيوخ في مصر لعل أحداً منهم يهتم بدراسة مشروعه العبقري . إقامة سد في مجرى النيل جنوبي أسوان يختزن وراءه مياه الفيضان ويتحكم في ما يستخدم منها ولا يسمح لتلك المياه بما كان مسموحاً به : أن تعبر الأرض بسرعة لتصب في البحر الأبيض المتوسط غامرة الأرض التي تمر بها ثلاثة أشهركاملة يتعطل فيها الزرع إلى أن تنحسر . كان مشروع السد العالي يعني ـ عند صاحبه ـ استغلال مياه الفيضان المختزنة في استزراع ملايين الأفدنة من الأرض التي تفتقد الري . وتوليد قدر من الطاقة الكهربائية يعوض مصر عما تفتقده من مصادر الطاقة الأخرى : الفحم والبترول .. وبالتالي بفتح الباب واسعاً لامكانات زراعية وصناعية غير محدودة ..
بالرغم من ذلك لم يهتم أحد بمجرد دراسة المشروع .
ثم جاءت ثورة 1952 وقبلت ما لم يقبله أحد من قبل : أن تدرس المشروع . وتولى متابعة دراسته واحد من أكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة عزماً وحسماً في الطبع والحزم والحسن هو المرحوم جمال سالم . واستعانت الثورة بكل بيت موثوق من بيوت الخبرة العالمية . فلما أن ثبتت صلاحيته فنياً أصبح جانب كبير من أحلام الرخاء في مصر متوقفاً على إقامة السد العالي ، وكان ثمة مشكلة التمويل .. فاتجهت الثورة ، كعادتها في السنين الأولى من عمرها ، إلى رؤوس الأموال الأجنبية لتغطية نفقات الإنشاء . ولم تلبث أن تلقت عام 1955 عرضآ من الولايات المتحدة الأمريكية بالمساهمة في تمويل إنشاء السد (56 مليون دولار) وانضمت إليها انجلترا (14 مليون دولار) والبنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تسيطر أمريكا على إدارته (200 مليون دولار) .. وكان على مصر أن توفي بباقي النفقات .
كان ذلك نموذجاً كاملاً لمساهمة ” رؤوس الأموال الأجنبية ” في حل مشكلات التنمية الاقتصادية في دولة نامية. وكان ـ على هذا الوجه ـ محكاً لا يخطىء لمدى صدق هذا النموذج . كما كان فرصة فريدة ليختبر فيها أنصار التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية صحة مواقفهم . و لقد كانت ثورة 23 يوليو في ذلك الوقت ، من بين أولئك الأنصار .
ثم ،
بعد أن استقر الأمر على قاعدة من التفاؤل ، أو كاد أن يستقر، وبدىء في دراسة مراحل التنفيذ تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بشرطين إلى جمال عبد الناصر لتنفيذ ما وعدت به .
الأول : الصلح مع إسرائيل .
الثاني : إيقاف التعاون مع الاتحاد السوفيتي أي عدم إتمام صفقة الأسلحة التي اتفق عليها في ذلك العام …
قالت جريدة النيويورك تايمز : ” إن حكومة الولايات المتحدة تربط بين مقترحاتها بمساعدة مصر في بناء السد العالي وبين تسوية النزاع العربي الاسرائيلي “. وكان هربرت هوفر وكيل وزارة الخارجية الأمريكية أكثر صراحة فقال : ” السد العالي مقابل الصلح مع إسرائيل “.. وقال أنتوني ايدن في مذكراته : ” كان المطلوب أن يعطي المصريين وعداً.. برفض المساعدات التي تعرض عليهم من المصادر الشيوعية “ .
وسحبت الولايات المتحدة عرضها تمويل السد وتبعتها انجلترا، ثم البنك الدولي ، وبلغ الخبر عبد الناصر بينما كان مع الرئيس تيتو في رحلة العودة من بريوني فقال تيتو : يا لصلافة هؤلاء القوم “. أما عبد الناصر فلم يفهم الأمر على أنه مجرد صلافة .
قال في 8 مارس 1965 : ” معركة السد العالي كانت معركة كل واحد فيكم بل كل واحد عربي من أبناء الأمة العربية. كان يعتبر معركة السد العالي معركة العزة .. معركة الكرامة . لما سحب تمويل السد العالي اعتقدوا أن سحب التمويل أن السد العالي لن يبنى . إن إحنا حنركع على رجلينا ونستجدي ونشحت علشان يبنوا السد العالي . إحنا شعب عمره ما ركع على رجليه ولا استجدى ولا شحت . السد العالي علشان ينبني خضنا معارك .. تأميم قناة .. التهديد .. الحصار الاقتصادي . تجميد أموالنا .. العدوان الثلاثي .. الحرب النفسية .. المؤ تمرات .
وكان كل ذلك كافياً ، وأكثر من كاف ، ليتعلم عبد الناصر درساً لن ينساه أبداً .. أن رؤوس الأموال الأجنبية لا تساهم في التنمية الاقتصادية في أي بلد نام إلا طبقاً لشروطها . وإن ليست شروطها كلها اقتصادية .. بل إنه تحت شرط ” الاستقرار ” اللازم لتحقيق الربح تتدرج عشرات الشروط التي تتصل بصميم حرية الوطن واستقلاله…
بقيت ” رؤوس الأموال ” الوطنية …
النكوص الغادر:
اتفق عالمان من علماء الاقتصاد أحدهما رأسمالي هو الدكتور علي الجرتيلي والآخر اشتراكي هو الدكتور اسماعيل صبري عبد الله ، على أنه ما إن وافى عام 1961 حتى كان عبد الناصر قد تأكد من أن الرأسمالية المصرية قد نكصت عن وعودها المعلنة وغدرت بالثورة التي دعمتها وشجعتها وأعزتها. ونقول “رشتها ” . لتساهم في تنمية اقتصاد ” الوطن ” .
يقول الأول :
” كانت الحكومة في مراحل التخطيط الأولى تنفذ نصيبها من الاستثمار ولا تملك توجيه الطاقة الإنتاجية في القطاع الخاص . ولم يكن لها سيطرة على أجهزة الانتاج والادخار تكفل التحقق من تنفيذ ما يناهز 1400 مشروع جديد من مختلف القطاعات . ولم يكن في متناول الحكومة الأجهزة الملحقة بها استثمار ما يناهز ثلاثمائة مليون جنيه سنوياً . وبينما كانت الحكومة توجه استثمار فائض الميزانية العادية والادخار الجماعي قي صناديق التأمين والمعاشات لم تكن لها السيطرة على مدخرات قطاع الأعمال في الأرباح غير الموزعة . وهي أهم مصادر الادخار في الأزمنة الحديثة. وكانت الرغبة الملحة في السيطرة على المقدرات الأقتصادية سبب التحول الجذري في التفكير الذي سبق صدور قوانين 1961. بالإضافة إلى إزالة الفوارق في توزيع الثروة والقضاء على الاحتكار . إذ لا يتسنى مع التنمية السريعة في الدول النامية أن تعتمد على مدخرات الأفراد فحسب ، ولا مناص من إزالة التعارض الكامن في قطاع الأعمال المنظم بين الرغبة في توزيع الأرباح أو استثمارها وفق رغبة المنظم وبين ضرورة تدبير المواد اللازمة قسراً أو بطريق الاقناع للاستثمار وفقآ لخطة التنمية . وقد تم ذلك عن طريق التأميم الشامل “ .
ويقول الآخر:
” منذ 1955 بدأت الدولة في إنشاء أجهزة التخطيط . وبالذات لجنة التخطيط القومي . ثم تلا ذلك إنشاء منصب وزير دولة للتخطيط . وأخذت هذه الأجهزة في إجراء الأبحاث والدراسات والإعداد للتخطيط الشامل . وفي سنة 1959 بدا أنه من الضروري والممكن البدء فيه . وفي أغسطس 1959 صدر قرار رئيس الجمهورية باعتماد الخطة العامة للدولة للسنوات الخمس 1959/ 1960- 1964/ 1965 كمرحلة أولى في خطة عشرية تستهدف مضاعفة الدخل القومي عن طريق تنمية مناسبة في جميع القطاعات مع عناية خاصة للتصنيع .
” ولكن ما كادت الخطة الخمسية الأولى تأخذ طريقها الى التنفيذ حتى اتضحت بعض الأمور الهامة التي استخلصت منها القيادة الثورية أنه لا يمكن تحقيق أهداف التنمية بدون تغيير عميق في الهيكل الاقتصادي المصري وفي العلاقات الاجتماعية السائدة فيه . فقد أفسحت الخطة الخمسية الأولى في الأصل مكاناً رحيباً للقطاع الخاص وعولت عليه في تنفيذ جزء هام من مشروعاتها مبقية للقطاع العام عبء المشروعات الضخمة قليلة الربح (السد العالي / استصلاح الأراضي / التعدين / البترول .. الخ) والحجم الذي يمكنه من أن يلعب دوره في توجيه اقتصاد قومي عماده القطاع الخاص . ولكن الرأسمالية الكبيرة أحجمت عن تنفيذ ما ورد بالخطة وأخذت منها موقفاً سلبياً وعملت على حجب مواردها الضخمة عن تمويل التنمية . بل إنه يمكن أن نقول أن موقف الرأسمالية الكبيرة في التنمية قد زاد سوء عما قبل”. نلاحظ من هذه النصوص :
أولاً : إن مكان القيادة في الخطة الخمسية الأولى كان محجوزاً للقطاع الخاص وليس للقطاع العام وهو ما يتسق ما أوردناه من قبل في بيان الرؤية الرأسمالية للتنمية الاقتصادية التي كانت تسود فكر عبد الناصر في ذلك الحين . قال في الاحتفال بالعيد السابع للثورة يوم 22 يوليو 1959:
” طبعا في هذا أرى رأس المال الخاص أعطى له الحرية ورأس المال العام الذي هو القطاع العام يدخل لموازنة رأس المال الخاص ولمنعه من السيطرة على الحكم في نفس الوقت الدولة لها ولاية ومسئولية أنا أحمي الصناعة ومنع استيراد المصنوعات الخارجية إذن لازم احمي المستهلك وأفرض واوجد ربحاً لصاحب المال “ .
ثانياً : إن القطاع الخاص (الرأسمالية المصرية) قد نكص عن أداء دوره في الوقت الذي كانت الدولة ـ من خلال القطاع العام والخزانة ـ تؤدي دورها وذلك لأن القطاع الخاص كان خارج نطاق سيطرة الدولة أو رقابتها . كان متروكاً ” لضميره ا لوطني “.. فغدر .
قال ضمن خطاب ألقاه يوم 25 نوفمبر 1961 : “… إحنا تركنا رأس المال يعقد الاتفاقات في الخارج … رأس المال بنوفر له العملة الصعبة .. بنوفر له جميع التسهيلات علشان يعمل . وهو كل اللي يعمله كان بياخد أرباح المصانع .. إيه المخاطرة اللي في مقابلها رأس المال كان بياخد كل هذه الفوائد ؟.. مفيش مخاطرة بأي حال من الأحوال . مشروعات طبعاً تحولت إلى أرباح شخصية بعدين لما أعلنا تأميم الشركات البريطانية والفرنسية ، من تأميم ، أعلنا تمصير .. على طول اتلموا على بعض وتقدموا .. كل واحد فيهم عايز يخبط شركتين ثلاثة من الشركات الممصرة .. سواء اللي أصلها فرنسي أم أصلها انجليزي .. وبعد كده بدا الانحراف .. انحراف ازاي ؟ .. بقى فيه قطاع عام . بقى فيه قطاع خاص . القطاع الخاص عايز يكسب ، الصناعة اللي كانت بـ 2 مليون جنيه بقيت 88 مليون . المباني اللي كانت في 52 بنيناها بـ 5 مليون جنيه تيجي في سنة 1960 الحكومة بتنزل بـ 60 مليون جنيه للعمليات اللي في المشروعات الحكومية اللي لا أول لها ولا آخر. الرأسمالية المستغلة تنفذ وتربح موش الربح الحلال اللي مفروض يكسبوه ، ولكن الربح الحرام . بعض الناس رفضوا آلات جاية من الخارج دافعين فيها عملة صعبة .. في التوريد بيرشوا .. في التصدير بيرشوا .. وفي الاستيراد بيرشوا… لأنه حيحقق أرباح وعايز يحقق أرباح .
ليس إدانة بل حقيقة :
في يوم 3 ديسمبر 1961 تحدث عبد الناصر عن تجربته مع الرأسمالية المصرية فقال : ” العملية ليست إدانة بل كما قلت إننا نبحث عن الحقيقة . وإننا نريد أن نأخذها من تجربتنا في العشر سنوات وفي السنوات اللي كانت قبل الثورة . على أي شيء كانت تدل تجربتنا ؟.. هل استطعنا أن نقيم عدالة اجتماعية ؟.. هل استطعنا أن نقيم ما يمكننا من القضاء على الظلم الاجتماعي ؟. هل استطعنا ان نقضي على الاستغلال السياسي والاستغلال الاقتصادي والاستغلال الاجتماعي .. أبدآ لم نستطع “ .
لماذا ؟…
الإجابة من خطاب 25 نوفمبر 1961 قال :
” حاولنا أن نحل بالوسائل السلمية . حاولنا أن نحل في إطار من الوحدة الوطنية ولكن النية كانت من طرف واحد . لأن هناك خلافات سياسية وخلافات جذرية . ولقينا الرجعية إما بتستكين حتى تجد الفرصة، وبتستكين لغاية الوقت المناسب . وبتتزلف وتتسلق علشان تحمي فلوسها، وبتنمي نفسها ولكن بتستكين للوقت المناسب . ولكن هل نجح الكلام اللي قلناه ؟.. هل نجح اللي قلناه إن احنا عايزين نحل المتناقضات في داخل إطار الوحدة الوطنية بالطرق السلمية ؟. لا . ما نجحش . من جانبنا احنا كانت نوايانا سليمة وكنا بنقول عايزين نعمل محاولة جديدة تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا الشعب الأصيل في الحضارة .. ولكن لا يمكن أن يتم عمل النية اتمامه من جانب واحد ، أما الجانب الآخر فهو ينتهز أو ينتظر الفرص المناسبة “ .
لا يخفى على أحد أن حديث عبد الناصر في هاتين الفقرتين كان مجرد من الانفعال الذاتي وقريب إلى التقرير الموضوعي . لا يدين عبد الناصر الرأسمالية المصرية ولا يشهر بها . كما أنه لا يخاطب عواطفها الوطنية لتعود إلى الصواب كما كان يفعل من قبل ، لقد قبل عبد الناصر أن ينحاز إلى الواقع الموضوعي على حساب التقدير الذاتي وأدت يتعامل مع الحقيقة و لوكانت مرة بدلاً من الغضب عليها .
وكانت أولى الحقائق التي تعلمهاعن الوحدة الوطنية .
الوحدة الوطنية :
لتد عرفنا من قبل أن ” الوحدة الوطنية ” كانت أحد الاركان الأساسية لحل مشكلة الديموقراطية في مصر ، كما كان يريد عبد الناصر في مرحلة التجربة.. التعامل مع الناس جميعاً بصفتهم مواطنين ثم الوحدة فيما بينهم جميعاً لأنهما وطنيين أو ينبغي أن يكونوا كذلك .
كان اختيار الوحدة الوطنية هو الذي حمل عبد الناصر على استبعاد التعدد الحزبي وهو الذي صاغ له هيئة التحرير إطاراً يجمع الشعب كله في هيئة واحدة ، وهو الذي صاغ له الاتحاد القومي جبهة تضم جميع أفراد الشعب ويكون لكل واحد حقوق سياسية متساوية مع الآخرين ..
والوحدة الوطنية شيء عظيم كعظمة المثل العليا ، و طاهر كطهارة الملائكة ولا شك في أن لكل حاكم في الأرض مصلحة في أن تتحقق الوحدة الوطنية على طاعته. وقد يزيد بعض فيدعون إلى الوحدة الوطنية من أجل المحبة والسلام بدلاً من الحقد والصراع .. ولا عيب في هذه الدعوات إلا أنها تتجاهل أن الله جلّت حكمته قد اختار خلفاءه في الأرض بشراً ولم يختر الملائكة . والبشر متفردون كل بمقدرته العقلية والجسدية والمادية . و للبشر احتياجات مختلفة . وللبشر نزوات وأطماع .. فالبشر في الأصل مختلفون قبل أن يتلقوا دعوة الوحدة الوطنية أو قبل أن يثمروا .. وأن أسخف ما في الدعوة إلى الوحدة الوطنية على الاطلاق هو تجاهل أو إنكار أسباب الخلاف والفرقة والصراع بين الناس . إنها حينئذ تبدو ساذجة إلى حد الطفولة . إذ لماذا ندعو الناس إلى الوحدة الوطنية إذا لم يكونوا في الأصل مختلفين متفرقين متصارعين ؟ ..
إذن فالدعوة إلى الوحدة الوطنية، تفترض الخلاف أصلاً . حينئذ يكون من الكلام الذي لا معنى له أن ندعو الناس المختلفين أصلاً إلى الوحدة الوطنية أو تحملها عليها حملاً ، بدون أن تبين ما هو على وجه التحديد ” الموضوع ” الذي يجب على الناس أن يتوحدوا عليه ..
في مرحلة الصراع الوطني من أجل التحرير، أي حين يكون” الوطن المشترك ” في خطر، حين يكون ” بيت العائلة ” مهدداً بالأغتصاب ، تكون الوحدة الوطنية لازمة بمعنى لازمة ؟.. إن لكل فرد ، لكل مواطن ، مصلحة مؤكدة في إنقاذ الوطن ورد العدوان عليه . وتكون للوحدة الوطنية أولوية على الخلاف بين الناس . لماذا ؟ لأنه مهما تكن الآراء أو المصالح داخل الوطن فإن لكل فريق من المختلفين مصلحة مؤكدة في حماية الوطن ، لأن ذلك يمثل الحد الأدنى من الأمل ، أي أمل في أن يسوي خلافاته الداخلية الوجه الذي يرضيه . من هنا فإن البشر، في كل أطراف الأرض يؤجلون خلافاتهم الداخلية ” ليتحدوا ” من أجل الانتصار على عدوهم المشترك الذي يهدد وطنهم .
وكانت تلك دعوة مبررة في مرحلة التحرر الوطني .. فكانت الوحدة الوطنية في صيغة هيئة التحرير مبررة .
في المرحلة التالية ، مرحلة الاتحاد القومي، حيث كانت الوحدة الوطنية مطلوبة من أجل التنمية كان الأمر مختلفاً . التنمية هي في النهاية عائد الانتاج والتقدم نحو الرخاء . هنا نكون قد اقتحمنا تناقضات المجتمع من الداخل ، ويكون لكل فرد سبب مشروع في أن يتطلع إلى نصيب من العائد القومي متكافىء مع ما أسهم به في تحقيق هذا العائد القومي . قال عبد الناصر يوم 6 أكتوبر 1961: ” إنه لا بد أن يكون الدخل القومي شركة بين المواطنين ، وبدونه ، وبدون ضمان عدالة التوزيع على الأساس الصلب المتين لا يعد الدخل القومي شركة بين المواطنين .. كل بقدر جهده الحقيقي لتحقيق هذا الدخل القومي “ …
هل يمكن أن تتحقق الوحدة الوطنية في هذه الحالة ؟.
نعم ،
و لكن على أن يكون مضمونها ” التنمية القومية وعدالة توزيع العائد القومي ” أو ” الكفاية والعدل ” ذلك التعبير الذي تلقنه عبد الناصر من دروس التعامل مع الرأسمالية المصرية التي نكصت عن تنفيذ نصيبها في التنمية لتحتفظ بأكثر من نصيبها في العائد القومي .. هذه الوحدة الوطنية تكون ممكنة بقدر التزام جميع الأطراف بها . إذ لا يمكن أن يطلب من طرف واحد أن يدفع ثمن الوحدة الوطنية ويتحمل أعباءها بينما الطرف أو الأطراف الأخرى لا تلتزم إلا بأهدافها الخاصة .. وإلا فإن الدعوة الى الوحدة الوطنية والمحبة والسلام وعدم الحقد تكون في النهاية دعوة موجهة إلى المظلومين ليقبلوا بوضعهم المتدني ويحبوا ظالميهم ويهادنوا مستغليهم .. أو ليكونوا ملائكة مطهرين من عواطف الغضب والكراهية .. وهو مستحيل ..
هل للشعب مصلحة في الوحدة الوطنية ؟
لا شك في هذا . كل أفراد الشعب لهم مصلحة في الوحدة الوطنية والمحبة والسلام حتى أولئك الذين سيكونون مطالبين بالتخلي عن بعض مصالحهم . ذلك لأنه مع وجود التناقضات الموضوعية بين الناس يكون الناس بالخيار بين أمرين . إما حل تلك التناقضات سلبياً ، وهوما يعني أن على بعض الأطراف أن تتخلى عن بعض مصالحها . وإما أنها ستحل بغير الطريق السلمي ، المدمر والمعوق لكل الأطراف . قال عبد الناصر في افتتاح المؤتمر العام للاتحاد القومي يوم 9 يوليو 1965 . ” ولقد كان تقديرنا أن حماية المصري الوطني إنما تتوقف على الشعب باعتباره التيار الدائم المتدفق الخالد الذي لا ينتهي ولا يحول ، وكان أمامنا ـ مثلاً ـ أيها الأخوة المواطنون ، طريق تعدد الأحزاب . ولكن الأحزاب لا يمكن أن تكون إلا تعبيرا عن أوضاع إجتماعية و على هذا الأساس فإن تعدد الأحزاب في بلدنا مع ازدياد الفوارق بين الطبقات ووجود تخلف يحدد للدخل القومي نطاقه في نفس الوقت سوف يصنع هوة سحيقة بين الأحزاب ولا سبيل إلى اجتيازها . كما أنه في محاولة القلة التي تملك الاحتفاظ بما تملكه وفي محاولة الكثرة التي لا تملك الفرصة المتكافئة أن تستعيد حقها يصبح الصراع الدموي أمرا محتما باعتباره الطريق الوحيد إلى التغيير . ثم يكون ما يستتبع ذلك من الناحية الخارجية حين يحاول الذين يملكون أن يجدوا السند من خارج بلادهم كما يحاول غيرهم أن يواجه هذا السند الخارجي بسند خارجي مضاد له . هكذا يصبح الوطن ميدانا للحرب الأهلية بين أبنائه على أسوأ الظروف أو يصبح ميداناً للحرب الباردة بين الكتل الخارجية دون أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام …
وما العمل إذا اختارت طبقة مصالحها على حساب الوحدة الوطنية ؟ .
لقد كان ذلك هو السؤال الذي واجه عبد الناصر وهو يرى تجربته كلها مهددة بالانهيار بعد أن خذلته الرأسمالية المصرية التي وثق بها وبنى خططه للتنمية على أساس من تلك الثقة . وتجاهل العمال لفترة طويلة إرضاء لها ، وابتكر لها هيئة التحرير والاتحاد القومي ليفسح لها المكان الذي احتلته وأصبحت به سيدة التجربة الأولى لحل مشكلة الديموقراطية في مصر.. سيطرت على المؤسسات الشعبية واستغلت النشاط الاقتصادي للدولة ثم نكصت عن تحمل نصيبها في أعباء التنمية .. أي فتكت بكل معنى من معاني الوحدة الوطنية .
ولم يكن الجواب سهلاً . وهو لا يكون سهلاً على أي حاكم يجد نفسه في موقف الاختيار بين السلبية حيث متسع الرئاسة و بين الإيجابية حيث متاعب المسئوليات . وهو لا يكون سهلاً على أي حاكم يختار الإيجابية فيكون عليه أن ينحاز إلى جانب من قوى الصراع الاجتماعي الذي لم يعد منه مفر . ويصبح اختياره هو المحك الحقيقي الذي لا يقاربه أي محك اخر في الكشف عن ديموقراطيته . ذلك لأنه ، في هذا الموقف الصعب يكون مطالباً بأن يختار بين القلة القوية القادرة المحيطة به ، وبين الأغلبية المستضعفة العاجزة البعيدة عنه . ولقد قلنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة أن الديموقراطية ليست كلاماً عاطفاً على الشعب ، بل موقفاً منحازاً إلى أغلبية الشعب يتجمد في نظام يحمي و ينمي مصالح أغلبية الشعب .
ولقد كان عبد الناصر حين واجه هذا الاختبار لأول مرة عام 1960 ، كما قال ، قد بلغ الذروة كحاكم وزعيم وقائد . وكانت الجماهير العربية في مصر والوطن العربي قد أسكنته قلوبها حباً وكانت الرأسمالية المصرية ، والعربية أيضاً ومثقفوها وكتابها وصحافتها قد ارتفعت به إلى أقرب مكان القداسة . فهو البطل ، وهو الملهم وهو المعلم وهو الزعيم .. ومع ذلك فإن عبد الناصر قد أدرك منذ عام 1960 أنه مطالب بأن يجيب على سؤال يفرضه الواقع التاريخي : لقد استغلت الرأسمالية المصرية الوحدة الوطنية لمصلحتها وأثارت بذلك أسباب الصراع الاجتماعي حول المصالح المتناقضة فإلى من ينحاز ؟.. هل يلوذ بالذروة التي وصل إليها يصطنع الحياد ؟ أم ينحاز إلى الأقلية التي سيطرت وتحكمت وهي في مركز القوة من دولته ؟ أم ينحاز إلى الأغلبية الغائبة بما يعنيه ذلك من صدام مع ذات القوى التي تسبب هو في صعودها إلى مراكز القوة ؟..
و لقد اختار عبد الناصر. وكان اختياره واحداً من المواقف الفذة في تاريخه وتاريخ الحكام قاطبة… أختار أن ينحاز إلى الأغلبية ، أغلبية الشعب ، ضد ذات القوى التي مكن لها من قبل .. أو ـ نقول ـ اختار الانحياز إلى أغلبية الشعب ضد نفسه. انحاز عبدالناصر 1961 ضد عبد الناصر 1952.
قال عبد الناصر في خطاب وجهه إلى شعب الجمهورية العربية المتحدة يوم 16 أكتوبر 1961 : لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها أفكر . وكنت بمشاعري مع شعبنا العظيم في كل مكان . في القرى وفي المصانع وفي الجامعات . وفي المعامل وفي المواقع الأمامية في خط النار لمواجهة العدو مع جنودنا وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالأمل في مستقبل أفضل . كنت مع هؤلاء جميعاً ، مع الفلاحين والعمال والمثقفين والضباط والجنود أحاول أن أتحسس مشاعرهم وأن أتفاعل بفكري مع فكرهم . كانت أصابعي على نبض هذه الأمة صانعة الحضارة صانعة التاريخ صانعة المستقبل . وكانت أذناي على دقات قلبها الذي نبض دائما بالحق والخير والسلام . كنت أريد أن يكون اختياري صدى لاختيارها وكنت أريد أن يكون موقفي تعبيراً عن ضميرها وأقول لكم الآن ـ أيها المواطنون ـ لقد اخترت باسم الله ، باسم الأمة ، باسم آمالها ، باسم مثلها العليا، باسم كل المعاني التي قدستها ، باسم كل المعارك التي حاربتها ، باسم هذا كله كان قراري وكان اختياري : أن طريق الثورة هو طريقنا .. ان الاندفاع بكل طاقة إلى العمل الثوري هو المفتاح الوحيد لكل مطالب نضالنا الشعبي وهو الوفاء الأمين بكل احتياجات جماهيرنا المؤمنة المصممة على الحرية بكل صورها الاجتماعية والسياسية ” .
الشعب .. من الشعب ؟
كان ذلك إعلاناً عن ثورة التصحيح التي فجرها عبد الناصر في مصر العربية والتي سنتحدث عنها ، فيما بعد . نكتفي الآن بأن نشير إلى أن دروس التجربة التي وعاها عبد الناصر، وخاصة استحالة الوحدة الوطنية على أن يستغل الناس بعضهم بعضا ، قد قفزت بمفهومه للديموقراطية إلى مستوى أكثر تقدماً بكثير مما كان من قبل . وفي هذا الصعود النامي لمفهومه للديموقراطية واجه وحسم موقفه من واحدة من أخطر وأعمق قضايا الديموقراطية .
ولقد طرح عبد الناصر هذه القضية وموقفه منها طرحآ قوياً على الرأي العام في مصر حينما أعلن يوم 25 نوفمبر 1961 شعاراً يقول : ” كل الحرية وكل الديموقراطية للشعب ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء الشعب ؟.
نستطيع أن نقول إن هذا الشعاركان صدمة للمفاهم السائدة ، حينئذ ، عن الديموقراطية وعن الشعب، لم يستطع كثيرون امتصاص آثارها . وبقي الشعار إلى وقت طويل وربما إلى الآن غير مفهوم تماماً من كثير ممن يعنون بمشكلة الديموقراطية فكراً أو تطبيقاً . كان المفهوم السائد أن الشعب هو جماع المواطنين المنتمين إلى الدولة . وأن الديموقراطية نظام عام لا يفرق بين المواطنين . وأن التفرقة الوحيدة المقبولة ديموقراطياً بين أبناء الشعب الواحد هي التفرقة ما بين الأغلبية والأقلية . اما أن يكون هناك من بين ذات الشعب شعب وأعداء للشعب وأن تكون الديموقراطية نظاماً مقصوراً على من يسمون الشعب محجوبة عمن يسمون أعداء الشعب فهو أمر كان يبدو غريباً ومتناقضاً . وكان المصدر الأساسي للتناقض والغرابة فيه هو أنه يثير سؤالاً أولياً يبدو غير قابل للإجابة الديموقراطية : من هو الذي يملك الحق في أن يعين الشعب وأعداء الشعب ويفرز بينهما ومن الذي أعطاه هذا الحق ؟.. أوكيف يمكن هذا التعيين ؟.
ومع ذلك فإنه بمجرد أن نتحرر قليلاً من أسر المفاهيم الليبرالية التقليدية ونواكب التطور الفكري والتطبيقي الذي أصاب مفهوم الديموقراطية في العالم كله نتبين بوضوح أن عبد الناصر لم يفعل شيئاً إلا أنه تبنى موقفا أكثر تقدمية من المواقف السائدة . وقد تبين بوضوح أيضاً غرابة وتناقض المفهوم العام المتجانس النمطي لكلمة ” الشعب “ .
إن علم السياسة والنظم السياسية وعلمائه ، لم يختلفوا قط في وجوب التمييز بين ” الشعب الاجتماعي ” و بين ” الشعب السياسي، يعنون بالشعب الأول كافة الذي ينتمون إلى الدولة . ويعنون بالشعب الثاني ” كل من يتمتع بالحقوق السياسية في الدولة ” . الشعب الأول تحدده شروط اكتساب الجنسية (الهوية) . الشعب الثاني تحدده شروط اكتساب الحقوق السياسية .
ويزعم جان جاك روسو في مؤلفه ” العقد الاجتماعي ” أنه أول من فطن إلى هذه التفرقة . قال في هامش أضافه إلى الفصل السادس من الكتاب الأول من مؤلفه المذكور، وهو يتحدث عن نظام ” المدينة ” الاغريقية الذي يعتبرونه نموذجاً للديموقراطية ، إن ” المدينة ” بمعناها السياسي تعني الوطن والانتساب إليه يعني أن لصاحبه حق المساهمة في إدارة شئون المدينة فهو ” مواطن ” أما ” المدينة ” بمعناها المدني فتعني محل الاقامة .
ولا يطابق الشعب الاجتماعي الشعب السياسي . لم يتطابقا قط ولا يتطابقان الآن في أية دولة وفي أي مذهب. يكفي أن نعرف ـ مثلاً ـ أن الشعب الاجتماعي في مصر العربية يبلغ 37 مليوناً وأن الشعب السياسي بمفهومه البسيط (حق الانتخاب) لا يبلغ عشرة ملايين . ومع ذلك فإن كل من وصل إلى مقعده عن طريق الانتخاب لا يفتأ يذكر الناس بأنه منتخب من الشعب أو أنه يمثل الشعب . حتى أولئك الذين لم ينتخبهم إلا بضعة آلاف في إحدى الدوائر الانتخابية لا يجدون حرجاً في أن يزعموا أنهم يمثلون الشعب .
ولقد كانت الديموقراطية الليبرالية ، وما تزال ، نظاماً جانحاً إلى الحد من الشعب السياسي . عندما بدأ الاصلاح الديموقراطي في انجلترا عام 1832 كان عدد الناخبين لا يزيد عن 400000 ناخب من بين عشرة ملايين مواطن تقريباً . وبالرغم من توالي الاصلاح الديموقراطي في عامي 1868 و 1884 فإن حق التصويت، أبسط الحقوق السياسية ، ظل في انجلترا ـ قلعة الديموقراطية الليبرالية ـ مقيداً بشروط مالية حتى 1918 ولم يصبح للنساء حق الانتخاب إلا في عام 1928، وبقي نظام الانتخاب على درجتين حتى عام 1948.
وعندما قامت الثورة الفرنسية الليبرالية وأصدرت أكثر الدساتير ديموقراطية في تاريخ فرنسا (دستور 1973) لم يزد عدد ” الشعب السياسي ” عن 7 مليون من بين الشعب الاجتماعي الذي كان يبلغ خمسة وعشرين مليوناً تقريباً . ولم يرض هذا التوسع الديموقراطي أغلبية قادة الثورة فلم يطبقوا الدستور ووضعوا بدلاً منه دستور يقول التقرير الذي صاحبه : ” يجب أن يحكمنا الأفضل علماً والأكثر اهتماماً بالمحافظة على القوانين وهؤلاء لا يوجدون إلا بين الملاك “.. ومع اشتراط الملكية مناطاً للحرية السياسية هبط عدد الشعب السياسي في فرنسا الثورة الى ” نصف مليون ..
وهكذا ، في كل المجتمعات في كل مراحل التاريخ ، في كل المذاهب ، لا يكون لكلمة ” الشعب ” دلالة واحدة . وتكون دلالتها السياسية أكثر حصراً وضيقاً من دلالتها الاجتماعية و في مصر العربية حين أطلق عبد الناصر حق الانتخاب من كل القيود تقريباً . وضاعف عدد من لهم الحقوق السياسية بقيت أغلبية الشعب الاجتماعي خارج نطاق الممارسة الديموقراطية .. و يكفي أن نتذكر أن كل مصري لا يبلغ 18 عاماً لا يكون منتميا الى الشعب السياسي ..
إذا كان ذلك كذلك فما الجديد في موقف عبد الناصر عام 1961 ؟.. وما هي دلالة كل الحرية وكل الديموقراطية للشعب ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء الشعب ؟…
قال عبد الناصر يوم 25 نوفمبر 1961 : ” سنعمل اشتركية .. الاشتراكية حياة ، الاشتراكية عدالة اجتماعية ، والعدالة الاجتماعية معناها أنني أخذت من الغني وأعطيت الفقير وأعدت توزيع الثروة . في إعادتي لتوزيع الثروة من هو الشعب ؟.. هو عبارة عن جميع الفئات التي تساند الثورة الاشتراكية وتساند الثورة الاجتماعية والبناء الاشتراكي . إذن أما نيجي النهاردة ونقول كل الحرية للشعب وكل الديموقراطية للشعب لازم احدد وأفرز وأخصص ايه هيه قوى الشعب العاملة ، إيه هو الشعب ؟ من هو الشعب اللي الثورة الاجتماعية تعمل من أجله ومن هم أعداء الشعب ؟ .. أعداء الشعب هم جميع القوى والجماعات التي تناهض هذه الثورة الاشتراكية والثورة الاجتماعية واللي هدفها طبعاً القضاء على هذا النظام الاشتراكي والعودة إلى نظام رأسمالي أو مستغل أو نظام مبني على أساس ديكتاتورية رأس المال“ .
هذا موقف واضح . يوجد بين الديموقراطية والاشتراكية مضمون قوي ويأخذ من المضمون الاشتراكي مقياساً موضوعياً لفرز الشعب (له مصلحة في الاشتراكية) من أعداء الشعب (أعداء الاشتراكية) .. فتكون كل الحرية والديموقراطية للشعب .. ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء .. الاشتر اكية .. هذا المعنى التوحيدي كان عبد الناصر قدعبر عنه تعبيراً بليغاً في 9 يوليو 1960 حين قال : ” هناك اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديموقراطية الاقتصاد وأن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة “ .
ومع ذلك فإن هذا الموقف الديموقراطي الواضح الذي اتخذه عبد الناصر لم يجد طريقه إلى الواقع . قد تكون في هذا مفارقة ومع ذلك فما أكثر المفارقات في تاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر.. ولقد جاءت الثغرة من أن عبد الناصر في عام 1961 أيضاً ، وحتى بعد أن تحددت أفكاره الخاصة عن الديموقراطية ، لم يشأ أن يفرضها .
مسمار جحا :
نعرف كلنا قصة جحا الذي باع منزله إلا مسماراً في حائط . وما زال يطالب بحق رؤية مسماره ويقتحم المنزل الذي باعه حتى ” طفش ” السكان وتركوه له فاسترده . مثل هذا حدث في مصر عام 1961 أعني أن قد ترك لأعداء الشعب مسمار في منزل الشعب .
كيف ؟
حينما كان عبد الناصر يعلن تلك الأفكار المتطورة عن الديموقراطية كان قد بدأ ثورة التصحيح التي قضت على الرأسمالية المصرية الكبيرة وأضعفت ما بقي من نشاط رأسمالي بسلسلة من القوانين التي صدرت يوم 21 يوليو 1961.. وأصبح واضحاً أن الذين اضروا بتلك القوانين يدخلون في تعريف عبد الناصرلاعداء الشعب..
و لكنه حين أراد أن يصوغ أو يعيد صياغة النظام ديموقراطيا ، لم ينفرد بالأمر كما انفرد باصدار القوانين الاشتراكية . لم يصدر الميثاق مثلاً (صدر عام 1962) . ولم يعدل الدستور مثلاً (عدل سنة 1964) . ولم يغير قانون الانتخاب مثلاً ثالثاً (عدل عام 1962) بل أصدر يوم 25 نوفمبر 1961 قراراً (رقم 1789 ) بتكوين لجنة جمعت الخلاصة المثقفة وأصحاب الحكمة وأساتذة الجامعات ورجال الدين والكتاب والصحفيين تحت اسم ” اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية “.. وطرح عليهم خلاصة فكره الذي أوردنا خلاصته وكان عليهم أن يحددوا طبقاً لمقياس موضوعي من هم الشعب ومن هم أعداء الشعب ..
وظلوا يتحاورون ويتنافسون أكثر من شهر كان عبد الناصرخلاله محل محاكمة فكرية بالغة الصراحة والجرأة من بعض الأعضاء . لم يضق بها يوماً ثم تركهم يقررون ما يرون . فانتهوا ـ طبعاً ـ إلى أن أعداء الشعب هم أعداء الثورة الاشتراكية . وهكذا أخلي البيت من الرأسماليين الذين أضيروا ـ على الأقل ـ من القوانين الاشتراكية. ولكن جزءاً كبيراً من أعضاء اللجنة أنفسهم كانوا من الرأسماليين الذين أضيروا مباشرة أو بطريق غير مباشر من القوانين الاشتراكية (لم يكن قد تقرر العزل السياسي بعد) . فماذا يفعلون ” لتمييع ” مفهوم أعداء الثورة الاشتراكية ؟.. أضافوا مقياساً آخر للشعب . كان المقياس الأصيل كما طرحه عبد الناصر : الذين لهم مصلحة في الثورة الاشتراكية.. جاء المقياس المضاف : من يساهم في الدخل القومي .. وبنسبة مساهمته. وما لبثوا أن قدموا من الاحصائيات المأخوذة عن الفترة السابقة ما يثبت أنه طبقاً لقيمة الاسهام في الدخل القومي والأهمية النسبية اقتصادياً والنسبة العددية يمثل الفلاحون 27% . والعمال 21% . والرأسمالية الوطنية 11% . وأعضاء النقابات المهنية 14% والموظفون 11% وأعضاء هيئة التدريس 6% والطلبة 5% والنساء5% من الشعب .. أما من عدا هؤلاء فهم أعداء الشعب !! .
على هذا الأساس ، اختفى مقياس أعداء الثورة الاشتراكية ، وعليه قام نظام الـ 50% على الأقل للعمال والفلاحين . وبه احتفظت الرأسمالية المصرية ومثقفوها والبيروقراطيون ، كل منهم ، ” بمسمار جحا ” في بيت الديموقراطية الجديد.. وهنا لن يدرك عبد الناصر مخاطره إلا بعد فوات الأوان .
13 ـ ثورة التصحيح
الثورة :
في عام 1961 حدثت في مصر ثورة بكل معاني الثورة وإن كانت سلمية . وهي ثورة تنسب إلى عبد الناصر ولايمكن أن تنسب إلا إليه . يمكن القول ـ مجازاً ـ أنها المرحلة الثانية من ثورة 1952. ولكنها كانت أكثر بكثير من ذلك . بل نستطيع أن نقول أنها أنهت ثورة 1952 فكراً وقيادة وقوى واتجاهاً . والقدر الذي يمكن قبوله بيقين أنها ثورة تصحيح لثورة 1952 مع تحفظ سنذكره فيما بعد .
أما إنها ثورة فلأنها تجاوزت وتخطت كل الأطر الدستورية والقانونية التي كانت قائمة وضربت ضرباتها بسلسلة من القرارات التي أصدرها عبد الناصر شخصياً بدون عرضها على أية مؤسسة دستورية . يقول أحمد حمروش قي كتابه ” مجتمع عبد الناصر ” إن عبد الناصر في ذلك التاريخ ” بدأ يدبر ثورة جديدة بسرية كاملة.. بصورة تختلف قليلأ عما حدث قبل 23 يوليو “. وينقل عن زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي أن قرارات 1961 لم تعرض على مجلس قيادة الثورة السابقين في جلسات عمل رسمية “.. ثم يضيف ” . وفجأة.. وبلا تمهيد .. ودون حشد للجماهير أو تعبئة للأفكار.. أو محاولة لتحريك التنظيم أخذت وسائل الأعلام من صحف وإذاعة تصدر بقوانين جديدة .. خلال أربعة أيام بدأت من 19 يوليو وانتهت يوم الاحتفال بعيد الثورة التاسع كانت قد صدرت كل تلك القوانين التي تمت بطريقة الصدمة وغيرت من واقع المجتمع ” .
وإما أنها ثورة سلمية فلأن الذي خطط لها وقادها رئيس الدولة ولم تجد مقاومة تذكر وإن كانت لم تتردد في شل حركة أية مقاومة محتملة عن طريق فرض الحراسات (التجريد من الامكانات الاقتصادية للمقاومة) والابعاد من الريف ( التجريد من الامكانات القبلية والعشائرية للمقاومة ) . هذا ـ طبعاً في داخل مصر ـ أما في الخارج فقد أصيب أعداء عبد الناصر بالسعار وبدأ تجهيز الخطط لمعارك 1967 بقصد تصفية نظام عبد الناصر.
اما أنها ثورة جمال عبد الناصر فلأن جمال عبد الناصر هو الذي صاغ أفكارها وأصدر قراراتها وقاد عملية تنفيذها .. لا يعني هذا أنه لم يشاور فيها أحد، بل شاورهم . الذين تكلموا وعارضوا (عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وزكريا محي الدين).. أما الباقون فعبروا عن موافقتهم .. بالصمت وعدم الاعتراض . ومن أستعان بهم عبد الناصر في صياغة ثورته في قوانين ، وكان من بينهم عزيز صدقي ، لم يطلب إليهم رأيهم في مبدأ الثورة بل طلب رأيهم في كيفية تنفيذها .
أما أنها أكثر بكثير من أن تكون المرحلة الثانية من ثورة 1952 فلأنها لم تكن امتداداً تلقائياً ، ولو نامياً ، للمرحلة السابقة عليها . بل كانت قطعاً لذلك الامتداد التلقائي واختياراً جديداً في المنطلقات والغايات والأساليب بحيث تكاد تكون ثورة عليها لولا أن الثورتين متتابعتان وأن قائدهما واحد وهو ما حال دون الذين يركزون انتباههم على الجوانب الذاتية ويتجاهلون الجوانب الموضوعية ويبين الانتباه إلى أن ثورة كاملة عارمة حدثت في مصر عام 1961 أكثر تقدمية وأكثر ديموقراطية من ثورة 1952.
وقد يمكن أن تسمى ثورة 1961 ثورة تصحيح لمسار ثورة 1952 لأنها بينت التجربة الأولى وأخطاءها ولأن هدفها كان تصحيح تلك الأخطاء على ضوء حصيلة التجربة. يمكن أن تسمى كذلك مع تحفظ يستحق أقصى درجات الانتباه هو أن ليس كل تغيير تصحيحاً . التصحيح هوإلغاء للخطأ وتحقيق للصواب . أما إلغاء الصواب والرجوع إلى الخطأ فهو تصحيحاً بل ردة . ومقياس الخطأ والصواب هنا هو ” التقدمية ” التي لا تكون كذلك إلا إذا كانت محققة لمصالح أغلبية الشعب أي إلا إذا كانت ديموقراطية . لهذا نستطيع ـ إذا شئنا ـ أن نعتبر ثورة 1961 تصحيحاً لثورة 1952 لأنها أكثر منها تقدمية وديموقراطية . ولكنا لا نستطيع ـ مثلاً ـ اعتبار إلغاء ما أنجزته ثورة 1961، فيما لو وقع ، والعودة إلى المبادىء الستة لثورة 1952 تصحيحاً .
ولقد بدأت الأحداث في مصر تمهد للثورة موضوعياً منذ عام 1956. ففي ذلك العام أثبتت الأحداث كما قلنا من قبل- بأكثر الأدلة إقناعاً -، إن الحرب، ان المراهنة على مساهمة رؤوس الأموال الأجنبية في التنمية مراهنة خاسرة . وان الاحتفاظ بالأستقلال الوطني وفتح أبواب الوطن لرؤوس الأموال الأجنبية معاً مستحيل في مصر (… وكافة الدول النامية) . ثم اننا قد عرفنا مما سبق كيف نكصت الرأسمالية المصرية عن تمويل خطة التنمية وخذلت قائد الثورة الذي منحها من الفرص الاقتصادية والسياسية أكثر مما تستحق .
ولقد كان عبد الناصر يجرب ولكن لا يفرط ، ويخطىء ولكن يتعلم ، ويثق ولكن لا يخدع ، وهكذا ما إن بدأت الأحداث تمهد للثورة حتى بدأ هو أيضاً يتحفز لها .
كان أول صدام مع الرأسمالية المصرية عام 1956 أيضاً . ففي ذلك العام صدر قرار تأمين شركتي السكر والتقطير ( أحمد عبود…) بعد أن عجزت الثورة بكل الوسائل عن اقتضاء الضرائب المتراكمة على شركتين اعتادتا التهرب من الضرائب منذ وقت طويل . (في 24 مايو 1954 قضى نهائياً باحقية الحكومة في مبلغ 4.866.154 جنيهاً ضرائب متراكمة منذ 1948 فاصطنعت الشركتان ميزانية تقول أن خسائرهما ( 3.220.240 جنيهاً عام 1954) و في عام 1960 أمم البنك الأهلي المصري وبنك مصر وتلا ذلك تأميم تجارة الأدوية وصناعتها وشركات كبس القطن وفي ذات العام أممت الصحف .
وفي يوم 20 يوليو 1961 ضرب عبد الناصر ضربته الثورية بسلسلة من القرارات بقوانين . أولها القانون 117 لسنة 1961 بتأميم كافة البنوك وشركات التأمين ومنشآت أخرى بلغ عددها 489 منشأة وشركة ومصنعاً أضيفت تباعاً إلى الجدول الملحق بقانون بمقتضى قوانين وقرارات لاحقة آخرها القانون رقم 52 لسنة 1964 وكان من بينها بيوت تصدير القطن وشركات الحلج والنقل البحري والمقاولات والتجارة الخارجية وتجارة الجملة والمحال التجارية الكبرى والغزل والنسيج والنقل النهري والنقل المشترك في المدن ونقل السيارات في الأقاليم .
وفي ذات اليوم 20 يوليو 1961 صدر القانون 118 لسنة 1961 باشتراك الدولة بحصة لا تقل عن 50% من منشآت وشركات ومؤسسات بلغ عددها 384 بمقتضى قرارات وقوانين لاحقة آخرها القانون رقم 80 لسنة 1963. وقد تم في غضون عام 1962 التأميم الكامل لبعض تلك المؤسسات .
وفي يوم 20 يوليو 1961 أيضا صدر القانون رقم 119 لسنة 1961 بتحديد عشرة آلاف جنيه كحد أقصى لملكية أي فرد في مجموعة من الشركات . وتقرر إنهـاء عقود المناجم والمحاجر التي سيستغلها الأفراد وشركات القطاع الخاص واسقاط الالتزام عن شركات المياه والنور والترام الاجنبية وتأميم شركة شل للبترول وتحويل اسهم الجمعية التعاونية للبترول الى شهادات استثمار البنك الاهلي وأخيراً صدر القانون رقم 150 لسنة 1964 بتصفية الحراسات وتأميم كافة الأموال الموضوعة تحت الحراسة . ولقد تم ذلك بدون تعويض أكثر من 15 ألف جنيه .
وامتدت الثورة إلى الريف . فصدر القانون رقم 127 لسنة 1961 بتخفيض الحد الأقصى للملكية الزراعية للفرد وأسرته (زوجته وأولاده القصر) من 300 فدان إلى 100 فدان بما فيها الأراضي البور والصحراوية. وحرم على أي مالك لأي أرض مهما كان مقدارها أن يحوز هو وزوجته وأولاده القصر بطريق الايجار أو وضع اليد أو بأية طريقة أخرى أكثر من خمسين فداناً كما حرم الوكالة في إدارة أو استغلال الأراضي الزراعية وما في حكمها فيما يزيد عن هذا القدر وبذلك أجبر من يملكون أكثرمن خمسين فداناً على تأجير الزيادة لصغار المزارعين فقضى بشكل أساسي على الرأسمالية الزراعية وفي عام 1963 (صدر القانون رقم 15) بتحريم ملكية الأجانب للاراضي الزراعية إطلاقاً . والقانون رقم 82 . بمنع توزيع الأراضي المستولى عليها والمزروعة حدائق على خريجي المعاهد الزراعية كما كان معمولاً به من قبل وإدارتها لحساب الدولة . وأخيراً صدر القانون رقم 104 لسنة 1964 ونص على أن تؤول الأراضي المستولى عليها إلى الدولة ” بدون مقابل “ .
وفي عام 1964 كانت كل النصوص التشريعية قد عجزت عن مواجهة حيل الاقطاعيين وكبار الملاك فاتخذ إجراء ابعادهم عن قرى الفلاحين وتحديد أقامتهم في مدن أخرى بعيدة عنها .
الانتباه إلى المجهولين :
قضت تلك الاجراءات إلى حد كبير على السيطرة الرأسمالية في مجالات الانتاج الزراعي والصناعي والتبادل وقطاع المال والخدمات فانفسح المجال لمزيد من المكاسب للعمال والفلاحين . ففي اليوم السابق على صدور قوانين التأميم صدر القانون رقم 111 لسنة 1961 بتخصيص 25% من أرباح الشركات المساهمة للموظفين وللعمال ثم امتد هذا الحق في 6 يناير 1964 ليشمل المؤسسات العامة والشركات التابعة لها والجمعيات التعاونية والشركات ذات المسئولية المحدودة .
وفي اليوم ذاته أي يوم 19 يوليو 1961 صدر القانون رقم 114 لسنة 1961 بأن يكون من بين أعضاء مجلس الإدارة في أية شركة أو مؤسسة عضوان منتخبان من الموظفين والعمال . وفي يوم 27 يوليو تقرر تحديد ساعات العمل فاصبحت 42 ساعة في الأسبوع مع يوم راحة بعد أن كانت 48 ساعة . فلما حاول بعض أصحاب الأعمال تخفيض الأجور بنسبة خفض ساعات العمل صدر القانون رقم 175 مقرراً عدم تأثر الأجور بتحديد ساعات العمل . وصدر القانون رقم 94 لسنة 1962 بالسماح بالتفرغ للعمل النقابي . والقانون رقم 938 لسنة 1962 بإباحة تكوين النقابات لعمال الحكومة والمؤسسات العامة والهيئات العامة والوحدات الإدارية و لم تستثن إلا وزارة الحربية .
الميثاق :
كانت كل تلك الإجراءات التي بدأت متفرقة ثم تكشفت في شهر يوليو 1961 تطبيقاً عملياً لمجموعة من الأفكار اختمرت في ذهن عبد الناصر فنفذها قبل أن تصاغ وتعلن في وثيقة بعام كامل . نعني بتلك الأفكار ” ميثاق العمل الوطني ” الذي قدمه عبد الناصر إلى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في 1 مايو 1962 وأقره المؤتمر وصدر يوم 30 يونيو 1962. قدمه عبد الناصر بقوله : ” الميثاق عبارة عن مبادىء عامة أو إطار للعمل أو إطار للخطة . نتج عن ايه ؟ .. نتج عن تجربة وممارسة لمدة عشر سنوات. العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة وفترة ممارسة. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ (جلسة 26 مايو 1962) . و أقره المؤتمر وأصدره : ” ليكون إطاراً لحياتنا وطريقاً لثورتنا ودليلاً لعملنا من أجل المستقبل ” .
وإذا كانت تلك الاجراءات التي تحدثنا عنها جزءاً مكملاً لفهم الميثاق من حيث هو تطبيق له وإن كانت قد سبقت إصداره ، فإن الأسلوب الذي صدر به الميثاق والقرارات التي اتخذت في تكوين المؤتمر الذي أصدره تمس مشكلة الديموقراطية في مصر في الصميم . لقد تضمنت الاجراءات الاقتصادية التي سبقت إصدار الميثاق مزيداً من التحرر لقوى الشعب العاملة. وطرحه على أكبر مؤتمر شعبي سياسي منظم في تاريخ مصر بدلاً من إصداره بقرار جمهوري مثل القوانين التي سبقته يعبر بذاته عن اتجاه ديموقراطي لا شك فيه. واكثر من كل هذا دلالة على ديموقراطية عبد الناصر ما دار في المؤتمر واللجنة التحضيرية من قبله من مناقشة ساهم فيها عبد الناصر بقسط وفير. وعلى قدر ما نعلم لم يحدث في تاريخ مصر ولا في تاريخ أي بلد آخر أن اهتم رئيس دولة وقائد بأن ينتخب الشعب ممثلين له ليعرض عليهم افكاره وليناقشوه فيها ، قبل أن تعلن على الوجه الذي جرت به المناقشات الصريحة في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية. كما لا يكاد يكون معقولاً أن ذلك الرئيس القائد الزعيم لا يستثني من عضوية المؤتمر أولئك الذين يعرف أن أفكاره تدينهم فيقبل تحدي اللقاء معهم في مؤتمر علني تدور المناقشة فيه تحت سمع وبصر الشعب فيجادلونه ويجادلهم ويدافع عن موقفه المعادي لهم . ذلك لأن الرأسماليين والليبراليين وسدنتهم من المثقفين والكتاب كانوا ممثلين على أوسع نطاق في المؤتمركما كانت البيروقراطية ممثلة على نطاق واسع .
كان المؤتمر الوطني يتكون من أعضاء منتخبين منهم 379 يمثلون الفلاحين و 210 يمثلون العمال و 150 يمثلون الرأسمالية و 293 يمثلون النقابات المهنية و 135 يمثلون الموظفين و 105 يمثلون أساتذة الجامعات والمعاهد العليا و 105 يمثلون الطلبة و23 سيدة بالاضافة إلى أعضاء اللجنة التحضيرية .
مفهوم مختلف للديموقراطية :
في حوار صريح دار يوم 7 أبريل 1963 خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية قال عبد الناصر رداً على سؤال عن ماهية الديموقراطية : ” لوكنت سألتنا يوم 23 يوليو ما هي الديموقراطية وما هي الحرية كنا أجنباك على هذا السؤال . بس النهاردة اجابتنا تختلف كلية عن اجابتنا يوم 23 يوليو و حصل خلاف بيننا بعد 23 يوليو على التفسير وصممنا على التفسير اللى موجود في المبادىء الستة وكان العمل هو طلاق الحرية البرجوازية. (قررنا إقامة انتخابات في فبراير . هذا في 23 يوليو وبعدين وجدنا لما جينا نبحث الاصلاح الزراعي اننا حانسلم البرلمان للاقطاعيين اللي هما رافضين الاصلاح الزراعي لأنهم هما اللي حينجحوا في البرلمان ، فغيرنا المفهوم وأعلنا فترة انتقال مدة 3 سنوات وعملنا دستور 1956. فكان يوم 23 يوليو لنا مفهوم .. النهاردة لنا مفهوم يختلف كلية عن مفهومنا يوم 23 يوليو ولكن هذا التغيير كان نتيجة التطبيق والممارسة “ .
ما هو هذا المفهوم المختلف كلية ؟ ؟ ..
لقد تضمنه الميثاق وصاغه في باب خاص منه وحدده بخمسة أبعاد متكاملة ننقلها مبوبة من الميثاق ذاته :
(1) ديموقراطية اشتراكية :
” إن الديموقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين إنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب “. ” إنه لا معنى للديموقراطية السياسية وللحرية في صورتها السياسية من غير الديموقراطية الاقتصادية أو الحرية في صورتها الاجتماعية “. ” إن حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش “. ” إن حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة وأصبحت خديعة مضللة للشعب “. ” إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديموقراطية الاجتماعية وإن المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توافرت له ضمانات ثلائة: أن يتحرر من الاستغلال في جميع صوره . أن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية . أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل في حياته “. بهذه الضمانات الثلاثة يملك المواطن حريته السياسية ويقدر أن يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي ترتضي حكمها .
(2) تحالف قوى الشعب العاملة :
أولأ ـ ” إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات . إن الديموقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب ، سلطة مجموع الشعب وسيادته. والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله وانكاره وإنما ينبغي أن يكون حله سلمياً في إطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفروق بين الطبقات“ .
ثانياً ـ ” إن الرجعية تتصادم مصالحها مع مصالح مجموع الشعب بحكم احتكارها لثروته ولهذا فإن سلمية الصراع الطبقي لا يمكن أن تتحقق إلا بتجريد الرجعية ـ أولأ وقبل كل شيء ـ من جميع أسلحتها”. ” إن تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب أن يسقط ” .
ثالثاً ـ ” لا بد أن ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطياً للتفاعل الديموقراطي بين قوى الشعب العاملة وهي : الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية، إن تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هو البديل الشرعي لتحالف الاقطاع ورأس المال المستغل وهو القادر على إحلال الديموقراطية السليمة محل الديموقراطية الرجعية ” ـ ” إن استبعاد الرجعية يسقط ديكتاتورية الطبقة الواحدة ويفتح الطريق أمام ديموقراطية جميع قوى الشعب الوطنية “ .
(3) تنظيم التحالف :
” إن الوحدة الوطنية التي يصنعها التحالف هذه القوف الممثلة للشعب، هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربى ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديموقراطية السليمة “. ” إن التنظيمات الشعبية السياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر لا بد لها أن تمثل ـ بحق وبعدل ـ القوى المكونة للأغلبية وهي القوى التي طال استغلالها والتي هي صاحبة مصلحة عميقة في الثورة كما أنها بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة بفعل معاناتها للحرمان . وان كل ذلك- فضلاً عما فيه من حق وعدل باعتباره تمثيلاً للأغلبية ، ضمان أكيد لقوة الدفع الثوري نابعة من مصادرها الطبيعية الأصلية . ومن هنا فإن الدستور الجديد يجب أن يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع مستوياتها بما فيها المجالس النيابية باعتبارهم أغلبية الشعب كما أنها الأغلبية التي طال حرمانها من حقها الأساسي في صنع مستقبلها وتوجيهه ” .
(4) قيادة التحالف :
أولأ ـ ” إن الحاجة ماسة إلى خلق جهاز سياسي جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكي العربى يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويبلور الحوافز الثورية للجماهير ويتحسس احتياجاتها ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات ” .
ثانياً ـ ” إن جماعية القيادة ليست عاصماً من جموح الفرد فحسب . وإنما هي تأكيد للديموقراطية على أعلى المستويات ”.
(5) الديموقراطية الشعبية :
” إن سلطة المجالس الشعبية المنتخبة يجب أن تتأكد باستمرار فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية فذلك هو الوضع الطبيعي الذي ينظم سيادة الشعب .. كذلك فإن الحكم المحلي يجب أن ينقل باستمرار وبالحاح سلطة الدولة تدريجياً إلى أيدي السلطات الشعبية ” .
خلاصة :
خلاصة ” النظرية ” الديموقراطية التي جاءت في الميثاق هي أن الديموقراطية السليمة تتكون من عنصرين : تحرر وممارسة . وإن غايتها أن تنقل سلطة الدولة إلى السلطة الشعبية . أما عن التحرر فهو لا يتحقق إلا بتحرير الفرد من القهر الاقتصادي وهذا يعني أن الاشتراكية عنصر أساسي وأولي لامكان قيام ديموقراطية سليمة ومن هنا فلا بد من اسقاط الطبقة الرجعية المتحكمة اقتصادياً في أفراد الشعب . غير أن إسقاط الطبقة الرجعية لا يعني إخضاع الشعب لسيطرة طبقة أخرى ولو باسم الاشتراكية . الميثاق يعني هنا على وجه التحديد رفض النظرية الماركسية في ” ديكتاتورية البروليتاريا ” . إنه لا يتصور إمكان قيام ديموقراطية تحت سيطرة طبقة ، أية طبقة .
بعد التحرر من القهر الاقتصادي والسيطرة الطبقية تبقى ” الحرية كل الحرية والديموقراطية كل الديموقراطية للشعب ” ولكن هذا الشعب مكوّن من قوى اجتماعية (طبقات) لها مصلحة مشتركة في الاشتراكية ولكن تختلف فيما بينها فيما عدا ذلك مصلحة ومقدرة وتفصل فيما بينها فروق اقتصادية واجتماعية وثقافية . إن هذه الفروق تجعل الصراع بينها حتمياً . والصراع إما أن يحل سلمياً وإما أن يحل بالعنف. الحل بالعنف يؤدي بالضرورة إلى سيطرة الطبقة التي تنتصر وهذا يعني العودة إلى ديكتاتورية الطبقة الواحدة المرفوضة ديموقراطياً . كما أنه يؤدي ـ من ناحية ثانية ـ إلى تمزيق وإضعاف القوى ذات المصلحة الموحدة في الاشتراكية وهو ما يهدد بهزيمتها في صراعها المشترك ضد الرجعية . إذن ـ أولاً ـ مع الاعتر اف بالفروق بين الطبقات الشعبية لا بد من حل المتناقضات فيما بينها سلمياً وذلك بتذويب الفروق الاقتصادية والثقافية التي تمثل أسباب الصراع الاجتماعي فيما بينها . وثانياً لا بد لتلك الطبقات أن تتفاعل وتمارس حرياتها السياسية في نطاق موقفها الموحد من عدوها المشترك أي أن يقيموا فيما بينهم حلفاً أو جبهة .
غير أنه نتيجة ظروف تاريخية طال فيها استغلال الفلاحين والعمال كما طال حرمانهم من الممارسة الديموقراطية ، وتعبيراً عن ظروف واقعية ـ في مصر ـ هي أنهم يمثلون الأغلبية الساحقة للشعب فلا بد من ضمان 50% على الأقل من مقاعد المنظمات المنتخبة للفلاحين والعمال . إن هذا لا يعني أن الـ 50% هذه تمثل العمال والفلاحين أو أنها تمثل أغلبيتهم العددية الفعلية . لا . هذا خطأ جسيم في فهم “النظرية” الديموقراطية التي جاء بها الميثاق . فلو كانت المسألة مسألة تمثيل بالمفهوم النيابي لكان حتماً ألا يشترك في انتخاب ممثلي العمال والفلاحين إلا العمال والفلاحون . ولكان حتماً ألا يمثل ممثلو العمال والفلاحين إلا العمال والفلاحين . ولكان حتماً أن يفرق الميثاق بين العمال والفلاحين في توزيع الـ 50% من المقاعد المضمونة . والأمركله على غير هذا . فالـ 50% من المقاعد مضمونة لممثلين من العمال أو من الفلاحين يستويان ينتخبهم كل الناخبين عمالاً وفلاحين أو غير عمال وفلاحين ، وفي مقاعدهم لا يقصرون تمثيلهم على العمال والفلاحين بل يعتبرون ممثلين للشعب كله ولا يحتكرون لأنفسهم تمثيل العمال والفلاحين بل يستطيع من شاء أن يمثل من شاء أو أم من يدعي تمثيل من شاء بدون تفرقة أو حساب . إن نسبة الـ 50% من المقاعد التي ضمنها الميثاق للعمال والفلاحين هي امتداد لذات الفكرة التي تعتبر محورية في موقف عبد الناصر من مشكلة الديموقراطية في مصر. فكرة إخراج المتخلفين ديموقراطياً من سلبيتهم وتحريرهم من الخوف من مخاطر المنافسة الانتخابية وإلزامهم باستعمال حق الترشيح والانتخاب بقصد تدريب الفلاحين والعمال وتشجيعهم على الممارسة الديموقراطية بضمان خمسين في المائة من المقاعد لهم ، لا في مجلس الأمة النيابى في الاختصاصات التشريعية فقط بل وفي ” كل التنظيمات الشعبية والسياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر “. هذه الفقرة الأخيرة المنقولة عن الميثاق تؤكد هذا التفسير وتباعد بين ضمان خمسين في المائة من المقاعد وبين فكرة التمثيل النيابي .
ولكن لما كان كل تحالف لا بد له من قيادة ، وكانت الديموقراطية كما طرحها الميثاق ، لا تسمح بسيطرة طبقة، وبالتالي لا يجوز أن تترك قيادة التحالف لاحدى الطبقات الممثلة فيه فقد رأى الميثاق أن تكون قيادة التحالف لحزب يتكون من العناصر القيادية التي تثبت صلاحيتها للقيادة من خلال الممارسة بصرف النظر عن انتمائها إلى أي طبقة من الطبقات المتحالفة .
شائعات عن الميثاق :
لا نستطيع إلا أن نسميها شائعات لأن أياً منها لا يرقى إلى درجة الرأي المدروس . ولأن كلاً منها قد قيلت أو أطلقت لتأييد أو نفي موقف سابق من الميثاق وعبد الناصر ، أي إنها في رأينا أقوال ” مغرضة ” وكما تكون الشائعات مؤيدة ومعارضة أو مثيرة للبلبلة كذلك ما أشيع عن الميثاق . ونترك القارىء أن يحدد نوع الشائعة وموقف صاحبها من الميثاق وصاحبه .
النظرية المتكاملة :
قيل أولأ أن الرؤية الديموقراطية التي جاءت في الميثاق تمثل نظرية مبدئية متكاملة في الديموقراطية. تؤخذ كلها أو ترفض كلها ولكن لا تتجزأ . وإن كل مقولة من مقولاتها مبدأ ديموقراطي فلا هو خطة استراتيجية ولا هي موقف تكتيكي وبالتالي فهي ليست مرتبطة أو متوقفة لا على المرحلة التي صدر فيها الميثاق ولا على وجود عبد الناصر في موقع القيادة من سلطة الدولة .
وقد كان من شأن هذه الشائعة أن عجز كثير من جماهير عبد الناصر عن معرفة الموقف الديموقراطي الصحيح بعد أن تغيرت الظروف تغيراً جذرياً وغاب المعلم صاحب الميثاق .
والو اقع الذي نراه أن الرؤية الديموقراطية التي تضمنها الميثاق قد تضمنت ما يتصل بالمبدأ الديموقراطي وما يتصل بالتطبيق . وأن المبدأ ثابت ـ نسبياً ـ بحيث يمكن اعتباره مميزاً للموقف الناصري في كل الظروف . أما ما يتصل بالتطبيق فهو على وجه اليقين مرتبط بظروف التطبيق التي كانت متاحة عند إصداره وعلى وجه خاص يتولى صاحب الميثاق نفسه ـ جمال عبد الناصر ـ السلطة في الدولة . ولعله من المناسب أن نذكر أن من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها بعض مؤيدي عبد الناصر وبعض معارضبة كان جهل أو تجاهل العنصر المضاف إلى تجربة عبد الناصر من شخصية عبد الناصر كما لو كان عبد الناصر شخصاً عادياً أو حاكماً عادياً وهو غير صحيح . ان كل أفكار ومواقف عبد الناصر تكسب دلالة مختلفة حين تصدر أو تنسب إلى غيره لأنها تفقد الشخصية التاريخية و ” ثقة ” الجماهير العربية في ضمانة أدائها . فقد كان عبد الناصر يمثل لديها ضماناً محدداً لمعاني كلماته واتجاه مواقفه وهذا يعني- في رأينا- إنه إذا كان الميثاق قد أستمد في حياة صاحبه نوعاً من الوحدة الفكرية سمحت بالحديث عنه كنظرية فإن مصدر تلك الوحدة كان وحدة المفكر والمنفذ في شخص عبد الناصر. أما بعد غياب عبد الناصر فقد أصبح لازماً التفرقة بين ما يعتبر مبدأ ديموقراطياً وما يعتبر استراتيجية أو تكتيكاً تطبيقياً من بين أحكام الميثاق . على الأقل حتى لا يتوهم أحد أنه قادر على أن يكون عبد الناصر الثاني .. بدون التاريخ الذي صنع عبد الناصر.
على أي حال فقد تضمن الميثاق المبدأ الديموقراطي الثابت نسبياً الملزم دائماً والذي يمثل الزامه أو عدم التزامه الحد الفاصل بين الناصري وغير الناصري . ذلك هو ” وحدة الديموقراطية والاشتراكية ” لا ديموقراطية بدون اشتراكية ولا اشتراكية بدون ديموقراطية .
أما الباقي فهو أسلوب الممارسة الذي رأى الميثاق أنه مناسب للواقع المصري حين اصداره .
فالعزل والاستبعاد وإسقاط التحالف الرجعي أسلوب لمواجهة أعداء الثورة الاشتراكية . فهو يقوم على أن ثمة ثورة اشتراكية في التطبيق وأن ثمة قوى رجعية تناهض تلك الثورة . وبالتالي فإنه أسلوب لا محل لتطبيقه إذا لم تكن ثورة اشتراكية. وهو يتسع أو يضيق تبعاً لنمو أو انكماش القوى المناهضة للثورة الاشتراكية إذا كانت موجودة . وفي عام 1961 وما بعده لم تقابل إجراءات التحول الاشتراكي بمقاومة ظاهرة جديدة فاكتفى الميثاق بتجريد الرجعية من أسلحتها عن طريق القانون ( تحديد الملكية ـ الحراسة ـ العزل ـ …..) وهذأ ليس مبدأ ديموقراطياً لأنه يفترض أن الاشتراكيين في السلطة يستطيعون تجريد الرجعية من أسلحتها عن طريق التشريع . ولا يكون الاشتراكيون في السلطة دائماً . كما أنه يفترض أن الرجعية لن تقاوم فيكتفى بتجريدها من أسلحتها . و لكن الرجعية قد تقاوم التحول الاشتراكي وتصفيه بضراوة خاصة إذا وصلت إلى أكثر الأسلحة مقدرة على العنف : السلطة . أي أن اسلوب التعامل مع الرجعية يتوقف في النهاية على موقف الرجعية ذاتها ونوع الأسلحة التي تستعملها وهذا ليس موقفاً قابلاً للتحديد بعيداً عن الظروف الواقعية فهو ليس موقفاً مبدئياً . ولقد تصمور عبد الناصر نفسه امكانيات أن تنحرف إحدى الطبقات عن الخطأ الاشتراكي فقال : ” إن علينا أن نقاوم مثل هذا الانحراف ونقومه ونثور عليه إذا اقتضى الأمر ” .
ثم نأتي لفكرة التحالف . وهي ـ أيضاً ـ ليست مبدأ ديموقراطياً بل هي أسلوب ديموقراطي تواجه به قوى مختلفة أصلاً عدواً مشتركاً في معركة مشتركة ، فتؤجل صراعاتها إلى أن تنتصر . فهي دائماً مؤقتة ومرحلية إلى أن تنتصر الجبهة في معركتها المشتركة . وهي دائماً متوقفة على الالتزام المتبادل بين أطرافها بالتحالف حتى النصر . فإذا انتهت معركتها عادت إلى مواقفها المختلفة أو تحالفت بمرحلة أخرى على غاية أخرى . اما إذا نقض أحد الأطراف الحلف أو حاول أن ” يبلع ” أو يصفي أو يسيطر على حلفائه من خلال الجبهة فلا بد من أن تنفض الجبهة أو الحلف . وكل هذه بديهيات يعرفها علم السياسة ويعرف أنها تكتيكية أو استراتيجية ـ تبعاً لموضوع التحالف ـ ولكنها ليست مبدئية ، بمعنى أن التحالف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لتحقيق الغاية التي تم التحالف على تحقيقها. عنصر الغاية هذا يجعل الموقف من التحالف مختلفاً تبعاً للموقف من غايته . فالرجعيون قد يتحالفون كما قد يتحالف التقدميون . وكما تتحالف الدول على الدفاع تتحالف الدول على العدوان . ولما كانت الغاية مجرد نوايا معلنة ، وكانت النوايا لا يعتد بها في السياسة كثيراً فإن الضمان الحقيقي هو في قيادة التحالف . في معارك التحرر ـ مثلاً ـ قد يضم التحالف جماعات ومجموعات وأحزاباً وقوى مختلفة ، وقد يقبل المتطوعون حى بدون سؤال عن بواعثهم ويكفي أن تكون القيادة للوطنيين التحرريين الذين لا يسلمون ولا يساومون ولا يستسلمون . كذلك الأمر إذا كان التحالف على غاية الاشتراكية . ففي مرحلة معينة قد يضم التحالف قوى كثيرة قد يكون من بينها صغار الرأسماليين أو حتى المتوسطين منهم إذا كانت المرحلة مرحلة تنمية بالدرجة الأولى ، ولكن يبقى الضمان النهائي لعدم انحراف التحالف أن تكون قيادته للاشتراكيين . ثم نأتي إلى ” تذويب الفوارق بين الطبقات سلمياً ” . وهو أيضاً ليس مبدأ ديموقراطياً بل هو أسلوب ديموقراطي مناسب لظروف خاصة تتحقق فيها كل شروطه. وأول شروطه أن تكون سلطة الدولة في أيدي الاشتراكيين لأنهم وحدهم الذين يستهدفون تذويب الفروق بين الطبقات . وهي حينئذ تتم سلمياً حتى بدون نص .
أولاً ، لأنه لا توجد سلطة في دولة في العالم أياً كان نظامها تقبل حل الناس تناقضاتهم بالعنف .
ثانياً ، لأن الوسيلة السلمية لتذويب الفروق بين الطبقات ” سلمياً ” هو التشريع وهو ما يعني أن الاشتراكيين في السلطة يستخدمون الدولة في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية بحيث يؤدي هذا كله ـ معاً ـ إلى المساواة بين البشر وإذابة الفروق بين الطبقات سلمياً . هذا الشرط لا يتحقق دائماً . لأن الرأسمالية ـ مثلاً ـ ستقوم على أساس أن الفروق بين الطبقات أمر طبيعي ومفيد ولا يجوز التدخل لإذابتها أو إزالتها . وبالتالي حين يستولي الرأسماليون على السلطة لا يكون ثمة مجال لتذويب الفروق بين الطبقات سلميا ولقد اعترف صاحب الميثاق جمال عبد الناصر بهذا قبل أن يصدر الميثاق بعامين حين قال في 9 يوليو 1960: ” في محاولة القلة التي لا تملك الاحتفاظ بما تملكه ومحاولة الكثرة التي لا تملك الفرصة المتكافئة لكي تستعيد حقوقها يصبح الصراع الدموي أمراً محتماً باعتباره الطريق الوحيد للتغيير “. ولعل هذا ما يفسر اختياره الاشتراكية غاية والتحالف أسلوباً ليجنب مصر الصراع الدموي . ومن ناحية أخرى فإن تذويب الفروق بين الطبقات سلمياً يعني رفض نظرية ” ديكتاتورية البروليتاريا ” التي تقوم على أساس من ” تصفية ” البورجوازية ثورياً . وذلك أيضاً يتفق مع الظروف الموضوعية في مصر ـ وكافة بلاد العالم النامي ـ حيث تكون الطبقة العاملة إما معدومة وأقلية وبالتالي تكون عاجزة عن إنجاز الاشتراكية ديموقراطياً. وأخيرآ فإن ضمان الـ 50% للعمال والفلاحين ليس مبدأ ديموقراطياً و لكنه أسلوب ديموقراطي لمعالجة التخلف الديموقراطي الذي أصاب العمال والفلاحين نتيجة لظروف تاريخية سابقة- في مصر- حملتهم على العزلة والانعزال وأخافهم من خوض المعارك السياسية والانتخابية التي لا يتقنون فنونها ولا يطيقون تكلفتها وهو ظرف طارىء لا يقيد العمال والفلاحين فيما لواختاروا لأنفسهم ساحة المعارك السياسية ليحصلوا بأنفسهم على ما يستحقون .
الميثاق الخالد :
من الشائعات التي قيلت عن الميثاق أيضاً أنه يتضمن نظرية دائمة على الأقل دوام النظريات النسبي. وخطورة هذه الشائعة أنها تشل مقدرة جماهير عبد الناصر على الإبداع والتطوير وتجاوز الميثاق ذاته . أي أنها شائعة تحاول أن تكرر الخطأ التاريخي : ” قفل باب الاجتهاد “. لقد تولى عبد الناصر نفسه تكذيب هذه الشاثعة المعروفة حين قال أمام المؤتمر الوطني الذي أصدر الميثاق : ” إن الميثاق للجيل … وأنا كنت حريصاً على ألا أحدد حاجة فيه لأكثر من 8 سنين يمكن حددت سنة 1970 أو 1971 لأنه جايز بيجي ناس بعد كده عندهم تطور فكري تقدمي أكثر من هذا الميثاق أو يحبوا يضيفوا عليه حاجات أو يعدلوه “ .
التأثر بالماركسية :
الشائعة الثالثة أطلقتها أطراف متناقضة الفكر والمواقف . أراد طرف أن يجحد أو ينكر الاتجاه الاشتراكي الذي عبر عنه الميثاق فقال إن عبد الناصر قد صاغه تحت تأثير الماركسيين وخاصة بعض الضباط منهم أو تحت تأثير الفكر الماركسي . وأراد طرف اخر أن يجعل من نفسه شريكاً فعالاً في صياغة أفكار عبد الناصر فأكد أو روّج الشائعة فقال ” إن عبد الناصر قد صاغ الميثاق متأثراً بالماركسيين أو بالفكر الماركسي“ .
أما عن تأثير الماركسيين فيكفي لدحض هذه الشاثعة أن كل الماركسيين في مصر كانوا في السجون خلال المدة من 1959إلى 1964. كان ذلك امتداداً للصراع الذي ثار في العراق بين القوى القومية والشيوعيين . وكان عبد الناصرـ القائد القومي طرفاً أصيلاً في ذلك الصراع منحازاً إلى القوى القومية كما كان الماركسيون في مصر طرفاً اصيلاً في ذلك الصراع منحازين الى الشيوعيين في العراق . وكان ما حدث للماركسيين في القاهرة رداً على ما حدث للقوميين في بغداد . ثم امتدت المعركة إلى خارج الوطن العربي . وما زال الناس يذكرون الصدام الاعلامي العلني بين الرئيس عبد الناصر والسيد نيكيتا خروتشوف الزعيم السوفيتي الراحل .
أما عن التأثر بالفكر الماركسي فهو ما لايستطيع أحد انكاره إلا إذا زعم بأن عبد الناصركان مغلق الفكر عن التراث الفكري الانساني بما فيه الماركسية . وهو غير صحيح . وإن كان من المؤكد أن عبد الناصر كان منتبهاً إلى التطبيق الماركسي أكثر من اهتمامه بالنظريات الماركسية . قال زكريا محي الدين : ” لم يكن عبد الناصر فيلسوفاً نظرياً بل كان ثورياً جامحاً “. المهم أن عبد الناصر لا بد أن يكون قد تأثر بالفكر الماركسي وعلى وجه خاص بالتطبيق الماركسي ولكن السؤال هو : على أي وجه تأثر به ؟ …هذا هو السؤال .
ونحن نعتقد أن تأثره به كان معارضة له وخاصة في فكرة التحالف أو تحالف قوى الشعب العاملة أو صيغة الاتحاد الأشتراكي العربي . ويبين هذا من أن الجمع بين المبدأ الاشتراكي وصيغة التحالف كان قاعدة مطردة في نظام الحكم التي وضعت في الدول المتحولة اشتراكياً بعد الحرب الأوروبية الثانية فيما عدا الاتحاد السوفيتي . كان مطبقاً في بلغاريا (دستور 1947) وفي رومانيا (دستور 1948) وفي بولندا (دستور 1948) وفي تشيكوسلوفا كيا (دستور 1948) وفي يوغوسلافيا (دستور 1946) ذلك لأن نظام الحكم في كل تلك الدول المسماة بالديموقراطيات الشعبية كان قائماً على دعامتين :
الأولى : السيادة الشعبية بعد عزل (أو القضاء على) أعداء النظام الاشتراكي .
الثانية : التحالف بين قوى ساهمت كلها في معارك التحررمن الاحتلال النازي .
بالنسبة إلى الدعامة الأولى نجد أن فيها جميعاً ينتخب الشعب مجلساً شعبياً هو السلطة الوحيدة التي تنبع منها بقية السلطات . هو الذي يختار رئيس الدولة والحكومة ويصدر القوانين التي يطبقها القضاء. ولا يوجد هناك ما يسمى الفصل بين السلطات بل تقسيماً للعمل بين أجهزة متخصصة تستمد كل منها صلاحياتها من مجلس الشعب المنتخب . ولكن لما كان هذا المجلس منتخباً لمدة محددة فإن الشعب لا يجوز أن يبقى غائباً فيما بين فترات الانتخاب بل يبقى بصفة دائمة منظماً في لجان شعبية تضم كل أفراد الشعب وتمارس سلطات محلية وسياسية. وفي يوغوسلافيا منحت تلك اللجان الشعبية ما يقرب من الاستقلال الذاتي اقتصادياً وسياسياً (نظام التسييرالذاتي) . فالشعب في تلك النظم ، إذن ، يمارس سلطته على مستويين : مستوى مباشر في اللجان الشعبية ومستوى نيابي في مجلس الشعب .
هنا تأتي الدعامة الثانية، وهي القوى المحركة والموجهة والقائدة للشعب في مستوى الممارسة المباشرة . أي التي تنشط في تثقيف وتوجيه وصياغة الرأي العام في اللجان الشعبية . هذه القوى عبارة عن تحالف محوره وقيادته للحزب الشيوعي . في المجر يضم التحالف حزب العمال الاشتراكي والمستقلين وأحزاب المعارضة القديمة وفي تشيكوسلوفاكيا يضم الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي التشيكوسلوفاكي وحزب الحرية السلافي والجبهة الوطنية التشيكوسلوفاكية . وفي بلغاريا يضم التحالف الاتحاد الشعبي وجبهة الوطن ومجموعات أخرى . وفي بولندا يضم حزب ” الفلاحين و الحزب الديموقراطي وجماعة ” زراك ” الكاثوليكية .
ونلاحظ في كل هذه الفكرة الأساسية . وهي أنه لما كان الشعب لا يستطيع أن يمارس سيادته بنفسه (الديموقراطية المباشرة) فإن هيئة منتخبة تنوب عنه (تمثيل نيابي) . ولكن لتأمين الديموقراطية ضد الاستبداد النيابي ، يجب أن يبقى الشعب كله ! في حالة انعقاد دائم في لجان شعبية (اللجان الشعبية) . ولما كان الشعب كله ليس في هذه المرحلة من التاريخ متقدماً ديموقراطياً لا في الوعي ولا في الممارسة، فإن القوى الواعية بالمبادىء وكيفية تطبيقها (الأحزاب) يجب أن تبقى أيضاً في حالة نشاط دائم في داخل اللجان الشعبية وخارجها تثير المسائل وتناقشها وتدير حولها الحوار وتحاول أن تقنع من لا يقتنع . فإذا تعددت القوى الواعية المنظمة وكانت مختلفة في أية مسالة ما عدا مبدأ النظام الاشتراكي، فإنها تتحالف معآ لتؤدي بين الجماهير دوراً تثقيفياً وقيادياً واحداً ( في جبهة ) .
أخذ وما يزال يؤخذ على هذه النظم المسماة ديموقراطيات شعبية أنها بالرغم من مظهرها الديموقراطي قائمة على فرض مفروض سابق على النظام ذاته ، هو قيادة الحزب الشيوعي للقوى المتحالفة ثم سيادة الطبقة العاملة على باقي الطبقات .
الشرط الأول مصدر تاريخي فقد تولت الأحزاب الشيوعية في تلك الدول السلطة على أثر التحرير بمساعدة القوات السوفيتية. فاقامت نظمها الديموقراطية على الوجه الذي يحتفظ لها بالسلطة أبداً .
الشرط الثاني مصدره فكري . فالأحزاب الشيوعية تلتزم النظرية الماركسية . والنظرية الماركسية في الدولة إنها أداة قهر طبقي وأنها (عندما تؤول إلى الطبقة العاملة والبروليتاريا) تتحول إلى ديكتاتورية البروليتاريا .
لما كانت الاشتراكية نظاماً ديموقراطياً في الأصل بما يتضمنه من تحرر من القهر الاقتصادي والمساواة في العمل وفي عائد الانتاج فإن المساواة ـ التي هي جوهر النظام الاشتراكي ـ لا تحتمل الاستبداد سواء كان فردياً أو طبقياً . وما زال هذا الجوهر الديموقراطي للنظام الاشتراكي يدفع عجلة التطور في كل البلاد الاشتراكية مطهراً إياها من كل ما يتعارض معه من الموروثات التقليدية فكراً التاريخية ممارسة .
ولسنا نشك في ان عبد الناص ، صاحب الميثاق قد عرف كل هذا ووعاه وهو يبحث عن طريقه الى مشكلة الديموقراطية في مصر . كان يبحث عن صيغة لهذه الديموقراطية الشعبية تحقق مثلها ضمانة ضد مخاطر الاستبداد الكامنة في النظام النيابي ، وتخلو من استبداد الطبقة الذي تقره وتعترف به النظم في تلك البلاد . فأراد ان يستبدل بتحالف الاحزاب تحالف القوى العاملة . وان تحل محل قيادة الحزب الشيوعي للتحالف قيادة حزب اشتراكي طليعي ينتقي أفراده من بين قوى التحالف جميعاً .
وهكذا نرى ان عبد الناصر، مع اطلاعه وتأثره بالفكر الماركسي وتطبيقاته قد وقف منه في الميثاق موقفا نقديا حاول به ان يحرر المضمون الاشتراكي من ” الديكتاتورية “… وان يجسد الوحدة الراسخة في ذهنه بين الاشتراكية والديموقراطية .
شائعة غريبة :
أغرب الشائعات التي قيلت عن الميثاق وعبد الناصر ان عبد الناصر قد وضع الميثاق لامتصاص موجة الغضب الشعبي التي سببها انفصال سورية . ان قصد التشهير والاتهام بالانتهازية هنا لا يمكن استبعاده بسهولة البديل الوحيد المحتمل هو التسرع في القول . ذلك لأنه ليس وراء هذه الشائعة شيء يقررها من الواقع . والواقع أن عبد الناصر كان يطبق الميثاق منذ 1961 وكان يبشر ببعض الافكار التي جاءت به منذ 1959 قبل الانفصال بمدة طويلة. وان الميثاق لم يكن صياغة لافكار نشأت طفرة كالوحي ولكن خلاصات دروس طويلة ومعاناة خلال التجربة التي بدأت في عام 1952. ولقد كان عبد الناصر يستطيع ان يصدر الميثاق قبل اصدار قوانين يوليو 1961 التي لم تكن الا تطبيقا مبكرا له . ولكنه لم يفعل لأنه أراد له ان يطرح على المناقشة قبل اصداره . ولقد نوقش الميثاق قبل اصداره في أكبرتجمع ديموقراطي حدث في تاريخ مصر . اما انه صدر فعلاً ـ أي رسمياً ـ بعد ان كان الانفصال قد وقع فهذا لا يعني انه اصطنع اصطناعا انتهازيا لامتصاص غضب الجماهير من الانفصال … هذا غير صحيح .
وبعد :
اياً ما كان أمر الشائعات ففد صدر الميثاق وثيقة فكرية. انتقل بها عبد الناصر خطوة كبيرة بعيدا عن المنهج التجريبي ، وأصبح ” الميثاق ” كله موضوع التجربة ابتداء من تاريخ صدوره ..
فالى أي مدى حل عبد الناصر مشكلة الديموقراطية في مصر بعد صدور الميثاق . سنعرف الجواب فيما يلي . على ان نتذكر الان ان ليست العبرة في شأن الديموقراطية وغير الديموقراطية، بما يوضع من مواثيق او ينشر من أفكار، ولكن العبرة بما يصادق ، أو يصيب ، تلك الافكار في التطبيق .
14 ـ النجاح .. والاخفاق :
التطبيق :
قلنا من قبل ان بعض الاحكام التي جاءت في الميثاق كانت قد نفذت قبل اصداره سواء بالقوانين والقرارات التي صدرت عام 1961 أو بقواعد العزل والابعاد التي صدرت بعد ذلك . فلما ان صدر الميثاق بديء في تنفيذ بقية أحكامه. وكان أولها انشاء الاتحاد الاشتراكي العربي .
كان المؤتمر الوطني للقوى الشعبية قد أصدر قرارا بتفويض الرئيس جمال عبد الناصر في تشكيل لجنة تنفيذية عليا مؤقتة تقوم باتخاذ القرارات اللازمة لتشكيل تنظيمات الاتحاد . فأصدر قراراً بتشكيل الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي من : أنور السادات ، حسن ابراهيم ، حسين الشافعى، كمال الدين حسين ، علي صبري ، الدكتور نور الدين طراف ، المهندس أحمد عبدة الشرباصي ، كمال الدين رفعت ، عباس رضوان ، محمد عبد القادر حاتم ، محمد طلعت خيري ، أنور سلامة .
وصدر القرار رقم 1 لسنة 1962 بقانون الاتحاد الاشتراكي العربي . وعلى أساسه تمت انتخابات الوحدات الاساسية للاتحاد الاشتراكي العربي . ثم توالت الانتخابات من 1962 ـ 1964 انتخابات اللجان النقابية. انتخابات مجالس ممثلي العمال في مجالس الادارات . انتخابات الجمعيات التعاونية. انتخابات مجالس النقابات المهنية . انتخابات مجلس الامة .. الى آخره .
وفي 27 سبتمبر 1962 صدر اعلان دستور بتنفيذ ما جاء في الميثاق عن القيادة الجماعية فتشكل مجلس رئاسة من : جمال عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكم عامر وعلي صبري والدكتور نور الدين طراف والمهـندس أحمد عبده الشرباصي وكمال الدين رفعت .
نلاحظ هنا ملحوظة على جانب كبير من الاهمية. ونتذكرها لأننا سنعود اليها . تلك هي ان تسعة من أعضاء الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي كانوا أعضاء في مجالس الرئاسة .
وفي 23 مارس 1964 صدر دستور 1964 مقننا للثورة . وأسمي (الدستور المؤقت) إلى أن يتم مجلس الامة الجديد وضح الدستور الدائم . بدأ الدستور المؤقت أحكامه بالنص على ” ان الجمهورية العربية المتحدة دولة ديموقراطية اشتراكية تقوم على تحالف قوى الشعب العاملة والشعب المصري جزء من الأمة العربية ” . اما عن الاتحاد الاشتراكي العربي فقد نص في المادة الثالثة . ” ان الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف قوى الشعب الممثلة للشعب العامل ، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية هي التي تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديموقراطية السليمة “. وأصبحت عضوية الاتحاد الاشتراكي لازمة فيمن يرشح لمجلس الامة ( القانون رقم 158 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 47 لسنة 1964 ) ، ولعضوية النقابات المهنية (القانون رقم 31 لسنة 1966 ) ولمجالس ادارة التشكيلات النقابية ( قرار وزير العدل رقم 35 لسنة 1964) والجمعيات التعاونية ( قانون رقم 87 لسنة 1964 ) ، والعمد والمشايخ ( قانون رقم 59 لسنة 1964) ومجالس الادارة المحلية (كان القانون 124 لسنة 1960 يشترط عضوية الاتحاد القومي فاعتبروا ان الاتحاد الاشتراكي العربي حل محل الاتحاد القومي واشترطت عضويته بدون تعديل القانون) . وانشىء التنظيم السياسي القائد للتحالف “ سرا ” عام 1963.
النجاح :
على مستوى الحرية الاجتماعية (العنصر الاول للديموقراطية) حققت الثورة نجاحا لا شك فيه . فلاول مرة في مصر وضعت الثورة خطة اقتصادية للتنمية ونفذتها الى حد كبير هى الخطة الخمسية الأولى ( 60 / 1961 ـ 64 / 1965 ) ، التي كان نكوص الرأسمالية المصرية عن تنفيذها سبباً مباشراً في ثورة 1961 كما ذكرنا . كان هدف الخطة زيادة الدخل القومي في نهايتها بنسبة 40% مما كان عليه في سنة الاساس وقدرت الاستثمارات اللازمة بحوالي 1576.9 مليون جنيه . وقد بلغت الاستثمارات المنفذة خلال مدة الخطة مبلغ 1513 مليون جنيه أي بنسبة 95.9% من الاستثمار المتوقع ، وبمتوسط سنوي قدره 302.6 مليون وهو يعادل 19% من الدخل القومي في المتوسط خلال سنوات الخطة . وقد ساهمت المدخرات القومية في تمويل هذه الاستثمارات بمبلغ 1095.6 مليون جنيه أي بنسبة 72.4% وبمتوسط سنوي قدره 219.1 مليون جنيه وهو ما يساوي 13.2% من الدخل القومي في المتوسط ، بينما ساهمت القروض الاجنبية بمبلغ 417.4 مليون جنيه فقط أي بنسبة 27.6% وبلغت الزيادة المتحققة في الدخل القومي في نهاية الخطة 37.1% مما كان عليه في سنة الاساس مقابل الزيادة المتوقعة والمقدرة في الخطة بنسبة 40% وبلغ متوسط معدل النمو السنوي 6.5% أي تجاوز معدل النمو الاقتصادي في مصر- لاول مرة ـ معدل زيادة السكان الذي بلغ خلال سنوات الخطة 2.8%. في المتوسط وكان ذلك مبشراً بحل مشكلة الفقر. وانطلق الانتاج الصناعي من مصر الزراعية !! بعد ذلك ، وفي أشد الظروف صعوبة ( الهزيمة والحرب من 1077.618 مليون جنيه عام 66 / 67 الى 1169.419 مليون عام 67 / 1968 الى 1322.968 مليون جنيه عام 68 / 69 الى 1421.987 مليون جنيه عام 69 / 1970 واصبحت مصر الزراعية دولة مصدرة للمصنوعات من 82.238 مليون عام 1966 الى 134.066 مليون عام 1970 كانت تلك هي الفترة الرائعة ، حين كان كل ما نستعمله ونأكله ونشربه ونركبه يحمل ذلك العنوانت العظيم ( صنع في ج . ع . م ) .
وانعكس كل هذا على الشعب فزاد نصيب الفرد من الدخل القومي ما بين 60 / 1965 بنسبة 28 % وجذبت فرص العمل الجديدة اليها الايدي القومية التي لم تكن تجد فرصة عمل فزاد عدد العاملين مليونا ونصف تقريبا في خمس سنوات من (6000600 عام 1960 الى 7333400 عام 1966 بزيادة 22.1% أغلبهم كانوا رجالا راكدين في مستنقعات الريف ، فأصبحوا عمالا نشيطين في المدن . بما تحمله المدن الى البشر من ثقافة وعلم وتقدم ونشاط سياسي أيضا (كان سكان المدن عام 1960 يمثلون 37% من عدد المواطنين فأصبحوا يمثلون 40% عام 1966 ) . ولم تكن تلك الهجرة لأن الارض الطيبة قد انكمشت بالعكس حول السد العالي العظيم 836 ألف فدان من ري الحياض الى الري الدائم وأضاف اليها 850 ألف فدان جديدة . ولم تنتقص تلك الهجرة من الانتاج الزراعي بالعكس زاد في عامين فقط من 68 الى 1969 بنسبة 15 % . وزاد المتعلمون بنسبة 132 % عام 1966 عنهم في عام 1954 فبلغوا 4.502 مليوناً ، وفي كل شهر تبنى مدرسة فبلغت نسبة الاستيعاب في مرحلة التعليم الالزامي 69.7% وفتحت أبواب العلم لأبناء الشعب بدون مقابل فاستقبلت الجامعات أبناء العمال والفلاحين والكادحين ، وانتقلت اليهم الجامعات في الاقاليم وبدأ تكوين أغلى ثروات هذا الشعب : ” البشر المنتجون ” . وزادت البعثات للتخصص العلمي من 238 بعثة عام 1960 الى 1575 بعثة عام 1966 . وزاد الانفاق على الخدمات من 12 مليوناً عام 1960 الى 22.9 مليونا عام 1965 وتولت الدولة بواسطة أجهزتها عملية تعليم وتثقيف واسعة النطاق من خلال الصحف (التي كان قد تملكها الشعب بالقانون رقم 156 لسنة 1960) ، والاذاعة والتليفزيون، وترجمت الى اللغة العربية وبيعت بثمن يسير آلاف الكتب في سلاسل متنوعة تناولت كل مجالات الثقافة وخاصة الفكر الاشتراكي وأصبح أبناء مصر يدرسون المواد القومية (الثورة ـ الاشتراكية ـ القومية) في كل مرحلة تعليم بصيغ متدرجة حتى المستوى الجامعي … الى آخره …
ولكن والحق يقال، والشهادة لله . حرم شعب مصر الفقير في تلك الفترة من العمارات الشاهقة والسيارات الفارهة ، والكباريات الداعرة ، وألافلام الهابطة ، وحرم المنتجات الاميركية وأدوات التجميل الفرنسية والسجائر الفرنجية ومن الاصواف الانجليزية والحرائر اليابانية ، ثم انه افتقد السمسار والقمار والدولار ولم يتعامل الا بعملته ، والى حد كبير حرم حق الاختيار اذ كان عليه ان ينتج والا يستهلك الا مما تصنع يديه .. هذا بالاضافة طبعا ـ الى انه حرم من الليبرالية ودعاويها وأفكارها وأقلامها اذ لم تسمح الثورة لأحد بأن يخاطب الشعب ويعلمه ويفقه إلا إذا خاطبه عن مشكلاته وعلمه كيف يحلها وثقفه بأساليب حلها . فهل حرم شعب مصر من شيء .
أكاد أرى ليبرالياً يتململ ” اشمئزازاً ” مما يقرأ ، ويتمتم : ما علاقة هذا بالديموقراطية ؟ وهل يغني الخبز عن الحرية ؟ .. ما الفرق ـ اذن ـ بين البهيمة وبين الانسان يفكر ويريد ويدبر. وهل يستوي عند هذا الكاتب الانسان والبهيمة ؟.. سيدي صبرك . ان كنت لا ترى علاقة التحرر من الحاجة الاقتصادية والتحرر من الجهل والتحرر من المرض ، بالديموقراطية فنحن مختلفان في فهم الديموقراطية. لكم دينكم ولي دين . اما ان الخبز يغني عن الحرية فهو قول جاهل . يجهل ـ على الاقل ـ ان الانسان ليس بهيمه.. انما الخبز شرط للحرية لآن الجوعى المرضى المشغولين ليل نهار بالحصول على ” لقمة العيش ” ليأكلوا، وقطعة قماش ليلبسوا ، وجحر فارع ليسكنوا ، أو لئك الذين يهد حيلهم المرض فلا يجدون ثمن الدواء ، ويقترضون حين ينجبون أولادهم كما يقترضون حين يدفنون موتاهم ، اولئك يا سيدي ـ صدقني او انزل الى الشعب لترى ـ لا يهمهم كثيراً او قليلا ما أنت مشغول به من حرية الرأي لأنهم لا يعلمون ، او حرية الصحافة لأنهم لا يقرأون ، او حرية ألاحزاب لأنهم لا يبالون بمن قال ومن نشر ومن حكم .. ولا يستطيعون ان يبالوا قبل ان يأكلوا ويشربوا ويسكنوا .. فان كنت ديموقراطيا حقا فابدأ بحفظ حياة البشر لأن الموتى أو الذين يوشكون على الموت ـ جوعاً أو مرضاً ـ لا يستطيعون الاستماع الى آرائك أو قراءة صحفك أو الانضمام الى احزابك . وحين تبدأ حل مشكلة الحياة ( مأكلاً وملبساً وسكناً ) تبدأ ممارسة الحياة فكراً وسياسة .. وويل ـ حينئذ ـ للذين يتوهمون أن الخبز يغني عن الحرية ..
ولقد بدأت ثورة 1961 بحل مشكلة حرية الحياة وحققت نجاحا كبيرا فهل حلت مشكلة الحرية السياسية ؟ .
الاخفاق :
نستطيع أن نقول ببساطة ويقين أن ” النظرية ” الديموقراطية التي جاء بها الميثاق لم تطبق ـ في جانبها السياسي ـ على وجه الاطلاق . انشئ تحالف من قوى الشعب العاملة ولكنه ليس التحالف الذي نص عليه الميثاق . قامت منظمة باسم الاتحاد الاشتراكي العربى ولكنها ليست الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جاء في الميثاق . مارس الاتحاد الاشتراكي العربى ـ الذي أقيم ـ مهمات سياسية و لكن ليست هي المهمات التي جاءت في الميثاق . انشىء التنظيم السياسي الذي يقود التحالف ، و لكنه ليس التنظيم السياسي الذي جاء في الميثاق .
منذ خمسة عشر سنة وكل الناس يتحدثون عن تحالف قوى الشعب العاملة ، وعن الاتحاد الاشتراكي العربي ، وعن التنظيم السياسي السري يؤيدونه ويهاجمونه ويحلونه ويعيدون تشكيله ويطورونه ويصنفونه ويختلفون في هذا اختلافا كبيرا أو قليلاً دون أن يفطن أحد ، أو لم يقل الذين فطنوا ، ان مصر قد عرفت ثلاث مؤسسات مختلفة تحمل جميعها اسم الاتحاد الاشتراكي العربي . المؤسسة الأولى انشئت عام 1962 واستمرت حتى عام 1971 والمؤسسة الثانية في عام 1971 واستمرت حتى عام 1976 والمؤسسة الثالثة هي القائمة اليوم والتي حلت بتقسيمها الى ” أحزاب ” … ثم ـ وهذا هو الاهم ـ ان أيا من هذه ” الاتحادات الاشتراكيات العربيات ” لا تمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جاء في الميثاق .. ولا تمت بصلة قريبة او بعيدة لا بقوى الشعب العاملة ولا بتحالفها، اللهم الا استعارة الاسماء والعناوين واللافتات ..درءا للشبهات .. ذلك لأن الرأسمالية المتحالفة مع البيروقراطية قد سرقت الاسماء والعناوين واللافتات لتضعها فوق مؤسساتها التابعة لها التي لم يكن أي منها اتحادا، او اشتراكيا أو عربياً ولنبدأ من البداية .
السباق الى النفاق :
ما ان قدم جمال عبد الناصر ” الميثاق ” حتى انضمت الى جماعة المؤمنين به جمهرة الانتهازيين فأصبحوا جميعاً ” ميثاقيين ” (ما زلنا نذكر ان واحدا من جهابذة الكتاب وأعلاهم صوتا وأكثرهم بذلا للجهد في تأصيل التجربة- أية تجربة- كان قد بادر فأنشأ ـ في ذهنه ـ جماعة ” الميثاقيون ” وانتمى اليها وتحدث باسمها على صفحات الجرائد .. الى ان قيل له كفى فكف . وما زلنا نذكر انه حين تقرر تدريس ” الاشتراكية العربية ” في المدارس والجامعات تسابق عدد من أساتذة الجامعات والمعلمين ينشئون كتبا مطولة وكتبا مختصرة في بيان ماهية الاشتراكية العربية . فلما خطر لجمال عبد الناصر ان يقول ان الاشتراكية واحدة ونحن نطبقها تطبيقا عربيا ، سارع الاساتذة الكبار الى اعادة طبع كتبهم وغيروا جلودها ليغيروا عناوينها بعد ان غيروا جلودها . وما زلنا نحتفظ بأصول كتاب عن ” الطريق الى الاشتراكية العربية ” قدمناه الى الدار القومية للطباعة والنشر ( 1966 ) دفاعاً عن الاشتراكية العربية فأشار عليه مدير الدار بعدم النشر ” لأن الرئيس جمال عبد الناصر قد حسم الخلاف في هذه القضية ” ولقد وافقت رقابة عبد الناصر على نشر الكتاب لأن عبد الناصر ـ وحده تقريبا ـ هو الذي كان يصر على أن مصر تمر بمرحلة التحول الاشتراكي وان الميثاق دليل عمل وان شيئاً لم يحسم وان كل شيء سيعاد فيه النظر على ضوء الممارسة بعد عشر سنوات .. ولسنا في حاجة الى القول بأن أولئك المنافقين قد انقلبوا على انفسهم فانقلبوا على عبد الناصر وميثاقه . وكذلك يفعل الانتهازيون دائماً .
نهايته !!
نعود الى الموضوع فنقول ان الانتهازية ليست خاليه من مضمون . نعني ان الناس لا ينافقون ويهدرون كراماتهم ويزحفون على بطونهم ـ كالديدان ـ الا متجهين الى غاية، مثلهم في هذا مثل السائرين على أقدامهم . والواقع انه لا يوجد موقف بدون مضمون سواء كان موقفا أخلاقيا او موقفا غير أخلاقي لهذا نستطيع ان نتجاوز الجانب الاخلاقي لننتبه الى المحتوى الموضوعي لظاهرة الانتهازية ونسأل : ما هي ” الفرصة ” التي كان يسعى الى اهتبالها الانتهازيون ؟
انها فرصة التحول الاشتراكي ذاته .
فابتداء من عام 1961 لم تعد الدولة سلطة حكم او مساندة او تمويل بل أصبحت جهاز ادارة رئيسي للاقتصاد القومي . تملك القدر الأكبر من أدوات الانتاج ، وتديرها ، وتنتج ، وتوزع ، وتتاجر ، وتستهلك . هي التي تعين الوزراء والمديرين وهي التي تشغل العاطلين وهي التي تحدد الاجور وهي التي توفر المأكل والملبس وتبني السكن وتعلم وتعالج .. الى آخره . وكانت هذه الدولة ، ربة العمل ، قد انتزعت اغلب ما تملك وما تدير من الرأسماليين الكبار وأضافت اليه طولاً وعرضاً وعمقاً منشآت جديدة ومصادر رزق جديدة فيما عرف باسم ” القطاع العام ” . ولكنها ابقت بجواره ما أسمي بالقطاع الخاص و ” بالرأسمالية الوطنية ” . فكيف ” تربح ” هذه الرأسمالية الوطنية ؟ .. بالتطفل على القطاع العام تعيش من باطنه وتتاجر معه و ” تسمسر ” على صفقاته وتسرق وترش . فتحول القطاع العام ـ أي الدولة ـ الى مصدر جديد للرأسمالية . وهي رأسمالية طفيلية غير منتجة تتعاون في تكوينها على طريقة ” شيلني واشيلك ” البيروقراطية المنحرفة والقطاع الخاص الطفيلي وكانت الثغرة التي تسرب منها هذا الحلف هو ما أشرنا اليه من قبل من ان قواعد العزل السياسي لم تطبق على الذين أضيروا بقوانين يوليو 1961 او الذين تتناقض مصالحهم مع التحول الاشتراكي . اولئك الذين أسمتهم اللجنة التحضيرية ” أعداء الثورة الاجتماعية الاشتراكية ” فصدر القانون رقم 34 لسنة 1962 خاليا من عزلهم . فقدوا ما يملكون او أغلبه فالتحقوا بخدمة المالكة الجديدة (الدولة) بحجة خبرتهم و علمهم و (وطنيتهم) وأيضا أصبحوا عماد البيرو قراطية في الدولة والقطاع العام والرأسمالية الطفيلية التي تمتصه . ولما كانوا أضعف من أن يقاوموا فقد نافقوا . وبادروا الى تنفيذ مشروع الثورة الديموقراطي ” الاتحاد الاشتراكي العربي ” قبل أن يصدر الدستور . وكانوا وراء قرار ” انتهازي ” أصدره المؤتمر الوطني للقوى الشعبية قبل أن ينفض وهو ” تفويض ” الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل لجنة تنفيذية عليا مؤقتة لتضع القانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربي .
تأملوا…
الميثاق يقول ان تحالف قوى الشعب العامل هو الذي يقيم الاتحاد الاشتراكي العربى ، فاذا بالمؤتمر يفوض رئيس السلطة التنفيذية في ان يختار المؤسسين للاتحاد الاشتراكي العربى ، قلة يسميها اللجنة التنفيذية العليا المؤقتة، لتقيم هي الاتحاد الاشتر اكي العربي وتضع قانونه الاساسي . والميثاق يحرص على القول بان الاتحاد الاشتراكي العربي هو السلطة الممثلة للشعب ومفهوم انها سلطة في مواجهة باقي السلطات او فوقها ، فيعهد المؤتمر الى السلطة التنفيذية بانشاء السلطة الممثلة للشعب . من قبل نبهنا الى دلالة ان يكون تسعة من أعضاء الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي أعضاء في مجلس الرئاسة. والميثاق يقول انه بعد سقوط تحالف الرجعية ورأس المال ” لا بد ان ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطياً للتفاعل الديموقراطى بين قوى الشعب العامل “.. وهو ما يعني بان ينشأ الاتحاد الاشتراكي العربي من القاعدة المتفاعلة ديموقراطياً الى القمة ، فإذا بالاتحاد الاشتراكي العربي ينشأ بالقمة التي تتولى هي انشاء القاعدة … على ما تهوى .
هل انشأته على ما تهوى؟
نعم ، وذلك بأنها :
اولا : الاتحاد الاشتراكي العربي هو تنظيم تحالف قوى الشعب العاملة ” الممثلة للشعب ” والشعب هو صاحب السيادة بحكم الميثاق وبحكم الدستور. وهذا يعني انه طبقا للميثاق والدستور كليهما، تكون سلطة السيادة للاتحاد الاشتراكي العربي . لم تختلف أغلبية أساتذة القانون الدستوري في هذا، وعبروا عن آرائهم في مناقشات ” اللجنة التحضيرية للدستور الدائم ” التي تشكلت يوم 30 مايو 1966 لوضع مشروع دستور دائم قال الدكتور سليمان الطماوي عميد كلية حقوق عين شمس : ” الاتحاد الاشتراكي ليس مجرد سلطة دستورية له علاقة بالحكومة ولكنه أكبر من ذلك “. قال الدكتور ثروت بدوي استاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة قال مفاخرا : ” انني اول من قالوا بان الاتحاد الاشتراكي العربي هو أعلى سلطة في الدولة ” وقال الدكنور طعيمة الجرف استاذ القانون الدستوري في كلية حقوق القاهرة : ” ان الاتحاد الاشتراكي العربى سلطة سيادة عليا “. وقال الدكتور عبد الحميد حشيش استاذ القانون الدستوري في كلية حقوق عين شمس : ” اما فيما يتعلق بالاتحاد الاشتراكي العربى فانني اتفق مع الزملاء الذين سبقوني في هذا المجال من أن الاتحاد الاشتراكي سلطة عليا ” .. اما الدكتور مصطفى أبو زيد فقد عبر عن رأيه بطريقته فقال : ” اذا قلنا ان مجلس الامة هو الذي ينظم الاتحاد الاشتراكي فهذا يعني ان مجلس الامة أصبح أعلى من الاتحاد الاشتراكي وهذا ما لا يجوز ولا يمكن القول به ، وأذا قلنا ان الحكومة تنظمه بقرار جمهوري او بقرار وزاري فهذا يعني ان الحكومة أعلى منه وهذا لا يجوز “.. الى آخرهم .
لم يكن هؤلاء الاساتذة ينافقون بل كانوا يعبرون عن حقيقة الاتحاد الاشتراكي العربى كما أراده الميثاق وكما أراده الدستور . و لكن ” المصالح ” لا يهمها القانون فقد تشكلت اللجنة التنفيذية العليا ، وأصدرت القرار رقم 1 لسنة 1962 بالقانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربى وبعد ان سردت في مقدمته فقرات من الميثاق وحددت وظيفته فقالت عن وظيفة المؤتمر القومي الذي هو أعلى سلطة .
(أ) دراسة ومناقشة تقرير اللجنة العامة للاتحاد الاشتر اكي العربي .
(ب) دراسة سياسة الاتحاد الاشتراكي العربى وخططه العامة واصدارها .
(خ) مراجعة وتعديل القانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربى اذا دعت الحاجة الى ذلك .
(د) انتخاب واعفاء اللجنة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي او اعضائها الاحتياطيين .
وهكذا تحول المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي هو سلطة تمثل الشعب ، وفوق الحكومة وفوق مجلس الأمة ، تحول الى جمعية لدراسة التقارير ليقدمها الى اللجنة التنفيذية العليا . واصيب منذ مولده بالعقم ، وعبثاً حاول كل الذين تولوا أمره بعد ذلك ” تنشيطه ” وبعث الحياة فيه . ذلك لأنهم قد سلبوه روحه حين سلبوه سلطته فلم يبق منه الا ” هيكل ” مجوف يجتمع فيه الناس وينفضون لا حول لهم ولا قوة . ومن هنا نعرف كيف أن الذين هاجموا وأدانوا الاتحاد الاشتراكي العربي واتهموه بالسلبية ، وبالذيلية ، ينسون ما قال الشاعر :
” لقد اسمعت لو ناديت حياً … ولكن لاحياة لمن تنادي ”
وماذا عن التنظيم القائد الذي قال الميثاق انه : ” يجند العناصرالصالحة للقيادة وينظم جهدها ويطور الحوافر الثورية للجماهير”… لقد تم تشكيله فعلا ولكن ” الحلف البيروقراطي الرأسمالي ” الذي أنشأ الاتحاد الاشتراكي العربى هو الذي شكله . لقد اخروا انشاءه حتى عام 1964 اي الى ان تمكنوا من السيطرة على الاتحاد الاشتراكي العربى وعندما نشأ انشأته قيادة الاتحاد الاشتراكي نفسها ( قيادة التنظيم) وأختير لانشائه وقيادته ـ من كل القوى المتاحة ـ وزير الداخلية شخصياً وكأن وزارة الداخلية قد كانت ” ناقصة ” أجهزة استطلاع وتقارير .
ثانيا : ان الاتحاد الاشتراكي العربي هو تنظيم تحالف قوى الشعب العاملة . ومن بين تلك القوى العمال والفلاحون . ويزيد الميثاق والدستور كلاهما فيشترطان خمسين في المائة من المقاعد على الأقل للعمال والفلاحين . ومع ذلك نشأ الاتحاد الاشتراكي وقد استبعد من عضويته العمال والفلاحين الا أقلية ضئيلة .
شيء غريب أليس كذلك ؟
نعم غريب ولكنه حدث من خلال تولي الحلف ” الرأسمالي البيروقراطي ” تعريف العامل والفلاح .
فالفلاح عندهم هو من لا يزيد عما يحوزه من أرض زراعية على خمسة وعشرين فدانا. تصوروا ان في مصر الفلاحين حيث عمال التراحيل والمعدمون بالملايين وحيث يكون من يملك خمسة أفدنة شيخا للقرية ومن يملك عشرة أفدنة يكون عمدة لها ومن يملك أكثر من الاعيان . يعتبر فلاحا من يملك خمسة وعشرين فدانا . اما العامل عندهم فهو كل من تتوافر فيه شروط العضوية للنقابات العمالية ( تقرير لجنة الميثاق الذي أخذ به في تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي) .
وهكذا انبرى الذين يحوزون 25 فداناً في الريف أو حتى عشرة ، فاحتلوا مقاعد الفلاحين في التحالف وطردوا ملايين من العمال الزراعيين وعمال التراحيل ، والأجراء ، والمستأجرين ، وصغار الملاك. وهكذا انبرى لاحتلال مقاعد العمال في التحالف وكلاء الإدارات ورؤساء الأقسام وخريجو الجامعات من الأطباء والمحامين والمهندسين والصحفيين ومن إليهم من العاملين في المؤسسات و الشركات .
فلما أراد جمال عبد الناصر تصحيح هذا الوضع الشاذ عام 1968، فأصدر بصفته رئيساً للاتحاد الاشتراكي العربي تعريفا يقوق ان العامل ” هو الذي يعمل يدويا او ذهنيا في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات ويعيش من دخله الناتج عن هذا العمل ولا يحق له الانضمام إلى نقابة مهنية ولا يكون من خريجي الجامعات والمعاهد العليا أو الكليات العسكرية وتستثنى من ذلك من بدأ حياته عاملأ وحصل على مؤهل جامعي وبقي في نقابته العمالية”. وأن الفلاح ” هو الذي لا يحوز هو وأسرته أكثر من عشرة أفدنة علي أن تكون الزراعة مصدر رزقه أو عمله الوحيد وأن يكون مقيماً في الريف “.. وجرت على أساسه انتخابات وتشكيلات الاتحاد الاشتراكي العربي ، أوقف الحلف البيروقراطي الرأسمالي عملية الانتخاب عند مستوى المؤتمر القومي الذي لا ينعقد إلا كل سنتين ، أما لجان المحافظات واللجنة العامة واللجنة التنفيذية ، أي اللجان القيادية ، فقد تم تشكيلها بالتعيين ، تفادياً لتسرب فلاح أو عامل ، اي فلاح او اي عامل ، إلى القيادة ..
على هذا الوجه أنشأت الطبقة الجديدة التي أصبحت ، بعد سقوط الرأسمالية الكبيرة عام 1961 وتصفية المؤسسة العسكرية عام 1967، تضم ” البيروقراطيين والرأسمالية الطفيلية ” . انشأت الاتحاد الاشتراكي العربي إطاراً لتحالفها وأداة لسيطرتها ، وأهدرت الرؤية الديموقراطية التي جاءت في الميثاق ، وأهدرت الاحكام الديموقراطية التي جاءت في دستور 1964 ، فلم يكن الاتحاد الاشتراكي العربي منذ البداية تحالف العمال والفلاحين و … الى آخره …
السلطة التنفيذية :
في دستور 1964 ينتخب رئيس الجمهورية من الشعب وهو الذي يضع بالاشتراك مع الحكومة السياسة العامة للدولة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية ويشرف على تنفيذها . وله حق دعوة مجلس الوزراء للانعقاد وحضور جلساته وتكون له رئاسة الجلسات التي يحضرها . وله حق اقتراح القوانين و الاعتراض عليها وإصدارها . فاذا رد مشروع قانون إلى المجلس فلا يصدر إلا إذا أقره المجلس ثانية بأغلبية ثلثي أعضائه . وإذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله مما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز لرئيس الجمهورية أن يصدر في شأنها قرارات لها قوة القانون . ولرئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية بناء على تفويض من مجلس الأمة أن يصدر قرارات لها قوة القانون . وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة . وهو الذي يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الأمة . و هو الذي يبرم المعاهدات ويبلغها إلى مجلس الأمة . وهو الذي يعلن حالة الطوارىء وله أن يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا . أما الحكومة فهي أداة تنفيذ .
على هذا الوجه كان لرئيس الجمهورية القرار وكان على الحكومة التنفيذ . ولكن من يسأل أمام مجلس الأمة ؟ الحكومة وحدها ( المادتان 84 و 90 ) . وهكذا عرفت مصر نظاماً مختلطاً عجيباً لا تقترن فيه السلطة بالمسئولية . من له السلطة الفعلية لا يسأل . ويسأل الذين لهم سلطة . وتضخمت سلطات رئيس الجمهورية واندمجت في يده السلطات بشكل لا مثيل له في النظام الرئاسي (حيث ليس للرئيس حق التشريع) ولا في النظام النيابي (حيث ليس للرئيس سلطة منفردة عن الوزارة) . ولما كان الرئيس الذي أصبح يملك أغلب السلطات لا ينفذها بنفسه ولكن ” بأجهزة الدولة ” طبقاً للبيانات و المعلومات و الآراء التي ترفعها إليه ” أجهزة الدولة ” فقد خول دستور 1964 لأجهزة الدولة التي يسيطر عليها الحلف ” البيروقراطي الرأسمالي ” أفضل غطاء لانحرافاتهم وأصبح كل شيء ينسب إلى عبد الناصر ما دامت كل السلطات على صفحات الدستور لعبد الناصر، وأصبح كل نقد لهم نقد لعبد الناصر، ما داموا أجهزة عبد الناصر، وأصبحت مواجهتهم تآمراً على عبد الناصر ما دام أمنهم قد اختلط بأمن عبد الناصر .
هل كان من ذلك مفر ؟.
يجب أن نعترف بأنه حيث تكون الدولة اشتراكية، أي تقوم على توظيف الموارد البشرية و المادية المتاحة لإشباع الحاجات المادية والثقافية للشعب ، طبقآ لخطة مركزية شاملة فلا بد من مركزية السلطة . يستحيل ـ دستورياً واقتصادياً ـ إقامة نظام اشتراكي بدون سلطة تنفيذية مركزية قوية لتضمن تنفيذ الخطة في كل مجالاتها ، تأمر وتتابع وتراقب وتحاسب . من ناحية أخرى لا يعرف النظام الاشتراكي المناصب الشرفية. لا يتفق معه منصب رئيس دولة لا يعمل أي لا يكون رئيساً للسلطة التنفيذية . ومن هنا فإن كل السلطات التي خولها دستور 1964 لرئيس الجمهورية سلطات طبيعية ومتسقة مع دوره في مجتمع يتحول اشتراكياً . ثم تبقى الثغرة التي انفرد بها نظام الحكم في مصر؟.. من الذي يأمر ويتابع ويراقب ويحاسب السلطات التنفيذية ذاتها ؟ من الذي يوافق على الخطة ويتابع تنفيذها ويحاسب على نتائجها؟.. مجلس الأمة ، ومن الذي يتابع ويراقب ويحاسب مجلس الأمة ؟.. الشعب .. كيف ؟ عن طريق الاتحاد الاشتراكي العربي الذي هو سلطة سيادة عليا ، وهو ممثل الشعب ومن حقه على هذا الوجه أن يتابع ويراقب ويحاسب ـ إلى حد العزل ـ رئيس الجمهورية والوزراء والنواب . ولقد كان الدستور ـ دستور 1964 ـ في مادته الثالثة يخول الاتحاد الاشتراكي العربي هذه السلطة . سلطة متابعة ومراقبة ومحاسبة كل سلطة أخرى ومنها رئيس الجمهورية . وكان هذا يقتضي استقلال الاتحاد الاشتراكي العربي استقلالاً تاماً ـ بصفته مؤسسة دستورية ـ عن السلطة التنفيذية . و لكنه نشأ ـ كما رأينا ـ تابعاً للسلطة التنفيذية فبقيت للسلطة التنفيذية كل السلطات بدون متابعة أو مراقبة أو محاسبة .
محاولة أخيرة :
ذكرنا من قبل كيف حاول جمال عبد الناصر عام 1968 تصحيح الوضع المختل في تكوين الاتحاد الاشتراكي العربى بتقديم تعريف جديد للعامل والفلاح . ونعرف أنه صفى المؤسسة العسكرية في ذلك العام . ولكنه في المقابل كان قد تفرغ بعد هزيمة 1967 لإعادة تكوين القوات المسلحة واستئناف القتال واستغرقته معركة التحرير، فكانت فرصة مضافة الى البيروقراطية والرأسمالية . فبدأت الرأسمالية تسترد بعض ما كانت فقدته . رفع اسعار بعض الحاصلات الزراعية ، الاستيراد بدون تحويل عملة . وقف الانتقال التدريجي لقطاعي تجارة الجملة والمقاولات الى القطاع العام . أما البيروقراطية فقد قضت بضربة واحدة على محاولة جديدة كانت القيادة قد لجأت إليها لحل مشكلة الديموقراطية .
ففي عام 1965 كان يبدو أن جمال عبد الناصر قد يئس من محاولة حل مشكلة الديموقراطية على المستوى الشعبي من خلال جيل نشأ رأسمالياً بيروقراطياً ولم يزل . فأعلن يوم 20 يناير 1965، أمام مجلس الأمة ، بعد ترشيحه رئيساً للجمهورية برنامجه للسنوات القادمة . وإذ به يضع في أول ذلك البرنامج مايلى :
” إن المهمة الأساسية التي يجب أن نضعها نصب عيوننا في المرحلة القادمة هي أن نمهد الطرق لجيل جديد يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية . ولسنا نستطيع أن نقول إن جيلنا قد أدى واجبه إلا إذا اكنا نستطيع قبل كل المنجزات وبعدها أن نطمئن إلى استمرار التقدم ، وإلا فإن كل ما صنعناه مهدد بأن يتحول ـ مهما كانت روعته ـ إلى فورة ومضت ثم انطفأت .. إلى بداية تقدمت ثم توقفت . إن الأمل الحقيقي هو في استمرار النضال ويتأكد الاستمرار حين يكون هناك في كل وقت جيل جديد على أتم الاستعداد للقيادة ولحمل الأمانة ومواصلة التقدم بها .. أكثر وعياً من جيل سبق . أكثر طموحاً من جيل سبق . وينبغي أن ندرك أن التمهيد لهذا الجيل واجبنا واننا نستطيع بالتعالي والجمود أن نصده ونعقده وبالتالي نعرقل تقدمه وتقدم امتنا .. إن علينا بالصبر ان نستكشفه دون مّن عليه ولا وصاية، وعلينا بالفهم أن نقدم له تجاربنا دون أن نقمع حقه في التجربة الذاتية وعلينا في رضا أن نفسح الطريق له دون أنانية نتصور غروراً أنها قادرة على شد وثائق المستقبل بأغلال الحاضر وعلينا أن نتجه له بفكره الحر أن يستكشف عصره دون أن نفرض عليه قسراً أن ينظر إلى عالمه بعيون الماضي” …
ولم تكن تلك مجرد خطبة ، بل كانت في رأينا محاولة أخيرة لحل مشكلة الديموقراطية بعد أن يئس من حلها عن طريق الاتحاد الاشتراكي العربى الذي أنشأته أجهزة دولته . والواقع أن جمال عبد الناصر قد عبر في مناسبتين سابقتين عن هذا اليأس . الأولى يوم أن قبل إنشاء المنظمات الشعبية في ميثاق الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية التي كانت موضع دراسة وبحث واتفاق عام 1963. والمناسبة الثانية يوم أن وجه نداء إلى الشباب العربى بأن يبادر إلى إنشاء الحركة العربية الواحدة لأنها ” أصبحت ضرورة تاريخية “، عام 1963 أيضاً ، على أي حال فما أن قدم برنامجه حتى نفذه . وانشئت منظمة الشباب الاشتراكي من جيل الثورة ، مستقلة إلى حد كبير عن الاتحاد الاشتراكي العربي وأولاها عناية خاصة مليئة بالعطف والأمل ، ولأول مرة ترى مصركيف يمكن أن يتم تكوين تنظيم سياسي تكويناً علمياً يختلط فيه النمو الفكري بالنموالحركي . ونجحت التجربة نجاحاً فائقاً إلى درجة أنه في فبراير 1968، بعد الهزيمة، كانت هي القوة الوحيدة التي قادت الجماهير في مظاهرات صاخبة تطالب بمحاسبة المسئولين و لم تستثن من المحاسبة حتى جمال عبد الناصر نفسه وكان ذلك برهاناً على أن أملاً شعبياً ديموقراطياً تقدمياً قد بدأ في مصر ، وأن الثورة ـ أخيراً ـ قد أنجبت جيلها . أما عبد الناصر فقد تجاوز عما أصابه من أبناء ثورته واستجاب لندائهم وأصدر بيان 30 مارس متضمناً ما كانوا يطالبون به . أما البيروقراطية ” المعششة ” في الاتحاد الاشتراكي العربي فقد أفزعها المولود الجديد الذي شب مبكراً على الطوق فأصدر أمين الاتحاد الاشتراكي العربي (علي صبري) قراراً بتجميد نشاط منظمة الشباب وطرد خيرة قياداتها من صفوفها . وضربت التجربة الجديدة الوليدة .. إلى حين .
هل كان يعلم :
هل معنى هذا ان عبد الناصر كان يعلم ان الرجعيين و الانتهازيين والبيروقراطيين قد نفذوا الى تجربته الجديدة وسيطروا على الاتحاد الاشتراكي العربى وافشلوا مشروعه الديموقراطي الثالث (كانت هيئة التحرير هي المشروع الاول ، وكان الاتحاد القومي هو المشروع الثاني) .. هل كان يعلم ؟..
يجيب عبد الناصر نفسه :
قال في 12 نوفمبر 1964 : ” ان الميول البيروقراطية في مرحلة الانتقال من الاقطاع والرأسمالية الى الاشتراكية تمثل قوى اجتماعية خطيرة . وهذه البيروقراطية موجودة وستحاول بكل الوسائل ان تكوّن لها مكاسب . ان البيروقراطية في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ستعمل على آن تحصل بكل الوسائل على أكبر قدر من السلطة حتى تستطيع ان تقوم بدور حاسم في الانتاج وفي العلاقات الاجتماعية وان تحتكر هذا الدور. وتستطيع البيروقراطية بفضل هذا الاحتكار ان تأخذ مكان الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي “ .
بقيت نقطة أريد ان أتكلم عنها ، وهي العيوب الاساسية ، وأبرز هذه العيوب بان الاتحاد الاشتراكي لم يستكمل دوره ليكون تعبيرا أصيلا وكاملا عن الديموقراطية الاشتراكية … لقد تابعت مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي في الوحدات الاساسية والتي عقدت أخيراً وكان فيها حياة وحيوية وفيها نبض . ويجب ان نجد الوسيلة التي تجعل هذا النبض يرتفع كصوت ، وأهم من مجرد ارتفاعه ان يؤثر في الحوادث . و ليست الديموقراطية السيامية الحقيقية والمعبرة عن الديموقراطية الاجتماعية الحقيقية هي أن نجعل الناس يغيرون بارادتهم ما يريدون تغييره . هل وصلنا الى هذا حتى الان … لم نصل بعد… “
لماذا ؟.
قال في 16 مايو 1965 : ” … فيه حزب رجعي موجود وحايفضل موجود بدون اعلان وبدون ترخيص وعارفين بعض واتلموا على بعض ومنظمين قوي أحسن من الاتحاد الاشتراكي … اذن في هذه المرحلة لا سبيل إلا تحالف قوى الشعب العاملة في تنظيم واحد هو الاتحاد الاشتراكي العربي .. مع تطهير الاتحاد الاشتراكي باستمرار من القوى الانتهازية او القوى الرجعية التي تسللت داخل الاتحاد الاشتراكي …
أكثر من هذا صراحة ما ردده في أحاديثه غير العلنية في اجتماعات الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي ابتداء من عام 1965. نشر بعضها أخيرا تحت عنوان ” مفهوم العمل السياسي “. ففيها يقول : ” ان لدينا مشكلة عويصة وهي ان العناصر المضادة للثورة والاشتراكية موجودة بالفعل داخل الاتحاد الاشتراكي وهي عناصر حركية .. ونحن ينقصنا داخل الاتحاد الاشتراكي وجود العناصر الحركية المخلصة بشكل منظم … ” وقال ” هناك خطأ آخر له صفة الانحراف يضعف من تحالف قوى الشعب العاملة وذلك الخطأ هو ظاهرة البيروقراطية… “
وفي 7 مارس 1966 يضرب أمثلة للفشل في الريف : ” ان الجمعيات التعاونية تحتاج الى تطوير. فما زال كبار الملاك مسيطرين عليها.. فكبار الملاك لهم نفوذ ويستطيعون وضع رجالهم في مجالس ادارات الجمعيات التعاونية ، وربما كان هذا هو الذي أثر على فكرة الديموقراطية التي تكلمت عنها فلن تكون هناك ديموقراطية حقيقية بهذا الشكل … “
كان يعلم اذن ،
فماذا فعل ؟…
حيث يجيب عبد الناصر على هذا السؤال، سنكتشف قمة النضج في مفهومه للديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا ، ويكون علينا بتلك الاجابة، القادمة ، ان نختم الحديث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر مودعين مرحلته التاريخية وقد انتهت الى تحديد بالغ الوضوح لمشكلة الديموقراطية في مصر وفكر بالغ النضج في كيفية حلها.. ذلك لأنه ـ رحمه الله ـ لن تسمح له الظروف القاهرة بان يضع فكره الذي بلغ قمة النضج موضع التطبيق لحل مشكلة بلغت قمة الحدة .
15 ـ خاتمة : الموقف ” الناصري ” من المشكلة
عبد الناصر… و” الناصرية ” :
في جلسة مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية التي انعقدت مساء يوم 20 مارس 1963 هاجم عبد الناصر تعبير ” الناصرية والناصريين “.. وأسند التعبيرين الشعارين إلى القوى المعادية له وللثورة . قال : ” .. خرجوا بعملية الناصريين . طلعوها بعد الانفصال . قبل الانفصال ما كانش فيه حاجة اسمها ناصريين .. اعداؤنا علشان يمثلوا العملية بشخص ويركزوا عليه قلبوا العملية كلها إلى شخص جمال عبد الناصر وبدأو الحملة عليه وعلى اللي سموها الناصرية والناصريين .. ما كانش فيه حاجة اسمها ناصرية ولا ناصريين .. ”
أما الآن ، وبعد وفاة عبد الناصر، فإن الناصريين قوى جماهيرية متعاقبة في الوطن العربي وفي مصر حتى لو لم تكن موحدة أو منظمة . و” الناصرية ” مفهوم يحدد انتماء الناصريين ، على خلاف قليل أوكثير في المضمون وتأخذ مكاناً يتسع بإطراد في القاموس العربي للمبادىء السائدة أو المرشحة للسيادة .
وحتى الذين يقفون من الناصرية والناصريين موقف العداء يعترفون بموقفهم هذا بوجود الناصرية فكرة والناصريين بشرا، وإلا فهل يقفون موقف العداء من أشباح معدومة ؟.. بل إن تهمة ” أدعياء ” الناصرية تتضمن اعترافاً بأن الناصرية ليست موجودة فقط بل إنها- أيضاً- ذات إغراء يسمح، لا بالانتماء إليها فحسب ، بل بادعائها أيضاً…
فكيف حدث هذا ؟
كيف أن ” الناصرية ” تكون اصطناعاً معادياً في حياة عبد الناصر، ثم تكون راية موحدة لجماهير عبد الناصر بعد وفاته ؟ ..
لقد قدم الرئيس جمال عبد الناصر نصف الإجابة في حديثه الذي أوردنا نصه . أريد بالناصرية في حياته تقليص القضية لتكون شخصاً تمهيداً لضرب الشخص وهو أسهل من ضرب القضية . أو تجريد الموقف من الانتماء المبدئي والتشهير به عن طريق تحويله إلى انتماء وولاء لشخص عبد الناصر. النصف الثاني من الإجابة لم يقله عبد الناصر لأنه يتعلق بظاهرة نشأت بعد وفاته.
نجيب نحن ، تطوعاً ، وعلى مسئوليتنا. ونستمد مادة الإجابة من موضوع الحديث عن ” عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر “. وان كانت اجابتنا تصدق ـ فيما نعتقد ـ أيآ كانت مادة الحديث ما دام الحديث يدور عن عبد الناصر وتجربتة الطويلة الغنية ..
باختصار ،
لقد كان ثمة عوامل متعددة حالت دون أن تكون ” الناصرية ” ذات دلالة موضوعية محددة يمكن الانتماء إليها في حياة عبد الناصر، وقد انقضت تلك العوامل بوفاة الرئيس الراحل وبالتالي أمكن ، موضوعياً ، أن يكون لتعبير الناصرية و الناصريين دلالات موضوعية .
أول تلك العوامل أن عبد الناصر قائد المسيرة الثورية منذ 1952 حتى وفاته كان ينتهج التجربة والخطأ والتصحيح . ولقد عرفنا ذلك من اعترافه ومن تتبع الحديث عن علاقته بمشكلة الديموقراطية في مصر وبالتالي فلم يكن من الممكن ، في حياة عبد الناصر، تثبيت التجربة عند حصر فكري أو تطبيقي معين ليقال حينئذ أن هذي هي الناصرية . ذلك أن عبد الناصر كان إلى آخر يوم في حياته قادراً مقدرة متزايدة على أن يكتشف أخطاء الممارسة وأن يبدع لها حلولاً جديدة على المستوى الفكري والمستوى التطبيقي كليهما . وقفت تلك التجربة بوفاة عبد الناصر. مات القائد فتحدد مضمون مرحلته التاريخية مات المعلم فتوقفت تعاليمه . وأصبح ممكناً ـ حينئذ فقط ـ تحديد الحصيلة النهائية فكراً وممارسة ليقال ان هذي هي الناصرية .
العامل الثاني أشرنا إليه في أكثر من موضع في هذا الحديث ، وأوردنا عليه أدلته مما قال عبد الناصر ومما فعل . وخلاصته أن عبد الناصر كان ينمو وينضج ويتقدم فكرياً من خلال التجربة والخطأ والتصحيح . كان تفاعله الجدلي مع الظروف العينية في كل مرحلة يثمر في كل خطوة ثماراً فكرية أكثر نضجاً من عناصر تكوينها . وكان في حركته الجدلية يتقدم مخلفاً وراءه مواقفه وأفكاره السابقة. ولقد عبرنا عن ذلك من قبل حين قلنا إن عبد الناصر 1961 كان يثور على عبد الناصر 1952 ومن هنا يقوم الفارق المميز بين أفكار عبد الناصر وبين الناصرية .. على وجه يحول دون التطابق بينهما .
ذلك لأن كل مفردات المسيرة، فكراً أو ممارسة ، كما وقفت في زمانها تنسب إلى عبد الناصر، فيقال إنها أفكار أو مواقف عبد الناصر، أما ما ينسب إلى ” الناصرية ” فهي مجموع الأفكار والمواقف التي انتهى إليها بعد أن قطع إليها طريقه الطويل الشاق خلال التجربة والخطأ.. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك موقفه من ” الوحدة الوطنية ” ومفهومه لتعبير الشعب .. على الوجه الذي عرفنا تطوره من قبل .
يضاف إلى هذين العاملين عامل ثالث هو ـ في تقديرنا ـ أكثر من العاملين السابقين أهمية. لقد ذكرنا من قبل أن عبد الناصر كان يتوقع عام 1962 أن ستنشأ أفكار أكثر تطوراً وتقدمية بعد عام 1970 أو 1971 قد ترى تطوير الميثاق أو تعديله أو الاضافة إليه.. كما عرفنا دعوته الحارة لفتح أبواب الإبداع لجيل الشباب بدون وصاية . ان هذا يعني ـ في رأينا ـ ان الناصرية ليست مقصورة على حصيلة تجربة عبد الناصر فكراً أو ممارسة حين وفاته ولكنها لا بد ـ طبقاً لرؤية عبد الناصر نفسه وتوقعاته ـ أن تكون قد اكتسبت مضامين مضافة إلى ما خلفه الزعيم الراحل مما ” حدث ” بعد أن غاب عبد الناصر . بل أنني أزعم أن الدروس المستفادة من تجربة الحياة في مصر وفي الوطن العربي بعد غياب عبد الناصر قد أثبتت أن شخصيته التاريخية العملاقة كانت قد حجبت عنه ، وعنا، أفكاراً واتجاهات لم تكن تملك شجاعة الظهور في حياته فظهرت وعربدت ونجحت بعد وفاته. وأصبح ما انتهى إليه عبد الناصر فكراً وممارسة يفتقد تكملة هي الجواب على السؤال : ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أن كل تلك الأفكار والاتجاهات التي أخفاها الجبن عنه في حياته قد واجهته وواجهها .. ثم ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أن العمر امتد به حتى اليوم ؟.. ثم ، ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أنه عاش المستقبل مع شعبه. طبيعي أن ليس في تراث عبد الناصر اجابات محددة على هذه الأسئلة . إذ لم يكن عبد الناصر نبياً ، الإجابات التي تكمل مفهوم الناصرية مسؤولية أولئك الذين لم تكمل معرفتهم بتجربة عبد الناصر إلا بعد أن ظهر بعد وفاته ما ومن كان مختفياً أثناء حياته وأولئك الذين لا يكتبون التاريخ بل يصنعونه .
وأخيراً فإن عبد الناصر في حياته كان المفكر والقائد معاً . وكان يقدم إلى الجماهير العربية من تاريخه معها ضماناً ضد مخاطر التجربة والخطأ . الآن غاب القائد وقد بقيت الأفكار أو خلاصتها النامية. فكيف يمتلىء مكان القيادة التاريخية الشاغر ؟.
هل باصطناع أو اختلاق أو ” ادعاء ” عبد الناصر جديد ؟..
مستحيل . بل نقول أنه عبث . عبد الناصر صنعه التاريخ .
ولن يستطيع أحد أن يقوم بدور التاريخ في خلق الزعماء والقادة من أمثال عبد الناصر. وما تزال ترن في أذهاننا الكلمات الصادقة الحكيمة التي قالها الرئيس أنور السادات وهو يتلقى من مجلس الشعب قرار ترشيحه خليفة لعبد الناصر في موقع رئاسة الجمهورية ، تأكيداً بأن سيادته أو أي شخص آخر لا يستطيع أن يملأ- وحده – الفراغ الذي تركه القائد العملاق ..
إذن ، فإما أن تبقى جماهير عبد الناصر بدون قيادة أو أن تقودها المبادىء الناصرية. وهذا يعني أن ” الناصرية ” ليست قائمة مبوبة بالأفكار التي خلفها عبد الناصر أو خلاصاتها، أو ما كان يمكن أن تكون عليه تلك الأفكار لو أنه بقى يطورها، بل هي أفكار ومباديء ” صالحة ” لتؤدي ” دور القيادة “. صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها عند الخلاف . وهي لا تكون كذلك إلا إذا أرسيت على قاعدة منهجية علمية تفرز من بينها المبدأ من الاستراتيجية عن التكتيك . الاستراتيجية والتكتيك عناصر لصيقة بالقيادة بكل خصائصها الفذة وظروفها التي انقضت فهي من مفردات التجربة التي تنسب إلى عبد الناصر. أما المبدأ فهو وحده الذي يبقى مميزاً ” للناصرية“…
ومن ناحية أخرى ، فإن هذا المنهج العلمي القادر على أن يستخلص من تجربة عبد الناصر ” نظرية ” ناصرية يمثل ضرورة، مهما كانت لازمة حتى في حياة عبد الناصر، فإنها الآن حتمية. ذلك أن ” الضمان ” الذي كان يقدمه شخص عبد الناصر ضد مخاطر التجربة والخطأ قد سقط بوفاة الزعيم الذي كان محل ثقة الجماهير العربية. وبالتالي فإن مخاطر التجربة والخطأ بعد عبد الناصر، قد أصبحت بدون حدود ، وأصبح محتماً أن يستبدل بمنهج التجربة والخطأ لذي فقد الضمان ضد مخاطر منهج علمي يحصن المسيرة المقبلة ضد الجنوح إلى التجريب بحجة أن عبد الناصر قد جرب من قبل .. وهكذا نرى أن ثمة فارقاً مميزاً أساسياً بين تجربة عبد الناصر والناصرية ، هو أن ضابطاً لحركة تجربة عبد الناصر كان ” التجربة والخطأ ” وأن ضابط الحركة الناصرية هو ” المنهج العلمي “.. أو لا بد أن يكون كذلك .. وهو عبء لا بد لمن يريدون للناصرية أن تقود الجماهير من أن ينجزوه …
إذا صح ما تقدم ، وهو عندنا صحيح ، فقد صحح ما قال به عبد الناصر من أن اصطناع ” الناصرية ” في حياته كان اختلافاً معادياً له وللثورة . لأنه إذا صح أنه لم يكن من الممكن في حياة عبد الناصر أن توجد ” الناصرية ” فإن دلالة ” الناصرية ” في ذلك الوقت لم تكن تزيد عن الانتماء إلى عبد الناصر الشخصي . تمهيداً لضرب التجربة في الشخص نفسه . ودلالة ” الناصريين ” في ذلك الموقف لم تكن تزيد عن الولاء لعبد الناصر الشخصي تشهيراً بموقف الولاء للقضية التي كان يناضل من أجلها عبد الناصر…
يترتب على هذا أيضاً أن ” المفردات ” من الرجال الذين عرفوا عبد الناصر أو عاشروه أو صادقوه أو أسهموا معه في الثورة أو شاركوه مسيرتها ، أو ناضلوا تحت قيادته، أو كانوا له أعواناً ومستشارين وجنداً .. الخ ، يحسبون على عبد الناصر تبعاً لعلاقة كل واحد منهم به وموقعه منه .. ولكن هذه العلاقة أو الموقع لا تؤهل أياً منهم ” بالضرورة ” ليقول أو يقال عنه أنه ناصري ..
” الناصري ” لا ينتمي إلى عبد الناصر ولكنه ينتمي إلى ” الناصرية ” بخصائصها التي ذكرناها وبالتالي فإن كل الذين لم يكملوا المسيرة مع عبد الناصر إلى أن بلغت ذروة نضجها فتخلوا عنها في مراحل سابقة على وفاته ، أو كل الذين أكملوا المسيرة معه ” موظفين ” تحت قيادته ثم توقفوا بوفاته ، أو كل الذين اهتبلوا فرصة وفاته فتنكروا لمسيرته أو ارتدوا عنها أو حاولوا الرجوع إلى المواقع الفكرية والتطبيقية التي كان عبد الناصر قد تجاوزها .. كل أولئك ، بالإضافة إلى الذين ينقضون بناءه لبنة لبنة لا يستحقون أن يكونوا ناصريين ولا ينسبون إلى الناصرية مهما كانت علاقاتهم الحميمة والقريبة والطويلة مع عبد الناصر… أما الذين توقفوا فكراً وحركة بوفاة عبد الناصر ويقضون أيامهم الراكدة يجترون أفكاره ويترحمون عليه فاولئك ” لا شيء ” أنهم يبعدون عن حركة الحياة كلها بعد عام 1970 عن الحاضر المتجدد أبداً..
على ضوء هذا، ما هو الموقف ” الناصري ” من مشكلة الديموقراطية في مصر ؟
نحدد أولاً عناصر المشكلة كما تركها عبد الناصر ، وحلها وأسلوب الحل :
المشكلة والحل :
قبل أن يغيب عبد الناصر كانت مشكلة الديموقراطية في مصر قد وصلت إلى الوضع الآتي :
(أولأ) كانت الثورة في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد رفضت المفهوم الليبرالي للديموقراطية أي عدم تدخل الدولة في حل مشكلات الشعب (1952) وأقلعت- بعد تجربة فاشلة- عن التدخل خدمة للرأسمالية فاتجهت إلى التخطيط الشامل من أجل حل التنمية بقيادة القطاع الخاص (59 / 1960) فلما نكص القطاع الخاص (الرأسمالية الوطنية) عن أداء دوره الوطني أخذت بالتنمية الاشتراكية (1961) ونجحت نجاحاً فائقاً في الحد من الفقر الذي هو أعتى عقبات الديموقراطية إلى أن تعرضت لعدوان 1967 وأصيبت بهزيمة قاسية فاتجه عائد التنمية المتزايدة ، أو أغلبه ، من خدمة رفع مستوى المعيشة إلى خدمة إعادة بناء القوات المسلحة وحرب الاستنزاف واستطاع القطاع العام فعلاً أن يوفر كل الامكانات المادية والمالية والتكنولوجية التي استعملها جنودنا في حرب اكتوبر 1973.
وكان حل مشكلة الفقر حلاً نهائياً ، باعتباره قيداً على الممارسة الديموقراطية يقتضي مزيداً من التحول الاشتراكي ومزيداً من سيطرة القطاع العام ومزيداً من ” اقتصاد الحرب ” لتستطيع الدولة أن تزيد من معدلات التنمية والحفاظ على المقدرة العسكرية في الوقت ذاته .
(ثانياً) وكانت الثورة ، في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد قضت أو أضعفت أعداء ديموقراطية الشعب من الاقطاعيين (1952- 1961) والرأسمالية الكبيرة الصناعية والتجارية والزراعية عام (1961) والمؤسسة العسكرية الارهابية (1968) ولم يبق إلا البيروقراطية التي تضخمت وتكثفت سلطاتها وأفلتت من المسؤولية عن طريق إسناد أعمالها أو تغطيتها بالسلطات المركزية الكبيرة التي خولها الدستور 1964 لرئيس الجمهورية .
وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقتضي الحد من سلطات رئيس الجمهورية وتوزيعها على أجهزة الدولة ليكون شاغل كل سلطة مسؤولاً عن ممارسة سلطته بدون احتماء أو اختفاء وراء أسم وهيبة رئاسة الجمهورية .
(ثالثاً) وكانت الثورة في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد خطت خطوات كبيرة نحو تحرير الفلاحين والعمال ( 1952 ـ 1961 ) ، وعزلت أعداء الشعب ( 1963 ـ 1964 ) وأستعملت كل الأساليب التي خطرت على بالها لإخراج الشعب من سلبيته ، بالتعلم والثقافة والإعلام والتنظيم (هيئة التحرير / الاتحاد القومي / الاتحاد الاشتراكي العربى) ، وأقرت للشعب المنظم بسلطات دستورية محدودة في دستور 1956، وبسلطة السيادة في دستور 1964 ، ولكن البيروقراطية المتحالفة مع الرأسمالية الطفيلية، اغتصبت تلك المؤسسات الشعبية وسيطرت عليها وسخرتها لمصالحها فأصبح كل منها ، منذ نشأته وإلى أن قضى أداة تابعة للسلطة التنفيذية .
وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقتضي رفع يد الحكومة عن الاتحاد الاشتراكي العربى ، واستقلاله عن السلطة التنفيذية، ليستطيع أن يباشر حقوقه السيادية على كل السلطات .
حدة المشكلة :
كانت تلك هي الجوانب الرئيسية لمشكلة الديموقراطية في مصر كما انتهت إليها عام 1970 وكانت تلك هي حلولها الواجبة والممكنة. وبالرغم من أن ثورة 1952 وثورة 1961 كانتا قد تقدمتا خطوات كبيرة نحو حل مشكلة الديموقراطية ـ كما أوضحنا من قبل ـ على وجه لا تمكن مقارنته بما كانت عليه مصر منذ حكم الفراعنة حتى حكم الملوك ، فإن المشكلة ، مشكلة الديموقراطية كانت قد زادت حدتها أضعافاً مضاعفة عام 1970 عنها عام 1952 أو ما قبله من أعوام .
لماذا ؟
لأن حدة المشكلة ، أية مشكلة ، لا تتوقف على حدها الموضوعي بقدر ما تتوقف على الوعي بها . نعني وعي الناس بالتناقض بين ما يريدون وبين ما هو متحقق لهم فعلاً . الحد الأول من التناقض وهو الإرادة التي يخلقها وينميها الوعي عامل أساسي في مدى الشعور بحدة المشكلات الاجتماعية بمعنى أنه مهما تحقق للناس من تقدم مادي أو سياسي أو ثقافي أو اجتماعي فإن وعيهم بما يريدون وإرادة تحقيقه هو الذي يحدد في النهاية الشعور بعمق التناقضات الاجتماعية وما إذا كانت قد زادت أو خفت وانتهت . وحين يسبق وعيهم تقدمهم تزداد المشكلة حدة بالرغم مما يكونون قد أصابوه من تقدم . كالذي يعاني مشكلة استرداد دين يحسبه قليلاً فيرضيه مايسترده إلى أن يعرف أنه كان ضحية ” نصب ” وان حقه أكثر مما استرد فيصبح أكثر معاناة لمشكلة الاختلاس بالرغم مما أسترد . كالفلاحين القانعين برضا ” السادة ” يتبينون أنهم ليسوا عبيداً ولاالآخرون سادة فيصبحون أكثر شعوراً بحدة مشكلة القهر والعبودية . كالعمال الذين يكتفون بما يعطيهم رب العمل من أجور فيقال لهم إن القطاع العام ملك للشعب، ملككم، فيصبحون أكثر شعوراً بتسلط الإدارة . كالجماهير السلبية الراكدة اللامبالية بالنشاط السياسي ، تنتظم في مؤسسة شعبية لها سلطة السيادة فتشعر بحدة مشكلة الاستبداد وهي ترى البيروقراطية قد استولت على تنظيمها..
ولقد استطاعت الثورة ، بأساليب شتى، منذ 1952 حتى 1970، ان تحرك الركود الاجتماعي والسياسي وأن تفتح عيون النائمين وتوقظ طموح القانعين وتعلم الناس أن لهم حقوقاً مسلوبة منذ حين . وتولت انجازاتها المحسوسة في التنمية في فتح شهية البشر لمزيد من الرخاء باعتباره حقاً لمن ينتجه . وتولت أجهزتها الإعلامية- باقتدار فائق- القضاء على كل شك في مبدأ ” المساواة ” وأن تدخل في نطاق إدراك المغبونين أن لهم حقوقاً لم يكونوا من قبل يعرفون أنها لهم . ولقد حاولت الثورة ـ طوال عمرها ـ أن تحقق للشعب مزيداً مما يريد ولكن نجاحها في التوعية والإيقاظ كان أكثر بكثير من نجاحها في الفعل والانجاز . وبالتالي فإن مشكلة الديموقراطية كانت تزداد حدة مرحلة بعد مرحلة منذ 1952 لأن وعي الناس بمعوقات الديموقراطية كان يزداد عمقا مرحلة بعد مرحلة منذ 1952 بالرغم من أن الثورة قد رفعت منذ 1952، عقبات كثيرة في كل مرحلة من مراحلها .
وتضاعفت حدة مشكلة الديموقراطية حين تضاعف عدد المصريين خلال عمر الثورة . فهذا جيل جديد هو جيل الثورة، قد أصبح صلب التركيب الاجتماعي وبدأ يربي على يديه جيلاً ناشئاً بعده ، قوامه الأخوة الصغار. وجيل الثورة لم يرث من الجيل الذي سبقه ” كنز القناعة ” الذي لا يفنى والذي دفنته الثورة. والمساواة عنده بديهية إنسانية كما علمته الثورة . ولم يعرف أحد منه ” عز ” امتلاك الابعديات وسكنى السرايات ودولة المليونيرات والأمراء والأميرات والبكوات والباشوات ، فذلك عالم قضت عليه الثورة . وهو قد سمع وتعلم فآمن بقيم الحرية والمساواة والتقدم والديموقراطية فهو يعاني أكثر من اي جيل مضى مما يمس هذه القيم أو يحول دون تحويلها إلى حياة فعلية . لأنه يعرف ـ أكثر من أي جيل مضى ـ إن تلك حقوق له لا بد لها من أن تصبح واقعاً يحياه . ولقد تمرد، أوكاد أن يتمرد ؟ هذا الجيل ، حين كان ناشئاً ، على الثورة وقائدها عام 1968، لأن التناقض بين ما كان يريد وما وقع فعلاً كان أكثر حدة مما عرفه أي جيل آخر . ولم يتوقف كثيراً ليعرف أنه جيل تحقق له ما لم يكن يحلم به أي جيل قبله . تحققت له أولاً وقبل كل شيء فرصة أكبر للافلات من الموت في سن الطفولة (هبطت نسبة الوفيات إلى تسعة في الألف حتى سن الرابعة) بفضل رفع مستوى المعيشة والخدمات الصحية وإمداد القرى بالمياه النقية والخدمات العلاجية والدوائية المجانية للعمال فأصبح هذا الجيل حين أدرك سن الخامسة عشرة يمثل نصف عدد الشعب تقريباً . وقد كانت نسبة مرتفعة من الأجيال السابقة يحول الموت مبكراً دون أن تواكب جيلها. وفرص التعليم المباح بدون أجر والجامعات المفتوحة لكل قادر ذهنياً بدون قيد، والعمل ينتظره فور تخرجه بدون أن يعرض نفسه لمهانة ” النخاسة ” فلا يباع ويشترى وتحدد له المنافسة الحرة في سوق العمل سعره ، كما كان يحدث لأجيال قبله .. وبدون أن يعرض أهله لمذلة استجداء التوصيات من البكوات والباشوات ليحصل على عمل كما كان يذل أهل جيل قبله . لم يتوقف جيل الثورة عند كل هذا لأن ذاتها لم تترك فرصة أو مناسبة لتعليمه وإن كل ما قدم إليه ليس إلا بعض حقه من وطنه وإنه لم يسترد بعد كل حقوقه فطالب ـ بجسارة صاحب الحق ـ بما يستحق كاملاً . و لم يزل .
من بين الانجازات الديموقراطية للثورة كان هذا الانجاز ” البشري ” أروعها ، لأنه استولد الشعب العملاق جيلاً يقظاً . واليقظة الشعبية أولى شروط الديموقراطية نظاماً والديموقراطية ممارسة. وهكذا، حين وافت سنة 1970 كان في مصر شعب أكثر تمسكاً بحقه في الديموقراطية من شعب 1961 ومن شعب 1956 ومن شعب 1952 لأن موجة الوعي الشعبي كانت في تصاعد مستمر منذ 1952 بفعل الثورة ذاتها . وكان لا بد أن تحل المشكلة الديموقراطية في شعب شبابه جيل يقظ متوتر لا يقبل أنصاف الحلول أو الانتظار .
إنه الجيل ” الناصري “…
وكان حل مشكلة الديموقراطية في مصر يقتضي التعامل مع هذا الجيل وإتاحة الفرصة له ليتحول من جيل عريض من الأفراد إلى قوة منظمة محررة من رواسب الماضي لتقود المسيرة الاشتراكية والديموقراطية .
الأسلوب :
في بيان أسلوب حل مشكلة الديموقراطية تتجلى قمة نضج موقف عبد الناصر من فهم المشكلة وحلها. عبد الناصر هنا ” عالم ” متمكن من المعرفة الصحيحة بمشكلة الديموقراطية. تقوم معرفته على الوعي بمعطيات موضوعية غير مشوبة بأية أوهام ” مثالية “. وهو أكثر وعياً من أية مرحلة سابقة بالبعد التاريخي لمشكلة الديموقراطية ، وبكيفية حلها ، وبالقوى القادرة على إنجاز هذا الحل وبأساليب حركتها في نضالها الطويل من أجل الديموقراطية ..
(1) في يوم 12 نوفمبر 1964 قال عبد الناصر : ” احنا ما بقيناش دولة اشتراكية ، ولا يمكن أن احنا نقول ان احنا النهارده دولة اشتراكية . احنا في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية “. فإذا تذكرنا انه كان قد قال من قبل في يوم 9 يوليو 1960: ” هناك.. اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديموقراطية الاقتصاد وأن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة “.. إذا تذكرنا هذا تكون خلاصة موقف عبد الناصركما انتهى إليه ان مصر ليست دولة ديموقراطية لأنها ليست دولة اشتراكية . وأنها في مرحلة انتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية لأنها في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وأن الديموقراطية في مصر في العالم الثالث النامي ، كما قلنا في بداية هذا الحديث ، ليست نظاماً نموذجياً قابلاً للتطبيق بالأمر ولكنه نضال طويل يتقدم خلاله الشعب من خلال الوعي والممارسة نحو الديموقراطية .
(2) في خلال مرحلة التحول هذه لا يعني تجريد أعداء الديموقراطية الاشتراكية أسلحتهم أنهم غير موجودين : لا : ” الرجعيين موجودين والرأسماليين موجودين ومستنيين أي غلطة ويتلقفوها .. المجتمع الاشتراكي في مرحلة الانتقال من الرأسمالية المستغلة إلى الاشتراكية لم يتوصل إلى التخلص من آثار الاقطاع والرأسمالية والبيروقراطية (عبد الناصر في 12 نوفمبر 1964) . ” يمكن جردناها من أسلحتها وجردناها من أموالها ولكن هذه الطبقة لا زالت موجودة .. لسه عايزه عشرات السنين لغاية ما تنقرض هذه الطبقة ” (عبد الناصر في 24 ديسمبر 1964) . ” فيه حزب رجعي وحيفضل موجود بدون إعلان وبدون ترخيص وعارفين بعض واتلموا على بعض ومنظمين قوى ” (عبد الناصر في 16 مايو 1965) . ” إن المشكلة هي أن العناصر المضادة للثورة موجودة داخل الاتحاد الاشتراكي وهي عناصر حركية ونحن ينقصنا داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه العناصر الحركية المخلصة .. وفي رأيي أن الاتحاد الاشتراكي بوضعه الحالي لا يستطيع أن يقوم بالعمل السياسي ولا بتحقيق تحالف قوى الشعب العاملة . لأن الأعضاء الموجودين فيه اليوم يمثلون عناصر ثورية وعناصر مضادة للثورة . (عبد الناصر ـ مفهوم العمل السياسي ـ 1965) .
(3) ” فما هو الحل ؟.. هل نمسك بالاقطاعيين والرأسماليين والرجعيين ونذبحهم ونقول نخلص من شرهم ؟ .. سيقولون إن هذا ليس طريقنا ولا سبيلنا . إن الحل لهذا هو أن تتجمع القوى الاشتراكية وتتعارض وتنظم لتتصدى بكل قوة لمحاولات القوى الرجعية ” (عبد الناصر في 12 نوفمبر 1964) . ” قد نستطيع أن نتغلب على هذا النقص بالوسائل الإدارية ونقول ايه دي وسائل إدارية ثورية ولكن أعتقد أن مرحلة الوسائل الإدارية انتهت .. ولا بد أن نعتمد على الوعي الكامل للشعب العامل ” (عبد الناصر في 16 مايو 1965) .
(4) ” الحل هو أن يكون لدينا كادر وحزب “.. يجب إذن أن نعمل على أساس هدف .. هل الهدف أن نقيم تنظيماً على الورق .. طبعاً لا.. لأن وجود التنظيمات على الورق لا يحقق هدفنا .. وأنا أعتقد أن الهدف الأساسي هو أن ينشط الاتحاد الاشتراكي كاتحاد جماهيري يجمع كل الجماهير... وفي نفس الوقت نخلق تنظيماً سياسياً ” . ” وإذا اعتبرنا أن عملنا يجب أن ينحصر في العمل السياسي في الوقت الحاضر حتى نستكمل تشكيل الحزب “. ” اننا نريد الحزب الاشتراكي داخل الاتحاد الاشتراكي وبدون هذا الجهاز السياسي الذي أسميه الحزب الاشتراكي فلن نستطيع أن نقود الجماهير أو أن نتصدى للقوى المضادة ” (عبد الناصر ـ مفهوم العمل السياسي ـ 1965) ” إحنا حاطين في الاتحاد الاشتراكي تسعة مليون ، إذن يجب أن ننظم القوى الاشتراكية الثورية في كادر سياسي أو في تنظيم سياسي، من داخل الاتحاد الاشتراكي ، وبهذا نستطيع فعلاً أن نقيم بنيان التنظيم السياسي ودي عملية سايرين فيها دلوقتي… “ .
التوقف :
في آخر خطاب عام ألقاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يوم 22 يوليو 1970 لم يذكر كلمة واحدة عن الديموقراطية . والواقع أنه بالرغم من إصداره بيان 30 مارس في أوائل عام 1968 فإنه منذ هزيمة 1967 كان قد تفرغ وأعطى كل فكره وجهده .. ثم أخيراً حياته .. لحل مشكلة التحرير التي تفاقمت بعد الهزيمة بحيث نستطيع أن نقول مطمئنين إلى أن تجربة الديموقراطية كما قادها عبد الناصر توقفت عند 1967. وليس أدل من هذا أنه بالرغم من أنه كان قد شكل لجنة موسعة يوم 30 مايو 1966 لوضع الدستور الدائم . وكانت توالي مهمتها، فإنه في بيان 30 مارس استفتى الشعب على تأجيل وضع الدستور الدائم إلى ما بعد إزالة آثار العدوان فوافق الشعب على التأجيل حتى ” لا يعلو صوت فوق صوت المعركة “ .
وفي 28 سبتمبر 1970 توفي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تاركاً مشكلة الديموقراطية وحلولها الممكنة وأسلوب حلها عند الحدود التي أوردناها من قبل . ورشح الاتحاد الاشتراكي العربى الرئيس أنور السادات للرئاسة ، فرشحه مجلس الأمة ، واستفتى عليه رئيساً . وفي شهر مايو 1971 بدأ الصراع في القمة . كان الموضوع ” الظاهر ” للصراع هو إقامة اتحاد ثلاثي بين مصر وليبيا وسوريا . وعرض الأمر على اللجنة التنفيذية العليا وانقسم الرأي وكان الرئيس السادات في صف الاقلية . فاجري تعديل على مشروع الاتحاد يتفق مع رأي الأغلبية فحظي المشروع بالموافقة الإجماعية. ولكن رئيس الجمهورية رأى أن وراء الأكمة ما وراءها فأطاح بالذين عارضوه .. ثم حل جميع المؤسسات الشعبية والدستورية التي رشحته نفسها لرئاسة الجمهورية وكشف فقال إن ! كانت كلها، منذ إنشائها ، مصطنعة . ثم أعاد إنشاءها مجدداً وأصدر دستور 1971 (11 سبتمبر 1971) فجاء الدستور مضيفاً إلى السلطات التي كانت مخولة للرئيس جمال عبد الناصر سلطات لا مثيل لها في أي دستور مصري سابق أو أي دستور نعرفه في العام . وبذلك تكثفت أكثر من ذي قبل السلطات التنفيذية في يد رئيس الدولة. أما الاتحاد الاشتراكي العربى فقد أصبح ـ حين صدور دستور ـ 1971 تجمعاً من الناس على الورق وفي المقرات يفتقد عنصرين من عناصر تكوينه. أولهما التنظيم السياسي داخله والثاني اللجنة التنفيذية العليا لم تشكل أبداً . فكان هو أيضاً اتحاداً شتراكياً عربياً لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة لا بالاتحاد الاشتراكي العربى كما جاء في الميثاق ودستور 1971 ولا بالاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان قائماً قبل مايو 1971.. وكانت تلك فترة توقف طالت إلى أن يرى الرئيس كيف يكون الاتحاد الاشتراكي العربي .. خلال فترة الانتقال هذه طرحت مشكلة الديموقراطية في مصر للمناقشة ، وكان الذي تولى طرحها الرئيس أنور السادات نفسه كما قلنا في بداية هذا الحديث وبالرغم من كل المواقف المختلفة والمتنوعة فقد كان الاختبار الأساسي محصوراً بين أمرين :
الأمر الأول : تكملة ” المشوار ” الديموقراطي الذي بدأه عبد الناصر انطلاقاً من آخر ما وصلت إليه المشكلة وحلولها الممكنة ، التي أوردناها من قبل .
الأمر الثاني ، إلغاء التجربة والاختيار من جديد ..
وكانت صعوبة الاختيار، التي أثارت كثيراً من الجدل ، إن وراء الاختيار الديموقراطي كان يكمن الاختيار الاشتراكي… فكيف كان اختيار الرئيس أنور السادات ..؟ إن الإجابة تخرجنا عن موضوع حديثنا. وموضوع حديثنا عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر.. وليس عن أنور السادات ومشكلة الديموقراطية في مصر..
على هامش التجربة :
هناك موضوعان يمثلا جزءاً بارزاً مما يكتبه المؤرخون أو أصحاب المذكرات وهم يتحدثون عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر. و مع ذلك فإننا لم نعطهما مكاناً في هذا الحديث :
أولهما : الجرائم التي ارتكبت ضد بعض المواطنين الذين قبض عليهم خلال مراحل متفرقة من حكم عبدالناصر .
ثانيهما : الصراع بين عبد الناصر قائد الثورة وبين الشيوعيين والاخوان المسلمين وماصاحبه من أحداث كانت في بعض الحالات دموية .
لم نتحدث عن الموضوع الأول لأن ما وقع اكان جرائم . وهي جرائم معاقب عليها بأقصى العقوبات إلى حد الإعدام بمقتضى ذات القوانين التي تشكل ركناً من أركان نظام عبد الناصر.. والجرائم تقع في كل مجتمع وفي كل نظام ولولا هذا لما وجدت القوانين الجزائية و المحاكم والسجون .. ولكنها ، مهما بلغت بشاعتها ، لا تؤثر في طبيعة النظام ذاته . ثم أن تلك الجرائم قد تحدد مسئوليتها قضائياً على عاتق الذين كانوا في ظل حكم عبد الناصر يناهضونه ويقيمون دولتهم العسكرية فوق دولته المدنية . ثم ، إذا قيل إنه لم يفعل شيئاً ، نقول ، إن عبد الناصر هو الذي صفى المؤسسة العسكرية، وقدم أعضاءها إلى المحاكمة . وفي حياته قضي على شمس بدران عميد المجرمين في القوات المسلحة ، وصلاح نصر عميد المجرمين في المخابرات العامة بعقوبات جسيمة بعد محاكمات عادلة. والذي نعرفه أن الرئيس أنور السادات قد أمر بالافراج عنهما وإخراجهما من السجن .. ليتقدم المجنى عليهم ، مرة أخرى ، ويأخذون موقف عبد الناصر فيخاصمونهما لدى القضاء الذي يعيد الحكم عليهما مرة أخرى .. وليس في كل هذا ما يمكن أن يغير الموقف من الديموقراطية ..
ولم نتحدث عن الصراع بين عبد الناصر قائد الثورة وبين الشيوعيين والإخوان المسلمين أولاً لأننا لا نحبذ النفاق وثانياً لأن ذلك الصراع لا علاقة له بمشكلة الديموقراطية في مصر وثالثاً لأن الصراع على السلطة ليس لعبة رياضية. إن كلأ من الشيوعيين والاخوان المسلمين كان حزباً منظماً يواجه دولة منظمة يقودها عبد الناصر وقد قدر الشيوعيون والإخوان المسلمون ودبروا وخططوا وجهزو ا وأعدوا ما استطاعوا من عدة لإسقاط عبدالناصر عنوة والاستيلاء على السلطة . ولو نجح أي منهما فيما دبر وخطط لقدموا عبد الناصر وكثيراً من رفاقه إلى المشانق ، أو لنجحت محاولات اغتياله .. اختاروا إذن قواعد الصراع بالعنف فتحداهم إليها وسحقهم بدلاً من أن يسحقوه . وقد يكون من حقهم الانساني أن يتألموا.. ولكنهم لا يستطيعون أن ينسبوا إلى عبد الناصر أن خالف قواعد الصراع التي اختاروها . ولا علاقة للشعب في مصر بتلك القواعد وصراعاتها الدموية من أجل الاستيلاء على الحكم .. أي لا علاقة لتلك القواعد وصراعاتها بمشكلة الديموقراطية في مصر فلا توجد دولة في العالم تقبل أن يسقطها أعداؤها بالعنف خشية أن تتهم بأنها غير ديموقراطية .
كل هذا على هامش التجربة وليس من صميمها فلا يستحق أن يذكر .
و أخيراً :
فلقد اجتهدنا ولكل مجتهد نصيب .. من الرضا أو من السخط . ونحن نقبل نصيبنا أياً كان نوعه لأننا ما أردنا ـ منذ البداية ـ أن نرضي أحداً أو أن نغضب أحداً . وما يزال باب الاجتهاد مفتوحاً … لمن يريد .
القاهرة مايوـ يوليو 1977 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق