الحرب الاخيرة ..
د.عصمت سيف الدولة .
الآن وقد مضى أكثر من عام على حرب تشرين (أكتوبر) 1973 وهدأت الانفعالات الايجابية والسلبية التي أثارها النصر المحدود الذي تحقق . أصبح من الممكن الحديث عن الحرب التي مضت من اجل الحرب القادمة حديثا هادئا وموضوعيا نضعه تحت أنظار جميع الأطراف المعنية ، ونوجهه الى جماهير أمتنا العربية الأصيلة الغائبة . ما الذي حدث في حرب تشرين ( أكتوبر) 1973. في الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 تشرين (أكتوبر) 1973 اشتبكت جيوش مصر وسوريا مع جيوش العدو الصهيوني في حرب رابعة أكثر ضراوة من الحروب الثلاثة السابقة (1948- 1956- 1967) وان كانت تكرارا لها من حيث هي أسلوب . واستطاعت القوة العربية أن تقتحم القناة وان تدمر خط بارليف وان تطارد جند الصهاينة الى أن توقف القتال بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر في 22 أكتوبر 1973 . وكما حدث من قبل لم يستجب العدو للقرار الى أن كسب أرضا جديدة انسحب منها بعد ذلك نتيجة مساع دبلوماسية ووقف الأمر عند الحد الذي هو عليه الآن . في خلال تلك الحرب تلقت الدول العربية المحاربة أقصى تأييد ممكن من باقي الدول العربية .. لم تتخلف دولة عربية واحدة عن الإسهام في المعركة بما تستطيع وتقبل ، وبلغ التعاون العربي ذروته ، وثبت من كل هذا أن الدول العربية قد اختارت أكثر الظروف ملاءمة لمعركتها الرابعة .. نجحت تماما في بناء قواتها المسلحة وتدريبها وتسليحها فأنزلت بالصهاينة خسائر فادحة وأوقفت التفوق " العسكري الإسرائيلي وحطمت هيئة المؤسسة العسكرية الصهيونية وجرعت الآباء والأمهات في إسرائيل كؤوس الأحزان التي كانت حتى ذلك الحين مقصورة على شاربيها من العرب . ونستطيع أن نقول أنها دست في أفئدة كثير من الإسرائيليين بذور الشك في الحل الصهيوني لمشكلاتهم . ثم إنها نجحت تماما في كسب الرأي العام العالمي لمعركتها . الصين معها وتتجاوزها . الكتلة الاشتراكية معها وهو كسب قديم . دول أوروبا الغربية على الحياد عامة وهو كسب كبير. دول إفريقيا تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل تباعا وهو كسب على اي حال . ولم تبق إلا الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت ثقلها العسكري في ميزان القوى في ميدان القتال فاعتدل شيئا ما لحساب إسرائيل حتى لاذت بحلفها مع الاتحاد السوفيتي تأمران بإيقاف إطلاق النار فوقفت النار. والوضع إن لم يكن في صالح الدول العربية تماما ، فهو في غير صالح إسرائيل على وجه اليقين . وهو كسب جديد للدول العربية بالقياس الى الحروب السابقة. ونجحت الدول العربية تماما في استثمار العلاقات فيما بينها وبين الدول الأجنبية ، فقدمت الدول العربية كل ما استطاعت وقبلت من عون مالي وزادت دول البترول فقررت تخفيض الإنتاج وحجبه عن أمريكا وهولندة .... والحصيلة النهائية أنها كسرت جمود الموقف السابق على 6 تشرين (أكتوبر) 1973 وجعلت من عام 1973 عامها هي بدلا من عام أوروبا فتلقت وعداً مضمونا من الثنائي السوفيتي الأمريكي بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 242 وما تزال تنتظر الوفاء بالوعد المضمون . في ظل الظروف الدولية والعربية التي وقعت فيها حرب تشرين (أكتوبر) انتصرت الدول العربية على إسرائيل . انتصرت بمعنى أنها خططت واعدت وقاتلت وحققت ما تريد من القتال . وهذا نصر بالنسبة الى صاحبه . انه النصر الممكن منسوبا الى الدول العربية . وهذا يعني بوضوح انه إذا كان ثمة من لا يرضيهم ما تحقق في ساحة القتال أو على المستوى السياسي فان عليهم ان يسلكوا الى ما يريدون طرقا أخرى لا تمر بالدول العربية وقيود الإقليمية التي تكبلها . إن أي إنسان على قدر من الوعي بحقائق الظروف العربية القائمة وبوجه خاص حقائق الإقليمية لا يمكن أن يحمل الدول العربية أكثر مما تحتمل موضوعيا أو أن يتوقع منها أكثر مما تستطيع . والدول العربية في واقعها الإقليمي لا تستطيع إلا أن تستثمر إمكانياتها المتاحة ماديا وبشريا ودوليا بأكبر قدر من الكفاءة . ولا تستطيع أن تحقق من الغايات إلا ما يقع في حدود إمكانياتها . سواء كان هذا في ساحة القتال أو في مجال التعاون المتبادل فيما بينها أو في خضم الصراعات الدولية وموازينها الثقيلة . وقد استثمرت الدول العربية إمكانياتها بأكبر قدر من الكفاءة . كفاءتها هي وحققت من الغايات ما يتفق مع تلك الإمكانيات الموضوعية والذاتية فلا يمكن أن ينكر عليها احد ـ بحق ـ نصرها الذي تم . نقول هذا لنؤكد أمرا ونطرح أمرا ثانيا . الأمر الأول انه لم يحدث من الدول العربية تقصير جسيم كان كفيلاً ـ لو لم يقع ـ بتغيير النتائج النهائية تغييرا كبيرا سواء في ساحة القتال أو في النتائج السياسية التي ترتبت عليه . إن الجزئيات هنا غير ذات أهمية كبيرة في تحديد الصورة النهائية للموقف . فلا ينبغي أن نتجاهل الموقف العام لنسند الى فرد أو مجموعة من الأفراد أو دولة أو مجموعة من الدول أخطاء . قد تكون صحيحة ولكنها على أي حال ليست حاسمة . ما وقع كما هو يمثل غاية طاقة الدول العربية المحاربة كما هي في أحسن ظروفها . حتى الدول العربية التي لم تحارب لم يكن موقفها السلبي من القتال المسلح بخلا بأرواح رعاياها ولكنه كان تجسيدا لواقعها الموضوعي . انها ببساطة عاجزة موضوعيا عن القتال المسلح . وبالتالي لا محل لفتح أبواب الأوهام الإقليمية من جديد . لو كان فلان غير فلان ، لو كان أولئك مكان هؤلاء لو وقفت هذه الدول ذلك الموقف لاستطاعت الدول العربية أن تحقق أكثر مما حققت . أبدا ما كان يمكن تحت أي ظرف ولن يكون ممكنا تحت أي ظرف أن تحقق الدول العربية أكثر مما حققت في ظروفها الدولية القائمة . لأنها ـ في الواقع ـ قد حققت ما حققت في أفضل الظروف توقيتا وتسليحا وقتالا وتعاونا ودبلوماسية . إن القومية ليست مثالية . والموقف القومي ليس موقفا مثاليا وابعد ما يكون عن الموقف القومي ذلك الموقف المثالي الذي يتوقع من الدول العربية الإقليمية أكثر مما حققت : تحرير فلسطين مثلا أو تحدي إرادة الدول الكبرى مثلا آخر... أو الاستمرار في القتال بعد أن صدر إليها أمر مجلس الأمن مثلا ثالثا ... الخ . ثم يأتي الأمر الثاني الذي نطرحه ونتمنى أن يحظى بالعناية من كل الجماهير العربية التي ما تزال تحتفظ بولائها لامتها العربية . التسوية السلمية التي تتضمن الاعتراف بالوجود الإسرائيلي أو بضمان أمنها لن تتم . بالرغم من كل المحاولات التي يبذلها المجتمع الدولي عامة وكل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية خاصة وبالرغم من كل النوايا الخفية والمعلنة التي تسعى الى مثل تلك التسوية وبالرغم من كل الإغراءات والانتصارات التي تقدم ، او تحققها ثورة الشعب العربي في فلسطين فان الاعتراف بالوجود الإسرائيلي أو ضمان أمنها أو فتح المياه العربية لعملها .. الى آخر ما جاء في القرار 242 لن يتم . إن لهذا التأكيد أكثر من سبب وتتصل الأسباب بجميع الإطراف المعنية كما تتصل أساسا بقوى قادرة تماما على أن تحول دون تلك التسوية . وانه لمن مصلحة جميع الأطراف أن يكونوا على يقين من هذا . الحرب الخامسة إذن قادمة . قد تشنها إسرائيل تحاول أن تحقق فيها نصرا محدودا يعوض الآثار الداخلية المتردية التي سببتها هزيمتها المحدودة . وقد تشنها دول المواجهة العربية لكسر الجمود السياسي الذي تدفن فيه رويدا رويدا قضية إزالة آثار العدوان . في هذه الحرب المتوقعة ستلقي الدول العربية ـ مرة أخرى ـ بخلاصة الشباب من أمتنا العربية في أتون المعركة . وستستنزف ـ مرة أخرى ـ أغلب الطاقات الاقتصادية المتاحة لتحقيق نصر محدود جديد كل غايته أن يمنح من دماء عشرات الألوف من الشهداء ، وعشرات الملايين من الجنيهات ، "حقنة" تقوية لبعض المتسابقين العرب في مضمار المناورات السياسية . كل غايته أن يغذي أوهام الأمل في تحرير فلسطين على أيدي الدول العربية ويمد في حياتها حتى يحين حين الجولة السادسة . لا .. إني أقولها لكل الذين رخص عندهم الإنسان العربي الى الحد الذي يدفعون به الى الحروب لا من اجل النصر لامته ولكن من اجل تقوية مراكزهم في المساومات الدبلوماسية . لا .. ان حياة جماهيرنا العربية أغلى بكثير من أن نكون مجرد ورقة في لعبة المناورات السياسية . لا .. يكفي الدول العربية ما بددت من طاقات وما أنفقت من أموال وما أهدرت من دماء بحجة أنها تريد تحرير فلسطين . لا .. يكفي الدول العربية ما فرضت من قهر على جماهيرنا وما استنزفت من طاقاته وما اقتطعت من قوته بحجة أنها تشتبك في صراع مع الصهيونية من أجل تحرير فلسطين . لا .. إننا لا نريد أن تحكم إسرائيل جماهيرنا العربية بطريقة غير مباشرة عن طريق " اعتذار" الدول العربية بالصراع ضد إسرائيل لتغطية ما ترتكبه في حق جماهيرنا العربية من جرائم . إن من حق شعبنا العربي أن يوقف هذه اللعبة المدمرة والتي كان هو ضحيتها دائماً . من حقه أن يحول بكل قوته دون أن تبقى إسرائيل أداة لاستنزاف طاقاته دورياً ، فكلما بنى هدمت ، وكلما نشأ له جيل جديد دخل به حرباً جديدة ، وكلما حاول أن يتقدم توقف ليقاتل معاركه المحدودة . من حق شعبنا العربي أن تكون الحرب الخامسة هي " الحرب الأخيرة " ليتفرغ بعدها لبناء الحياة التقدمية رخاء وحرية . إن هذا يعني أن تكون غاية " الحرب الأخيرة " ليس مجرد تحريك للقضية على المستوى الدبلوماسي ، ولا إزالة آثار عدوان 1967 ، ولكن استرداد أرض فلسطين للشعب العربي . إذ من وجهة النظر القومية لا نفهم ما يقال له الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا استرداد أرضه المغتصبة . وبمنتهى الوضوح لا يتم هذا إلا بتصفية دولة إسرائيل ، أما ما يتلو هذا من قضايا فرعية مثل مصير البشر الذين جمعتهم الصهيونية على أرض فلسطين أو كيفية التعايش بين الأديان على الأرض العربية فكلها مشكلات ثانوية أو سهلة الحل وليس في التقاليد العربية ما يحول دون الوقوف منها موقفاً إنسانيا وحضارياً . المهم أن تكون الغاية الثانية للحرب الخامسة تصفية " الدولة ـ المؤسسة " التي تجسد السلطة الدخيلة وتحرم الشعب العربي من دولته التي تجسد سيادته المشروعة على أرضه . واضح أن أسلوب الدول العربية الذي مارسته منذ سنة 1948 وحقق أقصى عطائه في حرب تشرين ( أكتوبر) 1973 لن يحقق تلك الغاية لأسباب موضوعية لا يجدي تجاهلها أو المزايدة عليها . إذن فان تغييراً حاسما وجذريا يجب أن يتحقق في الوطن العربي كشرط سابق للنصر في الحرب الخامسة . أول عناصر هذا التغيير وأهمها أن تدخل الجماهير العربية ذاتها الحرب الخامسة . ان تكون صاحبتها جندا وقيادة وان ترسم هي إستراتيجيتها وتخوض هي مواقعها التكتيكية وتعبئ هي مواردها وتوظفها في سبيل أن تكون الحرب الخامسة التي هي حربها الأولى ، حربها الأخيرة . ليست هذه دعوة الى ما يسمى حرب التحرير الشعبية . إن حرب التحرير الشعبية مستحيلة على الأرض العربية لسبب بسيط هو أن جيوش الدول العربية تحول ـ بالقوة ـ دون حرب التحرير الشعبية ولكنها دعوة الى قيام دولة واحدة جماهيرية تخوض الحرب الخامسة والأخيرة . دولة واحدة تضم أقاليم مصر وسورية والأردن وفلسطين . نعم فلسطين . إن هذا هو الاستثمار القومي التقدمي الأمثل للاعتراف العالمي بان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني . إنها الآن تملك أن تدخل في وحدة فتصبح فلسطين المحتلة جزءا من دولة عربية واحدة من حقها تحرير قطعة من أرضها . نقول إن مثل هذه الدولة كفيلة بتحقيق النصر النهائي الحاسم في الحرب الخامسة ـ الأخيرة ـ إن هذه الدولة لا تحل فقط مشكلات الموازين الدولية الضاغطة ومشكلات التسليح الإسرائيلي الكثيف ، بل ستحل أيضا مشكلة " الناس " الذين سيتخلفون على الأرض العربية بعد تصفية دولة إسرائيل ، ولن يكون حل مشكلاتهم حينئذ على حساب الشعب العربي الفلسطيني وحده . ضد هذه الدعوة ستقدم الدول العربية وأجهزتها الإعلامية مئات الحجج من أول الحساسيات الشخصية الى ضرورة أن تسبق الوحدة دراسات متأنية لآثارها على التجارة والنقد ومناهج التعليم والنظم الاقتصادية ... الخ . عندئذ تتبين الجماهير العربية حقيقة موازين الدول العربية . ليس لدى الدول العربية مانع من أن تقاتل بأبناء أمتنا عشرين سنة في معارك محدودة النصر محدودة الهزيمة ، وتستنزف طاقاته عاما بعد عام وتحكمه بحجة تحرير فلسطين . ولكن لديها موانع كثيرة من أن تفتح حدودها وتستغني عن مقاعد السلطة فيها وتقبل " هزة " في نظمها التجارية وسعر عملتها ولو من أجل النصر النهائي على الصهيونية . ليس لدى حكام العرب مانع من أن يموت من كل جيل عربي عشرات الألوف من الشباب ، وان يسخر عائد الإنتاج العربي في شراء الأسلحة ، وان يجوع الشعب العربي ويقهر سياسيا واقتصاديا وفكريا من اجل تحرير فلسطين ولكن لديهم ألف مانع من أن يفقدوا مراكزهم كحاكمين ولو كان ذلك هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين . لا .. فلتقل الدول العربية ما تشاء فان دعوتنا ليست موجهة إليها . إنها دعوة الى الجماهير العربية في أن تختار بين حروب محدودة متكررة كل عشر سنوات أو اقل أو بين حرب أخيرة تتفرغ بعدها لحياة الحرية والرخاء . أن تختار بين الوحدة وبين التجزئة بين القومية وبين الإقليمية . وهي إذ تختار إنما تختار بين النصر والهزيمة . فلتختر الجماهير العربية الوحدة ، طريق النصر، من أجل أن تكون الحرب الخامسة هي الحرب الأخيرة .
مقال نشر في جريدة " السفير " البيروتية يوم 20/1/1975 م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق