بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 31 مارس 2018

تطور مفهوم الديمقراطية من الثورة الى عبد الناصر الى الناصرية / د.عصمت سيف الدولة .



  PDF

تطور مفهوم الديمقراطية من الثورة الى عبد الناصر الى الناصرية .

د. عصمت سيف الدولة .

ورقة قدمت الى الندوة التي نظمتها اللجنة الثقافية  في نقابة الصحفيين المصريين في ذكرى ثورة يوليو خلال الفترة 20- 24 تموز/ يوليو 1983 ، نشرت في مجلة المستقبل العربي العدد 56 تشرين الأول / أكتوبر 1983 .

اولا : مرحلة الثورة 1952- 1961 :

1 ـ كانت الديمقراطية السليمة من بين الأهداف الستة المعلنة لثورة 23 يوليو 1952. وأول ما يلاحظ ان تعبير " السليمة " يتضمن نقدا للديمقراطية كما كانت مطروحة ، في الفكر او في التطبيق أو فيهما معا ، قبل الثورة. ولكنه لا يفصح بداية عن بيان محدد لأوجه النقد تلك . كما ان تعبير " السليمة " المضاف الى الديمقراطية ينطوي على وعدين متلازمين أعلنت الثورة التزامها بتحقيقهما. الأول، الإبقاء على الديمقراطية بما يعني اجتناب ما يناقضها من النظم الاستبدادية . والثاني، ان تكون مطهرة من أوجه النقد الموجهة ، ضمنا ، الى ديمقراطية ما قبل الثورة . ولكن الوعدين كليهما جاءا مجردين من اي بيان يحددهما على المستوى الفكري او التطبيقي او عليهما معا . فجاء شعار " الديمقراطية السليمة " معبرا عن رؤية نقدية وبناءة ولكن غائمة وبالغة التجريد والغموض.
2 ـ يرجع هذا الى ما هو مسلم به من ان ثورة 23 يوليو 1952 قد قامت في زمانها تحت ضغط الحاجة الاجتماعية الملحة الى تغيير نظام واضح الفساد قبل ان تكتمل لها رؤية فكرية (نظرية) للنظام البديل ، وبالتالي لم يكن ممكنا ، حين قيامها ، ولا هو ممكن الآن، الرجوع الى نظرية الثورة لمعرفة المضمون الفكري او التطبيقي لشعار " الديمقراطية السليمة " الذي رفعته عنوانا لأحد أهدافها الستة . ولقد أقر قائد الثورة ، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ؛ بذلك القصور الفكري واشار الى اسبابه حين قال يوم 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961 : " ناس كثير بيقولوا ما عندناش نظرية. بدنا والله تقول لنا نظرية. فين النظرية اللي إحنا ماشيين عليها ؟ بنقول اشتراكية ديمقراطية تعاونية ، ايه هي النظرية ، ايه هي حدود النظرية ؟ انا باسأل، ايه هي اهداف النظرية ؟ انا بأقول إني ما كنتش مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان هذا الكتاب هو النظرية. مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عملنا 23 يوليو لأن ما كناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض  " .
ان عبد الناصر لم يعبر بهذا القول عن القصور النظري في ثورة 23 يوليو فحسب ، بل كشف عن اسبابه التاريخية . خلاصة تلك الاسباب ان الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت مصر ما قبل ثورة 1952 كانت قد وفرت الشروط الموضوعية للثورة ولكنها لم تسمح باكتمال نضج الشروط الذاتية . كان لا بد ، موضوعيا ، من الثورة في اوانها كمحصلة لمرحلة تاريخية سابقة . ولكن من خصائص تلك الظروف الموضوعية ذاتها ، ومن دواعي الثورة عليها ايضا ، انها لم تكن تسمح بوجود ونمو حزب ثوري مسلح بنظرية متكاملة . فكان لابد من الثورة بالممكن اذ لم تكن الظروف الاجتماعية والسياسية ومعدل سرعة تدنيها تسمح بانتظار ما يجب ان يكون . إن تلك الاسباب التاريخية التي تفسر لماذا قامت الثورة قبل ان تكتمل لها نظرية ثورية هي ذاتها التي تفسر قيام الثورة بتنظيم وتدبير وفعل مجموعة من ضباط القوات المسلحة (الضباط الاحرار) وليس بتنظيم وتدبير وفعل حزب جماهيري ثوري . ذلك لأنها لم تكن تسمح أيضا للممارسة الديمقراطية بأن تتعمق شعبيا وتنمو ثوريا الى الحد الذي يمكن الجماهير من خلق اداة الثورة . وهكذا جاءت ثورة 23 يوليو 1952 وهي تحمل من سمات القصور الفكري والتنظيمي ما يثبت انها الوليد الشرعي لمجتمع ما قبل الثورة . جاءت مضادة له في الاتجاه ولكن كما يضاد رد الفعل الفعل بدون ان يفقد الصلة به . بل يمكن ان يقال ان ثورة 33 يوليو 1952 كانت " رد فعل ثوري " على مجتمع ما قبل 1952 ، ولم تكن " فعلا ثوريا " ضده إن صح هذا التعبير .
3 ـ  ايا ما كان الامر فإن القصور الفكري في ثورة 23 يوليو 1952 لم يكن مقصورا على النظرية (الرؤية الفكرية الكاملة للمجتمع المستهدف) بل شمل ، وربما من باب أولى " المنهج العلمي " (معرفة واستخدام القوانين الموضوعية لحركة التطور الاجتماعي) . ولما كان تحديد خصائص الاهداف الاستراتيجية من ناحية ، وتوقعها من ناحية اخرى ، مستحيلين بدون الرجوع الى منهج علمي ، فإن ثورة 23 يوليو لم تكن قادرة ، حين قيامها ، على ان تحدد شكل او مضمون الديمقراطية السليمة التي وعدت بها ، ولو على المدى الاستراتيجي . كما لم يكن ممكنا للشعب او لغير القائمين على الثورة ان يتوقعوا ما ستكون عليه الديمقراطية شكلا ومضمونا في ظل الثورة . وقد أدى عدم إمكان التوقع ذاك الى خلاف كبير، وصل الى حد المواجهة العدوانية ، بين الثورة وبين المثقفين والقوى السياسية العقائدية (التقدمية والماركسية بوجه خاص) . الثورة غير قادرة على تحديد وعودها ، والمثقفون لا يجدون في عناصر الثورة (فكرا وممارسة) ما يطمئنهم الى احتمال تحقق تلك الوعود . واحتكم كل من الطرفين ، وتحاكما ، على هدى موقفهما من مرحلة قيام الثورة كواقع متعين بعد ان سلبه كل منهما الحركة المتطورة ، لعدم توفر العناصر التي تحدد اتجاه تلك الحركة وغايات تطورهما (المنهج والنظرية) . ولقد بلغت الازمة ذروتها في آذار/ مارس 1954. وبعدها حدثت فرقة استمرت سنين طويلة ، كانت الثورة تتطور خلالها تحت الرقابة النقدية المتطورة ايضا من جانب المثقفين الى ان وجد الطرفان انفسهما في مواقع واحدة او متقاربة بعد 1961، واكتشف كل منهما الى اي مدى كان القصور الفكري في ثورة 23 يوليو 1952 سببا في ازمة الثقة التي استمرت سنين . ولقد كان الخلاف منصبا أساسا على الديمقراطية شكلا وموضوعا .
4 ـ مع غياب المنهج والنظرية انتهجت الثورة " التجربة والخطأ " اسلوبا للحركة . قال عبد الناصر وهو يقدم ميثاق العمل الوطني الى  المؤتمر الوطني للقوى الشعبية  يوم 21 ايار/ مايو 1961 : " العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة . فترة ممارسة ، كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ ". وقال يوم 7 نيسان/ ابريل 1963، خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق : " بالنسبة لنا... تجربتنا قابلتنا اسئلة كثيرة بهذا الشكل . كان لا بد من ان نوضحها. في اول يوم لم يكن عندنا منهج لم تكن عندنا نظرية  " .
جادل ، او قد يجادل البعض بأن " التجربة والخطأ " ذاتها منهج علمي . وهي مجادلة تخلط بين " التجربة " و" التجريب ". التجربة إحدى الخطوات الاساسية في البحث العلمي لاختبار مدى صحة الفروض المستخلصة من العناصر الاولى بقصد الوصول الى معرفة قانون حركة تلك العناصر. وعندما تنتهي التجربة الى تأكيد صحة تلك الفروض ينتهي دورها وتتحول الفروض الى " قوانين " ، تستخدم بدون حاجة الى اختبار صحتها مرة اخرى . تكون مرحلة البحث العلمي قد انتهت واصبحنا على معرفة واثقة بقوانين الحركة الموثوقة وبطرق استخدامها لتحقيق ما نريد . اما التجريب فهو محاولة تحقيق ما نريد بدون معرفة سابقة بقوانين الحركة وطرق استخدامها ، فإذا لم تنجح المحاولة (الخطأ) نحاول بطريقة اخرى (نجرب) . ولما كانت معرفة النتيجة (خطا اوصوابا) تأتي بعد المحاولة ، فإنه يكون مستحيلا ان نعرف موضوع وشكل المحاولة التالية قبل ان تكشف لنا المحاولة الجارية عما اذا كنا قد اخطأنا ام أصبنا وبالتالي يكون مستحيلا التخطيط لاهداف تتجاوز المرحلة القائمة او توقع ما تنتهي اليه . وقد كان الامران كلاهما مستحيلا على ثورة 23 يوليو 1952 خلال الفترة موضوع البحث .
5 ـ  بناء على ما تقدم لا يمكن ـ علميا ـ ان ينسب الى ثورة يوليو 1952 مفهوم معين للديمقراطية طوال الفترة التي بدأت عام 1952 وانتهت باصدار " الميثاق " عام 1961. والواقع ان فهم الثورة للديمقراطية او محاولات ممارستها خلال تلك الفترة كانت مضطربة ومختلفة ومتناقضة في بعض الاوقات .
يكفي مثلا ان الثورة قد قامت ونجحت في الوصول الى السلطة يوم 23 يوليو 1952، وعزلت الملك يوم 26 تموز/ يوليو 1952 ولكنها عينت بدلا منه ملكا طفلا تحت مجلس وصاية ، وابقت على الدستور الملكي حتى اعلنت سقوطه في 10 كانون الاول / ديسمبر 1952 بدون ان تكون قد أعدت ما يملأ الفراغ الدستوري الذي استمر حتى 10 شباط / فبراير 1953 تاريخ اصدار الاعلان الدستوري الاول . وحتى حين اصدرت ذلك الاعلان لم تحدد موقفا من الملكية ، ففي ظله بقيت مصر ملكية حتى يوم 18 حزيران/ يونيو 1953 تاريخ اعلان الجمهورية . ولقد كانت الثورة شكلت لجنة يوم 13 كانون الثاني/ يناير 1953 لتعمل على " وضع دستور يتفق مع اهداف الثورة " ومع ذلك اصدرت اعلانها الدستوري بدون انتظار لما ستسفر عنه اعمال اللجنة ، وحددت لسريانه ثلاث سنوات مصادرة مقدما لأي مشروع دستور تعده اللجنة قبل هذا التاريخ . وفي 5 آذار/ مارس 1954 اصدر مجلس قيادة الثورة قرارا ينص على : " اتخاذ الاجراءات لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الاقتراع المباشرعلى ان تجتمع في خلال شهر تموز/ يوليو 1954 تقوم مقام البرلمان وتناقش الدستور الجديد وتقره ". ولم يكن هناك دستور جديد ولا احتمال ان يوجد خلال اربعة اشهر ليكون معدآ للمناقشة خلال شهر تموز/ يوليو 1954. وبعد نحو ثلاثة اسابيع على القرار " الفوري " الذي لم ينفذ قط ، اي في يوم 29 آذار/ مارس 1954 ، اصدر مجلس قيادة الثورة قرارا آخر بارجاء تنفيذه وان " يشكل فورا مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصه بقانون ". وهو اسلوب ديمقراطي بالغ التخلف يرجع الى ما قبل القرن الثامن عشر. ولم ينفذ شيء من هذا . وحين انتهت لجنة وضع الدستور من مهمتها وقدمت مشروعها الى مجلس الوزراء في 17 كانون الثاني/ يناير 1955 رفضته الثورة ووضعت هي دستور 1956.... وهكذا لم تكن الثورة تعرف ماذا تريد على وجه التحديد  .
6 ـ كان ذلك على المستوى الدستوري (نظام الحكم) . اما على مستوى الممارسة الشعبية فقد كان الاضطراب والاختلاف والتناقض اكثر وضوحا . ففي البداية كانت الثورة ترى ان النظام الديمقراطي الذي كان قائما قبلها نظام سليم وانما افسدته " فئة من المخادعين الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم ومطامعهم " (عبد الناصر في 16 ايلول/ سبتمبر 1953) . وتحت تأثير هذا المفهوم طلبت الثورة من الاحزاب القائمة ان تطهر نفسها بالتخلص من بعض قياداتها. وكان هذا الطلب ذاته معبرأ عن عدم معرفة حقيقة " المنظمة الحزبية " التي لا يصل الى مراكز القيادة فيها الا اكثر الافراد تمثيلا لمبادئها الفكرية وخطها السياسي ونموذجها الامثل في السلوك . فلما لم " يعجب " الثورة مدى التطهير اصدرت يوم 16 كانون الثاني/ يناير 1953 اعلانا بحل الاحزاب السياسية لم تضمنه منع النشاط الحزبي " فتذكرت " هذا بعد يومين واصدرت يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1953 مرسوما بحظر قيام الاحزاب مطلقا، ولم تفرق بين الاحزاب على اساس مواقفها من اسباب الحظر والالغاء . فقد كان السبب المعلن كما جاء في بيان الالغاء : " كنا ننتظر من الاحزاب ان تقدر مصلحة الوطن العليا فتقلع عن اساليب  السياسة المخربة .. ولكن على العكس من ذلك اتضح لنا ان الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية التي افسدت ثورة 1919 تريد ان تسعى ثانية بالتفرقة في هذا الوقت الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض العناصر من الاتصال بدولة اجنبية وتدبير ما من شأنه الرجوع بالبلاد الى حالة الفساد السابق... " انه سبب خطير لم يكن من الممكن ان ينسب الى كل الاحزاب التي ألغيت .
بعد خمسة ايام من حظر النشاط الحزبي اعلن قيام " هيئة التحرير " يوم 23 كانون الثاني / يناير 1953 المفروض ان نتوقع حزبا للثورة بديلا عن الاحزاب المنحلة . ولكن هيئة التحرير جاءت شيئا لا ملامح له او مختلط الملامح فهي " طريق للعمل مفتوح امام المصريين اجمعين . فهي ليست حزبا ينتفع بمزايا منفردة دون غيره . ويتعصب افراده لهذا الرأي دون ذاك. وهي ليست جمعية خاصة للاصلاح الاجتماعي نهوضا بهذه او تلك من جوانب الحياة المصرية. وهي ليست ناديا رياضيا يشجع هواة الرياضة دون غيرهم من الناس ، بل هي مصر كلها منظمة في هيئة واسعة الجوانب ومتعددة وجوه النشاط . وايا كان المصري ، وايا كانت نزعاته وميوله ، فهو واجد في هيئة التحرير سبيلا للعمل والخدمة والانتاج " (1) .
وفي 16 كانون الثاني/ يناير 1956، اصدرت الثورة دستور 1956، فإذا به يتضمن ، في الباب السادس ، صورة جديدة للتنظيم الجماهيري بديلة عن هيئة التحرير . تقول المادة 192 من الدستور : " يكوّن المواطنون اتحادا قوميا للعمل على تحقيق الاهداف التي قامت من اجلها الثورة ، ولحث الجهود لبناء الامة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة وتبين طريقة تكوين هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية .
وقد انتهى الامر بأن يتكون ممن لهم حق الانتخاب (القراران 935 و1055 لسنة 1959 ) . ولما كان اولئك قلة قليلة فقد جرى تعديل قانون الانتخابات بخفض سن من لهم حق التصويت من 21 سنة الى 18 سنة ، وتقرير هذا الحق للنساء وجعل التصويت بالنسبة للرجال اجباريا (73 لسنة 1956) . فاتسعت قاعدة العضوية في الاتحاد القومي . ولكن الدلالة الديمقراطية لهذا الاتساع لم تغير شيئا من حقيقة ان الاتحاد القومي كان جزءا من الشكل التنظيمي للحكومة ومؤسسة دستورية من مؤسسات الدولة. كان تنظيمأ رسميا لهيئة الناخبين ولم يكن تنظيما شعبيا بأي معنى . إذ من المسلم به ان الاتحاد القومي كان "سلطة دستورية رابعة " اضافها الدستور الى السلطات الثلاث كما وصفته محكمة القضاء الاداري بمجلس الدولة (2) . ثم انه كان تنظيمأ رسميا لهيئة الناخبين بصرف النظر عن عقائدهم واتجاهاتهم ومصالحهم. " هذا هو الاتحاد القومي.. اتحاد بين ابناء الوطن الواحد ، لا انحراف الى اليمين ولا انحراف الى اليسار، لا تفرقة ، لا تنابذ ، وانما جمع كلمة من اجل رفعة هذا البلد " (3) .
وهكذا الغت الثورة الاحزاب ، وحرمت قيامها، ولكنها لم تنجح قط- خلال تلك المرحلة- في ملء الفراغ الذي خلفته الاحزاب ؛ لأنها لم تكن تعرف على وجه التحديد كيف يملأ الفراغ  .
7 ـ اما على المستوى الاجتماعي فإن مفهوم الديمقراطية كان اما غامضا وإما غائبأ. كان غامضا بالنسبة الى علاقات العمل الزراعي (بين الفلاحين والملاك) . فمنذ البداية اتجهت الثورة اتجاها قويا واضحا نحو تحرير الفلاحين من القيود التي تفرضها عليهم علاقات العمل الزراعي السائدة (حق المالك في تحديد الاجرة وطرد المستأجر ونظام المزارعة... الخ) فأصدرت قانون الاصلاح الزراعي . وكانت الثورة واضحة المعرفة بالآثار التحررية للاصلاح الزراعي، فنرى عبد الناصر يركز دائما على هذه الآثار باعتبار انها هي المستهدفة اصلأ من الاصلاح الزراعي ، وبذلك يقدم الاصلاح الزراعي كمدخل الى الديمقراطية . قال " انتم ادرى الناس بالاقطاع وكيف يؤثر في الحياة السياسية. ان طلبنا الرئيسي لم يكن اقتصاديا وانما تحرير الفلاح من سيطرة سيده " (4) . ولكن الغموض ما يلبث ان يحيط باسلوب ممارسة الفلاح لحريته التي استردها من اشباه الاقطاعيين السادة . فهيئة التحرير والاتحاد القومي كلاهما كانا مفتوحين لعضوية الفلاحين واسيادهم بدون تفرقة . ولأن الاصلاح الزراعي كان قد حرر الفلاحين ولكنه لم يضعف الا قليلا القوة الاقتصادية التي يمثلها الحد الاقصى  للملكية (300 فدان ثم 200) فإن هيئة التحرير والاتحاد القومي كليهما لم يستطيعا تحرير الفلاحين من التبعية السياسية للاقوى اقتصاديأ (الملاك) بعد ان كان الاصلاح الزراعي قد حررهم من التبعية الاقتصادية. باختصار لم تكن هيئة التحرير وما كان الاتحاد القومي يقدم لهم فرصة للممارسة الديمقراطية ، متكافئة مع فرصة الملاك والشرائح الاخرى الاقوى اقتصاديأ. ولم يكن لدى الثورة اي مفهوم واضح للشكل الديمقراطي الذي يمكّن الفلاحين من الاستفادة سياسيا من حرياتهم التي استردوها اقتصاديا .
اما مفهوم الديمقراطية الاجتماعية بالنسبة الى العمال فقد كان غائبأ كليا . فمن حيث تحرير العمال من التبعية الاقتصادية لاصحاب العمل لم تضف الثورة طوال الفترة من 1952 الى 1961 شيئأ يذكر الى القوانين 317 و 319 لسنة 1952 التي صدرت في الشهر السابق على الثورة . كل المكاسب جاءت في المرحلة التالية . اما في تلك المرحلة فإن الثورة لم تحاول حتى طرح اي مفهوم عن الديمقراطية في صلتها بعلاقات العمل غير الزراعي . فمثلا ، كان القانون رقم 319 لسنة 1952 قد وسع من دائرة حق التكوين النقابي ليشمل كل العاملين بمن فيهم العمال الزراعيون ، وحجب هذا الحق عن موظفي الحكومة ووكلاء الاعمال . الاولون لعلاقتهم الوثيقة بالسلطة والآخرون لعلاقتهم الوثيقة باصحاب الاعمال (اصحاب عمل بالنيابة) . فإذا بالثورة تمد حق التكوين النقابي الى وكلاء الاعمال (القانون 513 لسنة 1954). ومع ان هذا المد لم يسلب العمال شيئا كان لهم الا انه يفصح عن غيبة كاملة لمفهوم التنظيم النقابي وبالتالي لمفهوم ديمقراطية العمل . وحتى حين صدر القانون رقم 91 لسنة 1959 باباحة تكوين النقابات العامة قصر الاشتراك فيها على العاملين في المؤسسات التي تضم 50  عاملا فأكثر معبرا بذلك عن فهمه لعلاقة العمل والحقوق الديمقراطية المتعلقة بها من زاوية المؤسسة وظروفها وليس من زاوية العمال وظروفهم .  وادى ذلك الى ان تقرر حق تكوين النقابات العاملة لثلث العمال تقريبا (250000) وحرم الثلثان تقريبا (400000). ثم ابقى في يد رب العمل سلاحا يستطيع به ان يسيطرعلى اللجنة النقابية عن طريق التهديد او البتر حين قضى بأن العامل الذي يفصل يفقد عضويته النقابية بدون ان يفرق بين الفصل التعسفي وغير التعسفي (المادة 170) .
ولعل اصدق تعبير عن غياب مفهوم الديمقراطية بالنسبة الى علاقة العمل غير الزراعي كانت المساواة بين العامل ورب العمل واكتفاء الثورة بأن تكون حكما بينهما. وهي مساواة لا تتفق مع حقيقة علاقة العمل وصلتها بالمقدرة الفعلية على الممارسة الديمقراطية. قال عبد الناصر يوم 12 كانون الاول / ديسمبر 1953 : " إن هناك فرقأ كبيرا بين الفوضى والحرية ، وان حرية صاحب العمل تبدأ عندما تنتهي حرية العامل وحرية العامل تبدأ عندما تنتهي حرية صاحب العمل . إن هذه الحكومة كانت اول حكومة تحمي العمال في حدود رعاية حق العمل ورسالتها التوفيق بين العامل وصاحب العمل ، فمن اشتط من الفريقين فقد هدم بناء التضامن الذي يقوم عليه مجد مصر "  .
يرجع هذا الموقف الغريب الى عوامل كثيرة ، بالاضافة الى العامل الاساسي وهو غيبة النظرية ، منها الصدام المبكر بين الثورة وبين بعض العمال (حوادث كفر الدوار) ، ولكن اهمها ان الثورة كانت قد راهنت في البداية على التنمية الرأسمالية. وقد ذهبت في تلك المراهنة الى حدود مبالغ فيها وصلت حد تدليل الرأسماليين وحتى اغوائهم . فبعد اسبوع واحد من قيام الثورة اي في يوم 30 تموز/ يوليو 1952 صدر القانون رقم 120 لسنة 1952 يرفع النسبة المباحة لرؤوس الاموال الاجنبية في الشركات المصرية من 49 بالمائة الى 51 بالمائة . وتلاه المرسوم بقانون رقم 13 لسنة 1952 بانشاء " المجلس الدائم لتنمية الاقتصاد القومي " للانتفاع برؤوس الاموال المصرية والاجنبية . وقبل مضي ستة اشهر صدر القانون رقم 31 لسنة 1953 بتأجيل سداد الضرائب المستحقة " اذا طرأت ظروف خاصة بالممول ". وفي 18 شباط / فبراير 1953 وجهت الثورة نداء علنيأ في صورة قرار يناشد " الهيئات والشركات لاقامة مصانع في مصر ". وفي 25 شباط / فبراير 1953 تقرر اعفاء المدينين للبنك العقاري من تعويضات السداد العاجل . وفي 4 آذار/ مارس 1953،أعفيت شركات الطيران من دفع الرسوم على الوقود والزيوت وقطع الغيار المستوردة . وفي الفترة من 10 آذار/ مارس الى 16 آذار/ مارس 1953 صدر القرار رقم 45 بالسماح للتجار والمستوردين باضافة تكاليف النقل الى اسعار السلع محددة الربح (المسعرة) والقراران رقما 47 و48 لسنة 1953 برفع نسبة الارباح على اسعار التكلفة الى 15 بالمائة .... الى ان صدر القانون 156 لسنة 1953 (قانون استثمار رؤوس الاموال الاجنبية) متضمنأ كل ما يخطرعلى البال من تشجيع واغراء واغواء الرأسماليين على المساهمة في التنمية . وتوالت القوانين والقرارات الى درجة انشاء إدارة خاصة " لتيسير اقامة رجال الاعمال "، الى درجة الاعفاء من العقوبة على جرائم التهريب (القانون رقم 181 لسنة 1953) الى درجة السماح بتقاضي عمولات على التعامل مع الحكومة ذاتها (138 لسنة 1953 ) .. وتنظيم البورصة (326 لسنة 1953) الخ .. ولا شك في ان هذا الاتجاه قد اثر تأثيرا قويا في موقف الثورة من العمال وحقوقهم الى حين  .
8 ـ في شباط / فبراير 1958 أعلنت الوحدة بين مصر وسورية تحت اسم " الجمهورية العربية المتحدة ". وقد كانت الوحدة كهدف للحركة القومية وليدة نشاط ثوري ديمقراطي طويل، خاصة في سورية، وفي تلك التجربة القومية الثورية العظيمة افتقدت الثورة حقا المفهوم الصحيح الديمقراطي فتخبطت وتناقضت الى ان فشلت لا في تطوير الوحدة ديمقراطيا، بل في المحافظة عليها. فعلى المستوى الدستوري ونظام الحكم تحققت الوحدة بالكامل في رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر ، ولم تكن لدى الثورة اية صيغة للوحدة دون هذا المستوى فبقيت الدولتان ، او الاقليمان ، منفصلين في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية وحتى في العملة. ولم يصدر اي قانون يحرم الانفصال او يحول دونه . وعلى المستوى الجماهيري لم تقدم الثورة الى دولة الوحدة الا ما كانت تملكه : الاتحاد القومي والغاء الاحزاب ، ولم يكن لديها اي تصور لمفهوم الديمقراطية وعلاقته بالقومية ، فلما صعد المد القومي وحقق اول دولة للوحدة واتسعت قاعدة الجماهير تحت القيادة الموحدة لم تعرف كيف تصاغ العلاقات الديمقراطية بين القيادة والجماهير في الدولة الجديدة فأبقت على الاطر القديمة او مدت ونقلت الاطر التي كانت سائدة في الاقليم الجنوبي الى الاقليم الشمالي . وفيما بعد يعلن جمال عبد الناصر ، خلال مباحثات الوحدة الثلاثية (آذار/ مارس 1963) ان ذلك كان من الاخطاء الاساسية الذي ساعد على تسهيل عملية الانفصال الاجرامية .
9 ـ ومع ذلك فإن الانفصال الذي تم سهلا سهولة غريبة ، وصدمته المفاجئة ، هو الذي لعب الدور الاساسي في اعادة طرح التجربة كلها لاكتشاف الخطأ فيها . ولقد كان عبد الناصر، من خلال التجربة والخطأ ، يغادر بسرعة أذهلت العالم ، موقعه كقائد للثورة المصرية الى موقع القيادة القومية . وكان على المستوى الفكري يتطور مغادرا الرؤية الاقليمية الضيقة الى رحاب الرؤية القومية . وبلغ به هذا التطور ان صرح في عام 1958 لاحد الوزراء الفرنسيين (بنوا ميشان) بأنه لم يخلق حركة القومية العربية بل هي التي خلقته وانه لا يقودها بل هي التي تدفعه وانها قادرة على ان تنجب آلافا من القادة مثله (5) . ولقد عرف عبد الناصر منذ بداية الانفصال ان غيبة او غموض المفهوم الديمقراطي هو نقطة الضعف الاساسية في الثورة التي مكنت الانفصاليين من ضرب الوحدة وليس القرارات الاقتصادية التي صدرت في تموز/ يوليو 1961 (كانت خطط الانفصال سابقة على هذا التاريخ بل قد بدىء فيها فور الوحدة عام 1958 وشاركت في تطويرها اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية كما ثبت فيما نشر بعد هزيمة 1967) .
هنا : ابتداء من 1961 يبرز دور عبد الناصر وتبدأ مرحلته  .
ثانيا : مرحلة عبد الناصر / 1961 ـ 1970 :
1 ـ كان عبد الناصر قائدا للثورة ومعبرا عنها : وكانت القرارات تتخذ في مجلس قيادة الثورة تحت رئاسته. وكان تشكيل مجلس قيادة الثورة ذاته خليطا من الاتجاهات التي التقت على هدف الثورة اولا ، ثم ارتضت الاهداف الستة ، واحتفظ كل واحد من اعضائه بمفهوم خاص للديمقراطية ، فمنهم من كان ضد الديمقراطية بكل معنى بل كان مع الديكتاتورية صراحة . ومنهم من كان ليبراليا على وجه او على آخر. ومنهم من كان ذا مفهوم ماركسي للديمقراطية (مرحلة ليبرالية لتأهيل الحزب لتولي السلطة واقامة ديكتاتورية البروليتاريا).. ولم يكن عبد الناصر القائد المؤثر ذا مفهوم محدد للديمقراطية ، ومن هنا كان طبيعيا ان تتخبط الثورة بين المفاهيم والممارسات الديمقراطية . وكان طبيعيا ايضا ان يشرح عبد الناصر ويدافع عن تلك الممارسات باعتباره معبرا عن الثورة  .
ولكن لا بد ، كمقدمة لمرحلة عبد الناصر، من اكتشاف ما قد يكون لدى عبد الناصر من اتجاهات او مفاهيم خاصة ثم عزلها عن الاتجاهات والمفاهيم التي كان يطرحها او يدافع عنها وهو يعبر عن الثورة ككل . ذلك لأن عبد الناصر سينفرد ابتداء من 1961 بطرح مفاهيمه الخاصة عن الديمقراطية ويدافع عنها ضد كل الاتجاهات بما فيها الاتجاهات التي شاركت في مرحلة ما قبل 1961. وليس من المعقول ان يكون عبد الناصر 1961 مقطوع الصلة بعبد الناصر 1952- 1961، بل لا بد من ان مفاهيمه التي طرحها عام 1961 وما بعده هي المرحلة الاخيرة من حالة نمو فكري بدأ غامضا وجنينيا ثم اتضح واكتمل . والواقع من اللافت ان عبد الناصر قد عبر خلال المرحلة 1952- 1961 عن مواقف ديمقراطية لا تتفق مع موقف الثورة ككل . نضرب لهذا مثلين .
المثل الاول كان عام 1956. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 1955 كانت اللجنة المشكلة في 13 كانون الثاني/ يناير 1953 لوضع دستور يتفق مع اهداف الثورة قد انهت اعداد المشروع وقدمته الى مجلس الوزراء . ولكن عبد الناصر رفضه وتولى هو شخصيا او تحت اشرافه الشخصي وضع دستور 1956 . إن الفرق بين المفهوم الديمقراطي الذي صيغ في مشروع الدستور المرفوض وبين دستور 1956 (دستور عبد الناصر) يمكن ان يكشف عن معالم رؤية عبد الناصر للديمقراطية. كان مشروع الدستور ليبراليا خالصا، يعتمد اعتمادا كليا على التمثيل النيابي كأسلوب وحيد لممارسة الديمقراطية . والتمثيل النيابي يسلب الشعب اي دور ديمقراطي فيما بين فترات الانتخاب . وكان هذا بالذات هو السبب الذي رفضه من اجله عبد الناصر لأن : ” النظام النيابي البحت يقصر دور الشعب على مهمة انتخاب نوابه في فترات معينة من الزمن دون ان يفسح مجالا ليمارس الشعب بعض سلطاته بنفسه اثناء هذه الفترات ” (6) . من اجل افساح المجال ليمارس الشعب بعض سلطاته بنفسه ادخل عبد الناصر في دستور 1956 ولاول مرة نظام الاستفتاء الشعبي (المواد 121 و 122 و145 و 189 و193 من دستور 1956) :
فنعرف من هذا انه منذ وقت مبكر ، قبل 1961، كان عبد الناصر يرى ان الديمقراطية تقوم بقدر ما تسمح للشعب بالحركة الايجابية للاشتراك في ممارسة السلطة ولا يكفي لها مجرد قيام مجلس نيابي منتخب. انه المفهوم الذي سيتضح وينمو ليعبر عنه بالديمقراطية الشعبية.
المثل التالي متصل بالمثل الاول لأنه يكشف لنا عن رؤية اولية لمعنى الشعب في المفهوم الديمقراطي. فلقد رأينا ان دستور 1956 قد تضمن انشاء تنظيم جماهيري باسم الاتحاد القومي . وعرفنا كيف ان الدستور قد احيل الى رئيس الجمهورية ليبين طريقة تكوين الاتحاد القومي وانه قد انتهى الى ان يكون تنظيما لجماعة الناخبين ومؤسسة من مؤسسات الدولة مقطوع العلاقة بأي مفهوم للديمقراطية . فهل كان ذلك هو مفهوم عبد الناصر للشعب وللديمقراطية ؟
إن الاجابة عن هذا السؤال تكشف المفهوم الخاص بعبد الناصر (لم ينفذ) كما تكشف ان ذلك المفهوم لم يكن ناضجا الى الدرجة الكافية التي تحمل عبد الناصر على التمسك به. فمن ناحية تردد عبد الناصر في تكوين الاتحاد القومي . فقد استنفد سنة وخمسة اشهر لبيان طريقة تكوين الاتحاد القومي بالرغم من الضرورات الدستورية او الديمقراطية التي كانت تستوجب الاسراع في تكوينه. فقد بدأ الدستور الجديد في النفاذ ، وفتح باب الترشيح لانتخابات مجلس الامة وترشح من ترشح دون ان يكون للاتحاد القومي وجود ليؤدي وظيفته الدستورية (ترشيح اعضاء مجلس الامة). ومن ناحية اخرى تردد عبد الناصر في ان يكوّن الاتحاد القومي اويضع قواعد تكوينه كما قال الدستور. بل انشأ بقرار صدر يوم 28 ايار/ مايو 1957 لجنة مؤقتة تدعى اللجنة التنفيذية للاتحاد القومي مشكلة من عبد اللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين وعبد الحكيم عامر لتضع اسس تشكيل الاتحاد القومي فوضعتها على الوجه الذي ذكرناه (تنظيم هيئة الناخبين) .
كان مفهوم عبد الناصر للاتحاد القومي كأداة ممارسة للديمقراطية الشعبية مختلفا كليا . كان مفهومه يقوم على محورين أساسيين .
اولا عدم إباحة عضوية الاتحاد القومي لعملاء الاستعمار والانتهازيين والرجعيين ، كان عملاء الاستعمار، في ذهن عبد الناصر، معروفين اذ هي الصفة التي اطلقها في كثير من خطبه على قيادات الاحزاب السابقة ما عدا الحزب الوطني . ولا شك في ان تعبير الانتهازيين كان يلتقي التقاء موضوعيا مع الذين ايدوا الثورة او تظاهروا بتأييدها، لأن الثورة ”في السلطة“. كما لا شك في ان تعبير الرجعيين كان يلتقي التقاء موضوعيا مع الذين تناولهم قانون الاصلاح الزراعي وكبار الرأسماليين.
المحور الثاني - وهو متسق مع المحور الاول - هو الا تتاح عضوية الاتحاد القومي الا لمن ترشحه مواقفه ومسالكه لهذه العضوية . فكان الاتحاد القومي ، في مفهوم عبد الناصر، تنظيما يقوم على اساس الانتقاء وليس الانتماء (7) .
وقد عبر عن هذا المفهوم بشكل اوضح عندما وصل الى مرحلة نقد التجربة . فنراه ، يقول في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961: ” وقد رأينا في الاتحاد القومي انه حدث خطأ في التنظيم . خطأ تنظيمي وأنا قلت هذا الكلام من اول يوم . الخطأ التنظيمي ان الرجعية ، والرجعية كلمة نسبية ، استطاعت ان تتسلل وتبقى لها القيادة في كثير من منظمات الاتحاد القومي ” واللافت هنا ان عبد الناصر يكشف عن انه كان يعرف الخطأ من البداية وأنه قال “من اول يوم “. لمن ؟ ولماذا لم يؤخذ به ؟ تلك اسرار التاريخ . .
يمكن القول اذا أنه بالاضافة الى الشعبية كأحد عناصر المفهوم الديمقراطي عند عبد الناصر، بدأت تتبلور لديه منذ وقت مبكر عن 1961 رؤية خاصة للممارسة المنظمة في شكل ” حزب ” عقائدي يقوم على الانتقاء حسب وحدة الموقف وسلامة السلوك (طليعة)  .
2 ـ  والواقع ان ” الحزب الشعبي العقائدي ” كان حلم عبد الناصر من 1952 وربما قبل ذلك. ومع انه لم يوافق قط على قيام الاحزاب منذ ان الغيت ” في بداية الثورة الا انه لم يكن في اي يوم من الايام ضد الاحزاب والنشاط الحزبي . اي ان مفهوم عبد الناصر للديمقراطية لم يكن منفصلا قط عن الاحزاب . كل ما في الامر انه لم يكن يعرف على وجه الدقة العلمية كيف تقوم الاحزاب بدون ان ترتد بالمجتمع الى ما قبل 1952. ولكنه لم يكف قط طوال حياته العامة عن محاولة تكوين حزب الثورة والتمهيد لتعدد الاحزاب ايضا . ولقد عبر عن هذا بوضوح في حديثه مع الصحافي الهندي كرانجيا يوم 10 آذار/ مارس 1957 قال : “انني اريد قبل كل شىء ان اوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل حرية اجتماعية واقتصادية لأن الديمقراطية السياسية دون هذه الاحتياجات الجوهرية لن تؤدي الا الى التضليل وقد اعد دستور 16 يناير 1956 ووافق الشعب عليه في استفتاء عام في حزيران/ يونيو الماضي وهذا الدستور قائم على اساس جبهة متحدة تمثل الوحدة الوطنية التي كانت ضرورية لسلامة الثورة وكنا نستعد لافتتاح البرلمان في نوفمبر الماضي فأجلت ازمة القناة والحرب خططنا وسينفذ الدستور وينتخب البرلمان حينما تعود الاوضاع الطبيعية.. “. واستطرد الرئيس فأعرب عن ثقته ان الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وان البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للاحداث كما تبرز بعد ذلك طبعا قوى سياسية جديدة ؤمن المحتمل ان تكون هناك احزاب  .
إذا فقد كان عبد الناصر، حتى عام 1957، يرى ان الوضع الطبيعي للديمقراطية ان تكون هناك احزاب . كما كان يرى ان الطريق الممكن للوصول الى هذا ” جبهة ” تضم كل المواطنين ما عدا عملاء الاستعمار والانتهازيين والرجعيين (اتحاد قومي) ستقوم فيه تكتلات ومجموعات وربما معارضة . وخلال هذه العملية الجدلية و ” على المدى الطبيعي للاحداث ” تبرز، طبعا ، قوى سياسية جديدة يمكن ان تتحول الى احزاب .
كان مفهوم عبد الناصر للديمقراطية ينمو ويتبلور ولكن في اطار من المثالية التي بدأت بها الثورة. اذ كان امل ذلك المفهوم في ان يصبح حقيقة متوقفا في التحليل الاخير على ” الانسان “. على البشر الذين يجسدونه حركة حية في الواقع العيني. وكان عبد الناصر منذ 1952 حتى 1960 يعتقد انه بمجرد استبعاد الفاسدين ، فإن كل الصالحين ، او المخلصين ، سواء . وكانت تلك نظرة مثالية تتجاهل اختلاف الوعي والمصلحة فيما بين الصالحين ، وان مضمون الاخلاص مختلف وقد يكون متناقضا فيما بين المخلصين . نقول 1960 ولم نقل 1961 لأن عبد الناصر يقول في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961 انه قد أدرك الخط منذ 1960. قال : ” في سنة 1960 انا كنت اشعر ان احنا يمكن الدفع الثوري غير قائم . الثورة بدأت تتعثر. الرأسمالية المستغلة بدأت تنفذ وبدأت تتهرب وتتسلل الى الصف. والامثلة كانت امامي واضحة وكانت امامي باينة “. وقال في 26 تموز/ يوليو 1961: ” قلنا نقضي على الاقطاع ؟ الاسرة التي بقي لها 200 فدان و 50 فدان لكل ولد من اولادهم كتلوا هذه الارض . وانا اعرف مناطق فيها 3000 فدان ملكية لعيلة واحدة ولا زالوا يعتبرون انفسهم اسياد البلد كما كانوا قبل الثورة ولا زالوا ينظرون الى الفلاحين على انهم عبيد !.
عبد الناصر هنا يركز تركيزا قويا على المضمون الاجتماعي للديمقراطية. انه لا يتكلم عن الرأسماليين كمخلصين او غير مخلصين ولكن ينتبه الى الخطر الكامن في الرأسمالية. وهو لا يتحدث عن الاقطاعيين ، بل عن واقع اجتماعي . 3000 فدان تساوي السيادة . ليست العبرة بالنيات ولكن العبرة بالواقع الاجتماعي. عبد الناصر يبتعد هنا بسرعة عن المفهوم الليبرالي للديمقراطية ولا يكاد يعول على ” الذات ” ايجابا او سلبا وانما يعول على “الموضوع ” ؛ او الحقيقة الموضوعية . فيقول يوم 3 كانون الاول / ديسمبر 1961: ” العملية ليست ادانة (لأحد) ، بل كما قلت اننا نبحث عن الحقيقة (الموضوعية) .
4 ـ كانت تلك هي قمة النضج في مفهوم عبد الناصر للديمقراطية قبل 1961. ولا شك في ان عوامل كثيرة قد اسهمت في هذا النضج . منها اتساع وعمق ثقافة عبد الناصر ورغبته الملحة في معرفة التجارب الانسانية ، والاحتكاك العالمي واسع النطاق خاصة بعد مؤتمر باندونغ في 1955، وبدء العلاقات الايجابية مع المعسكر الاشتراكي بعد صفقة الاسلحة عام 1956. ولكن يمكن القول بأن عبد الناصر، الذي ما زال ينتهج التجربة والخطأ اسلوبا ، قد اكتشف الخطأ من واقع التجربة فتعلم منه درسا كان قاسيا. وينبني هذا الاعتقاد على حدث وقع عام 1960 وكشف كل اخطاء التجربة وعلى بدء ادراك الخطأ في عام 1960 كما قال عبد الناصر. ان وحدة التاريخ يمكن ان تكون اساسا سليما للاعتقاد بوجود رابطة وثيقة بين الحدث وادراك الخطأ .
كانت الثورة قد راهنت على الرأسمالية في التنمية كما قلنا من قبل . وعلى هذا الاساس وضعت الخطة الخمسية الاولى 1959/ 1960- 1964/ 1965 ( 1400 مشروع جديد) فترددت الرأسمالية في الوفاء بنصيبها الكبير (70 بالمائة تقريبا) من الخطة. فقال عبد الناصر يوم 9 تموز/ يوليو 1959 في افتتاح المؤتمر القومي العام للاتحاد القومي : ” وعلينا ـ ايها الاخوة - ان نتذكر دائما ان ظروفنا لا تتحمل اي تردد او اي انتظار. ان خطة مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات في الجمهورية العربية المتحدة لا بد من ان تنجح … ان اي تنظيم شعبي ديمقراطي يتخيل ان واجبه هو الاحتفاظ بالاحوال كما تسلمها إنما يفقد اصالته الشعبية والديمقراطية “. ثم ينذر من موقف يحيل الى الديمقراطية فيقول : ” فخطة تنمية الدخل القومي في عشر سنين لا بد من ان تنفذ لأنها تمثل ارادة الشعب الذي يريد لجمهوريته ان تنمو وان تتطور، وبمثل ارادة الشعب الذي يريد لابنائه العمل الشريف والعمل الكريم . اما اذا كانت هناك فئة من الاستغلاليين لا تريد لهذه الخطة ان تنفذ فإننا نقول لهم ان الشعب قد صمم على ان يقضى على الاستغلال السياسي او الاستغلال الاجتماعي او الاستغلال الاقتصادي .
باختصار غدرت الرأسمالية بالثورة والشعب ، وكشفت عن اوجه الخطأ في المفهوم الديمقراطي، حين كشفت عن حقيقتها كقوة اقتصادية مستغلة ولا يمكن الا ان تكون مستغلة. فضرب عبد الناصر ضربته ، بل قام بثورة عام 1961، وهي ثورة في كل المجالات بما فيها المفهوم الديمقراطي الذي جاء كما صاغه عبد الناصر في الميثاق .
ومن المهم والجوهري الانتباه الى ان عبد الناصر حين طور مفهومه للديمقراطية ثوريا عام 1961، لم يتهم الرأسمالية ، بل اتهم المفهوم المثالي الذي حاول ان يجرد الرأسمالية مما هو جوهرها. اتهم خط الثورة ومفهومها الديمقراطي ، ونقد ذاته فقال : ” إن الفكر الثوري في تلك الفترة وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داخل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به وقع في الخطأ حين توهم ان الطبقة المحتكرة التي كان لا بد من ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن ان تقبل الوحدة الوطنية مع القوى الشعبية صاحبة المصلحة في الثورة. ولقد كان من اثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم ما حدث في داخلها من عوامل الصدام بين القوى الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة وما أصابها بالشلل وأقعدها عن الحركة بل وكاد ان ينحرف بها في بعض الاحيان عن الاتجاه الثوري الأصيل .
الميثاق :
5 ـ في صيف عام 1961 صدرت سلسلة من القوانين عرفت باسم القوانين الاشتراكية، الغت الملكية الخاصة لجميع البنوك ومؤسسات الائتمان والادخار والتأمين والصناعات الكبرى وفرضت احتكار الدولة للتجارة الخارجية وأممت عديدا من المؤسسات التجارية والصناعية والمقاولات (873 مؤسسة). وفي 27 ايلول/ سبتمبر 1961 وقع انقلاب عسكري في سورية انتهى بفصلهـا عن مصر. اعتبر تعاصر الحدثين مؤشرا قوي الدلالة على المخاطر الكامنة في اباحة وظائف الدولة ، التنفيذية والتشريعية ، للذين اضيروا بالقوانين الاشتراكية والذين لا يتفق الاتجاه الاشتراكي مع مصالحهم . كما كشف الانفصال خاصة عن خطأ وخطر مفهوم الديمقراطية الذي كان يجسده ” الاتحاد القومي ” . فأذاع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بيانا أساسيا يوم 16 تشرين الاول/ اكتوبر 1961 قال فيه : ” ان التجربة قد اثبتت ان الرجعية على استعداد للتحالف مع الاستعمار ذاته لتستعيد مراكزهـا الممتازة. ومن ثم لا تجوز المصالحة او المهادنة مع الرجعية . كما ان التجربة قد اثبتت خطأ تكوين الاتحاد القومي الذي فتح بابه للقوى الرجعية ، وبالتالي لا بد من اعادة تكوينه ليكون اداة ثورية للجماهير الوطنية وحدها : صاحبة الحق والمصلحة في التغيير الثوري ، وقصر عضويته على الفلاحين والعمال والمثقفين واصحاب المهن والملاك الذين لا تقوم ملكيتهم على الاستغلال ورجال القوات المسلحة . وانه لا بد من تطوير جهاز الحكم الى مستوى العمل الثوري وجعله اداة للحركة الثورية في خدمة الجماهير وتحت اشرافها “. وفي يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961 ادلى عبد الناصر ببيان حدد فيه قواعد النظام الجديد بحدود منها: (1) ان تنظيم القوى الشعبية يجب ان يتم على اساس من التمثيل الشعبي العريض والعميق في الوقت نفسه ؛ (2) ان العمل الوطني الثوري يجب ان يرتبط بميثاق محدد يتضمن حصيلة التجارب الثورية التي عاشها شعبنا ؛ (3) ان الشعب نفسه هو الذي يتحتم عليه ان يقود التطور وان يمارس سيطرة حقيقية على شؤون الحكم.
وفي يوم 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961 نشر في الجريدة الرسمية قرار رئيس الجمهورية رقم 1789 لسنة 1961 بتكوين ” اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” التي انعقدت في اليوم ذاته ، واستمرت اجتماعاتها حتى يوم 31 كانون الاول/ ديسمبر 1961 وانصبت مهمتها - اساسا - على تحديد الاعضاء الذين توجه اليهم الدعوة لحضور المؤتمر الوطني للقوى الشعبية . وبهذه المناسبة طرح للنقاش اهم الاسئلة التي تتصل بالديمقراطية معنى والديمقراطية نظاما : من هو الشعب الذي يعتبر حكمه نفسه بنفسه ديمقراطية ؟ ان كان المناط حمل جنسية الدولة فالشعب هو جماع المصريين (نموذج هيئة التحرير) وان كان المناط هو الرشد السياسي للقيد في جدول الناخبين فالشعب هو كل من له حق الاقتراع (نموذج الاتحاد القومي) . اما اذا كان المناط هو المصالح الاجتماعية والاقتصادية خاصة فإن الشعب هو ” اصحاب هذه المصالح ” . بهذا المعنى الاخيرة تميز مفهوم الديمقراطية في مرحلة عبد الناصر التي بدأت 1961 تميزا جذريا عن مفهوم الديمقراطية في مرحلة الثورة السابقة عليها ، كما تتميز جذريا الديمقراطية الاجتماعية عن الديمقراطية الليبرالية  .
وقد بدأ هذا التمييز يظهر في اللجنة التحضيرية وقبل اصدار الميثاق تحت عنوان “العزل السياسي ” اي الحرمان من الحقوق السياسية بالنسبة الى كل من تتناقض مصالحهم مع المصالح التي يقررها ويحميها النظام الدستوري . وقد كانت تلك المصالح في 1961 متضمنة تحت اسم ” التحول الاشتراكي ” الذي بدأ بقوانين تموز/ يوليو 1961. وقد انتهت اللجنة الى ضرورة العزل السياسي وفرقت بين نوعين من العزل: (1) عزل اعداء الثورة الاجتماعية الاشتراكية ؛ (2) استبعاد من تتعارض مصالحهم في تلك المرحلة من بناء الاشتراكية مع مصلحة مجموع الشعب . ثم تصدت اللجنة لمهمتها الاصلية وقدمت الى رئيس الجمهورية يوم 31 كانون الاول/ ديسمبر 1961 توصياتها التي تضمنت: ” تكوين المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عن طريق الانتخاب على اساس 375 عضوا لتمثيل العمال و 105 اعضاء لتمثيل الرأسمالية الوطنية (مناصفة بين التجارة والصناعة) و 100 عضو لتمثيل الموظفين و 105 اعضاء للنقابات المهنية و 105 اعضاء لتمثيل هيئات التدريس بالجامعات وما في مستواها والطلاب .
من اللافت الذي يستحق الانتباه ان اللجنة انتهت الى هذه الارقام على اساس فريد هو نسبة المساهمة في الدخل القومي والاهمية النسبية اقتصاديا . واتخذت مجتمع ما قبل التحول الاشتراكي وعاء لتحديد هذه النسبة ثم اعتبرت ان الواقع الحالي من البنية الاقتصادية مساهمة مهمة تطابق ” المصلحة ” المستقبلة التي يتطلع اليها صاحب الموقع . وقد قدرت، بناء على احصائيات ميدانية ، ان نسب المساهمة من الدخل القومي والاهمية الاقتصادية هي 27 بالمائة للفلاحين و 21 بالمائة للعمال و 11 بالمائة للرأسمالية الوطنية و 14 بالمائة لاعضاء النقابات المهنية و 11 بالمائة للموظفين و 6 بالمائة لأعضاء هيئة التدريس و5 بالمائة للطلبة و5 بالمائة للنساء على اساس ان الـ 5 بالمائة هي الحد الادنى للفاعلية . وعلى اساس توصيات اللجنة صدر القانونان 34 لسنة 1962 بالعزل السياسي و 35 لسنة 1962 بتكوين المؤتمر الوطني للقوى الشعبية وانعقد يوم 21 ايار/ مايو 1962. وفي جلسة الافتتاح قدم اليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروع ميثاق للعمل الوطني، فأصدر المؤتمر يوم 6 حزيران / يونيو 1962 قرارا بتكوين لجنة (لجنة المائة) لاعداد تقرير عن مشروع الميثاق ، فقامت بوضع تقريرها وقدمته الى المؤتمر الذي اقر الميثاق واصدره يوم 30 حزيران / يونيو 1962: ” ليكون اطارا لحياتنا وطريقا لثورتنا ودليلا لعملنا من اجل المستقبل .
سيكون لكل هذه التفاصيل المتعلقة باللجنة التحضيرية وبتكوين المؤتمر دلالات في تحديد مفهوم الديمقراطية في المرحلة التالية ، سنعود اليه. اما في المرحلة الحالية ، مرحلة عبد الناصر ، فيهمنا مفهوم ” الديمقراطية السليمة ” الذي تضمنه الباب الخامس من الميثاق وجعله عنوانأ له. وسنحاول استعمال النصوص ذاتها التي وردت في الميثاق وقد نعلق عليها.
6 ـ يحدد الميثاق مفهوم ” الشعب ” في الديمقراطية . فيقول (1) : ” إن الديمقراطية السياسية لا يمكن ان تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات. ان الديمقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب . سلطة مجموع الشعب وسيادته . والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله وانكاره. وانما ينبغي ان يكون حله سلميا في اطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات ” . ويقول (2) : ” إن الرجعية تتصادم في مصالحها مع مصالح مجموع الشعب بحكم احتكارها لثروته ولهذا فإن سلمية الصراع الطبقي لا يمكن ان تتحقق الا بتجريد الرجعية- اولا وقبل كل شىء- من جميع اسلحتها “. ” ان تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب ان يسقط “. ويقول (3) : ” لا بد من ان ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطيا للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة ، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية ان تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هو البديل الشرعي لتحالف الاقطاع مع رأس المال المستغل . وهو القادر على احلال الديمقراطية السليمة محل الديمقراطية الرجعية “. و ” ان استبعاد الرجعية يسقط ديكتاتورية الطبقة الواحدة ويفتح الطرائق امام ديمقراطية جميع قوى الشعب الوطنية ” .
هذا العنصر الاولي من مفهوم الديمقراطية كما جاء في الميثاق يحتاج الى تعليق. فقد استعمل الميثاق تعبيرات ” الطبقة ” و” الصراع الطبقي ” و” الصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات ” و” قوى الشعب العاملة ” و” التفاعل الديمقراطي ” و ” الديكتاتورية ” و ” ديمقراطية جميع قوى الشعب ” …. وهي تعبيرات ان اخذت كل منها على حدة سهل فهم دلالتها، ولكن اجتماعها مع بعضها في وثيقة فكرية واحدة للتعبير عن مفهوم واحد ينبىء باحتمال ان تكون منتقاة من روافدها الفكرية والفلسفية المختلفة لتؤدي معا معنى خاصا.
فقد قيل مثلا ان الميثاق قد أخذ بالنظرية الماركسية في الصراع الاجتماعي حين اقر وجود الطبقات والصراع الطبقي وقال انه حتمي وطبيعي . ولكن صحة هذا القول لا تقوم على مجرد استعمال الفاظ وتعبيرات بذاتها ، بل على المعنى الذي قصد الميثاق التعبير عنه بهذه الالفاظ والتعبيرات. وطبيعي ان يكون اكتشاف هذا المعنى بالابقاء على الالفاظ والتعبيرات في مواقعها وعدم انتزاعها او عزلها عن سياق الوثيقة التي جاءت فيها . ان جوهر نظرية الطبقات والصراع الطبقي في الماركسية يقوم على اساس مادي او اقتصادي هو اسلوب الانتاج وعلاقاته ، حيث يحدد الموقع من علاقات الانتاج السائدة في اسلوب انتاج معين لمصالح مجموعة من البشر (عبيد وسادة ، فلاحون واقطاعيون ، عمال ورأسماليون). وهذه المصالح متناقضة لأنها تعكس التناقض القائم في اسلوب الانتاج ذاته وهو تناقض حتمي بفعل القوانين الموضوعية التي تحكم حركة المجتمع (المادية الجدلية) وهو تناقض ثنائي بحكم ان اسلوب الانتاج لا يتضمن الا تناقضا ثنائي الاساس (الملكية الخاصة لادوات ـ الانتاج - والطابع الاجتماعي لقوى الانتاج). غير ان مجرد الانتماء الى موقع من علاقات الانتاج لا يحول المنتمين الى طبقة، وانما يصبحون طبقة حين يعون موقفهم وتناقضه مع الطبقة الاخرى ويمارسون الصراع الطبقي (البيان الشيوعي). وهوصراع لا بد من ان يستمر ويتعمق الى ان يحل التناقض ولا يمكن ان يحل بغيرهذا (حتمية القوانين الموضوعية) .
إن هذا المفهوم الجوهري للطبقات والصراع الطبقي ودوره في حركة التطور قد اصابه كثير من التطوير في الفكر الماركسي كان اهمها نظرية تعدد التناقضات وتعدد الطبقات التي اضافها ماوتسي تونغ والتي فتحت مجالا للبحث عن التناقض الاساسي والتناقض الثانوي او ما دون الثانوي . كما ان الصراع الطبقي تحرر من ” العنف ” كأسلوب وحيد واصبح مقبولا، ماركسيا، ان يكون الصراع الطبقي سلميا وبرلمانيا. كما اصبح من الدارج في الادب الماركسي التوحيد في الدلالة بين الموقع من علاقة الانتاج والطبقة ، واعتبار العمال الصناعيين (البروليتاريا) طبقة والحديث عنهم على هذا الوجه ولو لم يكونوا واعين او منظمين او مصارعين . وكان هذا ” التساهل ” في دلالات التعبيرات الماركسية لازما لافساح مكان قيادة ” الطبقة العاملة “- كما يقولون - للمثقفين من ” البورجوازية الصغيرة ” الذين تولوا هذا الدور في كل الاحزاب الماركسية على مدى تاريخها.. ولكن هناك جزئية لم تتغير ولم يصبها التطور، وهي اولى بالانتباه لأنها تساعد كثيرا على فهم دلالة التعبيرات التي قصدها الميثاق . تلك الجزئية هي علاقة الدولة بالطبقة. فما يزال الموقف الماركسي هو ما قاله ماركس وانجلز من انه : ” بما ان الدولة نشأت من الحاجة الى الصراع الطبقي ومن خلال هذا الصراع فهي دولة الطبقة الاقوى بصفة عامة، فالطبقة المسيطرة اقتصاديا تصبح هي الطبقة المسيطرة سياسيا ” (8). وما قاله لينين من ان : ” كل دولة هي قوة خاصة لردع الطبقة المقهورة ” (9). وما قاله لينين ايضا من انه: ” لا تقوم الدولة الا حيث ، وعندما، والى المدى الذي تكون فيه التناقضات الطبقية غير قابلة للتوفيق ” (10) .
فهل كان الميثاق يعني كل هذه الاصول والفروع عندما استعمل تعبيرات ” الطبقة والصراع الطبقي الحتمي والطبيعي “، واذا لم يكن قد عناها فماذا كان يعني؟
7 ـ نعتقد ان الميثاق قد استعمل هذه التعبيرات للدلالة على مفهوم او مفاهيم مختلفة ، بل قد تكون متناقضة مع دلالتها الماركسية . والميثاق يتصور في البداية مجتمعا لا تسهم الدولة ايجابيا في حركته. حينئذ تتعدد طبقاته ـ يصبح الصراع الطبقي حتميا وطبيعيا ” نموذج الدولة الليبرالية المثالية) وينتهي الصراع ـ او لا بد من ان ينتهي الى سيطرة طبقة أيا كانت هذه الطبقة، وأيا كان موقعها من علاقات الانتاج ، وحتى لو كانت الطبقة العاملة ، فإن “الديمقراطية السياسية لا يمكن ان تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات ” . اذأ. فالصراع الطبقي ليس اسلوبا ديمقراطيا ولا يؤدي الى الديمقراطية . لماذا ؟ لأن الديمقراطية هي سلطة الشعب . ” سلطة مجموع الشعب وسيادته “. كيف يمكن اذا الانتقال من الصراع الطبقي الحتمي والطبيعي الى الديمقراطية. بتدخل الدولة (عن طريق التشريع والتخطيط والقيادة) وذلك على محورين. أولا  ” اسقاط ديكتاتورية الطبقة الواحدة “، باسقاط تحالف الاقطاع مع رأس المال المستغل . ويكون اسقاطها بتجريدها من جميع اسلحتها ” اولا وقبل كل شيء ” كما يقول الميثاق . نلاحظ ان الميثاق يحتفط بتعبير طبقة وديكتاتورية للتعبير عن ” الرجعيه” ” فإذا سقطت فإنه لا يميز بين فئات الشعب تمييزا طبقيا. لا يسميهم طبقات، بل يسميهم ” قوى” فيقول انه بعد اسقاط ديكتاتورية الطبقة باسقاط الرجعية ” لا بد من ان ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطيا للتفاعل بين قوى الشعب العاملة “. ثم يعدد تلك القوى فيقول : الفلاحون ولم يقل طبقة الفلاحين ، ويقول العمال ولم يقل الطبقة العاملة ، ويقول الجنود والمثقفون وهؤلاء لا مكان مخصص لهم في اية علاقات انتاج ، ويقول الرأسمالية الوطنية ولم يقل طبقة الرأسمالية الوطنية . ويتحدث عن التحالف فيقول ” ان تحالف هذه القوى ” ويعتبر تلك القوى ممثلة ” للشعب العامل .. ولكن كيف يحل ” الصراع الحتمي والطبيعي ” بين الطبقات بعد اسقاط ديكتاتورية الطبقة الواحدة ونزع الصفة الطبقية عن الطبقات الاخرى لتصبح قوى ؟ بتذويب الفروق بين الطبقات . لا يعنينا هنا كيف تذوب الفروق إنما يعنينا من الذي يقوم بتذويب هذه الفروق. إنها الدولة ايضا : عن طريق تغيير او تطوير او استعمال اسلوب الانتاج وعلاقاته وتوزيع عائده بالتشريع والتخطيط والقيادة . دولة من ؟ ” دولة جميع قوى الشعب الوطنية “.. فيتحقق هذ ا العنصر الاول من عناصر المفهوم الديمقراطي لمرحلة عبد الناصر.
يتضح مما سبق الخلاف الاساسي بين هذا المفهوم وبين الماركسية مع وجود نسبة محدودة من الالتقاء بينهما. ولعل هذه النسبة مقصورة على ان الميثاق يستعمل تعبير الطبقة للدلالة على معناه الماركسي الاصيل . فالطبقة في الميثاق تعني قوى منظمة متصارعة . وهو المعنى الذي جاء في البيان الشيوعي . ولكنه في بيانه لاسباب الانتماء الطبقي لا يأخذ بتحليل الماركسية لأسلوب الانتاج وعلاقاته وما ينبني عليها من نظريات اخرى (فائض القيمة)، بل يرجعها الى ” احتكار ثروة الشعب “. وفي هذه العلاقة بين الاحتكار من ناحية وثروة الشعب من ناحية اخرى يحدد المواقف بأنها ” طبقة ” (محتكرة) من ناحية و” شعب ” (احتكرت ثروته) من ناحية اخرى . ويضع كل هذا في نطاق محدود هو ” الدولة الليبرالية (الرأسمالية) ” حيث تؤدي سلبية الدولة الى ديكتاتورية الرجعية (الرأسمالية) فيصبح طبيعيا وحتميا بالنسبة الى شعب فقد ثروته وحماية دولته ان يصارع دفاعا عن مصالحه فيتحويه الى طبقة او طبقات.. وكل هذا- اذا استبعدنا التبرير الفلسفي- يتفق مع الماركسية . نستطيع ان نقول ان الميثاق يتفق مع الماركسية في تشخيص مشكلة الصراع الطبقي ” الى حد كبير.
ولكنه يختلف معها اختلافا جذريا في ” حل المشكلة “. فهو يضع الحل في اطار الديمقراطية التي هي سلطة كل الشعب ولا يذهب المذهب الماركسي في حل مشكلة الديمقراطية في اطار الصراع الطبقي الذي يعتبره ” قانونأ ” اي ليس مشكلة على الاطلاق. ثم يرى ان الصراع الطبقي متوقف على موقف الدولة . فحين تكون الدولة ليبرالية يصبح الصراع الطبقي حتميا وطبيعيا وحين تكون الدولة بقيادة الاشتراكيين تبقى الرجعية الرأسمالية طبقة من حيث هي معادية ومصارعة ، وتتحول بقية الطبقات الى قوى لانتفاء عامل ” الصراع ” بانتفاء مبرراته حتى مع وجود الفروق بين الطبقات إذ ان الدولة ستقوم، تحت قيادة الاشتراكيين، بتذويب هذه الفروق سلميا.
هذه الثقة في قيادة ” الاشتراكيين ” (العنصر الانساني) وبقدرتهم على تذويب الفروق الطبقية وحل مشكلة التناقض في اسلوب الانتاج (العنصر المادي) سلميا، يعبر عن اختلاف جذري بين الميثاق وبين الماركسية في الاجابة عن السؤال المنهجي الذي يقول: في نطاق التأثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها الجدلية ما هو العنصر الذي يلعب الدور الاساسي؟ الميثاق يقول : الانسان . والماركسية تقول : المادة .. وفي هذا يفترقان . وقد عبر عبد الناصر عن موقفه من هذه الجزئية المنهجية بقوله : ” إن النصر عمل ، والعمل حركة ، والحركة فكر، والفكر فهم وايمان . وهكذا فكل شىء يبدأ بالانسان .
انتهى التعليق ونعود الى المفهوم الذي طرحه الميثاق للديمقراطية. نضيف فقط ان تطور الفكر الماركسي يقترب شيئا فشيئا ، من خلال التجربة والخطأ ايضا، من رؤية الميثاق على مستوى المنهج والنظرية كليهما.
8 ـ ما هو النظام الذي ” يذوب الفروق بين الطبقات “، ويستحق الاستغناء به عن الصراع الطبقي وبالتالي يكون شرطا لازما للديمقراطية التي هي ” ديمقراطية كل قوى الشعب؟ ” يقول الميثاق: ” إن الديمقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين. انهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما او بدون اي منهما لا تستطيع الحرية ان تحلق الى آفاق الغد المرتقب ” . ” انه لا معنى للديمقراطية او للحرية في صورتها السياسية من غير الديمقراطية الاقتصادية او الحرية في صورتها الاجتماعية “. ” ان حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش . ان حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة واصبحت خدعة مضللة للشعب “. ” ان الديمقراطية السياسية لا يمكن ان تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية وان المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات الا اذا توافرت له ضمانات ثلاثة : ان يتحرر من الاستغلال في جميع صوره. ان تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية. ان يتخلص من كل قلق يبدد امن المستقبل في حياته. بهذه الضمانات الثلاث يملك المواطن حريته السياسية ، ويقدر ان يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي يرتضي حكمها .
بهذه الفقرات الواضحة التي نقلناها عن الميثاق، واعدنا ترتيبها، قطع الميثاق نهائيا وبحسم كل علاقة بين مفهومه للديمقراطية وبين المفهوم الليبرالي (البورجوازي). واصبح موقفه محددا: لا ديمقراطية الا في مجتمع اشتراكي ولا ديمقراطية على اي وجه في مجتمع رأسمالي مهما كانت اشكال الممارسة السياسية المتاحة للشعب فاقد الحرية اصلا بفعل القهر الاقتصادي . وهو واضح الدلالة ولا يحتاج الى مزيد من التعليق وان كان في حاجة الى تحديد لمفهوم الاشتراكية وهذا موضوع آخر. المهم ان مفهوم الديمقراطية في مرحلة عبد الناصر كما عبرعنها الميثاق ينفي نفيا حاسما اوهام ” وجود ” ديمقراطية في اي مجتمع رأسمالي.
9 ـ بعد اسقاط ديكتاتورية الطبقة الواحدة (الرجعية) وفتح الطريق امام ديمقراطية جميع قوى الشعب الوطنية، حيث ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطيا للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة. كيف يتم ” فتح الطريق ” و” انفساح المجال ” و” التفاعل الديمقراطي ” ؟ ما هو الشكل التنظيمي لهذه الديمقراطية ؟ يقول الميثاق : ” ان الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف هذه القوى الممثلة للشعب تستطيع ان تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديمقراطية السليمة “. و ” ان التنظيمات السياسية الشعبية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر لا بد من ان تمثل- بحق وبعدل - القوى المكونة للاغلبية وهي القوى التي طال استغلالها والتي هي صاحبة مصلحة عميقة في الثورة كما انها بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة بفعل معاناتها للحرمان - وكل ذلك فضلا عما فيه من حق وعدل باعتباره تمثيلا للاغلبية ضمان اكيد لقوى الدفع الثوري، نابعة من مصادرها الطبيعية الاصيلة. ومن هنا فإن الدستور الجديد يجب ان يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع المستويات بما فيها المجالس النيابية باعتبارهم اغلبية الشعب كما انها الاغلبية التي طال حرمانها من صنع مستقبلها وتوجيهه .
لا يمكن الا ان يكون لافتأ للانتباه الطابع ” الانشائي ” لهذه الفقرات وهي تعرض الصيغة التطبيقية من مفهوم الديمقراطية. هنا يفتقد الدارس وضوح الرؤية والحسم الظاهرين في العنصرين الاولين . كلمات مثل ” فتح الطريق ” و” انفساح المجال ” و” التفاعل ” و “الحق والعدل ” و” المصلحة العميقة ” و ” انها بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية ” و”الدفع الثوري ” و” مصادرها الطبيعية الاصيلة “… كل هذا لا يعني شيئآ على وجه التحديد ان كان يعني اي شيء حتى في تحديد صيغة الاتحاد الاشتراكي العربي قال ان تحالف القوى الممثلة للشعب ” تستطيع ” ان تقيمه ، ولم يقل لماذا تستطيع ، وماذا لولم تستطع، وماذا لو استطاعت ولم ترد… الخ ومن قبله احال الى ” الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف هذه القوى “.. ولم يبين اولأ كيف تتحالف هذه القوى ، وماذا لو رفضت ان تتحالف ، ثم ان تحالفت فما هي تلك ” الوحدة الوطنية “، ما شكلها وما مضمونها اي وحدة وطنية على ماذا على وجه التحديد… الخ .
كل هذا جاء في الميثاق غامضأ وكان لهذا الغموض اكبر الآثار في محاولات التطبيق كما سنرى.
10 ـ بقدر ما احاط الغموض بمفهوم الديمقراطية- في الميثاق- على مستوى التنظيم الجماهيري (الاتحاد الاشتراكي العربي) كان مفهومها على المستوى القيادي واضحا. يقول الميثاق : ” ان الحاجة ماسة الى خلق جهاز سياسي جديد داخل اطار الاتحاد الاشتراكي العربي يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويطور الحوافز الثورية للجماهير ويتحسس احتياجاتها ويساعد على ايجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات ” . و” ان جماعية القيادة ليست عاصما من جموح الفرد فحسب وانما هي تأكيد للديمقراطية على اعلى المستويات .
فنعرف ان من عناصر المفهوم الديمقراطي كما جاء في الميثاق تشكيل حزب (اسماه عبد الناصر طليعة الاشتراكيين) يتكون على اساس من الانتقاء وليس الانتماء يقود تحالف قوى الشعب العامل (الاتحاد الاشتراكي ) ويكون هو تحت قيادة جماعية.
11 ـ  قبل ان نرى مصير هذا المفهوم للديمقراطية الذي طرحه الميثاق وتميزت به مرحلة عبد الناصر، يجب ان نسأل: من اين جاءت عناصر هذا المفهوم ؟ ان عبد الناصر لم يكن ميتافيزيقيا، بل كان تجريبيا كما ذكرنا في البداية . وكان اكثر عقلا واحتراما للعقل من ان يدور بخلده او يوهم الآخرين بأنه يتلقى الافكار الهاما او وحيا . اذ كان عقلانيا ومؤمنا حقا في الوقت ذاته. لا شك في ان المفاهيم التي وردت في الميثاق ومن بينها مفهوم الديمقراطية قد ولدت وتمت من خلال ” التجربة والخطأ ” ، وهو ما يعني انه يمكن تتبع بذورها المتناثرة على مدى المرحلة السابقة (1952- 1961) . ولقد كان للادراك المبكر للبحث عن مشكلة الديمقراطية وحلها على المستوى الشعبي وليس على مستوى ” الصفوة ” فضل مبكر في تجريد الاتجاه العام لتطور مفهوم الديمقراطية الى ما وصل اليه في الميثاق . وكان الادراك المبكر للعلاقة بين حرية الفلاحين والاصلاح الزراعي يمثل رؤية جنينية لما اصبح فيما بعد ” جناحي الديمقراطية ” . ومع ذلك ليس من المقبول قصر موارد النمو الفكري على منابع الارض في مصر. لقد اضاف عبد الناصر الى تجربة ثورة يوليو تجارب ثورية وانسانية كثيرة. ولقد وضع الميثاق في مرحلة كانت العلاقات مع الدول الاشتراكية قد توثقت وانفتحت مجالات التفاعل بين مصر وبينها. فلم يكن مدهشا ان يتألق عبد الناصر ويتفوق على جماعة من المثقفين العرب متفوقين اصلا في فهمه للمذاهب السياسية ، وخاصة الماركسية ، خلال الحوار التاريخي الذي جرى عام 1963 بمناسبة محاولة اقامة الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق.
نعتقد انه بدون اخلال بتأثير التجربة المحلية التي امتدت عشرسنوات ، وبأية تجربة اخرى كان عبد الناصر قد اضاف معرفتها الى التجربة المحلية ، قد تأثر الميثاق تأثرا قويا بتجربة الماركسيين وضع مفهومهم للديمقراطية موضع التطبيق. وانه التفت الى هذه التجارب في الدول الاشتراكية ( اوروبا الشرقية ) واخصها يوغوسلافيا وليس التجربة السوفياتية. أعني انه تأثر بنظام ” الديمقراطية الشعبية ” او ما يسمى هكذا في دول اورربا الشرقية اكثرمن تأثره بنظام ” ديكتاتورية البروليتاريا ” الذي يطلق على الصيغة السوفياتية.
12 ـ حملنا على هذا الاعتقاد نص المادة الثالثة من دستور 1964 الذي حاول ان يقنن الميثاق في دستور. هذه المادة استعارت نصها من الميثاق . فهي تقول : ” ان الوحدة الوطنية التي يضعها تحالف قوى الشعب الممثلة للشعب العامل ، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية ، هي التي تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ، ليكون السلطة الممثلة للشعب ، والدافعة لامكانيات الثورة، والحارسة على قيم الديمقراطية السليمة “. هذه المادة شديدة القرب في دلالتها لمواد جاءت في دساتير دول شرق اوروبا. واقرب امثلة اليها ما جاء في الدساتير التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية في بلغاريا (1947) ورومانيا (1948) وبولند ة (1948) وتشيكوسلوفاكيا (1948) وفي يوغوسلافيا (1946) .
نظم الحكم في تلك الدول تقوم على دعامتين : الاولى: السيادة الشعبية، بعد عزل (او القضاء على) اعداء النظام الاشتراكي . الثانية : التحالف بين قوى ساهمت كلها في معارك التحرر من الاحتلال النازي وارتضت الاشتراكية .
بالنسبة الى الدعامة الاولى نجد انه فيها كلها ينتخب الشعب مجلسا شعبيا هو السلطة الوحيدة التي تنبع منها كل السلطات ، هي التي تختار رئيس الدولة والحكومة وتصدر القوانين التي يحكم بمقتضاها القضاء. ولا يوجد هناك ما يسمى بالفصل بين السلطات، بل تقسيم للعمل بين اجهزة متخصصة تستمد كل منها سلطتها من مجلس الشعب المنتخب. ولكن لما كان هذا المجلس منتخبا فإن الشعب لا يبقى محروما من ممارسة اية سلطة (الشعب الذي رفض عبد الناصر من اجله مشروع الدستور عام 1956) بل يبقى الشعب ، بصفة دائمة منظما في لجان شعبية تضم كل افراد الشعب وتمارس سلطات محلية. وفي يوغوسلافيا حيث تسمى ” اوبستينا ” منحت تلك اللجان ما يقرب من الاستقلال الذاتي عن السلطة المركزية. فالشعب، اذا ، يمارس سلطته على مستويين : مستوى مباشر عن طريق اللجان الشعبية ومستوى نيابي في مجلس الشعب.
هنا تأتي الدعامة الثانية ، وهي القوة المحركة والموجهة والقائدة للشعب في مستواه المباشر، اي التي تنشط في تثقيف وتوجيه صيغة الرأي العام في اللجان الشعبية. هذه القوة عبارة عن تحالف (جبهة) تحت قيادة الحزب الشيوعي. في المجر يضم التحالف حزب العمال الاشتراكي والمستقلين واحزاب المعارضة القديمة. وفي تشيكوسلوفاكيا يضم الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي التشيكوسلوفاكي، وحزب الحرية السلافي، والجبهة الوطنية التشيكوسلوفاكية. وفي بلغاريا يضم الاتحاد الشعبي وجبهة الوطن ومجموعات اخرى. وفي بولندة يضم حزب الفلاحين والحزب الديمقراطي وجماعة ” سراك ” الكاثوليكية.
ونلاحظ في كل هذا الفكرة الاساسية. وهي انه لما كان الشعب لا يستطيع ان يمارس سيادته بنفسه (الديمقراطية المباشرة) فإن هيئة منتخبة تنوب عنه (التمثيل النيابي). ولكن لتأمين الديمقراطية ضد الاستبداد النيابي يجب ان يبقى الشعب في حالة انعقاد دائم في لجان شعبية تضم كل افراده (اللجان الشعبية). ولما لم يكن الشعب كله ، في هذه المرحلة (ما بعد الحرب العالمية الثانية) متقدما ديمقراطيا لا في الوعي ولا في الممارسة فإن القوى الواعية بالمبادىء وكيفية تطبيقها (الحزب) يجب ان تبقى ايضا في حالة نشاط دائم في داخل اللجان الشعبية وخارجها تثير المسائل وتناقشها وتدير حولها الحوار وتحاول ان تقنع من لا يقتنع . فإذا تعددت القوى الواعية القادرة على القيادة (الاحزاب) وكانت مختلفة في اية مسألة ما عدا مبدأ النظام الاشتراكي فإنها تتحالف معا لتؤدي بين الجماهير دورا تثقيفيا وقياديا واحدا (في جبهة) .
لا شك في معرفة عبد الناصر بهذا النظام . ويمكن الوثوق بأنه ما دام قد عرفه فقد عرف المآخذ التي اخذت عليه. منها ان هذه الديمقراطيات الشعبية، بالرغم من مظهرها الديمقراطي، قائمة على فرض مفروض سابق على النظام ذاته هو قيادة الحزب الشيوعي للقوى المتحالفة وسيادة الطبقة العاملة على باقي الطبقات . الشطر الاول مصدره تاريخي فقد تولت الاحزاب الشيوعية في تلك الدول السلطة على اثر التحرير بمساهمة من الاحزاب الاخرى المتحالفة ولكن بمساندة حاسمة من القوات السوفياتية ، وفي ظلها قامت نظمها الديمقراطية على الوجه الذي يحتفظ لها بالسلطة ابدا . الشطر الثاني مصدره فكري. فالاحزاب الشيوعية تلتزم سياسيا النظريات الماركسية. والنظرية الماركسية في الدولة انها اداة قهر طبقي وانها عندما تؤول الى الطبقة العاملة (البروليتاريا) وتتولاها قيادة هذه الطبقة (الحزب الشيوعي) تصبح اداتها. ” وطالما تستعمل البروليتاريا الدولة فإنها لن تستعملها من أجل الحرية ، بل من اجل اسقاط اعدائها ” ، كما قال ماركس وانغلز (11). ولكن بالرغم من هذه الافكار الحدية فإن التطور التاريخي لتلك الدول ادى الى تطويع النظم والافكار بما يتفق مع الاشتراكية ، اذ الاشتراكية نظام ديمقراطي الجوهر بما يتضمنه من تحرر من القهر الاقتصادي ومساواة في العمل وفي عائد الانتاج . فكان حتما على نظم الحكم في الدول الاشتراكية ان تتجه ديمقراطيا كلما تطورت اشتراكيا بالرغم من كل جمود فكري او ميراث تاريخي. ويمثل نظام ” الديمقراطية الشعبية ” هذا الاتجاه  .
وتنفرد التجربة اليوغوسلافية بملامح قريبة الشبه جدا بملامح المفهوم الديمقراطي الذي جاء في الميثاق . ففي الاصل كانت هناك عدة احزاب اشتراكية ومنظمات عمالية من بينها حزب شيوعي، توحدت جميعا تحت اسم ” حزب العمال الاشتراكي في يوغوسلافيا ” (23 نيسان/ ابريل 1919) وقاد الجبهة في معركة تحرير يوغوسلافيا. ولكنه في عام 1952 اندمج في الجبهة التي تحولت الى ” رابطة الشيوعيين اليوغسلاف ” وكانت تلك احدى نقاط الخلاف مع ستالين الذي اتهم القيادة اليوغوسلافية ” بالتحريفية “. النقطة الثانية كانت عن دور الحرب. ففي المؤتمر الذي انعقد عام 1952 قررت الرابطة أنه ” لا يمكن لرابطة الشيوعيين ان تكون في نشاطها القائد العملى المباشر للحياة الاقتصادية وسيادة الدولة او الحياة الاجتماعية، انما تكون بعملها الاجتماعي والسياسي ويجب عليها ان تتحرك بين جميع الهيئات والمؤسسات لنشر سياستها ومواقفها “. وأعلن تيتو ” ان دور الحزب ليس ان يقود الحكم وانما دوره الرئيسي هو قيادة التربية الايديولوجية لتطوير المجتمع الاشتراكي “. وترجم دستور يوغوسلافيا هذا الاتجاه فنص على ان الرابطة بنشاطها في التوجيه الايديولوجي والسياسي هي المحرك الاساسي للنشاط السياسي الذي يهدف الى حماية وتطوير مكتسبات الثورة الاشتراكية “. ولقد اعتبر ستالين ان هذا الموقف يتضمن تخليا عن قيادة الحزب الشيوعي للطبقة العاملة في الصراع الطبقي لتأكيد سلطة ” البروليتاريا ” ، وكان الرد اليوغوسلافي ان ” النظام السوفياتي هو حكم طبقة بيروقراطية استبدادية دون مبدأ ودون ضمير وبدون شرف وان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي لم يعد يسترشد بالجماهير انما بزمرة من الافراد الاقوياء (كازديلج 1953).. وان الديمقراطية الاشتراكية في يوغوسلافيا تقوم على اساس ” سلطة الشعب العامل .
هذا التعبير الاخير الذي يكاد يطابق ما جاء بالميثاق ، بالاضافة الى عدم تفرد الحزب الشيوعي بقيادة الجبهة واندماجه فيها لتتحول الى حزب واحد ثم استبعاد الصراع الطبقي تحت قيادة الاشتراكيين للدولة ، وتخلى الحزب عن دور الحكم واكتفاؤه بدور القيادة الايديولوجية والسياسية وسط الجماهير تكاد تنبىء بأنها كانت اقرب صيغ الديمقراطيات الشعبية الى مفاهيم صاحب ” الميثاق .
ولسنا نشك في ان صاحب الميثاق كان يريد ان يعبر عن مفهوم للديمقراطية الشعبية بتحقيق السيادة للشعب، ويمكنه من ممارستها في لجان شعبية دائمة الانعقاد بقصد انجاز مهمات التحول الاشتراكي وعن طريق الاقتناع ، ولكن بدون سيادة او قيادة حزب احدى الطبقات. فاستبدل بتحالف الاحزاب تحالف القوى. واحل محل قيادة الحزب الشيوعي للتحالف قيادة حزب اشتراكي طليعي ينتقي افراده من بين قوى التحالف. ” تحالف قوى الشعب العامل ” صاحب السلطة. وقد اقتربت الصيغة هذه من الصيغة اليوغسلافية عندما قبل الحزب الشيوعي المصري والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) حل نفسيهما والاندماج ” في حزب طليعة الاشتراكيين قابلين التخلي عن دور القيادة ، والتخلي عن الصراع الطبقي والتخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا..
13 ـ ايا ما كان امر المنابع الفكرية للميثاق فإن مفهومه للديمقراطية قد تضمن شكلا غير مسبوق ” انه ضمان نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع المستويات بما فيها المجالس النيابية للفلاحين والعمال . وقد قدم الميثاق عدة مبررات لهذا الشكل: لأنهم اغلبية - لأنه قد طال حرمانهم من صنع مستقبلهم وتوجيهه- لأنه قد طال استغلالهم- لأنهم اصحاب مصلحة عميقة في الثورة - لأنهم بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة. كل هذه مبررات تقريرية لا يوجد ما يبررها الا ان يكون المبرر كونهم اغلبية . ومع ذلك فإن نصف المقاعد لا ينصف الاغلبية .
هناك مبرر آخر اكثر قبولا ذكره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خلال مباحثات الوحدة الثلاثية (الاجتماع الخامس ؛ جلسة مساء يوم 9 نيسان / ابريل 1963). فقد كان عضو في الوفد العراقي ابدى ملحوظة مؤداها ان العمال والفلاحين طبقة واحدة ، وضمان نصف المقاعد لهم يؤدي الى حكم الطبقة الواحدة وهذا ما يناقض المفهوم الديمقراطي الذي جاء بالميثاق . فرد جمال عبد الناصر : ” بنفسر الكلام ده ، لأنه جاء في الميثاق . الحقيقة موضوع يستاهل المناقشة “. وقال : ” هو طبعا فيه عندنا الطبقة.. طبقة الاقطاع والراسمالية اللي بيسموها البورجوازية.. وبعدين الطبقة العاملة . فيه مذهبين في العالم . في البلاد البورجوازية بتنادي بسيطرة رأس المال على الحكم اللي هي سيطرة تحالف الاقطاع ورأس المال واقامة ديكتاتورية الرجعية اوديكتاتورية تحالف الاقطاع مع رأس المال تحت اسم الديمقراطية البرجوازية “. ” بيطلع الفكر الماركسي بيقول ان البروليتاريا اللي هي طليعة الطبقة العاملة يجب ان تأخذ الحكم بالقوة وعليها ان تسقط هذه الطبقة البورجوازية وتهدمها بالعنف والقوة وتقيم بدلا من ذلك ديكتاتورية البروليتاريا او ديكتاتورية طليعة الطبقة العاملة.. فهنا فيه ديكتاتورية رأس المال والاقطاع… ديكتاتورية البورجوازية تحت اسم الديمقراطية الغربية.. الثانية هي ديكتاتورية البروليتاريا تحت اسم الشيوعية . الكلام اللى احنا بنقوله بيختلف عن هذا .. احنا بنقول ان تحالف الاقطاع ورأس المال يجب ان يسقط ودول اللي حكموا مئات السنين في بلادنا . ولكن هل لا بد لتحقيق هذا الهدف من ان نقيم البروليتاريا ؟ لقد نص الميثاق ان الحل المناسب لنا هو ان نقيم حكم تحالف قوى الشعب العاملة .. اللي هي العمال والفلاحين والحرفيين والرأسمالية الوطنية.. فإذا هذا بيختلف كلية عن النظريتين… معنى هذا ايه . ان الشعب العامل كله هو اللي بيحكم .. ومعنى هذا ايضا ان لن تكون هناك فرصة لسيطرة الطبقة القوية .. الطبقة القوية التي يتمثل فيها تحالف الاقطاع ورأس المال وعندها من الاسلحة وعندها من القوة بأن تشكل نفسها وتتسلل الى الحكم. كيف نحمي تحالف قوى الشعب العامل ؟ كيف نحمي هذا التحالف من ان تنقض الطبقة البورجوازية التي اخذت فرصة التعليم وفي ايديها الفلوس وعندها النفوذ وورثت السلطان من ان تنقض مرة ثانية على تحالف قوى الشعب العاملة لتسقطه وتحكم مرة اخرى ؟… صمام الامان الوحيد ان يعطى العمال والفلاحين اللي حرموا من حقوقهم آلاف السنين 50 بالمائة على الاقل في الحكم في المجلس التشريعي . بهذا لن تتمكن البورجوازية القوية ان تنفذ في البرلمان وتأخذ اغلبية وتأخذ السلطة .. وبهذا تعود سيطرة الطبقة او سيطرة التحالف بين الاقطاع ورأس المال .. سيطرة الرجعية مرة اخرى “. ” فعملية الـ 50 بالمائة الغرض منها ان نؤمن هذه الديمقراطية الشعبية ـ اللي احنا بنتكلم عليها - من التسلل الرجعي ومن اعادة سيطرة البورجوازية مرة اخرى… ”  
كان لا بد من ايراد هذا النص كاملا لتأكيد ان ضمان 50 بالمائة من مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية ليس ” لسياسة ” جاءت على هامش مفهوم الديمقراطية كما طرحه الميثاق. ليست موقفا خاصا من العمال والفلاحين يعبر عن التعاطف معهم او تعويضهم عن ” الحرمان الطويل “، بل هو جزء لا يتجزأ من مفهوم الديمقراطية ونطاقها لا تبرره ظروف العمال والفلاحين بل تبرره مخاطر البورجوازية ومقدرتها على التسلل والانقضاض . لم يكن مقصودا به منح العمال والفلاحين فرصة مضمونة للوصول الى مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية. كان مقصودا به حماية قوى التحالف وهم العمال والفلاحون والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية ( ايضا ) ضد مخاطر تسلل وانقضاض تحالف الاقطاع ورأس المال. مدى كفاءة هذا الضمان وما اذا كان فعلا ” صمام الامان الوحيد ” ضد سيطرة البورجوازية امر قابل للمناقشة وسنعود اليه . ولكن هذه الصيغة التي تضمنها الميثاق ذات دلالة ديمقراطية اعمق بكثير من مبرراتها ” الانشائية ” التي جاءت في الميثاق ومن مبرراتها العقلية التي قصدها صاحب الميثاق.
ولعل اولى دلالاتها ما يتصل بالممارسة الديمقراطية (الانتخابات). ان تزييف الانتخابات وتزوير نتائجها بمعرفة السلطة ظاهرة دارجة وسهلة ومتوقعة وتكاد تكون تقليدية في المجتمعات المتخلفة ديمقراطيا على مدى العالم كله حيث لا تكون الشعوب قد تطورت ديمقراطيا الى الحد الذي تدرك به مدى ” قدسية ” حق الاقتراع فتستعمله راغبة وتدافع عنه وتردع كل من يفكر في تزييف ارادتها. ولما كانت هذه الممارسة هي الاسلوب الاساسي لتدريب القوى على الديمقراطية وتنمية وعيها الديمقراطي والخروج بها من مراحل التخلف ، فإن تزييفها يمثل اخطر معوقات الديمقراطية. بل لعله - بما يربي عليه الشعوب من عدم الثقة بالديمقراطية - اكثر اضرارا بها من الاستبداد السافر الذي يعلم الشعوب من خلال ممارسة القهر المحسوس الا مخرج لها الى الحرية الا الديمقراطية. ولقد كان يمكن لعبد الناصر كما هو ممكن لغير عبد الناصر ان يزيف الانتخابات ، ليضمن ” للعمال والفلاحين نصف المقاعد او اية نسبة يريدها. ولكن الميثاق اختار ان يكون هذا الضمان حقأ دستوريا مقررا بالقانون لأن مفهوم الديمقراطية كما جاء بالميثاق يفترض ، ويعتمد ، ويعول على ” نظافة ” الانتخابات . وهذا المعنى ذاته يتضمن في قصد الحيلولة دون ” تسلل ” الرجعية. قال عبد الناصر في سياق حديثه الذي اوردنا اغلبه : ” اذا قدرت الطبقة الرجعية المستغلة ان تأخذ عدد من كراسى البرلمان مش حتقدر ابدا تستولي على الحكم .. انها تستولي على الحكم بشيء واحد ان تأخذ اغلبية او اكثر من نص اعضاء البرلمان “. اذا فالذي كان يهم صاحب الميثاق في الدرجة الاولى ليس الـ 50 بالمائة التي ضمنها الميثاق للعمال والفلاحين ولكن الـ 50 بالمائة الباقية. وتكون الصيغة الاكثر تعبيرا عما كان يقصده ضمان الا تحصل البورجوازية على اكثر من 50 بالمائة من مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية . وهو ضمان قائم على اساس ان الانتخابات يجب ان تكون حرة ومعبرة عن رأي الشعب بدون تزييف او تزوير حتى لو امكن ” للبورجوازية ” ان تتسلل من خلالها الى البرلمان ما دام القانون قد ضمن الا تحصل على الاغلبية التي تمكنها من الاستيلاء على الحكم . هذه النتيجة الاخيرة ، غير المرغوب فيها، تنطوي على رغبة مؤكدة في اقرار سيادة رأي ” الاغلبية ” على الاقلية ونفاذ هذا الرأي . وهي قاعدة ديمقراطية يقرها الميثاق ويحول دون ان تستحقها الرجعية بالتشريع وهو ما يعني الاحتفاظ بها ونفاذها بعد استبعاد الرجعية.
ثمة ما هو اكثر من هذا كله دلالة على المفهوم الديمقراطي في الميثاق وان لم يشر اليه. تتضح هذه الدلالة اذا وضع نص الميثاق في سياق الاتجاه الشعبي المتنامي الذي بدأ بداية الثورة. ففي هذا السياق التاريخي تأكد ان مشكلة الديمقراطية بالنسبة الى اغلبية الشعب العربي في مصر كانت راجعة - بشكل اساسي - الى التخلف الديمقراطي نتيجة طول الحرمان من الممارسة الديمقراطية (ما عدا ايام الانتخاب) واقتصار تلك الممارسة على التصويت في الانتخابات التي كانت، بدورها منقطعة ولم تتصل الا مرات معدودة منذ عام 1923. فتأتي صيغة 50 بالمائة من المقاعد للزج بجموع الفلاحين والعمال الى داخل حلبة المنافسة الديمقراطية، وضمان انطلاقهم من نقطة متقدمة عن الذين اكتسبوا خبرتهم من قبل ضمانأ لقدر من المساواة الواقعية، وتنمية لجرأة التصدي للعمل العام بعد سنين طويلة من التعود على السلبية. انها صيغة اخرى لاخراج الناس كلهم من المواقف السلبية ولو الى اطار منظمة جماعية ” هلامية ” (هيئة التحرير) ولو بتوسيع قاعدة المشاركين في المنافسة (تخفيض سن الناخبين واعطاء حق الانتخاب للنساء) ولو بما يشبه ان يكون اكراها ماليا (غرامة لكل من لا يستعمل حقه في التصويت)… وهكذا. بهذا يكون هذا العنصر المبتكر من مفهوم الديمقراطية كما جاء في الميثاق من اكثر العناصر لزوما في المجتمعات المتخلفة ديمقراطيا في العالم الثالث ومن بينها مصر العربية حتى لو لم تكن ضمانا (بذاتها) ضد تسلل الرجعية وانقضاضها .
14 ـ قبل ان يتحول مفهوم الديمقراطية الى نظام للحكم بدستور 1964 اعيد طرح كل المفاهيم الواردة فيه على المناقشة بين وفود العراق وسورية ومصر في الفترة ما بين 14 آذار/ مارس 1963 و 14 نيسان / ابريل 1963. وكان لا بد لمناقشة تدور في اطار هدف الوحدة بين الاقطار الثلاثة من ان تتناول عنصرا أساسيا من عناصر المفهوم الديمقراطي الذي جاء في الميثاق ونعني به الحزب الذي يقود التحالف وصيغته القومية. هل تكون احزاب في كل قطر تلتقي في جبهة واحدة ؟ ام لا بد من حزب واحد يقود تحالف قوى الشعب العاملة في دولة الوحدة . وكان رأي عبد الناصر مع وحدة التنظيم السياسي في دولة الوحدة (جلسة 9 آذار/ مارس 1963) . وشرح وجهة نظره في جلسة 6 نيسان/ ابريل 1963 فقال : ” انا باعتبر ان المرحلة الحالية إلي احنا ما شيينها فيه معركة مريرة.. قدامنا سبيل واحد : تيار قومي وتيار لا قومي … او جناح قومي وجناح لا قومي . يجب ان يتحد الجناح القومي كله لمجابهة العدوان الكبير اللي سنقابله . لأن كل القوى ستحارب الوحدة لتنفصم . اذا يجب.. وحدة التيار القومي والاتجاه القومي لمجابهة اعداء الوحدة… يعني لازم ولا بد من تكتيل الاتجاه القومي كله في بلد ثم الكل مع بعض . ما يبقاش بقى فيه بعث ولا اتحاد اشتراكي … لا. تبقى حاجة واحدة : حركة عربية قومية واحدة في البلاد الثلاثة. هو ده الواقي الوحيد من احتمالات السوء في المستقبل “. فلما فشلت مباحثات الوحدة وجه عبد الناصر نداء الى الشباب العربي يدعوه الى المبادرة بانشاء ” الحركة العربية الواحدة لأنها اصبحت ضرورة تاريخية .
15 ـ نستطيع ان نقول ببساطة ويقين ان مفهوم الديمقراطية الذي ورد في الميثاق، والذي تتميز به مرحلة عبد الناصر، لم يطبق - في جانبه السياسي - طوال حياة عبد الناصر. انشىء تحالف من قوى الشعب العاملة ولكنه ليس التحالف الذي نص عليه الميثاق . قامت منظمة باسم الاتحاد الاشتراكي العربي ولكنها ليست الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جاء في الميثاق. مارس الاتحاد الاشتراكي العربي الذي اقيم مهمات سياسية ولكن ليس هي المهمات التي جاءت في الميثاق. انشىء التنظيم السياسي الذي يقود التحالف ولكنه ليس التنظيم السياسي الذي جاء في الميثاق .
كيف ؟
ان كل البناء الفكري للديمقراطية كما جاء في الميثاق كان مرتكزا على قاعدتين تشكل كل منهما علاقة ” بقوة ” خارجة . القاعدة الاولى انه بناء لديمقراطية قوى الشعب العاملة وليس للبورجوازية بل ضدها. وهو واضح من نصوص الميثاق واكثر وضوحا في ذهن عبد الناصر كما أبان عنه في حديثه عن نسبة الـ 50 بالمائة الذي حرصنا على ان ننقله . القاعدة الثانية انه بناء لديمقراطية قوى الشعب العاملة صاحبة السلطة وممثلة الشعب صاحب السيادة ” فوق ” الحكومة بمعناها الواسع (ليس السلطة التنفيذية فقط). مهما تكن حبكة المضمون الفكري للديمقراطية ونظامها الداخلي فإن ديمقراطيتها لا تثبت الا من خلال الممارسة ، وهي لا تمارس في فراغ ولكن في نطاق علاقات مع قوى اخرى لها اتجاهاتها او لها اجهزتها (البورجوازية والحكومة) ، فإذا ما سيطرت البورجوازية او الحكومة على ” قوى الشعب العاملة ” بقي مفهوم الديمقراطية الشعبية، كما صاغها الميثاق، صيغة محكمة من الفكر المحروم من فرصة الاختبار في التطبيق. وقد كان ذلك هو رصيد المفهوم الديمقراطي الذي ورد في الميثاق. تحالفت البورجوازية والبيروقراطية الحكومية على تنفيذ امر القيادة- نفاقأ- على وجه ! لا يمت بصلة قريبة او بعيدة لما عبر عنه الميثاق.
ولعل من افدح الاخطاء التي ارتكبت في مرحلة عبد الناصر هو تمكين البورجوازية التي جرحتها القرارات الاشتراكية جروحا عميقة من ان تدخل - بدون تسلل - الى مواقع السيطرة على الاتحاد الاشتراكي العربي . لقد حرصنا من قبل على ذكر تفاصيل ـ تبدو غير ذات اهمية - تشكيل اللجنة التحضيرية التي حددت من الذي يدعى الى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية وقلنا انها قد تولت اخطر مهمة تتوقف عليها الديمقراطية معنى والديمقراطية ممارسة اذ تولت تحديد: من هو الشعب. وانها قد اقرت مبدأ العزل. نعود اليها الآن لفرط اهميتها. كانت تلك اللجنة التحضيرية التي اختار جمال عبد الناصر اعضاءها واحدا واحدا قد اوصت بوقف مباشرة الحقوق ، السياسية بالنسبة الى ” من خضع لاجراءات التأميم ” التي صدرت بها القوانين والقرارات الاشتراكية. اي ـ على وجه التحديد ـ البورجوازية . البورجوازية الجريحة المتطلعة الى تعويض ما خسرت والانتقام ممن كان السبب شخصا او نظاما. فإذا بالقانون رقم 34 لسنة 1962 يصدر مجيبا كل توصيات اللجنة الا بالنسبة الى هذه البورجوازية. فقضي الامر منذ البداية واصبحت اقوى ” طبقة ” معادية للاشتراكية والديمقراطية جزءا فوقيا - بحكم قوتها النسبية - مما اسماه الميثاق ” الرأسمالية الوطنية ” احدى قوى التحالف، وتولت هي فعليا بناء ما يسمى الاتحاد الاشتراكي العربي والسيطرة عليه.. وكانت لها في ذلك مآرب اخرى.
فابتداء من عام 1961 لم تعد الدولة سلطة حكم او مساندة او تمويل ، بل اصبحت جهاز ادارة رئيسي للاقتصاد القومي . تملك القدر الاكبر من ادوات الانتاج ، وتديرها وتنتج وتوزع وتتاجر وتستهلك وتعين المديرين وتشغل العاطلين وتحدد الاجور … الخ. كانت هذه الدولة التي تحولت الى ربة عمل قد انتزعت اغلب ما تملك وما تدير من تلك البورجوازية ذاتها التي اوصت اللجنة بعزلها ، واضافت اليه طولا وعرضا وعمقا منشآت جديدة ومصادر رزق جديدة فيما عرف باسم ” القطاع العام “. ولكنها ابقت بجواره ما سمي القطاع الخاص وعلى قمته ، ما تزال على قمته ، تلك البورجوازية التي اوصت اللجنة بعزلها . فكيف تربح هذه البورجوازية او تعوض خسارتها؟ بالتطفل على القطاع العام ، تعيش في باطنه وتتاجر معه ” وتسمسر ” على صفقاته وتسرق وترشي . ولما كان موظفو الحكومة هم الذين يديرون القطاع العام مقابل اجور محدودة وبدون باعث رأسمالي (مشاركة في الارباح) فقد كانوا جاهزين ” للتعاون ” مع ” اخوانهم السابقين وشركائهم اللاحقين “. وهكذا تكون حلف بورجوازي بيروقراطي يدير الدولة تحت القيادة وفوق الشعب وسمي حينئذ الطبقة الجديدة او الطبقة العازلة. ولما كان اضعف من ان يقاوم فقد نافق . وبادر الى تنفيذ المشروع الديمقراطي ” الاتحاد الاشتراكي العربي ” قبل ان يصدر الدستور. وكان وراء اول قرار “انتهازي ” اصدره المؤتمر الوطني للقوى الشعبية التي نشطت فيه البورجوازية نشاطا واسعا، وهو: ” تفويض الرئيس جمال عبد الناصر في تشكيل لجنة تنفيذية عليا مؤقتة لوضع القانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربي .
الميثاق يقول ان تحالف قوى الشعب العامل هو الذي يقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ، فإذا بالمؤتمر يفوض رئيس السلطة التنفيذية في ان يختار المؤسسين للاتحاد الاشتراكي العربي ، قلة يسميها اللجنة التنفيذية العليا المؤقتة. والميثاق يحرص على القول بأن الاتحاد الاشتراكي العربي هو السلطة الممثلة للشعب فيعهد المؤتمر الى السلطة التنفيذية بانشاء السلطة الشعبية . والميثاق يقول انه بعد سقوط تحالف الرجعية ورأس المال ” لا بد من ان ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطيا للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العامل “.. وهو ما يعني ان ينشأ الاتحاد الاشتراكي العربي من القاعدة ديمقراطيا الى القمة فإذا بالاتحاد الاشتراكي العربي ينشأ من القمة التي تتولى هي انشاء القاعدة .. على ما تهوى ، ولقد انشأته على ما تهوى . ففي الميثاق تكون سلطة السيادة للاتحاد الاشتراكي العربي لم يمار احد في هذا (راجع اقوال اساتذة القانون الدستوري في مناقشات اللجنة التحضيرية للدستور الدائم التي تشكلت يوم 30 ايار/ مايو 1966) ولكن اللجنة التنفيذية العليا المؤقتة قد حولته بقرارها رقم 1 لسنة 1962 الى جمعية دراسة للتقارير ليقدمها الى اللجنة التنفيذية العليا . والميثاق يتحدث عن الفلاحين الذين هم اغلبية الشعب فيحددون الفلاح بأنه من يملك 25 فدانا في بلد تكفي عشرة افدنة ليكون مالكها سيدا (عمدة) قريته . اما العامل فهو كل من تتوافر فيه شروط العضوية للنقابات (تقرير لجنة الميثاق الذي اخذ به في تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي). وهكذا انبرى الذين يحوزون 25 فدانأ في الريف او حتى عشرة فاحتلوا مقاعد الفلاحين في التحالف وطردوا ملايين من العمال الزراعيين وعمال التراحيل والاجراء والمستأجرين وهكذا انبرى لاحتلال مقاعد العمال في التحالف وكيلو الادارات ورؤساء الاقسام وخريجو الجامعات من الاطباء والمحامين والمهندسين والصحافيين ومن اليهم من العاملين في المؤسسات والشركات . فلما اراد عبد الناصر تصحيح هذا الوضع الشاذ في عام 1968 ، فأصدر بصفته رئيسا للاتحاد الاشتراكي العربي تعريفا يقول ان العامل ” هو الذي يعمل يدويا او ذهنيا في الصناعة او الزراعة او الخدمات ويعيش من دخله الناتج عن هذا العمل ولا يحق له الانضمام الى نقابة مهنية ولا يكون من خريجي الجامعات او المعاهد العليا او الكليات العسكرية ” ، وان الفلاح ” هو الذي لا يحوز هو واسرته اكثر من عشرة افد! نة على ان تكون الزراعة مصدر رزقه وعمله الوحيد وان يكون مقيما في الريف “… وحدثت على أساسه انتخابات تشكيلات الاتحاد الاشتراكي العربي ، اوقف الحلف البيروقراطي الرأسمالي عملية الانتخاب عند مستوى المؤتمر القومي الذي لا ينعقد الا كل سنتين ، اما لجان المحافظات واللجان العامة واللجنة التنفيذية ، اي اللجان القيادية فقد تم تشكيلها بالتعيين تفاديا لتسرب فلاح او عامل ، اي فلاح او عامل ، الى المراكز القيادية. ولسنا في حاجة الى القول بأن قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي كانت هي ذاتها قيادة الحكومة . بل ان ” الحزب ” قائد التحالف ضد البورجوازية وممثله في ممارسة سيادة الشعب فوق الحكومة قد اختير لانشائه وقيادته الجهاز الحكومي ذاته . وهكذا جاء الاتحاد الاشتراكي العربي في التطبيق مجسدا مفهوما مناقضا كليا لمفهوم الديمقراطية الذي جاء في الميثاق . فلا هو تنظيم قوى الشعب العاملة في مواجهة البورجوازية ولكن تنظيم تقوده البورجوازية في مواجهة العمال والفلاحين والمثقفين والجنود . ولا هو تنظيم جماهيري يمثل الشعب ويمارس سلطة فوق الحكومة ، بل هو تنظيم حكومي تمارس من خلاله سلطتها فوق الشعب  .
16 ـ من الشائعات التي قيلت عن الميثاق انه ينطوي على نظرية مكتملة ودائمة الدوام النسبي للنظريات على الاقل ، ولقد تولى عبد الناصر نفسه تكذيب هذه الشائعة قبل ان تروج. قال امام المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي اصدر الميثاق (حزيران/ يونيو 1962) : ” ان الميثاق للعمل .. وانا كنت حريصا على الا احدد حاجة فيه لأكثر من 8 سنين . يمكن حددت سنة 1970 او 1971 لأنه جايز بييجي ناس بعد كده عندهم تطور فكري تقدمي اكثر من الميثاق او يحبوا يضيفوا عليه حاجات او يعدلوه    .
والواقع ان جمال عبد الناصر كان يتوقع ان جيلا جديدا سيأتي بعده قد يتوقف فكرا وحركة عند الميثاق فنراه بعد نحو خمس سنوات من صدور الميثاق يتحدث عن هذا الجيل مركزا بشكل أساسي على ضرورة الا يفرض جيله ـ جيل عبد الناصر ـ وصاية فكرية او حركية عليه. قال يوم 20 كانون الثاني / يناير 1965 امام مجلس الامة : ” ان المهمة الاساسية التي يجب ان نضعها نصب عيوننا في المرحلة القادمة هي ان نمهد الطريق لجيل جديد يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية . ولسنا نستطيع ان نقول ان جيلنا قد ادى واجبه الا اذا كنا نستطيع قبل كل المنجزات وبعدها ان نطمئن الى استمرار التقدم ، والا فإن كل ما صنعنا مهدد بأن يتحول - مهما كانت روعته - الى فورة ومضت ثم توقفت . ان الامل الحقيقي هو في استمرار النضال ويتأكد الاستمرار حين يكون هناك في كل وقت جيل جديد على اتم الاستعداد للقيادة ولحمل الامانة ومواصلة التقدم بها .. اكثر وعيا من جيل سابق . اكثر صلابة من جيل سابق . اكثر طموحا من جيل سابق . وينبغي ان ندرك ان التمهيد لهذا الجيل واجبنا واننا نستطيع بالتعالي والجمود ان نصده ونعقده وبالتالي نعرقل تقدمه وتقدم امتنا . ان علينا بالصبر ان نستكشفه دون من عليه ولا وصاية . وعلينا بالفهم ان نقدم له تجاربنا دون ان نقمع حقه في التجربة الذاتية . وعلينا في رضا ان نفسح الطريق له دون انانية نتصورغرورا انها قادرة على شد وثائق المستقبل باغلال الحاضر . وعلينا ان نتجه له بفكره الحر ان يستكشف عصره دون ان نفرض عليه قسرا ان ينظر الى عالمه بعيون الماضي .
إن هذه الوصية لا تضع حدا لتهيب من ” عندهم تطور فكري تقدمي اكثر من الميثاق ” للاضافة اليه او تعديله ولكنها نداء الى الجيل الجديد بأن ” الميثاق للجيل ” الذي سبق ، وان عليه ان يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية و” الفكرية .
رغم كل هذا فإن عبد الناصر قد قال في عام 1963 ان الميثاق يتضمن نظرية . وهو قول يستحق الانتباه ، ففي حواره مع قادة حزب البعث خلال مباحثات الوحدة الثلاثية قال : “اين هي نظرية حزب البعث ؟… احنا عندنا تجربة طلعنا منها بنظرية . وطلعنا منها بوسيلة للتطبيق . عندنا الميثاق … احنا كان عندنا الشجاعة في اول الثورة لنقول ان ما فيش نظرية. فيه مبادىء محددة . وبنمشي بالتجربة والخطأ حتى نعمل النظرية . وحتى نقيم هذه النظرية . مشينا بالكلام ده عشر سنين… مشينا في التجربة والخطأ . وبقينا نقول ان احنا بنغلط 40 بالمائة وبنغلط 50 بالمائة وبقينا نقول ما عندناش نظرية . وبعد كده قدرنا نعمل .. قدرنا نعمل تطبيق . وبعدين عندنا تجربة تطبيق 11 سنة مستمرة ادت اساس للنظرية بالنسبة للحرية وبالنسبة للاشتراكية وبالنسبة للوحدة . كل شيء مبين في الميثاق “. (جلسة مساء يوم 6 نيسان / ابريل 1963) .
وهو كلام صحيح في نصه وفي دلالته . فقد فرق عبد الناصر بين مرحلة التجربة والخطأ (التطبيق) ومرحلة الميثاق وهو صحيح . فلا شك ان الميثاق اكثر تقدما على المستوى الفكري من الافكار المرحلية المختلطة بالتجربة والخطأ . اكثر تقدما بمراحل كبيرة . وما عناه عبد الناصر في بداية الحديث من انه قد خرج من التجربة بنظرية عاد فحدده في نهاية الحديث بأن ما اسفرت عنه التجربة وتضمنه الميثاق هو ” أساس للنظرية “، وهو صحيح . فلا شك في ان الميثاق قد تضمن معطيات فكرية مبدئية تصلح اساسا لنظرية متكاملة ، لا ينقصها لتكون كذلك الا اكمال البناء .
صحيح ايضا ان عبد الناصر لم يتوقف عند الميثاق ، بل تجاوزه متقدما في اكثر من مجال فكري ، اخصها المجال المنهجي الذي يفتقر اليه الميثاق افتقارا واضحا بحكم انه خلاصة تجربة وليس وليد نظرية علمية . ففي 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1964 قال عبد الناصر : ” احنا ما بقيناش دولة . ولا يمكن ان احنا نقول ان احنا النهاردة دولة اشتراكية . احنا في مرحلة انتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية “. فإذا تذكرنا انه كان قد قال من قبل يوم 9 تموز/ يوليو 1960 : ” هناك .. اتصال عضوي بين الاشتراكية والديمقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد وان الديمقراطية هي اشتراكية السياسة “ ، اذا تذكرنا هذا تكون خلاصة الموقف هو ان ليس للديمقراطية مفهوم ثابت يصاغ في وثائق دستورية او فكرية ، بل هي حركة متطورة مع تطور المجتمع ذاته وتستمد مفهومها من الواقع الاجتماعي في كل مرحلة من مراحل تطوره . ليست الديمقراطية نظاما ثابتا نكتشفه فنقول ها هي الديمقراطية ، بل هي خطوات فكرية او قانونية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او تربوية نحو النظام الديمقراطي الذي سيبقى هدفأ الى ان يستحقه الشعب . وهو يستحقه حين يستطيع ان يفرضه بارادته ويحرسه ضد ارادة المستبدين ، ولن يستطيع هذا الا اذا اكتملت حريته ولن تكتمل حريته الا في ظل نظام اشتراكي كامل .
كان ذلك هو قمة النضج الذي وصل اليه مفهوم الديمقراطية في مرحلة عبد الناصر، وبعده ، وبحكمه ، بدأت مرحلة جديدة لا بد من ان يكون لها مفهوم جديد (متطور) للديمقراطية .
ثالثا : مرحلة الناصرية ـ 1970 :
1 ـ  يقولون ، (الناصرية ” فنقبل هذا التعبير على علاته ، اي كواقع ، ولكن بدون تجاهل او انكار ان دلالته القطعية لم تتحدد بعد . ونعني بقطعية الدلالة ان يكون مميزا للانتماء قاطعا سبل الخلط او الادعاء بصرف النظر عمن يقبلونه او يرفضونه . ولسنا نعتقد ان احد يستطيع ان يجادل بحق في ان تعبير ” الناصرية ” لا تتوافر له حتى الآن الدلالة القطعية التي تمكنه من اداء هذه الوظيفة وان ” الناصرية ” مرفوعة او منتحلة للدلالة على مضامين ومواقف بالغة الاختلاط والاختلاف والتناقض في بعض الحالات . طبيعي مع هذا ان يكون متاحا لكل رافع شعار ” الناصرية ” على افكاره او مواقفه ان يزعم ان تلك هي ” الناصرية ” الحقة ، ولكن مجرد انها متاحة لكل قادر من المختلفين في الافكار والمواقف يؤكد ان تعبير “الناصرية” غير قاطع الدلالة بل غير واضح الدلالة .
على اي حال تطلق ” الناصرية ” على هذه المرحلة التي بدأت بعد وفاة عبد الناصر للتعبير عن انها تعني الانتماء الى فكر عبد الناصر وليس الى شخصه أو مواقفه . فقد انقضت حياة عبد الناصر وانقطعت مواقفه ولم تبق الا افكاره وتجربته الغنية تراثا . ولقد كان عبد الناصر يعد الميثاق لمرحلة انتهت في عام 1970 او 1971 وكان يتوقع ان يعاد النظر فيه على ضوء ما اسفر عنه التطبيق في تلك المرحلة ، ثم حالت وفاته دون هذه العملية . وبالتالي فإنه يدخل في مدلول ” الناصرية ” تلك الاضافات او التعديلات التي قد ترد على الميثاق على ضوء تجربة تطبيقية في حياة عبد الناصر . ولقد انقضت اكثر من عشر سنوات على وفاة عبد الناصر حدثت فيها احداث غيرت من اتجاه الحركة الاجتماعية كما حددها عبد الناصر والميثاق ، وانهت كل المنظمات التي حسبها الميثاق تحديدا للديمقراطية ، كما غابت كل الانجازات التي عدّها عبد الناصر والميثاق الجناح الثاني للديمقراطية ، كما غابت معظم الانجازات التي عدّها عبد الناصر والميثاق الجناح الثاني للديمقراطية ، كما حدثت تغييرات في الاتجاه العربي والثوري لثورة 23 يوليو ، وحدثت كذلك تغييرات داخلية ابتداء من الانفتاح الاقتصادي الى الغاء الاتحاد الاشتراكي وتعدد الاحزاب ، وخارجية تتعلق بعلاقات مصر العربية والدولية واتفاقيتي كامب ديفيد وعدم الانحياز .
كل هذا لم يعرفه عبد الناصر ولم يعاصره ولم يتوقعه الميثاق ولم يتضمن ما يمكن ان يحدد مفهوم الديمقراطية في ظله . باختصار نعتقد ان اقرب دلالات الناصرية الى القبول هي : ان الناصرية هي الميثاق معدلا ومتطورا على اساس ما اسفرت عنه تجربة تطبيقه في حياة عبد الناصر وبعد حياة عبد الناصر .
2 ـ في حدود هذه الضوابط يمكن القول بأن مفهوم الديمقراطية يتضمن مبادىء ثابتة ومميزة :
اول تلك المبادىء هي ” الديمقراطية الشعبية “. فعلى مستوى الشعب ، وليس الصفوة ، توجد مشكلة الديمقراطية ، وعلى مستوى الشعب وليس الصفوة يوجد حل مشكلة الديمقراطية ، ويبقى مبدأ ثابتا ما جاء في الميثاق : ” ان الديمقراطية السياسية لا يمكن ان تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات . ان الديمقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب، سلطة مجموع الشعب “. ان هذا المبدأ يميز المفهوم الناصري للديمقراطية تمييزا واضحا عن مفهومها في الماركسية  . الثاني : ان الديمقراطية لا تقوم الا في ظل النظام الاشتراكي فهي ” ديمقراطية اشتراكية ”، وبقدر ما يتقدم المجتمع نحو الاشتراكية يتقدم نحو الديمقراطية. ان هذا المبدأ ينطوي على موقف مبدئي مميز حيال الديمقراطية البورجوازية ، فلا ديمقراطية على اي وجه في ظل الدولة الليبرالية والنظام الرأسمالي .
الثالث : انه لا حرية ولا ديمقراطية لاعداء الشعب . ولقد كان موقف الميثاق غامضا ومترددا في تحديد من هم أعداء الشعب . حدد على وجه القطع الاقطاع ، والرأسمالية المستغلة . واستثنى ما اسماه الرأسمالية الوطنية . ولقد كانت تلك هي الثغرة التي فتكت بالمفهوم الديمقراطي الذي جاء في الميثاق وأبقاه حبرا على ورق لم تسمح له ” الرأسمالية الوطنية ” بفرصة التطبيق . ولقد اكتشف عبد الناصر هذه الثغرة قبل وفاته ولم يعلنها ولكنه رددها في احاديثه غير المعلنة في اجتماعات الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي ابتداء من عام 1962 ونشر بعضها أخيرا تحت عنوان ” مفهوم العمل السياسي ” يقول : ” ان لدينا مشكلة عويصة وهي ان العناصر المضادة للثورة والاشتراكية موجودة بالفعل داخل الاتحاد الاشتراكي وهي عناصر حركية “.. كما اكتشف الطرف الثاني في التحالف الرأسمالي ـ البيروقراطي فقال : ” وهناك خط آخر له صفة الانحراف يضعف من تحالف قوى الشعب العاملة وذلك الخطأ هو ظاهرة البيروقراطية “. كذلك اكتشف قبل وفاته الثغرة التي نفذ منها الملاك (غير الاقطاعيين بمفهوم الاصلاح الزراعي) وحالوا دون ان يجد مفهوم الديمقراطية فرصة التطبيق في الريف . فقال يوم 7 آذار / مارس 1966 : ” ان الجمعيات التعاونية تحتاج الى تطوير . فما زال كبار الملاك مسيطرين عليها . فكبار الملاك لهم نفوذ ويستطيعون وضع رجالهم في مجالس ادارات الجمعيات التعاونية . وربما كان هذا هو ما اثر على فكرة الديمقراطية التي تكلمت عنها ولن تكون ديمقراطية حقيقية بهذا الشكل…. “ 
ولقد كانت تجربة ما بعد عبد الناصر اكثر دلالة ، وأمرّ ، على خيانة الرأسمالية المسماة وطنية للديمقراطية الشعبية الاشتراكية ، فهي التي برزت متحالفة مع البيروقراطية ، ومدعمة من كبار الملاك للانقضاض على السلطة وتغيير اتجاه حركة المجتمع وفتكت بكل مفهوم للديمقراطية او الاشتراكية او الحرية او القومية خطر على بال عبد الناصر.
ان خلاصة هذه التجربة تقتضي تعديل مفهوم ” الشعب ” كما جاء في الميثاق . ويساعد على هذا التعديل معرفة لماذا اعتبر عبد الناصر ان الرأسمالية الوطنية قوة من قوى الشعب العاملة ؟ ولماذا جاءت في الميثاق جزءا من الشعب في مفهومه للديمقراطية ؟ هل كان ذلك تعبيرا عن موقف مبدئي ام كان تكتيكا مرحليا ؟ في اجتماع مساء يوم 7 نيسان / ابريل 1963 من مباحثات الوحدة الثلاثية اورد عبد الناصر الاسباب التي جعلت الميثاق يضيف الرأسمالية الوطنية الى قوى الشعب العاملة فقال : ” اذا لم يجمع الشعب العامل كله بحيث يشعر ان الثورة قامت لتحقق له اهدافه وامانيه ستستطيع الرجعية والرأسمالية ان تجذب جزءأ كبيرا من هذا الشعب العامل وتغرر به وتخدعه وخصوصا جزء كبير من الطبقة المتوسطة بافهامهم ان مصالحهم مهددة وهذا ما حدث لنا في سوريا في سنة 1961 ، استطاعت الرجعية ان تؤثر على عدد كبير من الطبقة المتوسطة ” . ويدل هذا دلالة واضحة على ان ادخال الرأسمالية الوطنية في مفهوم الشعب كان بقصد منع انحيازها للرجعية والرأسمالية . كان اجراء وقائيا للثورة ولم يكن موقفا مبدئيا ، مثله كمثل موقف المسلمين من ” المؤلفة قلوبهم ” في بدء ظهور الاسلام . وكان لا بد من ان يكون هذا الاجراء متوقفا على موقف الرأسمالية الوطنية ذاتها في الممارسة . وقد اثبتت الممارسة منذ صدور الميثاق حتى الآن ان تلك الشريحة من الرأسماليين المسماة وطنية هي التي انقضت على الثورة وقادت ـ بالتحالف مع البيروقراطية ـ الردة وخانت قضية الحرية والاشتراكية والوحدة جميعا .
والواقع ان اللافت ان الميثاق قد استعمل تعبير ” الرأسمالية الوطنية ” بدلا من تعبير “ الرأسماليين الوطنيين ” وهو في سياق بيان قوى الشعب العاملة كما قال عن الفلاحين والعمال والمثقفين والجنود . وهو استعمال غريب لأن الرأسمالية ، وطنية كانت او غير وطنية ، نظام اقتصادي ، وهو نظام مستغل بحكم جوهره ومجرد من اية بواعث وطنية لأن باعثه الاول والاخير هو البحث عن الربح . وبينما الرأسمالية المصرية او العربية (وهو التعبير الصحيح عن كونها ليست اجنبية) رجعية ومستغلة ومعادية للاشتراكية يمكن ان يوجد رأسماليون وطنيون ، خاصة في مرحلة التحرر حيث تكون الوطنية بالنسبة اليهم حماية نشاطهم الرأسمالي ضد الرأسماليين الاجانب بقصد احتكار السوق المحلي . وهو مفهوم مرحلي ايضا وليس مبدأ . ولكن تطور مفهوم الاشتراكية ونظامها قد افسح مجالا لوجود رأسماليين وطنيين بمعنى انهم يحترمون النظام الاشتراكي ذاته . ففي ظل النظام الاشتراكي ، وفي نطاق الخطة المركزية الواحدة الشاملة كل نشاط اقتصادي ، قد تستوجب مقتضيات التنمية ان تتضمن الخطة ذاتها مجالات تحددها هي وللمدة والمدى الذي تحدده للنشاط الرأسمالي الذي يقوم على المنافسة (نظرية ليبرمان والتجربة الاشتراكية في دول اوروبا الاشتراكية) .. هنا ، وهنا فقط ، يمكن ان يقال عن ” العاملين ” على نفاذ الخطة الاشتراكية في المجالات التي تحدد للنشاط الرأسمالي انهم رأسماليون وطنيون . ولما كان هذا ايضا مفهوما مرحليا فإنه لا يمكن ان يتضمن في المفهوم المبدئي ” للشعب ” ونحن بصدد تحديد مضمون الديمقراطية .
من ناحية اخرى فإن تقسيم قوى الشعب العاملة الى فلاحين وعمال ومثقفين وجنود هو تقسيم غير قائم على اسس علمية . انه تقسيم مهني . ولا شك في ان اتخاذ المهنة اساسا للتقسيم سيؤدي الى قائمة لا نهائية من الاوصاف . فإن كان موحيا بأساس طبقي فإن المثقفين والجنود ليسوا طبقة ولكنهم شرائح من كل الطبقات . ثم ان هذا التقسيم يفتت الشعب الى قوى موحيا بأن فيما بينها تناقضات تستحق هذا التقسيم كمقدمة لاختلاف مواقف القوى من الاشتراكية او في الاشتراكية وهو غير صحيح علميا حتى في الماركسية . ففي المجتمع الاشتراكي لا توجد طبقات ، بل ان غاية النضال الطبقي الذي تقوده البروليتاريا ـ كما يقول الماركسيون ـ هو الغاء الطبقات . والغاء الطبقات لا يعني الغاء تقسيم العمل بين الفلاحين والعمال والمثقفين والجنود . من ناحية اخيرة ان هذا التقسيم يخرج اغلبية الشعب من مفهوم الشعب ، فلا يدخل فيه الذين لا يعملون وليسوا جنودا ولا مثقفين : الشيوخ والنساء والطلبة والعاطلون ثم الحرفيون .
اخيرا ، فإن الشعب لا يحتاج الى تعريف في مفهوم الديمقراطية كما جاء في الميثاق ، فإنه كل الشعب بعد حرمان اعدائه من الحرية والديمقراطية . ومن هنا فإن مفهوم الشعب لابد من أن يتعدل ليبقى على الموقف المبدئي : الشعب هو كل المواطنين الذين لهم مصلحة في الاشتراكية ، واعداء الشعب هم كل من لا تتفق مصالحهم مع مصلحة الشعب (الاشتراكية) .
الرابع : المبدأ الرابع هو الحزب الاشتراكي الذي يعنى وينظم ويقود جماهير الشعب نحو الحرية والاشتراكية والوحدة ..
3 ـ ما عدا هذا فكل المفاهيم التي جاءت في الميثاق غير مبدئية وبالتالي فهي غيرصالحة للالتقاء عليها او الالتزام بها او الاحتكام اليها . انها ” سياسة ” او ” اسلوب ” ولكن ليست مبادىء .
اولها : الصراع الاجتماعي او الصراع الطبقي وحله عن طريق تذويب الفروق بين الطبقات بعد اسقاط تحالف الاقطاع والرأسمالية . فقد رأينا ان ذلك مرتبط بوجود الاشتراكيين في السلطة حيث يقضون على تحالف الاقطاع والرأسمالية ويسخرون الدولة عن طريق التشريع والتخطيط والقيادة لتذويب الفروق بين ” القوى “.. ان هذا ليس مبدأ بل سياسة ينتهجها الاشتراكيون اذا ما تولوا السلطة ، وهي مفترض بدون نص فلا توجد سلطة اشتراكية تسمح بالصراع الطبقي في ظلها . ولكن لا بديل عن الصراع الاجتماعي او الطبقي في مجتمع غير اشتراكي ، اذ لا محل للوصول الى موقع القدرة على تذويب الفروق بين الطبقات الا بالاستيلاء على السلطة واسقاط تحالف الرجعية . ولقد صيغ الميثاق في مرحلة تولي عبد الناصر السلطة . وهذا واقع انقضى  ..
ثانيها : فكرة التحالف . ان في تلك الفكرة كما جاءت في الميثاق تناقضا جردها من كل دلالة وجعلها غير قابلة للتطبيق . فمجرد ان الفلاحين والعمال والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية قوى ( اقتصادية لأن ذلك هو اساس التقسيم الذي اخذت به اللجنة التحضيرية كما ذكرنا فيما قبل) لا يعني وحدة ارادة كل قوى منها لأن ايا منها لم تكن منظمة على الوجه الذي تملك به وسيلة التعبيرعن ارادتها الجماعية . ومع ذلك افترض ان فيما بينها تحالفا مع ان التحالف موقف ارادي . وهو تناقض لا حل له الا اذا انتظمت كل قوة في منظمة تعبر عن ارادتها الجماعية ثم ارادت ان تتحالف مع غيرها ، ثم التقت ارادتها هذه مع ارادة كل او بعض القوى المنظمة الاخرى على موضوع محدد وللمدى الذي يتفق عليه.. اما التحالف المفترض فهو تحالف مفروض لا يمت بصلة الى مفهوم الديمقراطية كما اراد الميثاق ان يحققه من هذه الصيغة .
ولكن فكرة التحالف هذه تفصح عن موقف مبدئي هو العمل على قبول التحالف في جبهة مع كل القوى التي تقبل النضال من اجل الحرية والاشتراكية والوحدة مع الادراك الكامل لقوانين العمل الجبهوي والالتزام بها  .
هذا الموقف يؤدي الى مبدأ نعتقد انه متضمن في المفهوم الديمقراطي الذي تضمنه الميثاق وان كانت مرحلة عبد الناصر لم تسمح بتطبيقه . نعني به : في اطار الالتزام القومي المبدئي بالاشتراكية ، واسقاط تحالف الاقطاع والرأسمالية ، يباح للشعب ان ينشىء الاحزاب التي ستتنافس فيما بينها على اساس افضل الخطط واسلم الادارات لتحقيق الاشباع المتجدد لحاجات الشعب المتجددة .
لم نورد هذا في عداد المبادىء التي يمكن الالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها ، لأن اباحة تعدد الاحزاب لا تعني اصطناع الاحزاب المتعددة للوصول الى شكل حزبي زائف .. ان كل حزب ” غير منافق ” لا بد من ان يسعى الى ان يكون حزبا وحيدا ، أي الى تصفية الاحزاب الاخرى . كل المسألة ان التصفية الديمقراطية تكون عن طريق قبول المنافسة على كسب أغلبية الشعب . تعدد الاحزاب اذا ليس مبدأ ديمقراطيا ، ولكن عدم منع الشعب من ان يعبر عن ارادته بالطريقة التي يختارها ، ومنها تشكيل الاحزاب ، مبدأ ديمقراطي عبر عنه الميثاق بقوله ” الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب “.. ولا شك ان ” كل الحرية ” تمتد الى حرية اختيار طريقة واسلوب التعبير عن الرأي وممارسة النشاط الحزبي .
ثالثها : اسلوب تتظيم الجماهير في ” اتحاد اشتراكي عربي “.. ان ” انتظام ” الشعب كله في مؤسسات تبقى منعقدة دائمآ وتكون اطارا لعرض المشكلات والحوار حول حلولها والتعبئة لوضع تلك الحلول موضع التنفيذ هو اقرب ما وصلت اليه النظم الى ” الديمقراطية المباشرة ” التي هي الديمقراطية الحقة التي يتجه اليها التطور على مستوى البشرية جميعا . وهو حصانة اساسية ضد ديكتاتورية المنتخبين من الشعب لاداء وظيفة التشريع . وهو المميز للفارق بين الديمقراطية الشعبية والديمقراطية النيابية في النظم . ولكن الصعوبة كلها تكمن في كيف ينتظم الشعب في مؤسسات للديمقراطية . انه تنظيم في نقابات وجمعيات ومؤسسات تعاونية وصحافة ومنظمات طلابية . ولكن كل هذه المؤسسات لا تفي بحاجة بعض الشعب من الفلاحين والعمال والحرفيين المتخلفين ديمقراطيا . لهذا فإن الموقف الايجابي هو انتظام الشعب في منظمات جماهيرية . ولكن لما كان هذا الانتظام يجب ان يكون اراديا بالاقناع او التشجيع او القدرة فإن صيغته لا يمكن ان تكون مبدأ يلتقى عليه ويتلزم به ويحتكم اليه . مع ملاحظة اننا نتحدث عن المنظمات الجماهيرية وليس الاحزاب .
بقيت نقطة واحدة اخرى تتعلق بنظام الحكم . ان النظام الاشتراكي لا يسمح بالفصل البورجوازي بين السلطات ، كما ان قيامه على اساس من خطة مركزية شاملة يقتضي ان تكون السلطة التنفيذية مركزية وقوية . ولكن كل هذا لا يقتضي بالضرورة النظام الرئاسي . ان النظام الرئاسي يتفق مع كون رئيس الدولة ” قائدا ” . وقد نجح في البلاد المتقدمة (فرنسا في ايام ديغول والولايات المتحدة ) لأن الشعب هناك متقدم ديمقراطيا الى الحد الذي يستطيع به ان يردع اي قائد عن استعمال السلطة بما لا يتفق مع مصالح الشعب . الامر غير هذا في المجتمعات المتخلفة . فلا يتفق مع الديمقراطية الخلط بين رئاسة الدولة ورئاسة السلطة التنفيذية . واذا كان هذا قد حدث في عهد عبد الناصر، وعبر عنه الميثاق ، وصاغه دستور عبد الناصر عام 1964، ولأن عبد الناصر لم يكن حاكما أو قائدا فحسب ، بل كان زعيما ، وهي سمة تاريخية خاصة به لا تنتحل بعده ولا تصطنع ، وبالتالي فإن النظام الرئاسي كان نظام مرحلة عبد الناصر وليس مبدأ ثابتا من مبادىء مفهوم الديمقراطية … ومع بقاء رئيس الدولة رمزا وصمام امن بدون سلطات تنفيذية تؤول السلطة التنفيذية الى مجلس الوزراء ، وهو، بتعدده  يحقق القيادة الجماعية التي قال الميثاق انها ضمان الديمقراطية .
هوامش :
 (1) هيئة التحرير، الميثاق .
(2) كل الآراء والأحكام مشار اليها في : جمال الدين العطيفي ، الاتحاد الاشتراكي قوة سياسية ام سلطة دولة ؟ ، ص 56 .
(3) جمال عبد الناصر، 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1957.
(4) جمال عبدالناصر، في الكلمة التي القاها في نادي رجال الادارة تلبية لدعوة اعضاء النادي : 15 نيسان/ ابريل 1954، في : جمال عبد الناصر، مجموعة خطب وتصريحات وبيانات الرئيس جمال عبدالناصر، 5 ج (القاهرة : مصلحة ا لاستعلامات، [ د. ت ] ) ، ج 1: القسم الاول ، 23 يوليو 1952 - يناير  1958، ص 117 .
(5) انظر Jacques Benoist – Mechin , Un Printemps arabe ( Paris : Albin Machel , 1958 )
(6) ثروت بدوي ، موجز القانون الدستوري (1973)، ص 135 عبد الفتاح ساير داير، القانون الدستوري ، ص 444، وسليمان الطماوي، القانون الدستوري ا لمصري ، ص 107.
(7) جمال عبد الناصر، في الكلمة التي القاها في المؤتمر التعاوني الثاني ، 1 حزيران / يونيو 1956 في مجموعة خطب وتصريحات وبيانات الرئيس جمال عبد الناصر ج 1 القسم الاول ، 23 يوليو 1952 - يناير 1958 ، والكلمة التي القاها في 29 حزيران / يونيو 1956.
(8) كارل ماركس و فريد ريك انجلر، المختارات ، ج 2 ، ص 319
(9) فلاديمير ايليتش لينين ، المختارات ، ج 3 ، ص 18.
(10) فلاديمير ايليتش لينين ، الاعمال الكاملة ، ج 25 ، ص 287 .
(11) ماركس وانجلز ، المختارات ، ج 2 ، ص 43 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق