هوس راشد الغنوشي الدبلوماسي .
د. سالم لبيض
.
22/06/2019
أمر لفت نظر الدارسين والمتابعين، وأثار ريبة الخصوم السياسيين، الدور "الدبلوماسي" الذي يقوم به راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية منذ عودته من منفاه في لندن سنة 2011 واستقراره نهائيا في تونس. ليس للرجل أي صفة دبلوماسية أو خطة رسمية في الدولة، ومع ذلك فقد حطّم كل الأرقام القياسية في استقبال رئيس حزب سياسي تونسي سفراء الدول الأجنبية وأعضاء بعثاتها الدبلوماسية، المقيمين في تونس، وممثليها القادمين من الخارج، من رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء وكتاب دولة ونواب ورؤساء برلمانات وقادة منظمات دولية وتجمعات إقليمية، أو الالتقاء بهم في بلدانهم الأصلية. إذ لا يكاد يمرّ أسبوع واحد دون أن تنشر صفحة راشد الغنوشي الرسمية صور لقاء جمعه بسفير أو وزير أو شخصية حكومية حالية أو سابقة، وذلك في مقرّ حركة النهضة بمنبلزير أو بالقصر الذي يسكنه بقمرت في ضاحية تونس الشمالية، أين استقبل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أغلو يوم 23 ديسمبر 2018، أما في الأعياد الرسمية للدول، التي تنظمها مختلف السفارات الأجنبية في تونس، على مدار السنة، فإن حضور الزعيم الإسلامي، كان دائما متأكدا مع المحافظة على الجلوس أو الوقوف في الصفوف الأولى للمدعوين، ولا ندري هل أن ذلك تبجيل لشخصه أم تقدير لحزبه، وفي كل الحالات هناك اعتراف للرجل بقابليته التعاطي السياسي، والاستجابة لما تطلبه سفارات الدول النافذة، وأجندات دولها السياسية، والمحافظة على مصالحها ورهاناتها المحلية والإقليمية، ولعلّ دعمه حلف الناتو في الحرب الليبية، ما ادى إلى سقوط نظام العقيد معمر القذافي، واحتفاله بذلك الحدث بوصفه نصرا مبينا، هو خير مثال على ذلك. يسوّق انصار الغنوشي ونشطاء حزبه والصحافة التابعة له والصفحات النهضوية المتوالدة، ونظيراتها الموالية الوفية لحزب النهضة في الفضاء الافتراضي، يسوقون إلى أن ما يقوم به رئيس حركة النهضة من زيارات ومقابلات مع مسؤولين أجانب في تونس وخارجها، الهدف منها خدمة تونس والترويج لها في الخارج، أو الوساطة في حلّ الأزمات والصراعات الإقليمية. والحال ان بعض تلك اللقاءات ينتظم بطلب من حركة النهضة ومن رئيسها نفسه، بعد أن تتولى الأمر الشركات المختصة في العلاقات العامة مدفوعة الأجر مسبقا التي تمارس اللوبيينغ السياسي في بلدانها، كما هو الشأن بالنسبة لزيارته الأخيرة فرنسا، التي ساعد على تنظيمها أيضا السفير الفرنسي بتونس، أين اجتمع مع مجموعة من المسؤولين الفرنسيين من الصف الثاني ممن لا يملكون نفوذا او سلطة قرار حقيقي، حسب ما رشح من الصحافة ومن كواليس السياسة الفرنسية. أما الجانب المخفي والمسكوت عنه من وراء تلك الاجتماعات واللقاءات، فهو تسويق حركة النهضة حزبا إسلاميا مدنيا ديمقراطيا، وليس حزبا دينيا محافظا أو رجعيا ماضويا منعوتا بالتطرف، تقبل به القوى الدولية في الحكم، وخاصة القوى التقليدية الغربية في أروبا والولايات المتحدة الأمريكية ذات النفوذ التقليدي في تونس.
لقاءات الغنوشي الدبلوماسية لم تعرف الحدود ولم تراع الحرمات وقضايا الوطن
العربي والعالم الإسلامي، فهو لم ير حرجا في الإفطار في شهر رمضان على مائدة
السفير الأمريكي للحديث في السياسة التونسية وفي الشأن العام الوطني، ولم يحرجه
استقبال جون ماكين ومادلين أولبرايت، الشخصيتين الأمريكيتين المعروفتين بولائهما
ودعمهما للكيان الصهيوني، ودولته العنصرية، ومعاداتهما القضية الفلسطينية، ومختلف
القضايا العربية العادلة، وتأييدهما تدمير واحتلال العراق، وما شهده من مآسي
ومجازر وجرائم ضد الإنسانية. ولم يمنعه إسلامه ولا عروبته من زيارة لجنة الشؤون
العامة الأمريكية الإسرائيلية المسماة اختصاراً أيباك الداعم الرئيسي للدولة
الصهيونية بدوائر القرار والنفوذ الأمريكي، وقد بلغ به الأمر أن التقى سعد الدين
إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الامريكية بالقاهرة، ومدير مركز ابن خلدون
للدراسات الإنمائية، الممول والمجنّس أمريكيا، رمز التطبيع، الذي رحّلته الحكومة
اللبنانية على خلفية عمالته وزياراته المتتالية الى دولة الكيان الصهيوني، والذي
اطرد من قبل الطلاب الفلسطينيين داخل فلسطين 48 لما دعاه مركز موشي ديان ليقدم
محاضرة، المنبوذ في مصر من قبل جميع مفكريها وأكاديمييها وساستها الأحرار.
تكتفي المدونة التشريعية التونسية بتمكين الأحزاب السياسية التونسية من إقامة
علاقات مع أحزاب أجنبية، كما جاء ذلك في الفصل 15 من المرسوم المنظم للأحزاب
السياسية عدد 87 لسنة 2011 الذي ينص على أنه "يجوز للحزب السياسي إقامة
علاقات سياسية بأحزاب سياسية أخرى وطنية أو أجنبية أو باتحادات أحزاب سياسية
دولية"، أما العلاقات الرسمية مع الدول والحكومات فهي من صميم اختصاص الدولة،
ممثلة في رئاسة الجمهورية، كما ورد ذلك في الدستور التونسي لسنة 2014، الذي ينص في
فصله عدد 77 على تولي رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في
مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية، وفي فصله عدد 78 الذي يشير إلى أن التعيينات
والاعفاءات في الوظائف العليا العسكرية يتولاها رئيس الجمهورية. وبالإضافة إلى ما
ورد في الدستور التونسي نظم الأمر عدد 1242 لسنة 1984 مشمولات وزارة الخارجية
التونسية، ومكنها من احتكار السياسة الخارجية للدولة التونسية، والشأن الدبلوماسي،
والعلاقة مع البعثات الدبلوماسية في الداخل، وعلاقتها بالدول والحكومات في الخارج.
ويبدو أن رئيس حركة النهضة بصفة خاصة، وبعض رؤساء الأحزاب الأخرى في حالات
نادرة، من أبرزها لقاء نجل الباجي قائد السبسي بالرئيس التركي، ودون تولي خطّة
رسمية، يستغلون ضعف الدولة في هذه المرحلة من تاريخها، والاستيلاء على وظيفة
رئيسية من وظائفها، وهي العلاقات الخارجية والدور الدبلوماسي المنوط بعهدتها، فيما
يشبه انتحال صفة، وفي عملية خلط مقصودة بين الحزبي والرسمي. هو سلوك سياسي لا يدوس
فقط على مؤسسات الدولة وينتهكها بل وينهكها ويجردها من دورها الدستوري والقانوني،
وإنما ينم عن هوس راشد الغنوشي الدبلوماسي، الذي برز لديه أول مرة عندما منح حقيبة
الخارجية إلى صهره رفيق عبد السلام في حكومة الترويكا الأولى سنة 2011، الذي أسس
لاحقا مركز الدراسات الدبلوماسية، ولكن هذه الرغبة لم تمت في الرجل، فهو يظهر
منتشيا متفاخرا يمشي في الأرض مرحا أمام الكمراهات والصحافيين، لنجاحه في تحويل
مقرّ حزبه إلى محج لمسؤولي الدول الأجنبية وسفرائها.
وفي مقابل هذا الاستيلاء المفضوح على مهام كل من رئيس الجمهورية ووزير
الخارجية وكاتبي الدولة الراجعين إليه بالنظر وسفراء وقناصل تونس في الخارج، يقف
كل من رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ضعيفين عاجزين عن وضع حد لهذا الانتصاب
الدبلوماسي الفوضوي، الذي يسوّق باسم الدبلوماسية الشعبية، التي هي في حقيقتها
تكليف من مؤسسات الدولة نفسها، وليست مجردّ مبادرات ذاتية أو حزبية، مهما كان حجم
الحزب الذي يقوم بها، أو حسن نوايا مسؤوليه، ولا أظن أن رئيس الدولة أو وزير
الخارجية قد منحا تفويضا من هذا القبيل وتخليا عن مهامهما للغنوشي او لغيره.
إن الدور الدبلوماسي الذي منحه راشد الغنوشي لنفسه، بوعي منه أو بدون وعي، أسس
للفوضى الدبلوماسية في تونس، دون أن تكون له نتائج ملموسة أو مكاسب ومنافع للدولة
التونسية، ومهّد الطريق أمام أحزاب أخرى للقيام بنفس المهمة، كما بدأ ذلك يتجلى في
المجتمع السياسي التونسي، وكان جديرا به أن يتخلى عن هذا الدور الوهمي والطوباوي،
أو أن يضفي على ما يقوم به شرعية دستورية وقانونية، ويسعى إلى تولي حقيبة الخارجية
في حكومة تحميها كتلته البرلمانية وتوفر لها الأمن السياسي من أجل البقاء والحياة،
أو أن يمتلك الشجاعة السياسية ويترشح إلى رئاسة الجمهورية، علّه يشفي غليله
الدبلوماسي ويحقق رغبته الجامحة في ممارسة السياسة الخارجية وما تمنحه له من متعة
ولذة لا متناهية وفق ايتيمولوجيا رولان بارت فيما كتبه عن لذّة النص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق