بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 نوفمبر 2019

فلسفة مجانية التعليم فى عهد عبد الناصر.



فلسفة مجانية التعليم فى عهد عبد الناصر.
د.هدى جمال عبدالناصر .

لقد تعودنا تشويه منجزات ثورة 23 يوليو بزعامة جمال عبد الناصر على مدى أكثر من أربعين عاما. وكان الهجوم تزيد حدته فى اللحظات المصيرية طبقا للحالة السياسية ووفقا للتغييرات فى معتقدات من فى السلطة. وكان المنطق هنا أو اللامنطق هو مفهوم المخالفة؛ فإذا كانت سياسة عبد الناصر الخارجية خاطئة فإن ذلك يبرر عقد اتفاقيات مع الاسرائيليين تحت رعاية الولايات المتحدة وانحيازا لها، والتباعد مع الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية، ثم التخلى عن تيار عدم الانحياز الذى تزعمه عبد الناصر وتيتو ونهرو، والانعزال عن إفريقيا التى ساعدنا شعوبها فى الحصول على الاستقلال، والأخطر من ذلك كله هو تبرير القطيعة مع الدول العربية التى أعقبت قرار الصلح المنفرد مع اسرائيل الذى رفضه عبد الناصر عدة مرات بعد عدوان 1967.
وبنفس المنطق فإن تقديم سياسات الانفتاح الاقتصادى وتحقيق سيطرة رجال الأعمال على مقدرات البلد، استدعيا الطعن فى إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية التى تبناها عبد الناصر؛ من تحديد للملكية الزراعية، فنزعت بعض أراضى الاصلاح الزراعى من الفلاحين وتمت إعادتها الى الاقطاعيين القدامى! كما شنت حملة عنيفة على القطاع العام الذى توسع فيه عبد الناصر؛ وذلك تمهيدا لبيعه مما نتج عنه تشريد عدد كبير من العمال، بل الأسوأ أنه تم النيل من المكاسب العمالية التى حصلوا عليها بعد الثورة! وتم خفض الاستثمار العام؛ مما أدى الى بطالة وصلت نسبتها الآن الى 12.8%.
وحتى يتقبل الرأى العام توزيع التوكيلات التجارية على القريبين من السلطة، كان على إعلام الدولة وقتها أن يهاجم سياسة عبد الناصر فى الاعتماد على الذات والحد من الاستيراد بالعملة الصعبة الضرورية لشراء المصانع وغيرها من السلع الانتاجية.
كما دهشنا جدا من سياسة أو لا سياسة الإسكان، فعندما نشأت المناطق السكانية الجديدة رأينا عودة الى بناء القصور والفيلات والعمارات الفاخرة، وكنت وقتها أتساءل: أين المساكن الشعبية؟! أين شقق الطبقة المتوسطة؟! وكان القول السائد أن تلك التى بنيت فى عهد عبد الناصر شوهت وجه القاهرة!
والأسوأ من ذلك الجريمة التى حدثت فى الساحل الشمالى.. هل يعقل أن دولة نسبة الفقر فيها 50% يكون من أولوياتها إنشاء المصايف على طول البحر المتوسط أكثر من 300 كم بدلا من الفنادق التى كان من الممكن أن تدر عملة صعبة للبلد؟!
وقد يتساءل القارئ: ما علاقة كل ذلك بمجانية التعليم وادعاء أنه كان أكذوبة؟!
نعم هناك علاقة واضحة، وهى الموجة الجديدة فى الهجوم على عبد الناصر مع اقتراب انتخابات مجلس الشعب؛ لمحاولة التأثير على أصوات الناخبين بما يخالف المرشحين على نهج عبد الناصر، ويتفق مع هؤلاء الذين يتبنون مصالح الرأسمالية المستغلة فى البلد.
إن عبد الناصر لم يدّع قط أنه أدخل مجانية التعليم فى مصر، وكلنا يعرف دور طه حسين فى المناداة بذلك بالنسبة للمرحلة الابتدائية عندما عمل مع وزير المعارف أحمد نجيب الهلالى فى عام 1943، وكذلك بالنسبة للتعليم الثانوى والفنى عندما أصبح وزيرا للمعارف فى وزارة مصطفى النحاس فى عام 1950. وعُرفت عنه مقولته الشهيرة.. »التعليم كالماء والهواء«، التى عمل على وضعها موضع التنفيذ حتى أقيلت وزارة الوفد عقب حريق القاهرة مباشرة فى 27 يناير 1952.
ولقد خبر عبد الناصر نفسه أهمية مجانية التعليم التى كانت مرتبطة بالتفوق، عندما سعى للحصول عليها وهو يوزباشى بالجيش المصرى لشقيقه الليثى، فكتب الى صديقه حسن النشار فى عام 1938.. »عندى موضوع وأظنك تعرف له حلا؛ وهو رغبتى فى إدخال الليثى مجانا، فإنه أخذ مجموعا أكثر من 70 % ، وطبعا هذا يقلل المصاريف على أنا على الخصوص… أرجو أن تهتم بمسألة ليثى وتجاوبنى بصراحة.. هل هذا فى مقدورك؟ حتى أعرفك بمجرد ارسال الطلب«.
وأدرك عبد الناصر الحمل الذى تتكبده الأسرة المتوسطة من أجل تعليم أبنائها، من خلال مشاركته والده فى هذا العبء بالنسبة لإخوته. ففى خطاب الى والده يعاتبه فيه لأنه تكبد مشكلة تدبير مصاريف أخيه مصطفى دون أن يفاتحه فى ذلك، كتب.. »لم يكن هناك داع للسفر لتدبير باقى مصاريف مصطفى، وقد كان الأولى مصارحتى بكل شىء، وممكن توفير المبلغ المطلوب. وقد تألمت لأنك – كما لاحظت من جوابك – تعبت فى هذا التدبير.. عموما كان الواجب أن يسبق ذلك خطوة وهى مفاتحتى«.
ثم كتب عبد الناصر لوالده..
»أهديك سلامى وأشواقى
وأقبل أياديك الكريمة وبعد ..
فقد سررت لنجاح مصطفى وأرجو أن يستمر على ذلك. وقد كتبت له طلب إعفاء من المصاريف، وإن كان أملى ضعيفا فى اجابة الطلب لأنى بحثت جميع السوابق، ولكن حاولت وربما تنجح المحاولات«.
ومن المعروف أن قضية التعليم قد تم تناولها فى جميع دساتير مصر، بِدءا بدستور 1923 الذى نص فى المادة 17: التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو يناف الآداب. وتنص المادة 19: التعليم الأولى إلزامى للمصريين من بنين وبنات، وهو مجانى فى المدارس العامة.
إذاً النصوص موجودة منذ أن حصلت مصر على الاستقلال الاسمى عن بريطانيا بموجب تصريح 28 فبراير 1922 وصدور دستور 1923.
ولكن السؤال هنا: ماذا فعلت الحكومات المتتابعة قبل ثورة 23 يوليو 1952 لتنفيذ هذه النصوص والوعود؟ إن التعليم يحتاج الى ميزانية لبناء المدارس وإعداد المدرسين، فماذا حدث؟
»لقد أنفق العهد الماضى مثلا مليونا ونصف مليون جنيه تقريبا لإصلاح يخت قديم هو يخت المحروسة؛ فلنترجم هذا الرقم إلى منشآت ومؤسسات تقيمها حكومة العهد الحاضر.. فكم كنا نستطيع أن ننشىء بمليون ونصف مليون أنفقناها فى يخت لا يركبه حتى صاحبه؟! كنا نستطيع أن ننشىء بهذا المبلغ 60 مدرسة وساحة شعبية، ومجموعة صحية، ومركزا اجتماعيا تخدم مليونا من المواطنين.. على أننا لن نبكى على الماضى فهذه سنة العاجزين، ولنضاعف الجهد لنعوض ما فات«.
كان هذا ماقاله عبد الناصر فى عيد الثورة الثانى، فى 22 يوليو 1954، ثم استطرد قائلا: »ولكن ليس يكفى أن نقول إن التعليم فى المرحلة الأولى مجاني وإلزامي حتى يجد كل طفل يبلغ السادسة من عمره مكانا فى المدرسة ومعلما يعلمه… ولو سارت حكومة الثورة على نهج الحكومات السابقة، لفتحت فى كل عام ثلاث مدارس وثلث مدرسة، لا تستوعب من البحر الطامى المتدفق من أبنائنا الذين يطلبون العلم إلا قطرة صغيرة؛ فقد بنى فى السنوات الثلاث السابقة على الثورة 11 مدرسة فقط!
ولذلك فقد عزمت حكومة الثورة أن تترجم أمانى الشعب إلى حقائق، وقررت أن تفتح أقصى ما تسمح به الظروف المادية والمالية من مدارس؛ فأنشأت مؤسسة أبنية التعليم وحررتها من كل قيد، وكانت النتيجة أن بنى فعلا خلال العام الماضى 372 مدرسة«.
وكان عبد الناصر مدركا للأسباب الاجتماعية التى دعت الى التخاذل عن التوسع فى التعليم قبل الثورة، فقال فى حفل توزيع الأراضى على الفلاحين فى بلدة معمل القزاز: » كانوا ينظرون إلى الفلاح على أنه العامل الزراعى اللى بيعمل فى الأرض بتاعتهم، واللى بيقنع دائما بأى أجر، واللى يجب ألا يشعر بحرية أو بتعليم أو يرتفع مستواه الاجتماعى؛ لأن رفع مستواه الاجتماعى أو شعوره بالحرية أو حصوله على القدر الكافى من التعليم، قد يدفعه إلى أن يرفع صوته ويطالب بحقه.. حيطالب بحقه من مين؟ حيطالب بحقه من الإقطاعى؛ لأنه مش ممكن بعد ما يفهم وبعد ما يتعلم حيقبل هذا الوضع ويرضى أن يعمل كعبد وأجير فى الأرض، والأرض تكون محكومة لعدد محدود من الناس«!
وقد كان عبد الناصر عازما على المضى فى تنفيذ برنامج للتعليم يقوم على أسس قومية، ويقضى على الأمية المتفشية فى البلد، ويعطى الفرصة للمرأة، »فهى نصف المجتمع، وإذا سارت فى طريق التعليم الصحيح فإنها تساعدنا على أن نبنى مجتمعنا البناء الصحيح«، كما ذكر عبد الناصر فى حديثه الى مراسلة جريدة »الهوجار« الأرجنتينية، فى 15 يناير 1955.
ومنذ بداية الثورة كان عبد الناصر يرى أن التربية والتعليم من أسس الوجود القومى، »وأنها فى آخر الأمر حق وواجب؛ حق من حقوق المواطن، وواجب من واجباته، وحق للدولة على المواطنين وواجب تؤديه لهم.. ولذلك رأت الثورة أن تلغى عن وزارة التربية والتعليم اسم »المعارف« ليكون اسمها الجديد تعبيرا عما تفهمه الثورة من هذه الوزارة. ولقد كان لإدخال عنصر التربية بالاسم والفعل فى وزارة التربية والتعليم صدى كبير… إذ شهدت المدارس ألوانا عديدة من النشاط الاجتماعى والرياضى والثقافى فى داخلها وخارجها«.
وأعلن عبد الناصر الأهداف العامة للسياسة التعليمية فى العيد الثالث للثورة فى 22 يوليو 1955، فقال إنها »توفير فرص متساوية لجميع أبناء الشعب لكى يأخذوا قسطا متساويا من التعليم الابتدائى المجانى، ووضعت لذلك برنامجا لإعداد نحو 4000 مدرسة و40 ألف معلم ومعلمة؛ لكى تصل إلى هذا الهدف فى حوالى 8 أعوام… إن هذا الحد الأدنى من التعليم هو حد الكفاف فى الحياة الروحية لشعب من الشعوب«.
وقد تم فى نفس الوقت وضع برنامج لإرسال المبعوثين فى بعثات صيفية وأخرى طويلة فى كافة أنحاء العالم.
وفى عام 1956 صدر الدستور وتم الاستفتاء عليه فى 22 يونيو، وقد نصت المادة 48: التعليم حر فى حدود القانون والنظام العام والآداب، وقد وردت بالنص من قبل فى دستور 1923.
أما الجديد هنا فهو ما نصت عليه المادة 49: التعليم حق للمصريين جميعا تكفله الدولة؛ بإنشاء مختلف أنواع المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية، والتوسع فيها تدريجيا. وتهتم الدولة خاصة بنمو الشباب البدنى والعقلى والخلقى. والمادة 50: تشرف الدولة على التعليم العام وينظم القانون شئونه. وهو فى المراحل المختلفة بمدارس الدولة بالمجان فى الحدود التى ينظمها القانون. والمادة 51: التعليم فى مرحلته الأولى إجبارى وبالمجان فى مدارس الدولة. والخلاصة.. أن حكومة ثورة 23 يوليو وضعت التعليم ضمن أولوياتها ليسير فى نفس الوقت فى خط متواز مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، فلا يمكن لأى دولة أن تنهض وتتقدم إلا بتطوير التعليم.
وقد لفت نظرى عدة أوراق كتبها عبد الناصر عن التعليم.. ففى 1957 أعطى تعليمات مكتوبة الى كمال الدين حسين وزير التعليم »بمضاعفة عدد طلبة الهندسة والعلوم والطب«.
وفى حديث لجريدة التيمس النيوزيلاندية فى 16 نوفمبر 1958، قال عبد الناصر: » إننى أريد لأطفالى ولأطفال العالم العربى الفرص التى تتاح لأطفال العالم المتحضر فى أوروبا مثلا؛ إنهم يريدون الطعام والتعليم، وفوق كل هذا احترام الذات، وذلك هو سبب الثورة«.
وفى حديث مع كارانجيا صاحب مجلة بليتز الهندية، فى 17 إبريل 1959، قال عبد الناصر: » إننا ننشئ ثلاث مدارس جديدة كل يومين، والحق أن ما حققناه فى ميدان التعليم مدهش وجدير بالدراسة… وأنا وزملائى نتابع موكب التطور العالمى، خصوصا فى البلاد التى تتشابه ظروفها مع ظروفنا؛ كالهند والصين مثلا، ثم نقوم بدراسة مقارنة لمختلف المشاكل والحلول الموثوق بها«.
وفى 26 يونيو 1961 كتب عبد الناصر بخطه بعنوان »اشتراكيتنا.. اشتراكية بدون اشتراكيين«..
الأولاد:
يجب أن نفكر فى نظام تربية الأولاد ونحن نطور المجتمع الذى نعيش فيه، ويجب البحث عن الطريقة التى يتمكن بها من إيجاد رجال كاملين.
ولهذا فيجب أن يتوافر التعليم لجميع الأولاد، ولا مانع من زيادة سنة فى التعليم الابتدائى وانقاصها من التعليم الاعدادى؛ حتى يكون التعليم الابتدائى مفيدا لمن لا يتعلم بعد ذلك ومن يتجه الى العمل، وحتى يمكن العامل من أن يتابع تعليمه وهو يعمل. ويمكن فى المدارس الابتدائية فى الريف أن تخصص حصص للزراعة فى السنتين الأخيرتين؛ وبذلك نوفر التعليم والثقافة والرياضة… للأولاد.
ومن الضرورى أن يتناول الأولاد وجبة كاملة (غذاء كامل) ستة أيام فى الأسبوع… وبذلك نوفر للأولاد فرصة نسبية للتغذية«. وكان طه حسين عندما تقلد منصب وزير المعارف قد أقر للتلاميذ تغذية كاملة ويوما دراسيا كاملا، ولكن لم أجد أى وثائق تشير الى تنفيذ ذلك.
ومضى عبد الناصر يكتب.. »ثم بعد ذلك يكون العمل للأولاد فوق سن معينة ، وليكن 15 سنة أو 14 سنة. وهناك سؤال هو.. لماذا يعمل الأولاد من هم أقل من هذه السن؟ والاجابة هى.. الحاجة الى الأجر. وما هو سبب الحاجة؟ إما ضعف الأجر الذى يحصل عليه العائل، وإما عدم وجود عائل، وإما أن تكون الأم هى التى تعول ولا تجد عملا أو معاشا، وإما تجد معاشا ضئيلا؛ ولهذا يجب حل هذه المشاكل.
أما التعليم العالى والجامعى، فالواجب توفيره، مع ايجاد السكن والخدمة للطلبة الذين يفدون من القرى حتى يمكن للتعليم الجامعى أن يخرج رجالا كاملين. مع وجوب توفير العمل لكل خريجى الجامعات والتعليم العالى، أو لمن أتم التعليم الثانوى ولا محل له فى الجامعات أو المعاهد العليا. وأقصد بالعمل.. أى عمل يدوى أو فكرى؛ اذ لا يجب الانتقاض من شرف العمل، والقضاء على فكرة الاستغلال التى سادت الطبقة الرأسمالية وقلدتها الطبقة الوسطى، التى أصبحت تحتقر العمل، ولا تقبل الا الأعمال المكتبية؛ على أساس أن العمل شئ حقير«.
وعن ضرورة تغيير محتوى العملية التعليمية؛ جاء فى الميثاق الذى صدر فى 22 مايو 1962.. »إن التعليم لم تعد غايته إخراج موظفين للعمل فى مكاتب الحكومة، ومن هنا فإن مناهج التعليم فى جميع الفروع ينبغى أن تعاد دراستها ثوريا؛ لكى يكون هدفها هو تمكين الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة«.
وفى نفس العام أعلن عبد الناصر فى الإسكندرية فى 26 يوليو.. »النهاردة بعد مرور 10 سنوات من الثورة أستطيع أن أعلن أننا منذ العام الدراسى القادم سنجعل التعليم كله مجانا فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا.
بهذا العمل بنقدر نوفر لكل أبناء الشعب الفرصة فى التعليم، مافيش ميزة لواحد على الآخر؛ لأن ده عنده إمكانية فى دفع المصاريف والتانى ما عندوش، الميزة الواحدة فى الجهد… الفرق الوحيد بين أى فرد والتانى هو عمله وناتج عمله.
السنة اللى فاتت احنا خفضنا المصروفات للنص، السنة دى بنقرر أن يكون التعليم مجانا فى جميع المراحل، ونسير فى بناء اشتراكيتنا.. عدالة اجتماعية، تكافؤ فى الفرص، مافيش عاطلين بالوراثة، مافيش أمرا ولا أولاد رأسماليين، الجيل الجديد كله بيطلع يتمتع بهذه الميزات؛ ميزة المجتمع الاشتراكى المتحرر من الاستغلال بجميع أنواعه. سنبنى المجتمع القوى… سنعطى لكل فرد من أبناء هذه الأمة الفرصة المتكافئة، وسنعمل على إذابة الفوارق بين الطبقات«.
وكان عبد الناصر يرى بعدا أوسع؛ فالتعليم »طاقة جديدة لتزويد العمل الوطنى بإمكانات بشرية هائلة، كانت الظروف تحول بينها وبين العلم… إن هناك ملايين الفلاحين والعمال، وهم خامات بشرية مليئة بالغنى الإنسانى والحضارى، وكانت الظروف تمنع وصول العلم اليهم، والآن زالت كل الموانع وأصبح فى إمكانهم أن يتقدموا«. جاء ذلك فى حديث مع جريدتى الإزفستيا والبرافدا السوفيتية، فى 31 يوليو 1962.
وقد تم تسجيل مجانية التعليم فى المدارس والجامعات فى الدستور المؤقت عام 1964، ونصت المادة 38: التعليم حق للمصريين جميعا، تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها. كما نصت المادة 39: تشرف الدولة على التعليم العام، وينظم القانون شئونه، وهو فى مراحله المختلفة فى مدارس الدولة وجامعاتها بالمجان.
وفى افتتاح مجلس الأمة فى نفس العام، قال عبد الناصر: »ولم يعد التعليم بكل مراحله امتيازا، بل أصبح حقا مجانيا لكل مواطن من بداية مراحل التعليم إلى نهايتها، ولقد صرف على التعليم العادى إلى ما قبل مستوى الجامعات والمعاهد العليا فى الفترة الماضية ما مقداره 540 مليون جنيه، وفى ميزانية العام الأخير وحده 66 مليون جنيه لهذا المستوى من التعليم.
وفى أسرة المدارس الآن أربعة ملايين فتى وفتاة، وفى العام الدراسى الجديد استقبلت المدارس 678 ألف طفل مستجد بنسبة 80.6% ممن هم فى سن الإلزام، وستصل النسبة إلى 100% فى نهاية الخطة الخمسية الثانية سنة 1969 1970«. ثم تحدث عبد الناصر عن التعليم العالى، فقال: وفى جامعاتنا الآن 120 ألف طالب، وهناك 25 ألف طالب فى المعاهد العليا، ويبلغ عدد الذين يتلقون العلم فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، ووافدين إلينا، من 60 دولة، 25 ألفا من طلاب العلم بينهم ألف طالب فى كليات الجامعة، وآلاف فى المعاهد العليا والجامعة الأزهرية قلعة الإسلام العظيمة.
ومجانية التعليم الجامعى كاملة، وفوقها نظام محدد للقبول فى الجامعات والمعاهد على أسس تضمن تكافؤ الفرص، ومكافآت مالية تقدم للمتفوقين من الطلبة تشجعهم وتعينهم على مواصلة الدرس والتحصيل«.
ويستطرد عبد الناصر أمام ممثلى الشعب قائلا: وتمتد جهود التعليم المصرى إلى ما وراء حدود مصر؛ فلقد أنشئ فرع لجامعة القاهرة فى الخرطوم يضم الآن 1600 طالب، كذلك اشتركت الجمهورية العربية المتحدة فى إنشاء جامعة بيروت العربية وتضم الآن 2000 طالب، إلى جانب أساتذة من جامعاتنا يخدمون بشرف وتجرد فى جامعات المغرب، والجزائر، وليبيا، والسودان، ولبنان، والعراق، والسعودية، إلى جانب 4500 مدرس، والى جانب 16 مَدرسة ومعهد أنشأتها الجمهورية العربية المتحدة فى عدد من بلاد إفريقيا المتعطشة للعلم.
ومن شبابنا الآن 6100 مبعوث يدرسون فى الخارج، ويحصلون آخر ما يتوصل إليه العلم والفكر ويعودون به؛ ليضعوه فى خدمة التطور«.
إذاً لقد كان الاهتمام بالتعليم وأولويته فى سياسة الدولة بعد ثورة 23 يوليو منطقيا ومتفقا مع مبادئها السياسية والاجتماعية وسياستها التنموية الاقتصادية، وإصرارها على رفع مستوى المواطن الفرد وتشجيعه على الحصول على حقوقه، وتذويب الفوارق بين الطبقات وتحقيق تكافؤ الفرص.
ولقد أنشئت جامعة أسيوط فى 1957، وكانت أول جامعة تقام فى صعيد مصر. وحتى 1970 كان بها 8 كليات، ولها فروع فى المنيا وقنا وسوهاج وأسوان. ثم انفصلت تباعا عن جامعة أسيوط مكونة جامعات مستقلة.
ولا يجوز أن ننسى أنه قد حدث توسع كبير فى الجامعات القائمة، وأنشئت بها كليات جديدة ومبان لخدمتها؛ وزاد عدد طلابها زيادة كبيرة، فجامعة القاهرة أضيف اليها كلية الصيدلة وطب الفم والأسنان بعد أن انفصلتا عن كلية الطب فى 1955. ومن جانب آخر توالى إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومعهد الدراسات والبحوث الإحصائية وكلية العلاج الطبيعى والمعهد العالى للتمريض والمعهد القومى للأورام وكلية الإعلام وكلية الآثار ومعهد البحوث والدراسات الإفريقية.
وكذلك جامعة الإسكندرية أضيفت اليها كليات التمريض والصيدلة وطب الأسنان والتربية.
وجامعة عين شمس أضيف اليها 7 كليات ومعهدان عاليان. وجامعة الزقازيق التى شرفت بالعمل بها لمدة سنتين بدأت فرعا لجامعة عين شمس فى العام الجامعى 1969/70، بمنحة من رومانيا، وانتهت بعد رحيل عبد الناصر. وجامعة المنصورة بدأت بكلية الطب كفرع لجامعة القاهرة فى 1962، ثم انتهى إنشاء الجامعة فى 1972.
أما بالنسبة للكليات والمعاهد العسكرية، ففى عام 1954 نقلت الكلية الحربية التى أنشئت فى 1811 الى مقرها الحالى وتطورت فنيا وزادت مبانيها وارتفع عدد طلابها، والكلية الجوية فى بلبيس التى أنشئت فى 1951، ولكن توسعت أيضا فى عهد ثورة 23 يوليو، والكلية البحرية (1946) وكان مقرها فى رأس التين، ثم توسعت وانتقلت الى أبى قير 1965، والكلية الفنية العسكرية التى تأسست فى 1958، وكلية ضباط الاحتياط التى بدأت فى 1957، والمعهد الفنى بالقوات المسلحة فى 1968، ومعهد ضباط الصف المعلمين فى 1954، وإدارة التعليم والتدريب المهنى للقوات المسلحة. وهناك أيضا مدرسة البوليس (1896)، التى أصبحت كلية الشرطة فى 1959 وتوسعت أيضا بعد ذلك. وجامعة الأزهر التى نشئت فى القرن 19، ولكن صدر قانون سنة 1961؛ من أجل تحديث النظام التعليمى بها، فأقبل عليها عدد متزايد من الطلاب.
ولا أقول إننا حققنا كل الأمانى القومية بالنسبة للتعليم فى عهد عبد الناصر، ولكن المشروع كان موجودا والعمل على تحقيقه كان يجرى بسرعة تتناسب مع الزيادة السكانية المطردة والمتوقعة. وأكثر ما يؤرقنى هو القصور فى تحقيق ما كتبه عبد الناصر بخط يده فى 1960.. »مشروع ثلاث سنوات لمحو الأمية«!
ولكن مر اليوم أكثر من 45 عاما على رحيل عبد الناصر، فماذا تم بالنسبة لهذه القضية؟! وما هى حال التعليم الآن؟!
وبعد.. أتساءل مرة أخرى.. هل كانت سياسة مجانية التعليم أكذوبة حقا؟! إن الإجابة هذه المرة يستطيع أن يصل الى حقيقتها كل المواطنين الذين استفادوا من مجانية التعليم وهم يعيشون بيننا فى كل مدينة وقرية، وبالتالى موضوع حملة التشويه هذه المرة فاشل، ولا يمكن أن يؤثر على أى إنسان وطنى صادق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق