بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 12 مارس 2020

الكورونا .. في ميزان قوانين التطور ..


الكورونا .. في ميزان قوانين التطور ..

تهجم الكرونا على المجتمع الانساني ، فيحدث شلل عام وتام في جميع مرافق الحياة ، تعليم ثقافة ملتقيات علمية وندوات ، سفرات بين الدول وبين المدن والقرى ، ويهجر الناس الأماكن والفضاءات العامة التربوية والرياضية والصحية والتجارية وغيرها .. فتسقط من الحسابات كل الاحتياجات المكملة للحياة الانسانية ، ويتدخل الأطباء والمختصون في الامراض الجرثومية بالنصائح الوقائية والحلول التي تبدأ بحرمان الناس من أبسط  أدوات التواصل المعبرة عن المشاعر الانسانية كالمصافحة وتبادل القبلات ، حتى تصل الى فرض أنماط  جديدة  من السلوكات الغير عادية في التعامل اليومي داخل المجتمع .. وقد تتدخل الدولة بالقوانبن الزجرية لالزام الناس بقواعد الصحة الوقائية الغير معهودة لتدخل ارباكا عاما في سير الحياة العادية داخل المجتمع ، كالمنع من السفر ، والحجر في المنازل والمستشفيات ، وفرض العزلة بين المدن والقرى ، وغلق المعاهد والفضاءات العامة الرياضية والترفيهية ، والغاء الملتقيات والندوات .. ليصبح الهدف الانساني الوحيد في مثل هذه الوضعية هو الحفاظ على الوجود كشرط أساسي لتحقيق كل الاستحقاقات الأخرى والاحتياجات المكملة للحياة بكل أبعادها .. وفي هذا السياق لا يسعنا الا ان نقول  رحم الله الدكتور عصمت سيف الدولة صاحب نظرية جدل الانسان .. والمبدع لتلك المقولة الرائجة " الوجود شرط التطور " ، وهي مقولة ذات خلفية فلسفية وعلمية عميقة تعتبر ان التطور ظاهرة انسانية صرفة خاصة بالمجتمعات الانسانية وحدها .. فحينما يكون وجود الانسان مهددا تصبح الأولوية في التفكير والنشاط الانساني عموما منحصرة في البحث عن سبل البقاء والحفاظ على سلامة المجتمع أولا وقبل كل شيء ، كما يصبح الحديث عن تلبية الحاجيات الخاصة بالمجالات العلمية والثقافية والحريات وغيرها حديثا عبثيا لا معنى له في مثل هذه الحالات  كالاوبئة ، والحروب ، والارهاب ، والمجاعة ، والكوارث الطبيعية وغيرها ..
وفكرة جدل الانسان عند الدكتور عصمت سيف الدولة بسيطة للغاية لكن قوتها تكمن في امكانية اختبارها كل لحظة من طرف أي انسان ، وهي مؤسسة على منهجية نقدية للمناهج السابقة : المثالية والمادية ، مقترنة بتاملات فكرية واسعة لعصارة الفكر الانساني وتجاربه ، الى جانب دراساته المعمقة لتاريخ الاديان وجوهرها ، ومنها اساسا رسالة الاسلام وتاريخه الطويل ودوره الهام في تكوين الامة العربية خاصة ، وأثره على الشخصية الحضارية لسائر الامم المسلمة عامة .. وهي الدراسات التي اسهمت في دعم اطروحاته وبلورتها على نطاق واسع تتجاوز اهتماماته الخاصة بالواقع العربي .. وعلى هذا الاساس لا يمكن فهم تلك الاطروحات والاجتهادات فهما صحيحا دون النظر الى منهجه الذي  يضبط  كل أفكاره واجتهاداته ..
- يقوم منهج جدل الانسان على مسلـّمة بسيطة : تتمثل في كون الانسان وحدة من المادة والفكر (الذكاء)  لا ينفصلان ، فهو على هذا الاساس ، الكائن الوحيد القادر على استرجاع الماضي (الظروف)  من اجل  تغييرها  في المستقبل ...
- والظروف المعبرة عن واقع الانسان الذي يشهد أحداثا متسارعة ، تفلت تماما  من امكانية الالغاء بمجرّد وقوعها ، فلا يستطيع كائنا من كان ان يلغي ما حدث .
- والماضي كتعبير سلبي عن  واقع  الانسان  يمتدّ  تلقائيا في المستقبل ، فيتحوّل الى مشكلة ، لا تلبث ان تصبح عائقا امام تطوّره .
 - وان  أي مشكلة  يعيشها الانسان  لا يمكن حلـّـها الا بتدخـّـل واع منه ، فهو القادر وحده دون الكائنات جميعا  على تصوّر الحلول   .  
-  ثم ان  تصوّر الحلول دون تنفيذها لا يحلّ المشكلة  مطلقا .
- فلا بدّ اذن  من العمل بعد تشخيص المشكلة وايجاد الحلول الصحيحة .
- ان هذا التصوّر لترتيب حركات الجدل : المشكلة ـ الحل ـ العمل ـ يتـّـفق تماما مع مضمون الآية الكريمة التي تؤكـّد على دور الانسان في تغيير الظروف . قال  تعالى :  " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ". وهم طبعا لا يستطيعون تغيير ما  بأنفسهم  الا اذا فهموا واقعهم  وفكروا  في الحلول والادوات المناسبة لتغييره  ثم  نفذوها  بالعمل اللازم  للتغيير ..
ـ بهذا المضمون الايجابي الذي يوكل امكانية التغيير للانسان وحده يصح الاقرار بأولوية الانسان التي يمكن اختصارها في مقولة بسيطة : " الانسان أولا .. " ..
- الاّ ان حل أي مشكلة  وفي أي مجال من مجالات الحياة لا ينهي معاناة الانسان ، لان الحاجة الانسانية  متجدّدة ابدا  ولا تتوقف ..
- لذلك  كان هدفه  دائما  الحرّية ،  ثم المزيد من الحرية .. من خلال بحثه المتواصل عن الحلول التي تخلصه من القيود ..
ـ وبمثل هذا المضمون المتجدد في نشاط الانسان سعيا الى الحرية يصح القول تأكيدا على هذه الناحية : " الحرية أولا  وأخيرا .. " ،  ويصبح التطور حاملا لمضامين تحررية بشكل دائم ..
- كما ان الانسان لا يتطور الا بقدر ما ينجح في حل مشاكله ، لا اكثر ولا اقل ..
- ويمثل الصراع بين واقعه الذي يعيشه ، ومستقبله الذي يريده ، الجدل الدائم الناتج عن هذا التناقض داخله  ،  ويكون الانسان  تبعا لذلك ، الكائن الجدلي الوحيد الذي يتطور من خلال حل مشكلاته المتجددة  والمتزايدة  أبدا .
- ولهذا يكون التطوّر بشكل خاص ظاهرة انسانية بحتة .. تخص الانسان وحده ، وهو يحصل كثمرة لحل ذلك التناقض ، لا يلبث ان يُحدث عنده تغيّرات هامة كمية وكيفية لازمة وملازمة لتطوره .
ففي حين يكون الانسان قادرا وحده على تغيير واقعه وتلبية حاجياته المتجددة على الدوام من خلال قانون الجدل ، تظل الظواهر الطبيعية والمادية عموما ، تتغير وتتحول طبقا لقوانينها النوعية متأثرة بالقوانين الكلية الخالية جميعا من أي تناقض (وهي معروفة في تراث الفكر الاسلامي بالنواميس)  لينفرد الانسان وحده بالمقدرة على التطور من خلال حركات الجدل الثلاث وايقاعها المتكرر ..
ـ من هذا المنطلق المتصل بمضمون الجدل تتحول حركات الجدل الى حقوق مقدسة متصلة بتطور المجتمع ذاته ، فيصح من خلالها ادانة أي تعطيل يمس بايقاعها الذي يجب أن يظل متحررا من أي تعويق حتى يصل التطور الانساني الى أقصاه داخل المجتمع ..
ـ لذلك أيضا يُعتبر الزيف والكذب والنفاق ، من المظاهر المضللة التي تحجب الحقائق عن الناس ، وتغيّب وعيهم بمشاكلهم الحقيقية فلا يهتدون الى حلها حلولا صحيحة ، ويتحول كل ذلك الى معيقات حقيقية أمام تطور المجتمع وتقدمه .. وقد تأتي على هذه الخلفية الحكمة ذاتها من تجريم القرأن الكريم للنفاق حينما صرح بشكل قاطع بجعل المنافقين في الدرك الاسفل من النار ..
- وفي مستوى متقدم ، وبما ان الانسان لا يعيش منفردا اينما كان  ، فان التطوّر لا يكون بمعزل عن المجتمع ..   
ولا تُحلّ المشاكل حلولا صحيحة الا في اطارها الاجتماعي ، أي بالنظر الى مصلحة المجتمع .
ـ اذ ان بعض الحلول الفردية قد تكون على حساب بعض الناس فتخلق ـ ان آجلا او عاجلا ـ  مشكلات جديدة  ، لا تلبث بعد ذلك ان تعيق تطوّرهم فتصبح مشكلات  اجتماعية بعد ان كانت حلولا لمشاكل فردية .. لذلك فان الجدل الفردي حينما يمتد على أبعاد المجتمع يصبح جدلا اجتماعيا وقانونا نوعيا لتطوره ككل ، وهو ما يعبّر عنه بالديمقراطية ..
ـ بهذه الخلفية تكسب الديمقراطية مضمونا وقيمة اجتماعية تجعلها شرطا أساسيا للتقدم  ، وتتحول بها الى اسلوب للتطور داخل المجتمع ..
ـ أما الصراع الاجتماعي فهو ظاهرة عارضة غير لازمة لتطور المجتمع ، وهي تطفو على السطح بوسائل واساليب مختلفة كلما تعرض المجتمع لتعطيل قانون تطوره : الجدل الاجتماعي  ...
ـ هذا طبعا يعيدنا الى منطلق الحديث ، لاننا اذا فهمنا التطور كظاهر خاصة بالمجتمعات الانسانية ، عندها نفهم قيمة الوجود السابقة على التطور ، ثم عندما نفهم قيمة الوجود في بعده الاجتماعي نفهم أولوية المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية ، وهو المبرر الوحيد لقبول القوانين الزجرية في حق الافراد .. أو الذي تصبح  بموجبه التضحية بالنفس حلاّ من الحلول المطروحة للمحافظة على الوجود ذاته ..!!

(القدس)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق