الكورونا"
تعرّي الرأسمالية .
جلال معمّر .
تستفيق الإنسانية
يوميا على وقع نتائج وباء " الكورونا " وضحاياه وتداعياته من قوانين
وإجراءات توقّي جديدة واجتهادات علمية للبحث في سبل القضاء عليه ، وإن كانت هذه
الحالة عامّة فإنّ كل دولة تسعى من جانبها للخروج من هذه الازمة بأقلّ الاضرار بشريا
واجتماعيا واقتصاديا وهو ما كشف نسبيا عن أنماط تفكير وسلوك جديدة ونقائص اقتصادية
جديدة ورغم أنّه من الصعب تقييم المرحلة قبل نهايتها فإنّه من الممكن الاشارة إلى
بعض المظاهر من أهمّها :
ـ مخاطر الخوصصة والتفريط
في القطاع العامّ ، والتّأكّد من أنّ كلّ قطاعات الانتاج حيوية ولا تقتصر على
الصحّة والتعليم والماء والكهرباء يبرز ذلك في العجز على اتخاذ إجراءات موحّدة
تشمل العام والخاصّ من أجل تعميم قواعد التوقّي من الوباء ، وفي حين كانت
الإنتظارات تتجه للحدّ من تغوّل الرّأسمالية ودفعها للمساهمة في الحدّ من تبعات
أزمة الوباء توجّهت الحكومة لإرضائها وتمكينها من تعويضات ستتحمّل أعباءها
المجموعة الوطنية فالرّأسمال المدلّل يجب أن يخرج منتصرا حتّى من الازمات التي
تهدّد حياة الناس.
ـ عجز الإعلام - ورغم
المجهودات الجبّارة من الإعلاميين - عن توجيه الرّأي العام إلى أساليب التوقّي
ومزيد التنظّم تبعا لقواعد الوقاية ، بل إنّه خلق ولا زال يخلق كلّ يوم حالة من
الهلع والخوف ومؤشرات المستقبل القاتم ، إذ يكاد يقتصر دوره على المتابعة اليومية
وتقديم الاحصائيات وعدد المرضى والوفيات دون التمكّن من رفع معنويات الناس وشحذ
عزائمهم وهو دور أساسي للإعلام في الأزمات .
- انتشار الفردانية وظهور كثير من المجاملات
التي لا ترتق إلى الفعل وتبقى في مستوى الخطاب الجميل رغم أنّ ذلك يبرّر في كثير
من الأحيان بعدم توفّر امكانيات الفعل المادّي .
- ظهور نوعية جديدة من قنّاصي الفرص من
التجّار أو أشباه المثقفين وكتّاب البلاط وغيرهم من الذين يجتهدون لتجميع رأسمال
رمزي أو سياسي لتهيئة الطريق لتموقع أفضل بعد مرور الازمة ، هذا بالتوازي مع أنماط
سلوك جديدة تمارس بامتعاض وظهور فئة من الوعاض والمرشدين .
- تلاشي مفاهيم التعاون والتضامن العالمي إذ
تطفو من حين إلى آخر صراعات حول وسائل التوقّي أو الادوية والبحث العلمي والكلّ
يسعى إلى السّبق تحت شعار " فلينجو من يقدر "
.
- هشاشة النظام الاقتصادي العالمي وعجزه عن
تحقيق حاجيات الانسانية أو حتّى إيلائها الاهمية التي تستحقّها وظهور حقيقة
اعتماده على قواعده الأساسية ومن أبرزها " الغاية تبرّر الوسيلة " .
وهذا النظام فشل في إدارة الأزمة حتّى في أعتى معاقله .
- كشف كذبة الدّول العظمى ذات القدرات
العلمية العالية والاقتصاديات المتطوّرة والشعوب الواعية والمنظّمة ، وبروز حقيقة
قدرة شعوب الدّول المستضعفة على البحث العلمي والتصنيع وتحقيق حاجياتها عندما
تتحرّر من القيادات الرجعية وأسطورة القوى العظمى ووهم العجز وذهنية الاستسلام .
- تحوّل مفاهيم التطوّر فلم تعد
تقاس بمعايير تطوّر الصناعات الثقيلة أو النّاعمة بل بقدرة الشعوب على المناعة
وتطوّر مجالات الصحّة والتعليم والبحث العلمي والعمل الجماعي .
- بروز آليات التخلّف في الدّول المتخلّفة * :
- 1 - اقتصاد متخارج قائم على
الاستيراد : تسعى الدّول المتخلّفة اليوم إلى البحث في سبل تصدير انتاجها واستيراد
حاجياتها خاصّة وأنّها لا تتصدّر أولويات الدول "المتقدّمة " المنغمسة
في همومها ولا يمكن أن تتصدّرها حتّى في أيّام انتعاشها ، كما أنها تفتقد لأيّ
تصوّر عن كيفية التعامل مع تداعيات الوضع الحالي ونتائجه . ولا يمكن حلّ هذا
المشكل إلاّ بتوجيه الإنتاج إلى الدّاخل واعتماد اقتصاد التمحور على الذات والذي
لا يمكن تأسيسه في ظرف وجيز.
- 2 - اقتصاد مفكك : عدم خدمة القطاعات لبعضها
البعض فكل قطاع في علاقة بالخارج وهو ما يطرح اليوم صعوبة التنسيق بين القطاعات
على المستوى الدّاخلي - ولا يمكن أن يبرر ذلك فقط بالبيروقراطية أو تعطّل
الإجراءات الإدارية التي تعاني بدورها بسبب عدم توفّر شرط الوحدة في السلط
القيادية – وصعوبة التنسيق بين الفلاحة والتجارة (
القدرة على الإنتاج وكيفية توزيعه ) ، وكيفية تمويل الإنتاج العلمي والصناعي تبعا
لمقتضيات المرحلة .
ـ 3 ـ اقتصاد أحادي :
الاعتماد على الفلاحة وإهمال الصناعة حتّى ما هو ممكن منها ممّا يجعلها تعيق - عن
قصد أو غير قصد - أي مبادرة للتصنيع ، وحتّى القطاع الفلاحي يرتكز على الإنتاج
الموجّه للتصدير الذي ترتدّ عائداته أو تتحسّن تبعا للعرض والطلب في الأسواق
العالمية والحال أنّ مجالات الانتاج يجب أن يتمّ اختيارها تبعا للحاجيات الدّاخلية
ثمّ تسويق الفوائض عندما تتوفّر ، أو تخزينها من أجل ضمان الأمن الغذائي. ومن أبرز المشاكل التي ستطفو
على السطح إثر هذه الازمة مشكلة الديون ،إذ أنّ شلل الانتاج سيزيد من أعباء العجز في
تسديدها ، والحكومات تتبجّح بإمكانية إعادة جدولتها وأنظارها متجهة لصندوق النّقد
الدولي لعلّه - وبعد مؤتمراته ـ يصنفها ضمن الدّول الأكثر فقرا لإعفائها من
الفوائد المنجرّة عن إعادة الجدولة . وسواء رتّبت من الدول الفقيرة أو لم ترّتّب
فإنّ تأخير التسديد من أكبر عوائق التنمية باعتبار أنّ كلّ البرامج ستؤجّل تبعا
لغياب التمويل ، وكلّ تأجيل يفتح المجال لصندوق النّقد الدولي لمزيد التحكّم في
هذه البرامج وتعديلها تبعا لمصالح الأطراف المموّلة له .
صحيح إنّ وباء " الكورونا "
يؤرّق الانسانية بدولها العظمى والفقيرة ورأسمالييها ومثقّفيها ولكن لا يمكن أن
ننكر أنّ أعباء الفقراء اثقل في ظلّ أنظمة سياسية ليبرالية تتملّص من الاعباء
الاجتماعية وتبذل قصارى جهدها لتقديم ليس ما يحررهم بل ما يسكتهم فهي راعية
الأثرياء وللفقراء ربّ يرعاهم .
الاجدر بحكومتنا أن
تعتبر من الدّرس وتستغلّ هذا الظّرف للعمل على خلق نظام سياسي جديد يمكّن الشعب من
الانعتاق والإيمان بقدرته على التطوّر والاعتماد على الذات ، والبحث عن سبل تقليص
التبعية وإنشاء تحالفات جديدة بمعايير مستحدثة تمكّن من الإفلات تدريجيا من قبضة
الاستعمار لا الارتماء في أحضانه لأنّ ثغرات التحرّر من المنظومة العالمية لا
تتوفّر دائما .
*أنظر سمير أمين "التراكم على الصعيد
العالمي" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق