بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 يناير 2021

ثورة " الحديد والصلب " ..

 ثورة " الحديد والصلب   .." 

د.عبد الحليم قنديل .

ربما لا يعلو صوت على صوت معركة "مصنع الحديد والصلب" الجارية فى مصر هذه الأيام ، فهى ليست مجرد خلاف على مصير شركة عامة قرروا تصفيتها ، وبدعاوى سخيفة عن نزيف خسائر مصنوع ، بل كان قرار التصفية الكارثي استدعاء لحروب سياسة كاملة الأوصاف ، فارتباط المصنع باسم القائد العظيم جمال عبد الناصر ، جعلها حرب مصير وطني ، وتأسيس المصنع عام 1954 بالاكتتاب العام ، أعطاها عمقا شعبيا ، والامتياز الفريد للمصنع التاريخي المقام على 2500 فدان في منطقة "التبين" بحلوان ، وكونه منشأة عملاقة .

تضم إلى جوار المصنع مدينة سكنية للعمال ، وبنية أساسية كبرى ، ممتدة بشبكة سكك حديدية خاصة إلى مناجم حديد أسوان في الجنوب ، وإلى خامات "الواحات" غربا ، والتواصل المباشر شمالا مع ميناء "الدخيلة" غرب الإسكندرية ، وكما لو كانت الصورة خريطة مختصرة لجغرافيا مصر كلها ، وفى قلبها المصنع الذي كان قفزة هائلة في زمانه ، يومئ إلى الحلم بمصر جديدة إنتاجية مقتحمة لصناعات العصر الثقيلة ، وفى توقيت توازى مع ملاحم تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والكهربة الشاملة للريف المصري ، تعززت بعدها بدور القلعة الصناعية الجوهري فى دعم التنمية المستقلة وحرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ وصولا إلى حرب أكتوبر 1973 .

وكما جرى في عموم مصر ، وتاريخها الأقرب المثخن بالجراح ، كان المصنع المشع بمعانيه الإنتاجية والوطنية الكثيفة ، أشبه بشوكة غائرة في حلق الذين أرادوا هدم قلاع التقدم المصري ، وجعلوه هدفا مفضلا للتحطيم ، فالمصنع الذي بدأ بفرنين ، زادت فيما بعد إلى أربعة ، حوصر عن عمد وإصرار ، وأوقفت عمليات الإحلال والتجديد فيه ، منذ أربعين سنة مضت ، وتوالت عليه أكثر الإدارات جهلا وفسادا وتخسيرا ، وزادوا أثقاله في السنوات الأخيرة بالزيادات الفلكية المتوالية في أسعار الغاز والكهرباء ، وفرض ديون إضافية عليه بأثر رجعى ، ومنع توريد فحم الكوك ، وإيقاف عمل أفرانه الأربعة ، إلا من فرن وحيد ، ظل يعمل بانقطاع ، وإلى أن تراكمت خسائر المصنع على الورق ، وضاعفوها إلى ما يزيد على ثمانية مليارات جنيه ، أي نحو خمسمائة مليون دولار ، وتضييق الخناق على المصنع بهدف تصفيته ، والادعاء بعدم جدوى ما تبقى من تشغيله .

مع أن مصنع الحديد والصلب ، هو الوحيد في مصر الذي يعتمد على خامات محلية لا مستوردة ، والوحيد الذي ينتج ألواح الصلب المخمد المعد للسحب العميق ، الذي تحتاجه صناعة أوعية الضغط ، ويتمتع بقابلية ممتازة للحام ، وهو الوحيد الذي ينتج الزوايا الصلب والقطاعات المختلفة وقضبان وفلنكات المترو والسكك الحديدية وسلاسل المراكب وكمرات الكباري والستائر الحديدية وأنابيب ومستودعات البترول ، وهو الوحيد المؤهل مع تطويره لصناعة الصلب المخصوص ، الذي يستخدم في صناعة المدرعات والدبابات والسفن ، وقد بني المصنع في الأصل بالتعاون مع "ديماج" الألمانية عام 1954 ، وتكونت فيه أجيال من أكفأ المهندسين والعمال .

يريدون الآن رمى سبعة آلاف منهم إلى الشارع ، وحرمان مصر من التراكم الفني الإنتاجي ، وجعل المشهد حكرا لمصانع حديد الحيتان ، التي لا تتشارك مع مصنع حلوان ، إلا في صناعة حديد التسليح ، مع فوارق ظاهرة ، بينما أن مصنع الدرفلة في حلوان أنشئ مبكرا جدا ، وافتتحه جمال عبد الناصر عام 1969 ، وجرى التوسع في نشاطه ، مع إضافة "مصنع الدخيلة" فيما بعد ، الذي أنشئ كجزء من القطاع العام ، ثم جرت عليه نوائب الخصخصة و"المصمصة" ، واشتراه أحمد عز بتراب الفلوس .

والمذكور كما هو معروف ، كان صنوا لجمال مبارك في عملية توريث الرئاسة ، التي جرى قطع الطريق عليها بثورة 25 يناير 2011 ، التي حملت جماهيرها صورة جمال عبد الناصر فوق الرؤوس ، كما في موجة الثورة الثانية 30 يونيو 2013 ، وبما زاد من وتيرة حروب الأحقاد والثأر الاجتماعي ، وبالذات مع توالي حكومات الثورة المضادة ، التي لم تنس ثأرها مع الشعب المصري ، وقلاعه الصناعية العظمى ، التي جرى تدميرها تباعا في غارات الخصخصة ، ثم تحولوا أخيرا إلى التصفية ، إفساحا في المجال لشبكات نزح و"شفط" السلطة والثروة ، وإزاحة المعنى الصناعي الإنتاجي الوطني ، وفتح السوق لاستيراد "البليت" الجاهز ، وتقزيم صناعة الحديد في مصر ، وتحويلها إلى مجرد ورش درفلة ، تكتفي بإنتاج أسياخ حديد التسليح ، والتحكم في أسعارها .

ثم نهب البنية والموارد الأساسية لمصنع الحديد والصلب بحلوان ، والاستيلاء على مناجمه ومحاجره بوضع اليد ، وبإنشاء شركة استثمار و"استحمار" تسرقها عمليا ، بعد جز الرأس والقلب الصناعي ، وتخريد ماكيناته ، وتحويل أراضيه الواسعة إلى مزادات لإقامة عمارات سكنية ، لا يملك حق الوصول إليها سوى الأثرياء ، وهو عين ما جرى ويجرى مع قلاع صناعية سبقت تصفيتها ، ليس آخرها ما يجرى لمصانع طلخا وكفر الدوار ، وما جرى لمصانع طنطا للكتان والزيوت ، وما جرى قبل عقود لمصنع "المراجل البخارية" على نيل الجيزة ، وقد كان مصنعا عملاقا للغلايات ودروع الدبابات ، ادعوا أن "خصخصته" تهدف إلى تطويره تكنولوجيا ، ثم اقتطع المستثمرون أرضه ، وحولوها إلى أبراج سكنية شاهقة ، مع تخريد ماكينات المصنع بمعرفة المستثمر الأخير الملياردير نجيب ساويرس ، فائق الحماس اليوم لتصفية قلعة الحديد والصلب .

وهو ما يكشف طبيعة المعركة الدائرة ، وأهداف عملية التصفية ، فساويرس المعروف بأنه أغنى ملياردير مصري ، لم يقم مصنعا في حياته ، بل ظهر سليلا لزواج المال والسلطة ، وطفلا مدللا لهجين المعونة الأمريكية ، ويباهى دائما بثروته ، التي لا يعرف لها أصل مشروع اجتماعيا، وهو مجرد مضارب في سوق الذهب ، تماما كالشخص الذي عينوه وزيرا لقطاع الأعمال العام ، ولا يدير عملا سوى تصفية ما تبقى من مصانع القطاع العام ، وعلى طريقة عمل "الطابور الخامس" في الحروب ، وهو محض مضارب في البورصة ، لا علاقة له بالصناعة ولا بالمصانع من أصله ، وهكذا كان الذين سبقوه في السنوات الثلاثين الأخيرة كلها .

وحتى لا نتوه في زحام التفاصيل ، فلن يقبل وطني مصري ، أن تمر تصفية مصنع الحديد والصلب الأكبر بغير حساب ، وبغير ردع لخطايا "الخصخصة" و"المصمصة" و"التصفية" ، فالتصنيع الشامل هو حجر الزاوية في أي تحديث أو تقدم ، ولسنا من الذين يعصبون أعينهم بالهوى ، فلا يرون جهدا جبارا يجرى فى مصر من سنوات ، وورشة عمل غير مسبوقة في حجمها ، تضم الملايين من المهندسين والفنيين والعمال ، وتكلفت نحو خمسة تريليونات جنيه مصري ، أي نحو 320 مليار دولار بأسعار الصرف الجارية ، وأضافت عمرانا ومدنا جديدة وشبكة طرق حديثة وبنية أساسية ومحطات طاقة كبرى ، وكل هذا معلوم ومقدر عندنا ، لكن إضافاته الصناعية بدت أقل ، وكان رأينا ولا يزال ، أن يجرى تخصيص نصف هذا الإنفاق التريليونى لإنشاء المصانع الجديدة ، ولإنقاذ الصناعات الثقيلة ، كمصنع الحديد والصلب ومجمع الألمونيوم .

فقد تكون العمارات مهمة ، وكذا استصلاح واستزراع الأراضي الجديدة ، لكن المصانع أهم بمراحل ، فالصناعة تنمية بلا حدود وبلا سقف ، وتولد فرص عمل دائمة منتجة ، تضيف طاقات جديدة ، تحل محل الواردات المتضخمة ، وتفتح سبلا أوسع للتصدير ، ثم أنها ترد الاعتبار لقيم العلم والعمل ، وتخلق مجتمعا جديدا من قلب المجتمع الراكد ، يضيف مددا لحيوية السياسة ، التي ماتت بتراكم القهر ، وهو ما قد يفسر ثورة غضب الرأي العام من واقعة تصفية "الحديد والصلب" ، واتساع مدى الغضب هذه المرة ، إلى أصوات سكنت وسكتت طويلا ، وبما جاوز الغضب المفهوم في صفوف الناصريين وأحزاب اليسار ، وأدى لتململ قطاعات قريبة من السلطة القائمة نفسها ، وإلى ظهور معارضين جدد في مجلس النواب مطموس الملامح ، وبما يوحى بأن تطورا سياسيا بات وشيكا .

يتشقق فيه الصمت العام ، ويطلق صرخات حبيسة ، صمتت عن وجوه عوار تكاثرت ، وليس بوسعها أن تصمت عن تصفية "الحديد والصلب" ، فنحن بصدد جريمة قتل بحق صرح مملوك للشعب ، لا يحق لأحد التصرف فيه ، وهو رأسمال وطني جامع ، قبل ومع كونه رأسمالا ماليا وإنتاجيا ، يجسد صلات العروة الوثقى بين الاقتصاد والسياسة ، ويفسر الغضب ما ذهبنا إليه مرارا ، من أن مصر اليوم ، تحتاج إلى تلمس طريقها لنهوض جديد ، يجمع بغير ترتيب ميكانيكى ، بين خمس مهام عاجلة متداخلة ، أولها : مواصلة الجهد لكسب استقلال القرار الوطني كاملا ، وثانيها : أولوية التصنيع الشامل ، وثالثها : رد الاعتبار للعدالة الاجتماعية ، ورابعها : حرب شاملة لكنس إمبراطورية الفساد المتحكم المتوحش ، وخامسها : إطلاق الحريات العامة وتفكيك الاحتقان السياسي والاجتماعي .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق