حصاد الثورة . .
منذ وقت
مبكّر وبالتحديد في اليوم الثاني للثورة الموافق لـ 15
جانفي 2010 راجت اخبار مفادها ان الموسوعة الحرة ويكيبيديا ادرجت ثورة تونس
ضمن تعريفاتها ، فاكـتشف كل من تابعها بانها تطلق عـليها ثورة الياسمسن .. و قد
كانت الجهات الفرنسية أوّل من تحدثت عن ثورة تونس ووصفتها بهذه الصفات ، التي تلقــّــفتها
العديد من المنابر الاعـلامية في تونس و
العالم ، كما ظهـر في نفس الوقت رفـض واسع
لتـلـك التسمية .. حيث كان الراي السائد - منذ البداية - يرى بان ترويج مثل هذه المسميات و الصاقها بالثورة لم يكن بريءا .. و ان الحديث
عن ثورة الياسمين في ذلك الوقت لم يكن مجـرد وصف للحدث ، بقدر ما كان توجـيها
مقصودا و تاثيـرا على مستقـبل الثورة و مجرى الاحداث .. كما كان انتقاصا من شانها
قـبل ان يكون تمجـيدا لها .. اذ ان المعـنى
كان يوحي بانها ثورة ناعمة الى ابعد الحدود ، و ليس لها اي نوع من الاظافـر
والمخالب او الانياب .. وانها ايضا ثورة بدون دماء . او كأنهم يريدون القول بان بضع مئات من الشهداء ليس كافيا لتصبح ثورة "
بالفم المليان "... او كأن متطلبات الثورة كما حدث في جميع الثورات و كما يجب ان يحدث في
ثورة تونس غير وارد و غير مطروح على الثوريين ..
ثم ماذا يعـني القول بان ثورة ما .. هي ثورة ياسمـين ، هل يعـني مثـلا انها
ثورة بـدون ثوارحـقـيقـييـن ؟ ام انها بدون تـلك الحالة الدمـوية والانتـقام والفوضى التي يمكن ان تتواصل سنوات و ربما عـقودا
كاملة حتى تهدأ العاصفة وتـتـضح الرؤية ، لا تعتبر ثورة مثل بقية الثورات ..؟
في الواقع
ان استعمال مثل هذه الالفاظ و الاوصاف حتى و ان اسـتـُــعـمل للتــّــقـليل
من شأن العمل الثوري ، يُـعتبر امر طبيعي و ليس هو المشكلة . و في اقصى الحالات وحتى عندما يكون ذلك لا
يخدم مسار الثورة ، فانه يــُــحسب - دون عناء كبير - على الثورة المضادة و على الجـهات
التي تعمل جاهـدة للانحـراف بمسارها وكفى ..
اما
المشكل الحقيقي فعلا هو ان تظهر اطراف افرزتها الثورة نفسها ، و هي تعـمل بوعي تام
على تحويل الثورة الفعـلية الى ثورة فارغة تماما من اي محتوى .. و تسعى بملء
ارادتها لـتحويلها الى ثورة ناعـمة الى
ابعـد الحدود و بالخصوص تجاه اعدائها الحقـيين .. فيصبح المسؤولون الذين اعطاهم الشعب ثـقــته متورّطون ليس فقط في تجاهل محاسبة من ثار عليهم ، بل
ايضا في تـــعــيـيــنهم في مناصب حسّساسة للدولة ، او قـبول استمرارهم في مناصب
تركهم فيها راس النظام الفاسد ..
ان الثورة لا
تتحوّل من ثورة حقيقية الى شبه ثورة من خلال ما يقال عنها في الخارج ، بل انها
تصبح كذلك بـيد ابنائها عندما يقـبلون بها
- بعد مدة وجيزة - كـثورة انجـزت مهامها .. فيعتبـرون مثلا ان الزخم الثوري انـتهى بمجرد
انتخاب ممثـلين لصياغة الدستور الجديد ، و تكوين حكومة سـُـمـّـيت حكومة شرعـية ،
ثم تعيين رئيس بلا صلاحيات قـيل انه رئيس
شرعي .. و كفى المؤمنين شر القتال ...
ان الثورات
الحـقـيقية لا تـنـتهي بانتخاب ، بل تستمر اجـيالا بعد اجـيال .. و تـظل عبر مسيرتها منتصرة للمضلومين و المحـرومين
الذين قامت الـثـورة من اجلهم لتـنـصفهم و
تستعيد لهم حـقـوقهم و كرامـتهم المسلوبة بكل اسلوب متاح او ممكن .. لذلك فهي
لا تهادن المـفـسدين و المستغلــّـين و لا تتحالف معهم ، كما تعمل على ان توفـّـر
للضعفاء مستلزمات الحياة الاساسية بالدرجة الاولى ، مثل الصحة و التعليم و الغذاء ،،
وصولا الى تحريرهم نهائيا من القهر المادي و المعـنوي الذي عاشوه على مدى عقود
طويلة ..
ثم ان الثورة
لا تـنكـفئ على نفـسها بل تـنـفـتح على محـيـطها
فـتـقوده الى الافـضل و ليس الى الهاوية .. وهي تتحالـف مع القوى التـقـدمية
و التحـررية وليس مع الـرجـعـية و الاستعـمار ...
واخيرا و
ليس آخرا فان النجاح الحقيقي لاي ثورة في المجتمعات المتخلفة يــُــقاس أولا بمدى
ما يتحـقق للضعـفاء و المهمّـشيـن الذين يمثـلون أغـلبية الشعـب عـندما يشعـر كل
فـرد منهم بان هناك تغييرا ايجابيا في حياته ، فيصبح قادرا على تـلبـية حاجاته
الضرورية دون عـناء ... ثم يقاس نجاحها
ثانيا بقدر بعدها عن الجهات المشبوهة و الاعداء بكل انواعهم ، اعداء الله و الوطن
و الامة جمعاء .. هكذا يكون حصاد الثورات
الناجحة ، فاين نحن من هذا الحصاد ؟
(
نشرية القدس عدد 33 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق