أخذت الطفلة البريءة لوازم الرسم ، وجلست ترسم بكل جوارحها ما تجـود
به قـريحـتها المشدودة في تلك الفترة الى الفطرة .. لذلك اختارت رسم قطتها الجميلة
.. استجابة لطلب المعلمة ، بانجاز رسم حر في المنزل ..
ولما فـرغت بعد جهد ومكابدة بين الرسم والمحو والتلوين ، وجدت أمامها
لوحة رائعة لا تستطيع أن تفصل فيها بين الحقيقة والخيال ، فكان تعـلقها بلوحتها
بقدر تعلقها بقطتها .. وهي بالتأكيد لا تستطيع أن تفرط فيها الا لمعـلمتها ،
وهي في قمة سعادتها ..
غير ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن .. فكان ما لم
يكن في الحسبان .. اذ سقطت فجأة لطخة سوداء على الرسم شوّهت نقاءه و بهاءه
.. !! فانكبت البنية
على المائدة ، وأغـرقت في البكاء والعويل ..
وفي الوقت المناسب جاء أبوها واقـتـرح عليها أن تجعل تلك
اللطخة اللعـينة جزءا من الرسم مع بعض الاضافات والتعديلات .. وفعلا قد كانت
الفكرة رائعة لانها أعادت للوحة بريقها وجمالها ..
ورغم ان ذلك الاقتراح قد غـيّر من ملامح قطتها التي أرادت لها أن
تكون خالصة ، فلا تختلف عن الحقيقية ، الا أن للضرورة أحكام .. فـتعلمت
البنية أن ما لا يدرك كله لا يترك كله . و ان عليها ان لا تستسلم لقدرها ،
قالاقدار يصنعها أصحاب العـزم والايمان الذين يضربون الاقدار بالاقدار فـيصنعون
منها المستحـيل .. وقديما سأل أحد الصحابة عمر بن الخطاب الذي أمر جنوده بان
يغـيروا وجهتهم بعد أن علموا بان في طريقهم يضرب الطاعون ، فقال السائل : هل
نهرب من قدر الله يا امير المؤمنين ؟ فأجاب رضي الله عـنه : اننا نهرب من قدر الله
الى قدر الله " . وأعطى بذلك صورة رائعة عـن الانسان الذي امتلا قلبه
بالايمان الحقيقي فعرف دوره في الحياة في ظل ايمانه بالقضاء والقدر.. فهو يختار ما
يشاء دون قيود في اطار الالتزام بسنن الله التي لا تتبدل ، أما تلك القوانين ذاتها
فهي تحت تصرفه ليستفيد منها ويصنع بها حياته ومستقبله وأمنه واستقراره .. وبهذا
الفهم يبدو أن االخليفة عمر بن الخطاب متقدم فعلا بما يساوي عدد السنين التي
تفصله عن العديد من الذين يعـيشون معـنا في هذا القرن ، وهم لا يميّزون بين
الجبر والاختيار ..
يخلق من الشبه اربعـين .. !!
ذكرتـني هذه القصة الطريفة بما يظهر في اعتصام الرحيل .. و في كل
حراك شعـبي لاسترجاع الثورة المغـدورة التي افنينا أعمارنا من أجل الظفـر بها ،
فحمدنا الله الذي منحنا فرصة الحياة لننعم ولو ببضعة أيام نتـنفس فيها عطـر هواءها
بعد ان عشنا العمر كله تخـنـقـنا روائح الاستبداد الكريهة .. حتى خلنا في غمرة
الفرح والانتشاء بالنصر المبـين ان ايام القهـر والعـبـودية واستباحة كرامة
الانسان قد ولت الى غـيـر رجعة .. فـتـبـيّـنا بعد حين .. انها كانت كذبة ..
الثورة كذبة ..
والحديث عن اللذين " يخافوا ربي " كذبة ..
واليسار الثوري كذبة ..
يا للصدفة .. !! لوحات فـنية رائعة في الشوارع تشوّهها لطخة سوداء
فـتـزيل نقاءها وبريقها .. !!
وليس هذا من وحي الخيال .. اذ كنا نخرج في تلك الفترة الى المدينتة للمساهمة
في الحراك الشعـبي الذي لا يخلو بدوره من تلك اللطخة اللعـينة .. حتى وجدت نفسي
ذات ليلة أصطنع الحكمة في وجه من يصطنع الثورية العرجاء من هؤلاء .. وهو هائج
كالثور في ميادين مصارعة الثيران ، يحاول أن يخلع باب المعتمدية .. فـتـراجعـت الى
الوراء بعد أن أفلحت في التهدئة من روعه .. ثم انسحبت بعد أن بات الموقف
هزيلا ، ثقيلا ، مائعا .. وأنا أتساءل وأردّد : يا لسخرية الاقدار .. من جعل هؤلاء
ثوار ..؟
أليس بلاهة و غباوة الاخوان ؟
بلا ... هم الذين اشاعوا السلبية كما كان يفعل بن علي باقصاء الجميع
حتى لا يفكر للمستقبل غيره ..
الغاء التفكير كارثة حقيقية .. وجريمة كبرى !!..
وهكذا اصبح تحريف الشرعية مدخلا ومبررا للاقصاء والتفرّد بالسلطة ،
فتحوّلوا الى مستبدّين .. فالمستبد يكون دائما متعاليا لانه شرعي .. وهو يرى نفسه
فوق الجميع لانه شرعي .. ولا يرى في الوطن الا نفسه لانه شرعي .. كما لا يرى في
الوطن الا ساحة للفعل يكون فيها وحده الفاعل لانه شرعي .. فلا يهمه
الابقاء على عـزلة الشعـب و سلبيته و تعطيل ملكاته و ابداعه .. وبذلك يغـيب عن
وعـيه و ادراكه مفهوم الثورة .. واهداف الثورة .. وتتحول السلطة فعلا الى مرض عضال
يسمى الاستبداد ..
الا يستحقون الاعتصامات ..؟
بلا . وقد كان اعتصام الرحيل لوحة فـنية رائعة لولا تلك اللطخة
السوداء المقيتة .. !!
انها البقعة التي شوهت ذلك المشهد الرائع في جميع الميادين حين اصبح
صانعي خريف تونس الطويل يساهمون بكل وقاحة في صنع ربيعها .. وحين صار جلادوا الامس
يلبسون جلباب الثورة الموشح بدماء الشهداء الزكية ، وهم يبغون شراءها بأبخس
الاثمان : " كره النهضة " وكفى المؤمنين القتال ..
يا للمصيبة .. !! بل أكثر من ذلك
حقا .. فخلط الاوراق وسرقة الثورة بهذه الصورة جريمة نكراء ..
ولم تكن النهضة وحدها مدانة بسرقة الثورة ، أيها السادة .. بل لعل
الكثيرين ممن هانت عليهم ، فراحوا يستجلبون من الحرس القديم حراسا ، و يصنعون من
الجوقة القديمة مطربين .. بعضهم استتابوا على أيديهم في معبد الحقد على النهضة وهم
الحاقدون أصلا على تونس .. وأكثرهم مندسين بين عامة المؤمنين !!
لكن للايمان الوطني كما للايمان الديني ، درجات ، وانك لا تقدر أصلا
ان تحتكر الايمان بالوطن وحدك .. هكذا يقولون تضليلا ..
ياللكارثة .. !!
لقد اختلط الحابل بالنابل .. !!
فمن ينظر الى الصورة الآن ، يجد الترويكا الفاشلة لا تصلح حتى للنظـر
.
ومن ينظر الى اليمين سيجد يسارا أثبت انه طفوليا حقا ، لانه بات يلهو
كالاطفال وهو يحاول عابثا تجميل لوحات الثورة بتلك اللطخة السوداء اللعـينة
..
قد يكون جهلا بطبيعة الاشياء ..
الا أن الجهل يكون احيانا اصل البلاء ..
اذ ان هذه اللطخة ليست من جنس اللوحة .. وهي بالتالي لا يمكن أن تقود
الى نفس النتيجة التي تحصلت عليها الطفلة .. بل ان محاولات التجميل التي نراها في
الواقع ، لا تزيد اللوحة الا قـبحا .. ولا يجـني منها اليسار العابث في هذه الحالة
الا الطفولة بلا براءة .. ووقـتها سنقول عـبثا يفعـلون ..
لان قوانين المادة لا تنطبق على الانسان .. المادة تتفاعل وتتغـيـر
وتتحول من حالة الى حالة ولا تتطور .. الا ان الانسان يتطور بالجدل ..
تلك لوحة تحكمها قوانين الالوان المادية المعروفة .. وهذه لوحة بشرية
تحكمها قوانين تطور المجتمعات التي لا يمكن ان نوهم فـيها الناس بان من كان لهم
جلادا سيكون لهم منقذا .. وان من ثاروا عليه بالامس سيكونون اليوم في صف الثورة ..
لان الكثيرين من هؤلاء الذين يكوّنون اللطخة السوداء الآن .. هم من
المافيا القديمة ، بعضهم ملطخة ايديهم بالدماء ، وبعضهم مارسوا نفوذهم
على البسطاء ، أو اعـتدوا على المظلومين ، او احتالوا على الشعـب ، أو زيّفوا
واقعه وضحكوا عليه ، او افـتـكوا منه حقا أو فـرصة في الحياة ، او سجـنوه ، أو
اعـتـدوا على عـرضه او على ماله ، أو استغـلوه ، أو استغـفـلوه ، او قـبضوا على
روحة بالحياة حتى صار يتكلم مع نفسه ، أو جـرحوه في مشاعـره عـندما كانوا لا
يعرفون المشاعـر الانسانية .. وهم طبعا لم يُحاسبوا الى الآن .. ولم
نعـرف المجرم منهم من الـبـريء ..
انها ليست دعوات الى الحقد والثارات .. لكن خلط الاوراق ليس عدلا
وانصافا ..
فكيف نتجاوز اذن ؟ وما هي الارضية التي سنقف عليها معهم ؟
قولوا لنا اذن . كيف يلتقي السمسار مع الثائر ؟ الا تتحدثون عن
الثورة ؟ أي صراع طبقي هذا ؟
مؤكد انه لن يشعـر أحد بالندم الآن ممن رفضوا – ولو في
آخر لحظة - المجازفة بالدخول الى جـبهة مفخخة ..
خسارة .. !! يسار سقط يمينا فاتحا ذراعـيه لمافيا متوحشة متذيلة ، تزاحم الجماهير
وتطل برأسها في الساحات لكن جذورها في عواصم اخرى ..
صدق مظفـر النواب الخبير بأسرار اليسار.. فها قد صار
اليسار كما قال .. وها قد صار كل اليسار كما كان بعضه ..
يسار صار طباخا لبقايا سلطة ميتة تسكـنها الارواح الشريـرة المنبعـثة
من العصور الجليدية التي جمّدت كل شيئ .. فكيف ستمثـل الآن أملا في الحياة ..
حقا هذا اليسار حالته " متعـبة " جدا .. !! لانه بات ينفخ
في قربة مثقوبة ، ويرمّم بقايا أكواخ مهجورة ، عسى أن يصنع شيئا يصلح ، من
شيئ لا يصلح .. !!
يا للمهزلة !! من كان يسمى يسارا صار الآن يمينا .. فهل يمكن أن يلتقي
اليسار مع اليمين ؟
كلا
. الا اذا أصبحوا جميعا انتهازيين ، يمين انتهازي ويسار انتهازي ايضا .. بلا
مبادئ .. ولا أخلاق .. ولا هم يحزنون ..
وهكذا نحن الآن أمام حقيقة واحدة ، ومبدأ واحد
سائد بين هؤلاء وهؤلاء : الغاية تبرّرالوسيلة .. وقد جمعـتهم مصالحهم اكثر
مما جمعـتهم مصلحة الوطن .. أما الثورة فحكمها مؤجل الى أن يستـفـيق الثوريون
الحقـيقـيـون ..