بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 26 أغسطس 2013

لماذا فــشــلـــــوا ..؟

لماذا فــشــلـــــوا ..؟

منذ وقت مبكر ، وفي مناخ ثوري كالذي مرت به تونس حيث منح الشعب الحرية للجميع ، وحيث لا يستطيع اي طرف ان يحتكر الثورة لنفسه .. كان يفترض ان يكون التوافق سيد الموقف في كل كبيرة وصغيرة حتى بعد الانتخابات .. غير أن القوى المتعطشة للسلطة والانتهازيين الذين ظهروا على حقيقـتهم منذ ما قبل الاعلان عـن نتائج الانتخابات ، بدؤوا في المحاصصة الحزبية واقـتسام المناصب ودخلوا في لعـبة التجاذبات وتقسيم الادوار في الداخل ، ثم انتقـلوا الى افـتكاك المواقع في الخارج ، داخل السفارات والقـنصليات .. ثم انتقـلوا  الى لعـبة القوى الخارجـية ، من قطر والسعودية  الى امريكا واوروبا ، واللعبة هو مسار الثورة من خلال الوعود الكاذبة حول الاستـثمارات الضخمة والودائع الثمينة ، وبات مستقـبل تونس رهينة في يد هؤلاء وهؤلاء .. وبات حاضرنا رهن ما يطبخ من طبخات في الداخل والخارج  لم ينل منها التونسيون شيئا .. بل ان الاحداث قد كشفت لهم بعد ذلك انها طبخات بلا طعم ولا رائحة ’ وحـتى الحلول المعـلبة التي استخرجوها من " فـريقوات " العهد البائد اثناء وضعهم للميزانية ، كانت أغـلبها منتهـية الصلوحـية ..  
لقد كانت تلك المرحلة تحمل بوادر أخطاء قاتـلة : أولها الولاء للحزب . ثم المنطـلقات الاصلاحـية . 
اما مؤشرات ذلك فقد كانت تبدو واضحة اثر الانتخابات مباشرة ، من خلال قراءتهم القاصرة وتصوراتهم العقـيمة لقوانين اللعـبة .. التي برهـنت أكثر فأكثر عن الولاء الحزبي ، والنكوص المبكر عن مواصلة المسار الثوري .. فبدأوا منذ الايام الاولى يتحدثون عن جماعة الصفر فاصل .. ظـنا منهم بان الانتخابات قد حسمت المسألة .. وقد كان تغـيـيـب التوافق بسبب هذا الاعـتقاد سببا اضافيا في الانحراف بمضمون الصراع الذي لم يعد حول من مع الثورة و من ضدها .. وهو ما ترتب عـنه تقسيم المجتمع على غـير تلك الاسس السليمة التي تتماشى مع تحقيق اهداف الثورة .. وكان ذلك سببا مباشرا في خلط الاوراق .. وانقسام المجتمع على اساس تلك الفكرة التي روج لها الاعلام كثيرا لانها تخدم فـئة واحدة تخـتـفي وراء كل تلك المنابر الاعلامية أدت الى ظهور ما يسمى :  سلطة ومعارضة .. فكان ذلك فخا منصوبا لدخول التجمعـييـن الى صف المعارضة من خلال المساهمة في افشال الحكومة باي شكل ..
وقد كان الانجرار وراء هذا النهج منذ الايام الاولى عـقـب الانتخابات أخطر شيئ على الثورة ومستقبلها ، وعلى الحكومة الغـبـية ومستقبلها أيضا .. ولعل مردّ  ذلك هو طبيعة الحكومة نفسها التي لا يؤمن اعضاؤها المنحدرين من أحزاب الترويكا بالثورة .. لذلك هم لا يقيسون الامور بمقياسها .. اذ هم بالاساس احزاب اصلاحية .. جاءت أغلبها من ساحات المنافسة مع النظام المخلوع نفسه ، بعد أن وقعـت معه على الميثاق الوطني ،  وشاركت بشكل متفاوت في دورات انتخابية .. اي بعد ان حاولت جميعا ان تلعـب معه لعـبته الديمقراطية فـفشلت في مسعاها .. وحتى عندما كانت خارج اللعـبة ، أو حتى عندما كان الكثيرون من منتسبي تلك الاحزاب في المنافي أو في السجون ، لم تكن تفكر يوما في الثورة مثلما حققها الثوريون ، ولا نجد لهم حديثا أو تصريحا يذكر الثورة .. بل ان اقصى ما كانوا بطمحون اليه هو تغـييـر يطرأ على هـرم السلطة ليُحدث فجـوة ما ، يمكن أن يدخلوا من خلالها الى اللعـب من جديد .. لذلك لم يكن لهم مساهمة مباشرة في حيثيات الثورة ، سوى مسايرتها مثل العديد من التونسيين الذين استبشروا بها ودعموها املا في تغـييـر الاوضاع بعد ان يئس الجميع من الوضع المتردي في عهد النظام السابق .. 
وهكذا فان الحكم على الاشياء لا بد ان يكون من جـنسها . فلا نتوقع مثلا من التمساح ان يطـيـر .. او من الحلـزون ان يحمل أثـقـالا .. وهكذا في الواقع ، فان من كان طبعه الاصلاح والترقـيع في الظروف العادية ، لا يقدر على تحقيق المعجزات في الظروف التي أفرزتها الثورة  .. ليس لان هناك أطراف أخرى تستطيع تحقيقها ، بل لانها تفتقد المنطلقات والآليات التي يمكن ان تقودها الى تحقيق الاستقرار المطلوب بغير العقـلية الاصلاحية .. وهي في الواقع مسألة معـقـدة سيبقى مجتمعـنا يعاني منها طالما أن القوى الثورية لا تزال عاجـزة عن جني ثمار الفعـل الذي تفعـله في الواقع ...
وقد كان الامر مضحكا ومثيرا للشفقة في نفس الوقت ، أمام سذاجة المسؤولين الذين كـنّا نراهم يظهرون متوسلين أحيانا ، معاتـبيـن الجماهير الغاضبة أحيانا أخرى .. وهم يُجهدون أنفسهم لاقـناعهم بالكف عن الاحتجاجات لانهم - حسب رايهم - يتسببون في صد المستثمرين .. وهو أمر مضحك لانهم يعـتـقدون بان المستثمرين ضاقت بهم الدنيا ولم يبق لهم الا تونس التي لا يوجد فـيها أمن ولا حكومة و لا دولة ، ولا اي نوع من المقومات التي تشجع على الاستثمار .. ثم هو أمر مثير للشفقة لانه يأكد محدودية تفكيرهم وقصور مرجعـياتهم التي تخفي عـنهم حقيقة ان المستثمرين الاجانب لا يعـنيهم من قريب ولا من بعـيد مشاكل تونس ، وأن رأس المال جبان بطبعه ، و ان صاحب راس المال لا يهمه الا ضمانات الربح التي تفتقدها تونس بعد الثورة .. لذلك لا يجب التعويل عليهم أكثر من اللازم ، فلا يـنـبـغي لسلطة حاكمة على اثر ثورة شعـبية ، أن تبيع الاوهام للشعـب الذي سيكتشف ولو بعد حين زيف ما تقول ..
ورغم ان مضامين العمل الثوري قد تبدو غير مفهومة ، بحيث يمكن لاي طرف ان يدّعـيه . الا ان الامر في الواقع ليس كذلك . لان تلك المضامين قد أصبحت محددة موضوعيا  من خلال احتياجات  الناس في المجتمع كما عبروا عنها تلقائيا بالشعارات التي رفعوها جميعا منذ  17 ديسمبر .. و هو ما أصبح معروفا بتحقيق أهداف الثورة ، المتمثلة في تلك المطالب الاجتماعية الملحة ، مع المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه واستقلاله .. 
لذلك فان الحركات الثورية عـندما تصل الى السلطة تدرك أنها مطالبة قبل كل شيئ بتأمين مسار الثورة ، الذي هو مسؤولية كل القوى الوطنية التي ساهمت فيها ..                                                             
وبناء على هذا الوعي والادراك ، فان القوى الثورية الحقيقية  تعمل منذ البداية على وضع الضمانت اللازمة لانجاح المسار الثوري ، بالتعـويل على قدرات الشعـب والوطن قاطبة ولا تتوقف عند قدراتها الذاتية وحدها .. فـتعـمل أولا على تجميع القوى المؤمنة بالثورة ، ثم تتجه الى اعادة ترميم العلاقات الاجتماعـية التي اصابها الخلل طوال فترات الاستبداد .. وتــكون مهمتها الاولى الانحياز للضعفاء والمقهورين والمهمّشين ، ومحاصرة الفساد الذي راحت ضحيته أغلب فئات الشعب .. التي ستـنحاز وقـتـها انحيازا كليا للثورة وتكون سندا لها وآداة في نفس الوقت  لمقاومة الفاسدين .. فيتحقق اول مطلب تحتاجه السلطة الحاكمة وهو الامن والاستقرار بالتفاف الشعب حولها ..                                                                                 
ان الثوريين يفعـلون ذلك تلقائيا ، لانهم يؤمنون بطبيعـتهم بان هناك أهداف سامية قامت من اجلها الثورة لا بد ان يضعوا لها المستلزمات ، ويزيحوا من طريقها العـقـبات لتتحقق .. وهي لا تتحقق بالاوامر أو باصدار المراسيم ، بل بالمشاركة الشعبية الواسعة التي تمثل في نظرها راسمالها البشري في المجتمع الذي لا يمكن ان يتطور الا اذا تطور كل الناس فيه .. وهي تستمـرّ في الفعل حـتى وهي تخطأ لكـنها تعـود الى المكاشفة والتصحيح .. وهكذا هي تؤمن دائما بان العمل الثوري هو مسيرة طويلة من الانجازات والتغـييـر المتواصل والمهام التي لا بد لها لكي تـنجح  ان يُسهم فيها كل من يريد المشاركة للنهوض بالمجتمع .. لان غايتها وقتها هي النهوض بالانسان نفسه .. فلا تتردد في منحه الثقة من خلال المساهمة في البناء .. وهو بذلك سيشعـر ان تلك الثورة ملكه ، وسيعـمل وحده على حمايتها تلقائيا بعد أن يكتشف أنه صاحب المصلحة الاولى والاخيرة في استمرارها ..
 كما ان الحركات الثورية التي تؤمن بتواصل العمل الثوري لا تـتوقف عـند  ما  تـنجززه من انتصارات عرضية وسهلة في بعض الاحيان ، بحكم حاجة المجتمع لاي جهد  ، بل انها تبحث على ارساء الاسس الدائمة التي تقطع الطريق أمام عودة الاستبداد والاستغلال معا ، من خلال سعيها الدؤوب لارساء دولة القانون و المئسسات ...
ثم أن القوى الثورية التي تتخذ الانسان منطلقا وغاية ، تعلم مسبقا بانه كيان مادي وروحي تمتـزج فيه الحاجيات المادية بالروحية - الوجدانية .. لذلك فهي تسعى دون تردد  لتـلبـيتها جميعا من خلال فسح المجال للتفاعل بين الانسان وتراثه الحضاري وقيمه الدينية والانسانية ، التي ستعـيد بالضرورة للمجتمع تماسكه وتوازنه ، كشروط لازمة لنموّه وتطوره بعد ان عانى طويلا من سياسات التغريب والتخريب ..                                                                                                        
كما ان القوى الثورية التحررية تعلم ان المجتمعات بما فيها من تنوع واختلاف ، لم تتكوّن عبثا . بل أنها قد تكوّنت خلال فترات طويلة من الصراع حول مضامين متعددة منها المادية والروحـية ، حتى بلغـت درجة مهمة من الوعي واليقين بضرورة قـبـول التعايش السلمي بين جميع تلك المكوّنات التي اصبحت مجتمعاتنا لا تساوي شيئا بدونها جميعا .. لذلك فان الثوريين عندما يكونون في السلطة يركّـزون جهودهم بالضرورة على تلك القواسم المشتركة التي تدعم وحدة المجتمع .. لذلك يحاربون كل الدعـوات الرامية لاثارة الـنعـرات الطائفية والمذهبية والعـرقـية التي تقود الى تفكك المجتمع  وتصدّعه ..                                                                                               
اما الحركات الاصلاحية فهي بمجرد وصولها الى هرم السلطة ، تركن للاسترخاء ، وتسكن الابراج العاجية ، وتبدأ تدريجيا في العـزلة عن الجماهير.. ثم وبحكم طبيعـتها تلك ، لا تهتدي للمهام الثورية التي تستطيع أن تحل بها جزءا من المشاكل المطروحة ، لانها تؤمن فقط بمسايرة الظروف ، فلا تعمل على تغييرها تغييرا جذريا .. وحيث لا تقدر اي سلطة على حلها في ظل العلاقات القديمة السائدة .. لذلك فهي لا تجد الا الالتجاء للخارج ، لطلب المعونات ، والقروض ، والبحث عن الصفقات .. فـتـقـع في فخ التــبعـية والهيمنة ، بقـبول شروط الدول التي لا تعطي شيئا مجانا ، ولا تتوقف عـند حدود معـينة.. حتى توقـف نهائيا ما يسمى بالمسار الثوري ولذلك فانها سرعان ما تتحول الى سلطة تقـليدية رجعـية لا علاقة لها بالثورة .. وهذا تقريبا ما فعـلته تلك السلطة " الشرعية " بعد الانتخابات في تونس .. المتكونة من مجلس تأسيسي يعمل بعـقـلـية القبيلة.. وحكومة تتعامل مع السلطة من موقع الغـنيمة .. لذلك كانت ولازالت كل مشاريعها مرتبطة اولا واخيرا بمصالحها الضيقة ، الفردية  والحزبية .. 
عندما نفهم الفرق بين المنطلق الثوري ، والمنطلق الاصلاحي نفهم لماذا توقفت الامور كليا عن تحقيق اهداف الثورة التي لم يتحقق منها اي شئ .. ولعل ما حدث داخل المجلس التاسيسي نفسه من صراعات ومهازل ، خير شاهد على الفشل وأسبابه الحقيقية العميقة .. 
وعندما نفهم ايضا الواجبات المطلوبة ، والمهام المطروحة على أي سلطة  تأتي بعد الثورة ، نفهم ما هي الشرعية الحقيقية من وجهة نظر ثورية  .. فنفهم انه لا شرعية بمعـزل عن تلك الاهداف التي تحددت من خلال شعارات الثورة .. ثم نفهم لماذا تطالب القوى الثورية السلطة الحاكمة بعدم التوقف عن تحقيق مطالب الشعـب الذي قدّم ابناؤه ارواحهم فداء لها : وهي الخـبـز والحرية والتشغـيل والكرامة الوطنية .. فـنفهم وقـتها انه لا مكان للقوى الاصلاحية في واقع ثوري ، وأن أهداف الثورة لا يمكن ان يحققها الا الثوريون .. وبذلك نفهم سر الصدام الذي يقع بين القوى الاصلاحية الموجودة في السلطة – أي سلطة - والقوى الثورية خارجها ،  وهي تنظر للعجز الذي يتحول من خلال مساومة القوى المضادة ، والاستـنجاد بالقوى الخارجـية ، الى عملية سطو على الثورة والانحراف بها  بعـيدا عن اهدافها وأولها استـقـلالية القرار الوطني وتطهـيـر الوطن من الفساد ، وحل مشاكله التـنـموية ..                                                                           كما يمكن ان نفهم اننا لسنا في واقع يسوده السلم الاجتماعي الذي يوفـر قدرا من العلاقات العادلة والفرص المتكافئة ، لنقارن الشرعـية عـندنا بالشرعـية في المجتمعات التي شهدت الاستقرار منذ قـرون كالمجتمعات الاوروبية التي اصبحت تحكمها مؤسساسات تتوفـر فيها كل مقومات الحياد والشفافية والاستقلالية عن السلطة الحاكمة .. ونفهم عـندها اننا في مراحل انتقالية تفرض عـلينا تحقـيق المطالب المستعجلة أولا .. ثم العمل ثانيا على اعادة التوازن داخل المجتمع الذي لا يتحقق الا بترميم العلاقات السائدة والتي اصابها ما اصابها من الخلل ، لكي تنتقل وقـتها للعـبة التداول السلمي على السلطة .. والتي لا بد لكي نصل اليها ان نبني لها اسس متينة  تضمن قيام فرص متكافئة للجميع للمشاركة فـيها ..                                                                                                                                 

باختصار ان الطريق الثوري هو الطريق الوحيد للشرعـية .. وما الانتخابات في هذه المرحلة الا آلية من آليات الفرز التي ستـلفظ  حتما كل الاصلاحيين بعد ان يظهر عجزهم ، وفشلهم للناخبين ..

( نشرية القدس عدد 86 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق