في
ملابسات تشكيل الحكومة التونسية .
د.سالم
لبيض .
لا يبدو
أن مهمة تشكيل الحكومة التونسية، وفق ما أفرزته نتائج الانتخابات التشريعية في 6
أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يسيرة التحقيق، فقد جاء الإعلان عن تلك النتائج
مصحوبا ببوادر أزمة سياسية بنيوية، لواقع التشظي والتناثر السياسي الذي بدا عليه
المجتمع السياسي التونسي، بأحزابه وجبهاته وائتلافاته ومستقّليه، ممن وجدوا
لأنفسهم طريقا إلى قصر باردو (مقر البرلمان). وعلى عكس ما تمّ تسويقه في وسائل
الإعلام والمنتديات الاتصالية والصفحات كثيفة الأنصار والمشتركين، المؤثرة في
الرأي العام والطبقات الشعبية متوسطة الوعي بقضايا السياسة وخفاياها وإكراهاتها،
فإن حركة النهضة (الإسلامية) احتلت المرتبة الأولى فقط في تلك الانتخابات. أما
الفوز فيقتضي أن يمكّنها الصندوق من أغلبيةٍ تساعد على تشكيل الحكومة، أو في أقل
الأحوال توفر لها إمكانية التحالف المريح مع الأقربين في الأفكار والسياسة لمزاولة
الحكم معاً. وهؤلاء الأقربون ممثلون في ائتلاف الكرامة، ومستقليْن اثنين انضمّا
إلى كتلتها، في أول تدشين للسياحة الحزبية في مجلس نواب الشعب، المنتخب حديثاً،
وكان هؤلاء، منذ البداية، متماهين مع الحركة، ومتناغمين في المواقف إلى درجة
التصويت معا لصالح قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2020، ولكنهم لم يمكّنوا
حركة النهضة إلا من ثلث أعضاء المجلس، ما يصلح أن يكون ثلثا معطّلا، ولكنه لا يوفر
الحدّ الأدنى للحكم وتشكيل الحكومة.
أدرك حزب حركة النهضة هشاشة وجوده البرلماني، مقارنةً
بالمجلسين، الوطني التأسيسي والتشريعي المنتهية مهامه، وتعقيدات التركيبة
البرلمانية الجديدة التي ضمّت، هذه المرّة، فسيفساء من الإسلاميين والدستوريين
والقوميين العرب والليبراليين والحقوقيين، وحتى يساريين متناثرين هنا وهناك، على
الرغم من فشل الجبهة الشعبية، تجمعوا في كتلة حركة النهضة، والكتلة الديمقراطية
(حركة الشعب والتيار الديمقراطي)، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، والدستوري الحر،
وتحيا تونس، وكتلتي الإصلاح الوطني والمستقبل، المكونتين من أحزاب صغيرة ومستقلين،
الأمر الذي جعلها تبحث عن الممكن السياسي، من بينهم، ما يمنحها أغلبيةً برلمانية،
تجتاز بها التناقضات السياسية والأيديولوجية الحادّة، والصراعات التاريخية
ومعاركها الدموية الموروثة والمستبطنة.
اختارت حركة
النهضة الحبيب الجملي، وكلّفته بتشكيل الحكومة، وسوّقته شخصية مستقلة غير نهضاوية،
محاولةً منها كسر جمودٍ آتٍ من رفض الأحزاب السياسية البرلمانية إسناد التكليف إلى
رئيس حكومةٍ ينتمي إلى قيادات الحركة الإسلامية. ولكن الرجل لم يفلح في إقناع
الحزبين الأكثر قربا لروح الثورة ومبادئها وتطلعاتها واستخداما لمفاهيمها وتمسّكا
بأخلاقياتها، واسترجاعا لنفسها واعتزازا بها وتمجيدا لها، باعتراف
"النهضة" نفسها التي أرادت الاستثمار في هذا الرأسمال الرمزي، وهما حركة
الشعب والتيار الديمقراطي. ولم تفلح محاولات الوساطة وتقريب وجهات النظر التي
قادها المسهّلون، أو الوسطاء، على غرار جوهر بن مبارك، والحبيب بوعجيلة القادمين
إلى تلك المهمة السياسية الشاقّة من حواشي المجتمعيْن، المدني والإعلامي. ذلك أن
الكلمة الفصل، في نهاية الأمر، لم تكن لهما ولا حتى للجمْلي نفسه، وإنما كانت لمن
كلّفه، أي رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، والذي كان يجري حواراتٍ موازية في قصر
باردو، بوصفه رئيس البرلمان، أو في بيته، أين تدقّق السير الذاتية وتعقد الصفقات
السياسية الحقيقية. ويتعلق اختلاف كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي مع رئيس
الحكومة المكلف، ومن ورائه الحركة الإسلامية التونسية، بمقاربات الحكم، ومفاهيم
السياسة، والقضايا الكبرى، والارتباطات الدولية، واتفاقياتها المجحفة، والمذلّة
أحيانا، وبالخطط التنموية، ومسائل المديونية، والبنك المركزي والسياسة المالية
والنقدية، والتجارة العالمية والعلاقات الخارجية، والسيادة الوطنية، ومكافحة
الفساد والحوكمة والشفافية، والقضاء على البطالة والفقر، وإصلاح قطاعات الصحة
والتعليم والنقل، والتصدّي للجريمة المنظمة وتبييض الأموال، ومقاومة الإرهاب
واقتلاع خلاياه وأوكاره وجماعاته، وإعطاء أدوارٍ إصلاحيةٍ بامتياز لوزارات
الداخلية والعدل والوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، وقبل ذلك كله تثبيت مفهوم
دولة الرعاية الاجتماعية التي تتعرّض للانتهاك والغدر بها منذ انبعاث فكرة
الإصلاحات الهيكلية التي بشّر بها صندوق النقد الدولي سنة 1986، وفرضها على
الحكومات التونسية المتعاقبة.
المقاربة
الأخرى البديلة القديمة المتجدّدة هي المحاصّة الحزبية والغنائمية السياسية
والتمكّن من المواقع في الهياكل القيادية للدولة، وهذه المقاربة تقوم على التفاوض
على الوزارات ونصيب كل حزب منها، كما حدث في حكومة الترويكا 2011-2014 التي توزّعت
فيها السلطة بين أحزاب النهضة والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر
من أجل الجمهورية، ثم أعيد إنتاجها بعد انتخابات 2014، مع حكومتي الحبيب الصيد
الأولى والثانية، اللتين اقتُسمتا بين نداء تونس وحركة النهضة وآفاق تونس والوطني
الحر، وتكرّر الأمر مع حكومات يوسف الشاهد التي توزّعت فيها السلطة على أحزاب
النهضة ونداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس لاحقا. ولم تستطع تلك التجارب الحدّ من
المديونية التي بلغت مائة مليار دينار تونسي بأكثر من 75% من الناتج الوطني الخام،
وجعلت من البنك المركزي مؤسسةً مستقلة عن سلطة الحكومة، ما أدى إلى انهيار الدينار
أمام اليورو والدولار، وترك الميزان التجاري ينهار لفائدة التوريد الذي ناهز 20
مليار دينار، وما صاحب ذلك من تضخم وارتفاع جنوني للأسعار وانتشار البطالة التي
فاقت 15% من اليد العاملة النشيطة. وعلى غرار تلك التجارب، ستتشكل حكومة الحبيب
الجملي أو حكومة الكفاءات كما اختار تسميتها، بين كل من حركة النهضة وحزب قلب تونس
الذي نعته الإسلاميون بالفساد، وعاهدوا ناخبيهم، في أثناء حملتهم الانتخابية، أن
لا يضعوا أيديهم في يده البتة، وأن لا يتحالفوا معه، وإن كلّفهم ذلك إجراء
انتخابات جديدة سابقة لأوانها.
نكث
الإسلاميون العهد، وتخلوا عن ميثاقهم الغليظ الذي قطعوه على أنفسهم، لينخرطوا في
حكومة ببرنامج إسلامو - ليبرالي، على ما في ذلك من مفارقة، لن يختلف عن فلسفة
الحكم النيو - ليبرالية التي تقف وراء الهزيمة التنموية التي تعيشها تونس اليوم،
لتضم شخصيات كثيرة كانت جزءا من الحكومات السابقة بعد 2011 لم تثبت جدارتها في
تسيير الدولة، ولكنها تتمتع بخصلة الطاعة وتنفيذ الأوامر، وأخرى طارئة على عالم
السياسة التونسية، ممن يطلق عليهم صفة التكنوقراط، فاقدي الخبرة والمعرفة بالدولة
ونواميسها، وكيفية تسييرها، وإكراهات السياسة وضرورات مرونتها، على الرغم من
شهادات علمية عالية المستوى نالوها، ومواقع متقدّمة شغلوها في منظمات دولية وأخرى
إقليمية. ستضم حكومة الجملي الجديدة شخصيات من مشارب مختلفة لا تحظى بأغلبية مطلقة
في البرلمان، ما دفع الحزب إلى التسوّل على عتبات قوى سياسية وكتل برلمانية رفضت
المشاركة في الفريق الحكومي، عسى أن تسعفها ببعض الأصوات حتى يحصل أعضاء الحكومة
الجديدة على ثقة 109 من النواب، فهل تنجح حكومة الجملي في الامتحان البرلماني
العسير؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق