نحو تفكيك الملامح الاستراتيجية في خطاب السيد رئيس الجمهورية .
د.رضا لاغة .
بسم الله وحده ،
هناك قاعدة تعتبر أن المسرح الحاسم والرئيسي الذي تتبعه الاستراتيجيات العسكرية هو الإعلام . لذلك ليس غريبا أن تدور حروب افتراضية تحت أعين الكاميرات ، لأن القادة عادة ما يعرفون أن النجاح يعتمد على موافقة المحيط العلني المشارك لعملية التعبئة الجماهرية ، لأنهم يدركون أن مرجعية التضامن الجماهيري تتهاوى بموجبها دول بأسرها . يحضرنا هنا السجال الدعائي لخطاب الصحّاف و بوش ، حين اعتبر أن معركة أمريكا ضد العراق هي معركة مقدسة غايتها جلب الحرية للمواطن العراقي . كان هذا مجرد شاهد تاريخي من مجمل شواهد تاريخية أخرى . مشهد عقبه وباء من العنف الدفين للحضارة والتاريخ العربي الاسلامي .
ينطبق هذا ، مع اختلاف السياق ، مع خطابات القادة ، ضمن نطاق محدد ترجع أصوله الى ما أسميه "حروب المخاطرة الكلامية". وهي معيار يوضّح أيضا ويشرح بطريقة تفكيكية الخطاب الرمزي الذي ألقاه السيد رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2019 .
خطاب مرّ دون أن يثير انتباه المختصين ، بل ثمة ممن يزعمون أنهم كذلك ولكنهم قللوا من أهميته . وهو في اعتقادنا يحتاج الى اهتمام وتجنّب الرؤية العمياء التي استخفّت به .
الحدّ الفاصل في خطاب السيد الرئيس لا يقاس بحجم ما قدّم من انجازات ، بعين المتربّص الحاقد والمضلل (على نحو ما نسمع في بعض وسائل الاعلام) ، بل بفهم الأولوية التي أوقعت السيستام في تناقض واضح مع قيمه الخاصة والتي نعتبرها نحن ، لحظة كوسموبوليتية تواجه لأوّل مرة علنيا ما يحدث في الكواليس من محاولات فنّ التحكّم في المسار حول كيفية إدارة البلاد .
إن خطاب السيد الرئيس ينطوي على استراتيجية توصّف ميزان قوى الصراع . إنه يتضمن إشارة صريحة لفكرة تكثيف الصراع استنادا الى مجتمع مدني متجانس ، منحه تفويض ذاتي للتعامل مع مخاطر بقايا الدولة العميقة وذلك وفق مستويات سنبوّبها كالتالي :
1- تاريخ تحقيب الثورة : أجل هي لا تزال ثورة في ذهن السيد الرئيس . إن رمزية 14 جانفي لم تكن التحقيب المناسب ، لأنه تعمّد حجب الدلالة التاريخية الأصيلة . إن اختزال معنى الثورة في 14 جانفي أو 17 ديسمبر يتنزل في سياق لعبة مجتمع الفرجة بتعبير ايريك فايل ، والذي يركن الى تقوية مرجعية ما . في الحالة الاولى نحن ازاء سلطة جذابة للسيستام ، وبالتالي اعتبار 14 جانفي لحظة استمرارية للجمهورية الاولى ، في حين أن توابع الحالة الثانية ، تظهر الحدث الثوري - بعكس ذلك - كلحظة تحيل إلى مناخ الحرية ، أي بمعنى الطفرة وليس المراكمة بالتعبير الماركسي والتي ولدت في سياق تاريخي يُنْظَرُ له على أنه افراز لثقافة المقاومة الجماعية التي تشكّلت مع جيل الاندفاع ، جيل الشباب الذي يمثّل السيد رئيس الجمهورية إحالة رمزية له .
هذا النوع من الإعلان ، بصرف النظر عن استتباعاته ، يعني أن السيد الرئيس لا ينسجم مع ما تبقّى من معسكر السيستام ، بل إنه يعتبر نفسه المدافع الشرعي عن ضحايا السيستام . وهذا يحسب للرجل ولكنه يطرح مخاطر تستدعي من كل مؤيّد ومشجّع أن يكون متيقّضا للمنطق المضاد ، او ما يسمى في تنفيذ الاستراتيجيات "الحروب الجراحية" التي قد تدور بين الطرفين .
2- الغرف المغلقة : وهي أطر موازية أو مساحات غير مكشوفة تخطط لإصابة جهاز السلطة المناوئ لها بعطب في الصميم . وقد تستعمل في ذلك مزيج متعدّد من الطرق من قبيل الاغتيالات لا قدّر الله ، أو ايقاض الفتن المحسوسة في عقول الجماهير ، وهي عبارة عن أعمال جنونية محسوبة في الداخل ، وقد تكون بالتنسيق مع الخارج .
3- المجتمع المدني المتقدّم عن الاحزاب : إن هذا التمييز يزيد من تكاليف التصعيد ويدفع نحو الافصاح عن ازمة . إنه يكشف عن مقصدية الكارثة الحزبية المنذرة ربما بانتخابات سابقة لأوانها إن لم تتدارك وضعها . هنا ينقل السيد الرئيس التهديد من السيستام الى الاحزاب ذاتها بما فيها تلك التي لها رؤية مناوئة للسيستام . الا انها بحروبها الايديولوجية الجانبية غير المرضية ، تهدّد بإنهيار الرواية المصنوعة من قبل إرادة الشباب ذات يوم (13نوفمبر) صعد فيه السيد الرئيس كممثل لهم . انه هنا لا يعلن عن فضيحة سياسية للأحزاب فحسب ، وانما يمرّ الى مسرح المعركة ضد كل من يتوانى أو يتردّد في أن يصعد من محطة الثورة في قطار الانجاز والقطع مع القديم .
وفقا لهذا التمييز بين المجتمع المدني والاحزاب ، وهو تمييز هيجلي قديم ( انظر كتاب مبادئ فلسفة الحق) ، فان السيد الرئيس كأنما يقول للشباب : الانتصارات المتلاحقة أنتم من يصنعها ، فاستعدوا للتنظّم لا داخل الاحزاب ، وانما ضمن أطر المسؤولية الكوسموبوليتية وقواعدعا المحلية . من هنا يتشكّل قبس النهج الانتخابي للسيد الرئيس برلمانيا . وهو تحذير يخاطب فيه الاحزاب : أنا من يمتلك الشارع وأنتم ازاء اختبار تاريخي ، إما ان تتوافقوا لصالح الوطن أو ان تأكلكم ذرّة التحلل الذاتي لنخوض انتخابات مبكّرة ، أنا فيها الفائز ، أنا فيها من سيكون صاحب القرار.
18/12/2019 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق