بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 22 يونيو 2020

عبد الناصر والحملة الظالمة .. « 1»

عبد الناصر والحملة الظالمة .. « 1»

عبدالله امام .

تتجدد في مصر دائما الحملة على جمال عبد الناصر... وكأنما هناك من ينفخ في النار، ويحاول اشعالها كلما انطفأت.. ولا يعدم وسيلة لإزكائها بوقود جديد.

ولقد استمرت الحملة التي استخدمت فيها كل الوسائل وكل الأجهزة، وكل الأساليب ما يزيد على عشر سنوات.. وكانت نتائجها باستمرار سلبية.. اذ يفاجأ القائمون على هذه الحملة، والمخططون لها، أنهم استخدموا أسلحة فاسدة ترتد عادة إلى صدورهم وهم لم ييأسوا، فأعادوا الحملة من جديد بأكثر ضراوة وساعد على ذلك عوامل عديدة عادت لتنفخ في النار وتعطيها مزيدا من الوقود.. ولعل من أبرز هذه العوامل أن عبد الناصر بدأ يظهر بعنف في وجدان الجماهير بأكثر من ذي قبل، وبدأ أن الحل الناصري هو المخرج الوحيد لما يعانيه الشعب من أزمات في الداخل، والخارج.
وقد بدأ الحملة على عبد الناصر توفيق الحكيم، بكتيب صغير يقول فيه أنه طوال سنوات حكم عبد الناصر كان فاقد الوعي.

وفي تلك السنوات كان أخصب إنتاج الحكيم، وفترة ازدهاره وحصوله على كل الجوائز، وتكريم عبد الناصر له.

وبعد حرب أكتوبر، وبداية الردة على ثورة يوليو، أعطيت هذه الحملة الضوء الأخضر حتى تنطلق بأقصى سرعتها، واستخدمت فيها كل وسائل الإعلام.. من صحافة رسمية وتليفزيون واذاعة وسينما وكتاب، ثم دخل المعركة السادات بنفسه، وألقي بثقله فيها.. في عدة اتجاهات فقد أعطى مواقع متميزة في الإعلام الذين أضيروا من فترة عبد الناصر وأعاد بعضهم من الخارج، وعقد صلحًا مع التيارات الإسلامية، أحد بنوده السماح لهم بتشريح فترة عبد الناصر، ثم وضع نصًا في الدستور بألا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم أو بمضي فترة معينة مثل سائر الجرائم. وكان المقصود من هذا النص أن يكون أحد المداخل لفتح ملفات حكم عبد الناصر عن طريق أفراد التيار الديني وبعد ذلك قاد هو بنفسه المعركة فأدلى بعشرات الأحاديث، والخطب، والمقالات عن سنوات الارهاب والهزائم، والحراسات والمعتقلات والقمع، والديكتاتورية واشتراكية الفقر، وغيرها. وكانت كلمات السادات عناوين لمقالات ولكتب، تبارى البعض في وضع تفصيلات من عندهم، تقربًا، او زلفي.. أو حتى عن شبه اقتناع.

وأصبح معيار الوصول الى مواقع المسئولية، هو التفوق في إظهار العداء لكل ما قام به عبد الناصر.

وكانت المحصلة النهائية أن بقي القطاع العام، نقطة وسط بركة رأسمالية.

وبقيت مجانية التعليم، ونسبة العمل والفلاحين في المجلس المنتخبة.. وبقي الاصلاح الزراعي.. وإن كان الاقطاعيون، عوضوا عن الأرض التي تملكها الفلاحون.

وبقي السد العالي، بعد أن ارتفعت أصوات داخل مجلس الشعب تطالب بهدمه، وحتى عندما قيل بلسان الخبراء وفي دراساتهم أن السد العالى وحده هو الذي أنقذ مصر من الجفاف ومن المجاعة التي أصابت بعض دول حوض النيل، صمتت الألسنة التي طالبت بهدم السد العالي. بعض الوقت.. ثم عادت تتحدث عن أخطار جديدة للسد العالى وما يسببه من زلازل، ومن نقص في بعض أنواع الاسماك.. وأصبح السد العالي مسئولا عن انتشار البلهارسيا، بل وأيضا عن ازمة الغذاء والكهرباء.
فعندما نستورد غذاء، فلان السد العالى، لم يحقق أهدافه في «استصلاح» الارض الصحراوية.
وعندما نطالب بترشيد الطاقة فلان السد العالى لم يولد الكهرباء.

ويتجاهل هؤلاء جميعًا، منع الجفاف وتوفير المياه، وتحويل أراضى الصعيد للري الدائم، وامتداد أعمدة الكهرباء لتصل الى أربعة آلاف قرية وعشرين ألف نجع وعشرات المصانع التي أقيمت على كهرباء السد.
حملة الاخوان المسلمين:

الاخوان المسلمون، هم من أبرز خصوم جمال عبد الناصر وهم يوجهون الى عبد الناصر هجومًا شرسًا وضاريًا وغير موضوعى من خلال ثلاثة ادعاءات أساسية:

الأولى:  أنه عصف بهم، ودبر مؤامرات وهمية للتخلص منهم وبعضهم يرى أن هذه المؤامرات الوهمية كانت نتيجة تعليمات تلقاها جمال عبد الناصر من المخابرات الأمريكية والمخابرات السوفيتية والمخابرات الإسرائيلية معًا، وأنه نفذها على الفور كما تقول زينب الغزالى.

الثانية:  اجراءات التعذيب الشاذة، واللاإنسانية التي تعرض لها بعض الاخوان والتي قامت بها مخابرات جمال عبد الناصر بتعليمات شخصية منه على حد قولهم!

الثالثة:  أن عبد الناصر - بادعائهم الأخير - كان معاديا للدين الإسلامی، وأحيانا يقولون أنه كان شيوعيًا، وانه استولى على أموال الناس بالباطل.

هذه هي الملامح الرئيسية، لحملات الاخوان المستمرة، والتي لا تهدأ على عبد الناصر وهم يكسونها اللحم المناسب.

وهم لا يرون في عبد الناصر إلا أنه الطاغوت، والديكتاتور وليس له أية حسنة - كما يقول عمر التلمساني - إلا أنه كان بعيدًا من النساء. وعن تناول الخمور.. فقط لا غير.

ولا يتسع المجال لدراسة شاملة وواسعة من هذه المحاور الثلاث التي تحتاج إلى مناقشات طويلة وعميقة.
وفي القضية الأولى لا يقبل الاخوان بغير رأيهم، فعندما يهاجم كمال الدين حسين - وهو قريب إليهم - عبد الناصر يصفقون له، ويرددون كلماته: وينشرون رأيه في كتبهم على أنها أقوال أقرب الناس إلي عبد الناصر، وأنها شهادات ثقة، وليست كلماتهم، وعندما يقول كمال الدين حسين: أنه اختلف مع عبد الناصر، حول قضايا موضوعية، ولكن ذلك لا يمنع من أن يقرر ان الاخوان تآمروا فعلا على عبد الناصر وعلى الثورة. وحاولوا اغتيال عبد الناصر وأن مؤامرة 1954 كانت حقيقية لا شبهة فيها. فأنهم لا يأخذون بهذه الشهادة.. فقط لأنهم لا يريدون سماع الا رأيهم.

وعندما يقول حسين الشافعي - القريب جدا من التيار الإسلامي، بل أنه أحد رموزه - أن الاخوان تآمروا. ولقد بذلك محاولات شارك فيها بنفسه حتى يكون الإخوان المسلمون دعما للثورة، وليسوا أدوات للتآمر عليها، ولكنهم رفضوا، وكانت مؤامرتهم حقيقية. وثابتة. الأمر الذي اطمأن اليه ضميره، حتى أنه كان عضوًا في المحاكمة التي حاكمتهم على التآمر، وأدانتهم .

عندما يقول ذلك حسين الشافعي، فأنهم لا يسمعون رأيه، ولا يصغون لكلماته، ولا يعيرونها اهتماما.
وعندما نطالبهم في تحدي بأن يتقدموا الى الجهات القضائية مطالبين بإعادة التحقيق في قضايا تآمرهم - وقد تغيرت الظروف ربما لصالحهم - فإنهم يصمتون.. ويتجاهلون هذا المطلب الذي يحسم الأمر كله.. ولا نريد أن نستدعي وقائع التاريخ - القريب والبعيد - لنتحدث عن وقائع تمسهم - ويمكن أن تكون قرائن - بعيدة عن الوقائع المادية الملموسة - على تآمرهم.. واستخدامهم السلاح والعنف..
ولا نريد أن نفتح ملف هذه القضية بما فيها. من شهادات، وشهود، وأسلحة وذخائر، ورجال اتصلوا، ورجال جندوا ودربوا.. وجهاز سرى أعد وسلح وخطط، وخرائط سرية، فتلك أمور قد يكون مكانها أية جهة قضائية يحتكمون إليها، لو أرادوا، فالشهود مازال معظمهم أحياء.. والأوراق موجودة.. ومن وراء ذلك منطق يقول ببساطة أن الثورة كانت تحكم بواسطة مجلسها. وكانت في عنفوانها، وسيطرتها، وألغت الأحزاب السياسية كلها. فهل كانت تحتاج الى تدبير مؤامرة وهمية لتتخلص من الاخوان المسلمين التي لم تستطع أبدا قبل الثورة أن يكون لها نائب واحد في البرلمان.. حتى لو كان هذا النائب هو رئيس الجماعة، الرجل الذي يجمع الناس على نقائه وعلمه وفضله المرحوم الشيخ حسن البنا.

ولا نريد بعد ذلك أن تخوض في وقائع قضايا تآمر الإخوان... واتصالهم بالإنجليز، ومحاولاتهم فرض وصاية على الثورة في بدايتها فتلك دعاوى يمكن الرد عليها بالوقائع الثابتة. ولكنهم لن يسمعوا.. لذلك فليس أمامهم. لإنصاف أنفسهم سوى جهة قضائية تحقق الأمر من جديد.. إذا كان الجيل الجديد منهم يبغى الحقيقة، ولا يريد أن يقف بعقله جامدًا عند مفاهيم يرددها البعض تصفية لجراح، أو لثأر شخصي، نتيجة تعذيب وقع عليه، أو قرارات لمست مصالحه ومصالح أقربائه المادية.
فالرصاص أطلقه محمود عبد اللطيف، وهنداوى دوير الذي سلمه المسدس جاء من تلقاء نفسه واعترف، وعلى نويتو أعطى المال سقط مغشيا عليه في الشارع عندما سمع من الراديو أن عبد الناصر لم يقتل وأحمد بدير قد أصيب أيضا، والوقائع والاعترافات كثيرة وواضحة.. والوثائق موجودة والجهاز السرى المسلح حقيقة واقعة..

ولن نتحدث عن مؤامرة 1965 فبين سطور الكتب التي أصدرها الاخوان أخيرا سنجد اعترافات كاملة - غير مقصودة طبعًا - حول التنظيم والأسلحة والمؤامرة أيضا..

وتجيء النقطة الثانية.. وهي التعذيب الذي قامت به أجهزة المخابرات على افراد الجماعة.
وبداية فلابد من تقرير حقيقتين:

الأولى:  أنه وقع على عدد كبير من الاخوان تعذيب.. أيًا كان حجمه، فلا مجال لإنكار ذلك.
الثانية:  أن هذا التعذيب من الأخطاء التي لابد من الاعتراف بها وإدانتها.. أيا كانت الدوافع التي أدت اليه، والظروف التي تم فيها.

على انه قد فتح الباب واسعًا، لإعادة تحقيق جرائم التعذيب وتقدم الذين عذبوا ببلاغات إلى النائب العام، التي حققها، وحولها الى القضاء، وقد حكم في كثير من هذه القضايا بإدائه الذين مارسوا التعذيب، كما حكم لهم بتعويضات عما أصابهم من أضرار.. ولقد ثبت للقضاء، أن المخابرات العامة، كانت بعيدة عن كل قضايا التعذيب.

لقد تقدم للنائب العام حوالي ثلاثمائة بلاغ عن «وقائع تعذيب» لم يكن من بينها سوى بلاغين اثنين فقط ضد صلاح نصر رئيس المخابرات العامة.

وحققت النيابة البلاغين، وانتهت الى حفظ واحد منهما، أما الثاني، فقد حول للمحكمة، وأدين فيه صلاح نصر.

اي أنه لم يثبت للجهات القضائية، أن المخابرات العامة قامت بعمليات تعذيب سوى على شخص واحد..
كما أن الذين عُذبوا أنفسهم، لم يتهموا أساسا المخابرات بتعذيبهم..

الذين ثبت للقضاء أن المخابرات قامت به، هو تعذيب الصحفي مصطفى أمين الذي كان قد ألقى القبض عليه متلبسًا، بتهمة التجسس لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، وقدم للمحكمة بهذا الاتهام.. وقد أدانته المحكمة، بعد أن ثبت في يقينها أن الاتهام صحيح.

ولقد تباري الاخوان في وصف وقائع للتعذيب، يصعب تخيلها، بل إن بعضهم كتب أنه أثناء اتمام بعض المباني في عدد من المناطق وجدت جثث وعظام لضحايا التعذيب الذين كانوا يدفنون أحياء.. ولم تبلغ حتى الآن اية أسرة عن فقد أحد أفرادها بدفنه حيًا، رغم أن الجماجم كانت على حد قولهم بالمئات.. ومع ذلك فهم لم يذكروا اسما واحدا من هؤلاء المئات الذين دفنوا أحياء.

وبعيدا عن أية مبالغة.. فلا يهم حجم التعذيب لإدانته، ولكن ما يهم هو أن يكون الإخوان المتمسكون بكتاب الله وسنته. من الصادقين، الذين لا يحيدون عن شهادة الحق، فذلك ما نأمله، ونرجوه منهم.. ولذلك فإن علينا أن نصدق حجم التعذيب ونوعيته وأن نرصده كخطأ جسيم.. أو بقعة سوداء في ثوب الثورة الأبيض ولا يقلل من ذلك، اعتراف شمس بدران بأنه هو نفسه المسئول عن التعذيب: وأنه قام به من تلقاء نفسه، ولم يكلفه به احد..

وشمس بدران يقيم في لندن، وقد أدين في قضايا التعذيب بالسجن لثبوت الاتهام بالتعذيب عليه في أكثر من قضية.

وكان شمس بدران في السجن في عهد عبد الناصر، بعد ان حكم عليه في قضية مؤامرة رجال المشير حتى جاء السادات وأفرج عنه.

وقد علق شمس بدران على هذه الأحكام قائلًا أنه يتحمل المسئولية الكاملة عن التعذيب، وبرر التعذيب بأنه يستهدف مصلحة عليا وهي أمن البلاد وإنقاذها من الدمار والنسف، لذلك كانت هذه الوسيلة للحصول من المتهمين على المعلومات، «كان بوسعي أن أبريء نفسي، فأقول انني كنت أنفذ أوامر الكبار، ولكني فعلت ما فعلت عن قناعة، ويقول شمس بدران ولقد كنا في سباق مع الزمن، أما أن نسبقهم ونعتقلهم أو يسبقوننا وينسفون القاهرة، ولا يمكن أن تكون فبركة الأسلحة التي ضبطناها والرسوم الكروكية التي رسمها مهندسوهم موضحين فيها أماكن النسف، هل كان المطلوب السكوت لتقع الكارثة لاثباتها».

ولقد وقف وزير داخلية السادات ليتحدث عن المعتقلات أيام عبد الناصر فقال انه منذ سنة1952 حتى سنة 1970 كان عدد المعتقلين من السياسيين القدامى. والاخوان. والشيوعيين. وغيرهم 14 ألفا، ابتداء من الثورة حتى رحيل جمال عبد الناصر اعتقل 14 ألف... على مراحل مختلفة وطوال ثمانية عشر عاما.

وقال عبد الناصر «إننا لم نحاكم الاخوان افتراء، لأنه كان يوجد جيش مسلح يستخدم للانقضاض على الشعب، لقد بدأوا بالعدوان عام 54 فهل تركناهم في السجون؟، خرجوا من السجون، وأكثرهم أفرج عنه قبل مدة العقوبة، وأكثرهم ممن كانوا في وظائف وفصلوا، وضع لهم قانون خاص كى يعودوا إلى وظائفهم.. لم نقل أبدا أن هذه فرصة ليبقوا في السجن. أنا لا أريد أن أتخلص من أى شيء في هذا البلد، أريد ان أجمع كل أبناء البلد، وقد خرج منهم بعد سنتين وثلاث وأربع عدد كبير جدا من الذين هداهم الله».

وقال لي شعراوي جمعة آخر وزير داخلية لجمال عبد الناصر أنه بعد مؤامرة الإخوان الثانية عام 1965، وضعت حملة للإفراج عنهم عام 1966، وزاد عدد المفرج عنهم بعد عام 1967 وعندما ترك وزارة الداخلية يوم 13 مايو 1970 كان في المعتقلات 450 شخصًا منهم 150 معتقلين على ذمة المخابرات الحربية للشك في اتصالهم بإسرائيل، ولم يكونوا من السياسيين، وأنه ترك على مكتبه كشفا بأسماء الذين سيفرج عنهم وخطة الإفراج. وقال لي حسن طلعت مدير المباحث العامة في ذلك الوقت «هذا الكشف ك ان به 120 اسما تقرر الإفراج عنهم».

عبد الناصر والاسلام:

بعد هذا الرصد السريع لحوادث التعذيب يبقى الاتهام الثالث الذي يصر في الحاح على أن جمال عبد الناصر كان معاديًا للدين الإسلامي، وهو الحاح لا يعتمد على وقائع مادية ملموسة.
ولكنها فقط طلقات في الهواء، إذا لم تصب، فإنها تحدث أثرها، اعتمادا على أن الناس لن يدققوا، ويتأملوا هذه المقولة ولا غيرها»

وهذا الاتهام - ربما وحده - هو الذي يدل على سوء القصد وعلى الافتراء، من قوم المفروض أن يكونوا أبعد الناس عن ذلك.

فاذا افترضنا ان هناك اختلافات في وجهات النظر حول قضايا التآمر، وأن هناك مبالغات في قضايا التعذيب، فانه لا يمكن التماس العذر في هذه القضية، لأن أى ضباب مهما كانت كثافته لا يمكن ان يحجب الحقيقة فيها. حقيقة عدد المساجد الذي تضاعف في عصره عشر مرات.. ولا يمكن أن ينشئ محطة اذاعة الخاصة للقرآن الكريم التي أنشئت.. ومدينة البحوث الإسلامية التي وفد إليها الطلبة المسلمون من كل أنحاء العالم تتحمل الدولة كل أعبائهم ليدرسوا الدين الإسلامي.
والذي يعادي الاسلام، لا يمكن ان يفتح معاهد دينية للفتيات لأول مرة ولا كليات أزهرية إسلامية للفتيات.

والذي يتخذ أي موقف من الاسلام، لا يمكن أن يجعل تدريس الدين الاسلامي في المدارس اجباريا، ويحول الدين لأول مرة في في مصر الى مادة للنجاح والرسوب.. والذي لا يكون شديد الإيمان بالإسلام، ويدوره في بناء الفرد والامة لا يمكن ان ينشئ مجلسًا للشئون الإسلامية ليعمل على نشر الإسلام وينشر كتب التراث، وييسر للمواطن العادي الكتاب الاسلامي بسعر لا يجاوز القروش الخمسة ويوفد وعاظه مبشرين بالإسلام مقاتلين من أجله في أفريقيا.

كان عبد الناصر غيورا على الإسلام بما اتخذه من اجراءات الدعم أركان الإسلام، وتثبيت مفاهيمه الصحيحة.
ولسنا في مجال رصد، موقف عبد الناصر من الدين، وما قدمه للإسلام فتلك قضية طويلة لعبد الناصر فيها رأي، وكلمات واضحة ومحددة ربما كانت تخفى على البعض لأنهم لا يطيقون سماعها ولكن هذه الاعمال الملموسة التي عاشها الجميع لا تخفى عليهم أحد، ويكون تجاهلها عن عمد امر لا يليق بمن يؤمنون بالله ورسله واليوم الاخر.

ففي موضوع تطوير الأزهر، الذي هدف الى توسيع قاعدة الاستفادة منه بإنشاء كليات جديدة علمية ونظرية مع الإبقاء على كلياته القديمة العتيقة.

ويختلف البعض حول ما إذا كان هذا التطوير قد نهض بالأزهر أم أجهز عليه. على أن العبرة هنا ليست بقانون التطوير الذي هدف الى تخريج الطبيب المسلم، والعالم المسلم. والمهندس وضعه الأزهريون أنفسهم، وعارضه، وما زال يعارضه التقليديون منهم بينما يصر عليه الأجيال الجديدة من الأزهريين.
وهي قضية خلافية، يمكن حسمها على ضوء التجربة خلال السنوات الطويلة الماضية، لقد سمعنا نقدا لتطوير الأزهر.. ومدحا فيه. فالمقصود من الحملة اذن هو مجرد التشهير.. والتطوير صدر بقانون من مجلس الأمة أثناء حكم جمال عبد الناصر وكان المسئول عن الأزهر في ذلك الوقت كمال الدين حسين أقرب الرجال الى الإخوان المسلمين الذي لا يتنصل حتى الآن من مسئوليته عن ذلك القانون ومع ذلك فهم لا يوجهون مدافعهم إليه.. وإنما يتجهون دائمًا إلى عبد الناصر وحده وهذا أيضا دليل على سوء القصد..
أما القضية الأخيرة: فهي الادعاء بأن عبد الناصر أخذ أموال الناس بالباطل، وعبد الناصر أمم أموال الاغنياء لحساب الفقراء وليس لجيبه الشخصي..

وهي قضية مجال الاجتهاد فيها واسع، وهناك خلاف بين علماء الاسلام عليها. فهناك من يفسر الاسلام لصالح علية القوم وسادة المجتمع، وهناك من يفسره المصالح الفقراء والمعدمين... وكان علماء الإسلام الذين اجتمعوا في مجمع البحوث الإسلامية الأول بالقاهرة قد أقروا «أن الأموال التي تمكنت منها الشبهة على فان لم يفعلوا صادرها أولياء الأمر ليجعلوها في واضيعها، وان المال الطيب الذي أدى ما يمكن من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه، وأن تقدير المصلحة وما تقتضيه هو من حق اولياء الأمر».

وقد يرى البعض أن هذا الإجماع من العلماء ليس ملزما ومن هنا تظل قضية المال في الإسلام من المسائل الخلافية، ولكن الاختلاف وقد وقع منذ قرون لم يصل الى الاتهام بالخروج على الإسلام.
لذلك كله.. فان المسألة ليست هي المؤامرات.. أو التعذيب... أو البعد عن الإسلام، فتلك مسائل يعرف زعماء الإخوان في قرارة أنفسهم الحقيقة فيها أكثر من غيرهم، وإنما المشكلة هي الجروح الشخصية، وضرب طموحاتهم السياسية، ولكنه دائما يتم الحديث عنها بطريقة مختلفة.. تزييفًا للحقائق، وابدالا للحق بالظلم.

وكان الإخوان.. هم الركيزة الأولى عند الذين يهاجمون جمال عبد الناصر..

وهناك يقف في الطابور أشخاص.. ومنظمات وهيئات أخرى كثيرة.

التطهير... واجازة القانون..

في 14 سبتمبر سنة 1952 أصدر مجلس الثورة مرسومًا بقانون بفصل الموظفين بغير الطريق التأديبي.. وكان الهدف التخلص من الموظفين الذين حامت الشبهات حولهم فيما يمس النزاهة، والشرف، أو حسن السمعة، وفقا لما جاء في القانون، وامتدادا لقرارات أصدرتها وزارة نجيب الهلالي.
وشكلت عدد من اللجان لدراسة أوضاء هؤلاء الموظفين بناء على التقارير التي تعدها الجهات المختصة، ولم تكن الثورة قد استقرت بعد. كما أن قادتها لم يكونوا يعرفون كل الموظفين.. لذلك فإن اللجان في كل المواقع بدأت عملها، ووضعت رأيها.

وقد فضل عدد من الموظفين تقديم استقالاتهم حفاظًا على كرامتهم. وإحساسا بما قد يصيبهم نتيجة أعمالهم الغير سوية..

وبقى آخرون حتى خرجوا بناء على القرارات التي أعدتها اللجان...

وكان من بين هؤلاء عدد يزيد على أربعمائة من ضباط القوات المسلحة.

بعضهم أحيل الى التقاعد وبعضهم ألحق بالعمل في الوزارات والمصالح الحكومية إبعادا لهم عن مواقعهم في الجيش وقد عرفت هذه الحركة باسم «التطهير» الذي أخرج عددًا من الموظفين من العمل بغير الطريق التأديبي.

وقد عرضت قرارات لجان التطهير على مجلس قيادة الثورة.

ولقد كان مرشحا للخروج في التطهير توفيق الحكيم عندما طلب اسماعيل القباني فصله بحجة أنه غير منتج: واعترض جمال عبد الناصر، على إخراج توفيق الحكيم الذي كان قد قرأ له واستلهم كثرًا من أفكاره.
أما بقية الموظفين الذين اخرجوا في التطهير فمن البديهي أن رجال الثورة جميعًا لم يكونوا على بينة من أمرهم، ولا يعرفون تصرفاتهم.. فقد كان عمرهم في تولي المسئولية لا يتجاوز شهورًا معدودة، وأنه يتحمل مسئولية صواب أو خطأ هذه القرارات الوزراء المختصون أو اللجان التي قالت رأيها ووضعت التقارير منذ البداية.

وعندما يوجه نقد الى قرارات التطهير التي مضى عليها أكثر من ربع قرن، والتي يحاول البعض نبشها الآن. فإنه لابد أن يوجه إلى اللجان.. ثم إلى الوزراء ثم إلى مجلس الثورة، وأعضائه جميعًا.
هذا بصرف النظر عن مدى صحة هذه القرارات ومدى صدق التقارير، ولا شك أنها في أغلبها لم تكن تأخذ طابع الانتقام الشخصي حتى لو حدث ذلك فان المسئول عنها، هي اللجان بالدرجة الأولى ثم مجلس الثورة مجتمعًا بالدرجة الثانية.

وقد شملت قرارات التطهير عددا من أساتذة الجامعة، وكانت القرارات تعني إبعادهم عن مواقعهم في مجال التدريس وتوجيه الطلاب، وتلقينهم العلم..

وربما كانت لبعض هذه القرارات أسبابها السياسية، فعدد منهم اتخذ موقف العداء من الثورة الوليدة لأسباب مختلفة. وكان من بين التقارير التي عرضت على مجلس الثورة، وقائع عن أساتذة بكليات الجامعة يتاجرون في أسئلة الامتحانات، وآخرون يرتشون، بل أن وزارة الداخلية تقدمت بطلب لفصل واحد لأسباب رآها بوليس الآداب ضرورية، خاصة وأنها تتعلق بصميم أسرته.. وكانت زوجته الثانية ذات علاقات عربية يعرفها جيدا بل لعله كان شريكا في استثمار هذه العلاقات العامة، واستطاع فيها بعد أن يقيم مشروعا ثقافيا كان لوجته دور في نشره.!

وأصبح من بقي من هؤلاء حتى الآن هم الرصيد الثاني للحملة على جمال عبد الناصر لأنه الرمز الذي تجسدت فيه الثورة التي أضيروا من قراراتها..

ولما كانوا لا يستطيعون الافصاح عن جرحهم الشخصي، فإنهم - عادة - يحاولون أن يلبسوا هجومهم بثياب العلمية، والموضوعية فيتحدثون مثلًا عن الديمقراطية الضائعة. وهم يستدرجون الناس إلى مقارنات بين ديمقراطية ليبرالية تقوم على تعدد الأحزاب، وديمقراطية اشتراكية في ظل تنظيم سياسى واحد، ويربط الحرية السياسية بالحرية الاجتماعية.

وكانت الثورة قد خاضت معارك طويلة عوقت مسيرتها نحو الديمقراطية على النحو المطلوب.. معارك خارجية ومعارك داخلية، فهناك عدوانات متكررة من إسرائيل، هناك العدوان الثلاثي، الوحدة، القوانين الاشتراكية، عدوان 1967... معارك أساسية لا يمضي عام إلا ويحمل معركة، الأمر الذي دعى عبد الناصر أن يقول في آخر مؤتمر قبل رحيله أنه أمضى ثمانية عشر عامًا داخل خندق يحارب منه القوى المتربصة في الداخل والخارج، التي لم تكف عن التآمر وشد البلاد إلى معارك على غير ما تريد..
هناك الى جانب ذلك قيادة تاريخية وطنية... ذات شعبية طاغية.. ومع ذلك فقد كانت هناك ديمقراطية..
ومع أن الديمقراطية كانت لها صورة مختلفة، فإنها لم تكن مثالية خالية من العيوب، ولم تكن بالصورة الظالمة التي يطمس البعض معانيها، ومن التضليل المقصود أن يتم الحديث عن ديمقراطية عصر عبد الناصر، إذا أبعدت عن الإطار والمفاهيم التي كانت سائدة أو التي كانت تحكم المجتمع في ظل تنظيم سياسى واحد.

فلو كان هناك حزب يحكم، وعدد من الأحزاب يعارض، لبدت الصورة مختلفة، ولا نستطيع أن نحكم على حجم المعارضة وتوجهاتها، وامكانياتها لأن ذلك افتراض وهمی.

انما الذي يمكننا أن نتحدث عنه، ردا على دعاويهم أن الموضوعية، تقتضي نقد التجربة في إطار ما كان سائدًا.. وما كان سائدًا أن الاتحاد الاشتراكي كان التنظيم السياسي الوحيد - وهو لم يكن حزبًا - وكانت له لجنة منتخبة أو معينة في كل قرية، وفي كل مصنع وفي كل شارع وفي كل قسم وفي كل محافظة.
وكان هناك منتخبون في مجالس إدارات جميع المصانع والشركات والجمعيات التعاونية يشاركون بالراي في تقرير أمور مؤسساتهم ويحققون ديمقراطية الإدارة.

وكان هناك مجلس أمة منتخب، نصفه من العمال والفلاحين، أصحاب المصلحة الحقيقية في البلاد، كما أنهم يمثلون الغالبية العظمى من الشعب وكانت هذه إضافة لتعميق الديمقراطية يتجاهلها الكثيرون.
ولجنة مركزية للتنظيم السياسي، ثم لجنة عليا، وقبلهما كانت هناك قيادة جماعية ويجمع الذين كانوا حول عبد الناصر، واختلفوا معه، أو ظلوا أوفياء له، أنه كان يستمع الى كل الآراء، ولا يبدي رأيه الا في نهاية أية جلسة وأنه كان يشجع على إبداء الرأي الآخر ويناقشه ويتفهمه.. وعبد الناصر لم يصدر قرارًا إلا بعد دراسات ومناقشات واسعة.

وكانت قاعدة الحكم عند عبد الناصر في القرارات الكبرى أو الصغرى أن تتم بعد مشاورات.. وكثيرًا ما امتدت هذه المشاورات إلى المتخصصين من غير المسئولين..

ففي البداية كان هناك مجلس ثورة يتحمل المسئولية مع عبد الناصر.. ثم مجلس رئاسة، إلى جانب مجلس الامة.. وكان عبد الناصر يحضر اجتماعات مجلس الوزراء ويناقش ويستمع إلى كل رأي، وبعد النكسة لم يتأخر عبد الناصر عن اجتماع واحد لمجلس الوزراء، أو اللجنة المركزية، أو اللجنة العليا.
وكانت القرارات تصدر بعد مناقشة ومشاركة.. فقبل قرار تأميم قناة السويس، أجريت دراسات وتمت مناقشات شارك فيها بعض المتخصصين من غير المسئولين.

وقبل صدور القرارات التي تعيد توزيع الثروة كانت هناك دراسات ومناقشات واسعة اختلفت فيها الآراء واتفقت.

وقبل مساندة ثورة اليمن كانت هناك اجتماعات مكثفة لمناقشة إرسال كتيبة واحدة أم لا وكان السادات المسئول السياسي عن اليمن هو الذي يقود هذه المناقشات - ويدفع في اتجاه إرسال القوات لتساعد شعب اليمن.

وقبل أن تغلق مضايق تيران عقد عبد الناصر عددًا من الاجتماعات السياسية والعسكرية، كان آخرها

اجتماع موسع حضره جميع القادة وفيه تقرر إغلاق المضايق.

وليست هناك قرارات تمت دون دراسة ومناقشة، واستشارة الخبراء، بل إن زملاء عبد الناصر أعضاء مجلس القيادة الذين اختلفوا معه قرروا في مذكراتهم أنه كان دائم الاتصال بهم لأخذ رأيهم بعد تركهم المسئولية.
وكانت هناك تنظيمات سياسية مختلفة للثورة، اختلفت باختلاف المراحل من هيئة التحرير لتجميع قوى الثورة في ظل الفراغ الذي نتج عن حل الأحزاب التي تم حلها. الى الاتحاد القومي الذي واجه مرحلة التمصير والعدوان الثلاثي، ثم جاء الاتحاد الاشتراكي.

وربما لم تقم بعض هذه التنظيمات بواجباتها على الوجه الأكمل، وكان ذلك من سلبيات تجربة عبد الناصر ولكنه كانت هناك محاولات جادة لبناء تنظيم سياسي قوي، وقد أمكن للاتحاد الاشتراكي أن يتواجد في كل موقع تواجدًا ملموسًا، يشارك بالرأى أو بالعمل في المواقع المختلفة بدرجات متفاوتة.
وكان هو التنظيم السياسي الوحيد في تاريخ مصر الذي كان له لجنة في كل قرية وكل مصنع وكل موقع عمل..

وينسى الذين يوجهون الاتهامات الى جمال عبد الناصر ويقولون أنه كان لا يطيق الرأي الآخر كلماته بأننا شعب ناقد. «فنحن ۳۲ مليون إذا بعدنا منهم الأطفال فان كل منهم ينقد، ولديه الحق. فعندما تكون ممر الفانلة 60 قرشا والشراب 30 قرشا فلابد للمواطن أن ينقد وسوف يظل شعبنا ينقد لأن المطالب الاجتماعية لم تتوفر له».

ويوجه كلامه لأحد أعضاء اللجنة المركزية قائلًا «زي ما أنت عاوز تنتقد ندي الفرصة لأي واحد ينتقد، هل معنى أنه ينتقد أنه مضاد للنظام.. اطلاقا بالعكس يجب إن احنا نيجي اللجنة المركزية وننتقد». ولعل درجة المشاركة في صنع القرار - بعد كل ذلك - لم تكن بالقدر المطلوب. ولكننا لا نغفل أمرين.. زعامة عبد الناصر التاريخية الجارفة، وانحيازه المطلق للجماهير وثقتها فيه. والمعارك الضارية التي خاضتها الثورة في الداخل والخارج وكذلك المؤامرات المتعددة التي تعترض عليها من القوى المعادية والمتربصة.

خطة الصناعة:

من أبرز أعمال عبد الناصر وضع خطة لتصنيع مصر، ويروى لي الدكتور عزيز صدقي قصة تصنيع مصر، وكيف أنه تم بعد مناقشات ودراسات واسعة قائلا «أن جمال عبد الناصر استدعاه ذات يوم من سنة 1956 وقال له أنه يريد أن يتجه إلى تصنيع مصر.. وطلب الدكتور عزيز صدقى مهلة مدتها ستة شهور للدراسة حتى يستطيع خلالها أن يضع مشروع خطة الصناعة ومشروع قانون التنظيم الصناعي.
وقد شكل الدكتور صدقي لجانا متعددة للدراسة ضمت جميع الكفاءات العلمية والاقتصادية والادارية والفنية ورجال القانون، وأعدوا مشروع برنامج السنوات الخمس للصناعة ومشروع التنظيم الصناعي. وكانت الخطة طموحة جدا بمقاييس ذاك الوقت.

وكان قانون التنظيم الصناعى يعني تحولا كبيرا في سياسة الدولة، إذ ينص لأول مرة على أن تتدخل الحكومة في الصناعة.

ويقول الدكتور عزيز صدقي أن عبد الناصر لم يوافق على مشروع القانون، ولا على الخطة عندما عرضتا عليه.

وطلب أن يطرح ما استقرت عليه اللجان لأوسع المناقشات أولا قبل أية موافقة عليهما. ووضعت الخطة ومشروع القانون أمام جهات متعددة للدراسة والمناقشة وإبداء الرأی..
وعارض اتحاد الصناعات الممثل للرأسمالية الكبيرة في ذلك الوقت.. تدخل الدولة في الصناعة في مذكرة مكتوبة.

وعارض رؤساء شركات الغزل - وهم من كبار الرأسماليين أيضًا ۔ أن تتضمن الخطة إنشاء مصانع جديدة للغزل والنسيج بحجة أن الموجود منها يكفي احتياجات البلاد وزيادة.. وكان لمنطق هؤلاء ما يبرره.. هو النظرة الضيقة إلى مصالحهم الخاصة.. وبعد فترة طويلة من الدراسة والمناقشة وضعت الآراء أمام جمال عبد الناصر.. ولم يتخذ فيها قرارا أيضا فقد طلب من الدكتور عزيز صدقي ذات يوم أن يستعد ليشرح للوزراء خطة السنوات الخمس للصناعة بالتفصيل.

ويقول الدكتور عزيز صدقي أنه في اجتماع مجلس الوزراء لم يشأ عبد الناصر - كعادته - أن يبدي رأيا مسبقًا.. فقد ترك الجميع يتكلمون.. بعضهم أيد.. وبعضهم عارض.. وكانت مناقشات طويلة وحية وصاخبة، والدكتور عزيز صدقي يقنع ويشرح الخطة مشروعا مشروعًا ومصنعا مصنعًا طوال 4 ساعات. كانت معظم المعارضة تتجه الى أن الخطة طموحة أكثر من اللازم وأنها مجرد حلم بعيد التنفيذ.. فكيف يمكن للدولة أن تدبر 250 مليون جنيه هي قيمة تكلفة مشروعات السنوات الخمس للصناعة.
وبعد هذا القدر الطويل والواسع من المناقشة خارج مجلس الوزراء وداخله تمت الموافقة على الخطة، وطلب عبد الناصر من الدكتور عزيز صدقي أن يعقد مؤتمرا صحفيًا بعد انتهاء جلسة مجلس الوزراء ليعلن فيها لأول مرة خبرًا جديدًا هو.. تصنيع مصر.. وفق خطة متكاملة تشرف عليها الدولة.
القانون في اجازة:

ويقولون ان عبد الناصر أعطى القانون اجازة.

وحجتهم في ذلك أن أحد المحافظين قال في حديث تليفزيوني أن القانون في إجازة.
وان عبد الناصر أصدر قانونا بإعادة تشكيل الهيئات القضائية أغفلت عند إعادة التشكيل أسماء 189 من رجال القضاء... فصلوا من السلك القضائي.. وقالوا أن عبد الناصر خاض معركة ضد العدالة.. ورغم أنه قد شكلت لجان لهذه القضية برئاسة السادات.. وأنها هي التي اقترحت تطهير القضاء، ورغم أن الذي وضع القانون هو الدكتور جمال العطيفى، فان معركة القضاء لم تكن معركة ضد العدالة.
فلم يكن السبب في اخراج عدد من القضاة أنهم رفضوا اصدار أحكام تلائم مزاج السلطة أو أن يغيروا ضمائرهم، وما استقر عليه رأيهم بناء على استقراء نصوص القانون، ولم يكن تدخلا في العدالة.. ولا في القضاء فقد كانت له أسبابه الأخرى.

وقد يكون في آخر هذه الأسباب أن عددا من هؤلاء القضاة طبقت عليهم قوانين الإصلاح الزراعي وأنهم أصدروا أحكاما جائرة ضد القانون بطرد الفلاحين من الأرض لصالح كبار الملاك.
وكان عبد الناصر حساسًا جدًا قبل القضاء، فقد شعر مثلا بحرج شديد، حينما وصله خطاب من الملك سعود يرجوه أن يتدخل لكي تحصل ملكة سابقة على الطلاق من زوجها...

وكانت قد سافرت الى السعودية ولجأت الى الملك سعود وطلبت منه التدخل في حل النزاع القضائي بينها وبين زوجها الذي كان مطروحا أمام محكمة الأحوال الشخصية..

ورغم الجهود القانونية الضخمة من محاميها الأستاذ محرم فهيم فقد حصل زوجها على حكم قضائي بأن تدخل بيت الطاعة..

ولم تكن تريد أن تنفذ الحكم.. وتدخل الملك سعود بخطاب مكتوب إلى عبد الناصر. وقال عبد الناصر «انني أريد ان اجامل الرجل في أي شيء يطلبه.. ولكنني لا أستطيع أن أتدخل في أعمال المحاكم»..

ولم يتدخل عبد الناصر على الإطلاق. لا في هذه القضية ولا في غيرها.

الشرعية الثورية:

ويرى الدكتور جمال العطيفي - العدالة الاشتراكية - أن الثورة لها «شرعيتها التي يمكن تسميتها الشرعية الثورية. ومعنى هذا ان للثورة قوانينها الخاصة بها. فمبدأ الشرعية الذي يعنى في صورته العادية أن الدولة لا تستطيع أن تخرق أحكام الدستور القائم او المبادئ الدستورية العامة السائدة بأن تصدر قوانين تتنافي معها، هذا المبدأ بهذا التصور لا يمكن أن يكون سائغًا في مرحلة الثورة، وإلا كان معنى ذلك أنه لم يكن في مقدور دولة الثورة التي قامت في 23 يوليو 1952 أن تخلع الملك أو أن تلغي دستور 1923، أو أن تحل الأحزاب أو تحد من الملكيات الاقطاعية، أو أن تقوم بتأميم الشركات، أو أن تقوم بتصفية الإقطاع والرأسمالية، فمن البديهي أن الثورة ذاتها هي تحطيم للقانون القائم وأنها تستمد شرعيتها من تأييد الجماهير لها.

وبانتقال السلطة إلى قيادة الثورة، تصبح هذه القيادة صاحبة الحق في تقرير القوانين، أي يصبح من حقها وقد تركزت فيها سلطة الدولة أن تتخذ الإجراءات التي تحقق أهدافها في صورة قوانين تصدرها، ويصبح احترام هذه القوانين والتزامها بكل دقة واجب كل فرد. بعد أن يغدو تعبيرًا عن مصالح أصحاب المصالح الحقيقية الذين قامت الثورة من أجلهم وتكون مهام القانون في هذه المرحلة أن يعمل من أجل تحطيم مقاومة الطبقات المعادية التي كانت متهكمة في مصير الشعب.

وقد كانت للثورة الاجتماعية التي بدأت بقوانين يوليو الاشتراكية شرعيتها، فكل التدابير والإجراءات التي اتخذتها دولة الثورة لم تكن مجرد تدابير مادية. بل كانت تدابير تتخذ شكل اعلان دستورى أو قانون تلتزمه الدولة مني تدعو الحاجة إلى تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلي تعديلها وفق أهداف هذه الثورة.

اذن فعبد الناصر رفع شعار الشرعية الثورية.. ولم يعط القانون اجازة بل أنه هو الذي نادى بسيادة القانون ليكون القانون أعلى من مراتب الأفراد، وهو الذي طالب بتقنين الثورة.. وشكل لجانًا لإعادة النظر في كل القوانين المقيدة للحريات، وكان مقررها ضياء الدين داود عضو مجلس الأمة ولجان أخرى لإعادة صياغة القوانين لتتمشى مع متطلبات المتغيرات في المجتمع.

أما ما يتردد من أن القانون كان في اجازة، فقد قال لي سعد زايد الذي كان محافظا للقاهرة أن التليفزيون أجرى معه لقاء أثناء معركة استرداد خِلو الرِجل بالقاهرة، وسألته المذيعة السيدة همت مصطفى عن القانون الذي يحرم عملية خِلو الرِجل، فقال أن هذا القانون في اجازة.
فالقانون كان - ومازال - ينص على أن خلو الرجل جريمة، ولقد لاحظ سعد زايد أن مخالفة هذا القانون أصبحت قاعدة، وأن خلو الرجل المخالف للقانون يتم علنًا بل ويعلن عنه في الصحف.. صراحة او تحت تحايلات مختلفة واضحة.

وقرر المحافظ أن يتصدى لهذه الظاهرة.. فأدلى بحديث لجريدة الأهرام أعلن فيه عن استعداده لرد خلو الرجل الذي دفعه أى مواطن يسكن القاهرة لمالك العقار أو مستأجر حتى يحصل على مسكن.
وبدأ الناس يتوافدون عليه.. كل منهم يطلب من المحافظ أن ينفذ ما وعد به من رد المبالغ التي دفعها.. مخالفة للقانون.

وأخذ المحافظ يستدعي أصحاب العمارات، ويطلب منهم أن يردوا ما حصلوا عليه بغير وجه حق من منطق او قانون.

واستجاب بعض الملاك، وردوا ما دفعوه، والبعض الآخر اضطر أن يرهبهم ويخفيهم ويستخدم سلطانه كمحافظ، حتى يردوا ما استولوا عليه من السكان مستغلين أزمة المساكن، وحاجة الناس الملحة إلى المسكن وهو من أول الحقوق التي للمواطن فى حدود امكانياته المادية وبعيدًا عن الاستغلال.
وصادفت سعد زايد نماذج غريبة.. وأحس بسطوة رأس المال وجبروته..

الرجل الوقور يقسم بكل الايمان، ويبكي.. مؤكدا انه لم يتقاض أى مبالغ من السكان ثم في النيابة - بعد مساومات شديدة - يعترف بأنه اخذ أموالا ويردها.

الابن يتنكر لأبيه، ويقول في مواجهته أنه ليس أباه لمجرد أن الوالد علم أنه أخذ أموالا كخلو رجل من السكان، ولم يسلمها له، ولم يبلغه منها.

استمات أصحاب بعض المصانع الصغيرة في عدم رد المبالغ التي أخذوها، فلما هددوا بأن مصانعهم سوف تغلق، واتخذ فعلا اجراءات ادارية لإغلاق هذه المصانع - وهذا من سلطة مجلس المحافظة - اعترفوا وردوا ما حصلوا عليه من أموال..

كان الهدف أمامه واضحًا.. وهو مصلحة الجماهير العريضة، والوقوف إلى جانبها والانحياز الكامل لمصالحها وهي قاعدة قانونية أساسية - ولم يستثن واحدا من الملاك الذين حصلوا على خلو رجل من رد ما حصل عليه.. حتى أخو المحافظ نفسه رد للسكان ما كان قد استولى عليه منهم كخلو رجل.
ويقول سعد زايد انني لم أعط القانون اجازة، ولكن القانون كان في اجازة فعلا، ولم أكن أنا السبب في أن القانون لم يطبق.. بل ربما العكس.. فقد كنت سببًا في تطبيقه. ذلك لأن كل قوانين الإيجارات ومنذ صدور القانون 121 لسنة 1947 وهي تؤثم أي زيادة عن الأجرة القانونية تحت أي اسم كانت، ولكنه كان نصًا شبه معطل أو في اجازة كما قيل بحق، وأعمال هذا النص هي في حقيقته عودة له من الاجازة.
وامتدت معركة رد خلو الرجل من القاهرة إلى الجيزة الى الاسكندرية التي تردد محافظها حمدى عاشور، في بداية الأمر في استرجاع خلو الرجل من الملاك، وهاجم الإجراء على صفحات الصحف، ولكنه بعد فترة قصيرة اضطر أن يستجيب لجماهير الإسكندرية، وأن يشارك في الحملة التي انتشرت، وامتدت الى كل المحافظات لرد المبالغ التي حصل عليها أصحاب العمارات من السكان.
ويقول سعد زايد أن عبد الناصر شجعه على القيام بهذا الإجراء وامتدحه له مرتين.. فقد كان راضيًا عما تم، وفي نهاية هذه المعركة عقد مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه عن المبالغ التي استردها السكان من الملاك عن طريق المحافظة مباشرة وكانت ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه، كان الملاك قد حصلوا عليها من المستأجرين دون وجه حق مخالفين القانون الذي أعطي نفسه اجازة، واقتطعها المواطنون من أقواتهم ليضعوها في جيوب الملاك.

ما حدث من سعد زايد هو أعمال للقانون، وربما بوسيلة غير قانونية.. فلم يكن القانون في اجازة القانون دائما هو تعبير من مصالح الناس.. ومطالبهم.. كان القانون موجودًا ولكنه طبق قسرًا وجبرًا بوسائل غير مشروعة في بعض الأحيان ولكن الهدف لم يكن مصلحة شخصية ولا منفعة قلة ولكنه كان لصالح المجموع.

ما حدث - ربما كان خطأ في التطبيق - وقسوة المطالبة برد المبالغ وخوفًا من سلطان المحافظ وسلطته - ولكن ليس هناك مالك واحد رد مبلغ لم يحصل عليها تحت وطأة هذه الظروف.. فلم يسمع في تلك الأيام - أو بعدها - من قال أنه ظلم ودفع للسكان أموالا لم يكن قد تقاضاها منهم من قبل دون وجه حق، كما أن وسيلة التخويف لم نتخذ ضد الملاك الذين ردوا مباشرة ما تقاضوه، أو الذين حرصوا على كرامتهم واعترفوا بما للسكان لديهم من أموال يمكن أن يسكنوا بها شهورا أو سنوات مقبلة.. لقد اتخذت هذه الإجراءات ضد الذين خالفوا القانون، وأصروا على موقفهم في المخالفة بالاحتفاظ بأموال حصلوا عليها بطريقة ليست قانونية.

يقول سعد زايد أنه لاحظ أن معظم الذين ردوا خلو الرجل للسكان.. كانوا من الجزارين، وكان هذا مؤشر على مكاسبهم الضخمة التي مكنتهم من أن يكونوا ملاكًا لعقارات فقرر أن يتدخل في تسعير اللحوم. ويضع تسعيرة وإلزام الجزارين بتنفيذها رغم معارضتهم الشديدة في اجتماعهم.. وطبقت التسعيرة وفي الأسبوع الأول أغلق 12 محلا للجزارة لمخالفته التسعيرة، بعد ذلك كان هناك احترام للتسعيرة..
هذه هي الحديقة في قصة اعطاء القانون اجازة التي امتدت - من واقعة محدودة - لتغطي طوال فترة حكم عبد الناصر، وفي جميع المجالات..

هل عندما يطبق القانون خطأ. وعندما ينتهك علنا ولا يطبق يكون الصواب. يحتمل أنه كان هناك خطا في وسيلة التنفيذ. وربما حدثت بعض التجاوزات والإهانات، وكان هناك مئات دفعوا أموالا للملاك دون وجه حق. اغتصابا من أجل الحصول على مسكن. ولكن رأس المال يملك دائمًا الصوت العالي، وأداة التعبير القوية، وهو لا ينسى ملايين الجنيهات التي استردها السكان منه.. لذلك ارتفع يندد بكلمة المحافظ حول اجازة القانون، ولكن الطرف الآخر الذي استرد أمواله.. ضعيف.. لم يعبر عن نفسه.. وآثر السكوت.. بل لعله نسي.

لقد استرد السكان ثلاثة ملايين نقدًا من الملاك في القاهرة وحدها.

ولا يدخل ضمن هذه الملايين ما دفعه الملاك للسكان مباشرة عن طريق التصالح الشخصي بعيدا عن المحافظة وهو في بعض التقديرات يفوق ذلك بكثير.

هذه الأموال التي اجتهد المواطنون أنفسهم في توفيرها من دخولهم المحدودة ليحصلوا على مسكن.. لم تكن ايجارا للسكن.. ولكنها دخلت جيوب الملاك مخالفة للقانون. وكانت السبب في أن يقال انه أعطى القانون إجازة.

وفي صحف تلك الأيام إشادة بجهود المحافظ الذي قيل أنه اعطى القانون اجازة. الرأي الوحيد الذي ارتفع ضد هذه المعركة واعتبرها مخالفة كان رأي الدكتور جمال العطيفي في جريدة الاهرام مقاله التالي. أما مقاله الأول فكان تأييدا للمحافظ.

وفي صحف تلك الأيام ايضا تصريحات لوزير الصناعة عن ظاهرة تدفق شراء السلع المعمرة «الثلاجات والغسالات والتليفزيونات» نتيجة لاسترداد عدد من المواطنين أموالهم التي دفعوها للملاك.
هل كان ذلك مخالفة للقانون.. واعطاء اجازة للقانون.. ربما، ولكن المحافظ يقول أنه لم يعط القانون أجازه بل لعله طبقه.

لقد كان كل ما حرص عليه محافظ القاهرة في ذلك الوقت أن يسترد كل مواطن ما دفعه دون أن ينحرف أي موظف في المحافظة، فيستغل رغبة السكان في استرداد أموالهم.. أو يصل إليه نفوذ الملاك فينحاز إليهم.

قضية المعتقلات:

ولا تكفى هذه الوقائع لتوضيح الحقائق حول قضية الديمقراطية فمازالت هذه القضية تحتاج إلى مزيد من الإيضاح.. وخاصة فيما يتعلق بالمعتقلات التي قيل أنها فتحت أبوابها لاستقبال كل شباب مصر ورجالها طوال سنوات عبد الناصر وأنها أغلقت بعد ذلك الى غير رجعة.. فماذا عن المعتقلات.
القطاع العام.. وتصنيع مصر ..

 ولا يملون أبدا من الهجوم على القطاع العام.. والمطالبة بتصفيته. ووراء هذه الحملة جريمتان للقطاع العام...

الأولى: أن الذي انشأه هو جمال عبد الناصر، وأن في تصفيته هدم لجزء هام، وحيوي، ونابض من تراث، وإنجاز الرجل الذي مازال يؤرقهم.

الثانية: أن القطاع العام، يشير إلى مرحلة التحول الاشتراكي ووجوده يذكر الناس بالاشتراكية، أو قد يدفع إليها، كما أنه يحجب بعض أنشطة للقطاع الخاص.. الذي يدعمونه ويعدونه ليكون الوريث.
وكان عبود باشا ومعه عدد من الرأسماليين قد ذهبوا إلى جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي مطالبين أن يشتروا المصالح الأجنبية التي وضعت تحت الحراسة أثناء العدوان.

وفكر عبد الناصر بأنه لا يمكن أن تكون احدى نتائج الحرب، وكانت قرارات التمصير تعني أن تعود هذه المنشآت للشعب، وهو أن الناس قد قاتلوا، أو استشهدوا، لكي يزداد ثراء الأغنياء.. ما عبر عنه جمال عبد الناصر في ميثاق العمل الوطني بأن «السؤال الذي طرح نفسه غداة النصر العظيم في السويس هو: لمن هذه الإرادة الحرة التي استخلصها الشعب المصري من قلب المعركة الرهيبة.؟
«
كان الرد التاريخي الذي لا رد غيره، هو أن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.

«إن الشعوب لا تستخلص إرادتها من قبضة الغاصب لكي تضعها في متاحف التاريخ، وإنما تستخلص الشعوب إرادتها وتدعمها بكل طاقاتها الوطنية لتجعل منها السلطة القادرة على تحقيق مطالبها».
وفي بداية الثورة، أنشأت مجلسين، أحدهما للإنتاج والثاني للخدمات، وكان الغرض من إنشائهما دفع عمليات الإنتاج، والنهوض بالخدمات لتعويض سنوات حرمان المواطنين، والقضاء على الثالوث الذي كان ينهش جسد المجتمع المصري، وهو: الفقر... والجهل... والمرض.

وكانت هذه القضايا الثلاث هي التي يدور حولها الصراع بين الأحزاب السياسية، ويجهد المصلحون أنفسهم في البحث عن حلول لها.. هذا إذا استثنينا القضية الأولى وهي: الاستعمار البريطاني الذي ظل محور مزايدات الأحزاب السياسية، وموضع مفاوضاتها، ولعبتها عشرات السنين، حتى جاءت الثورة، وخلصت البلاد منه باتفاقية الجلاء التي وجهت إليها سهام كثيرة.. انتهت كلها بتحقيق جلاء المستعمر عن مصر بعد احتلال دام أكثر من سبعين عاما.

مجلس الانتاج القومي:

صدر القانون رقم 213 لسنة 1952 بإنشاء «المجلس الدائم لتنمية الانتاج القومي» وهي هيئة مستقلة ملحقة برئاسة مجلس الوزراء، ورئيسه الأعلى هو رئيس الوزراء وأعطي المجلس بنص القانون سلطة عقد القروض مع المصارف والهيئات المحلية والأجنبية والدولية، ووفقا لما جاء في تقريره فقد وجه عناية ملحوظة إلى المشروعات الخاصة نعمل على توثيق الصلة بها، والتعاون معها، وشجعها على أداء دورها في الاقتصاد القومي عن طريق التوسع فيما هو قائم من جهة، والإنشاء الجديد من جهة أخرى وعمل على تذليل ما اعترضها من صعاب تشريعية أو مالية أو إدارية،.
وبدأت محاولات جذب رأس المال الاجنبي ليقوم بالاستثمار في مصر، وصدر القانون رقم 120 لسنة 1952، ينص على أن تعديل القانون القديم الذي صدر عام 1947، وكان ينص على عدم زيادة نسبة رأس المال الأجنبي في الشركات المساهمة عن 41%.

وكان التعديل الذي أدخلته الثورة لاجتذاب رأس المال الأجنبي للمساهمة في التنمية الإنتاجية، أن نص قانون على تخصيص نسبة 49% على الأقل من أسهم الشركات للمصريين، وأعطى رأس المال الأجنبي الحق في 51%. أى رفع نسبة مشاركة رأس المال الأجنبي حتي عن نسبة المصريين.
وصدر قانون آخر بإعفاء الخامات المستوردة من الرسوم الجمركية، على أن يعاد تصديرها في شكل منتجات، كما صدر قانون ثالث بإعفاء المواد الأولية من الرسوم الجمركية بأنواعها، الاستهلاك وعوائد البلدية.

وفي محاولة أخرى لجذب رأس المال الأجنبي إلى مصر صدر القانون رقم 156 لسنة 53. الذي حدد المال الاجنبي بأنه يشمل الأموال المحولة عن طريق البنوك والآلات، والمعدات الزراعية والصناعية ووسائل النقل والمواد الأولية، والحقوق المعنوية المملوكة لأجانب مقيمين في الخارج وأنه ينتفع بالقانون من كان مستثمرًا في مشروعات الصناعة والزراعة والتعدين والقوى المحركة والنقل والسياحة، وحدد القانون نسب تحويل الربح وحصة الخبراء الأجانب الذين يعملون في المشروع، ونص على إنشاء لجنة بوزارة المالية خاصة باستثمار المال الأجنبي وتمثل فيها الوزارات المعنية تقدم إليها طلبات المشروعات الاستثمارية وتكون مهمتها ليس الموافقة فقط بل وتتصل «بالمصالح المختلفة بشأن رؤوس الأموال الأجنبية وتيسير الحصول على التأشيرات واعتماد تحويل المكافآت، وغيرها.. وبعدها صدر قانون آخر يعطي مزيدًا من الضمانات لرأس المال الأجنبي وزيادة في تدليله، فقد نص على إعفائه من ضريبة الأرباح التجارية والضريبة على القيم المنقولة لمدة سبع سنوات، كما يعفى من أداء الضرائب شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم التي تنشا ويكون غرضها لازما للتنمية سواء عن طريق الصناعة أو التعدين أو القوى المحركة أو الفنادق أو استصلاح الأراضى البور وقال تقرير المجلس القومي للإنتاج أن هذا القانون. يعتبر من أهم التشريعات التي أصدرتها حكومة الثورة كدعامة من الدعامات التي تقوم عليها سياستها في دعم الاقتصاد القومي وتنميته».
وبعد كل هذا التدليل، والترغيب، كانت النتيجة مفاجأة: فقد كانت مساهمة رأس المال الأجنبي خلال أعوام 54، 55، 56 مذهلة.

لقد دخل مجالين اثنين فقط، هما صناعة الأحذية، والسياحة.

وخلال هذه السنوات الثلاث، استثمر 440 ألف جنيه فقط.

أي أنه بعد هذه القوانين التشجيعية الغريبة والمفرطة في الكرم لم يستثمر من رأس المال الأجنبي في مصر إلا اقل من نصف مليون جنيه.

مشروعات الخدمات:

كان مجلس الإنتاج قد استعان بأكبر بيوت الخبرة في العالم، العمل مسح اقتصادى شامل لمصر، بهدف وضع خطة تفصيلية للمشروعات الإنتاجية اللازمة للنهوض بالاقتصاد ووضع الخبراء خريطة الصناعة المصرية الجديدة، ووسائل الحصول على الطاقة من كهربة خزان أسوان، كما وضعوا مشروعات للنقل، واستغلال الثروات المعدنية، وبدأ تنفيذ خطة العمل الصناعي وأعلن عن الاكتتاب للمساهمة في الشركات الجديدة بدعم من الحكومة.. وهي المساهم الأول.

وقامت عدة مشروعات خدمية حيوية، مثل كهربة خط حلوان ووفقًا لخطط أخرى وضعها المجلس الدائم للخدمات العامة، حرمت الدولة القمار بقانون، وأصدرت القوانين العمالية، وقانون التعاون وأنشأت الثورة الوحدات المجمعة في القرى، لتكون مجمعًا لوحدات علاجية صحية وبيطرية وزراعية، وكانت تبني قبل الثورة، مدرسة كل عام فأنشأت الثورة مدرسة كل ثلاثة أيام، وأقيم مجلس أعلى لرعاية الفنون، وآخر للعلوم، وثالث للشباب، وأنشئت لجنة الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبدأت خطوات تقريب الفوارق بين الطبقات، فخفضت إيجارات المساكن أكثر من مرة وأقيمت المساكن الشعبية، وشق كورنيش النيل بطول القاهرة كلها، وأعيد توسيع كل ميادين العاصمة، ميدان رمسيس، السيدة زينب، سيدنا الحسين، والتحرير حيث أنشئ فيه مسجد عمر مكرم تكريما لذكرى المناضل عمر مكرم.. وغيرها.

السد العالى:

على أن من أهم ما أسفر عنه وجود مجلس الإنتاج القومي هو ما قررته لجنة من الخبراء العالميين في اجتماعها يوم 15 نوفمبر 1954.. من إنشاء أخطر وأهم مشروع في مصر بالقرن العشرين وكانت اللجنة مكونة من:

المستر كارل ترزاكى، والمسترا. س ستيل من الولايات المتحدة الأمريكية والمسيو أندرية كوين من فرنسا.. والهرماكس بروس من ألمانيا الغربية. والمستر لور نزج شرادب الأمريكي ثم انضم إليهم يوم 18 نوفمبر المسيوا. انسي الفرنسي وفي 26 نوفمبر انضم إليهم الهرمور الألماني.

كانت هذه لجنة الخبراء العالميين الذين درسوا مشروع السد العالي، وحددوا مكانه، واختاروا موقعه، وصمموا قطاعاته.

وكان يشاركهم العمل في جميع مراحله خبراء مصريون. ويلاحظ أن لجنة الخبراء التي درست مشروع السد العالى، وأقرته ليس فيها سوفيتي واحد.. فهي لجنة ضمت أكبر الخبراء في أمريكا والمانيا الغربية، وفرنسا.

وقد درست اللجنة تكاليف المشروع، وتأثيراته على الإنتاج الزراعي، والإنتاج الصناعي.. كل إيجابياته.. وكل آثاره الجانبية:

وفي يوم 4 ديسمبر 1954 قدم الخبراء تقريرًا موحدًا أجمعوا فيه على صلاحية مشروع السد العالى، وحددوا موقعه عند الكيلو 6.5 جنوب خزان أسوان، حيث اتضح أنه أصلح المواقع المختارة للسد.. «إن إنشاء السد العالي حسب التقييم الذي اعتمده الخبراء فيه أقصى الضمانات لسلامته مع وفائه بكافة المطالب التي أنشيء من أجلها، هكذا قالوا، قبل أن يقروا برنامجا للتنفيذ يستغرق عشر سنوات، وأوصوا بضرورة القيام فورًا بإعداد الرسومات التفصيلية والمواصفات لأجزاء المشروع المختلفة.
خطوات التمصير:

وقصة السد العالي بعد ذلك معروفة.. فعندما أوحت أمريكا إلى البنك الدولي ألا يسهم في تمويله، اتجهت مصر إلى الاعتماد على قوتها الذاتية لتمويل المشروع، وأممت قناة السويس وتعاقدت مع الاتحاد السوفيتي للقيام بالأعمال الإنشائية فيه، أما حفر الأنفاق، وإبعاد الأتربة، فقد كان عمل شركة المقاولون العرب، وقامت شركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح بإعداد الخرسانات اللازمة، وكانت أعمالها أكبر جهد مصري في بناء المشروع.

وهناك مثل آخر مصنع الحديد والصلب الذي تعاقدت عليه الحكومة مع شركة ديماج الألمانية عام 1954، ليبدأ العمل فيه فورًا، وقد ساهمت الحكومة بمليون جنيه ومجلس الإنتاج بمليون جنيه، وطرحت بقية أسهمه للاكتتاب العام.

وكانت الدراسات قد أثبتت وجود خام الحديد في مصر، وبدأت عام 1932 فكرة إقامة صناعة الحديد والصلب وظلت الفكرة موضع مزايدات ومناورات الأحزاب لمدة أربع سنوات حتى شكلت لجنة لبحث المشروع عام 1936، ولكنها لم تتقدم خطوة واحدة.

وعندما جاءت الثورة بعثت المشروع الذي ظل مطلبًا لمدة أكثر من عشرين عامًا، وبعد التعاقد مع الشركة الألمانية بذلت بعض الدول جهودًا لتحول بين الشركة وبين اتمام التعاقد حتى لا تتجه مصر إلى التصنيع الثقيل.

وأقامت الثورة المصنع، وفي يوليو 1959 افتتحه جمال عبد الناصر قائلًا: «إن إقامة صناعة الحديد والصلب في بلدنا كانت دائمًا حلمًا نعتقد أنه بعيد المنال، واليوم حققنا هذا الحلم».

وإلى جانب هذا أيضًا، ساهمت الحكومة في عدد من المشروعات الصناعية الجديدة في مصر مثل صناعة عربات السكة الحديد، والمواسير، والبوتاجاز، والراديو، والبطاريات والكاوتش، والورق، كما توسعت في كل الصناعات القائمة، وبدأت في إقامة الصناعات الحربية.

وفي عام 1956 أنشئ في مصر لأول مرة وزارة جديدة هي: وزارة الصناعة.

وكانت هذه الخطوات هي البداية الحقيقية لتمصير الاقتصاد بأن تقام صناعة مصرية تعتمد على رأس المال المحلی..

ثم جاءت إجراءات التمصير، التي بدأت بتمصير شركة جريشام للتأمين عام 1954.

وعندما جمدت انجلترا الأرصدة المصرية لديها، وامتنعت البنوك عن تمويل محصول القطن أو الإنتاج الصناعي.. صدر أمر عسكري في 2 نوفمبر 1956 بتعيين حراس على مؤسسات الدولتين المعتديتين وأموالهما في مصر.. وهكذا بدأت الحراسة بهذه المؤسسات التي بلغت 1000 مؤسسة بينها البنوك وشركات التأمين والشركات البترولية، ثم أنشئت المؤسسة الاقتصادية بعد ذلك.

وفي 14 يناير 1957 صدر قانون ينص على ألا يقوم بأعمال البنوك وشركات التأمين وفروعها إلا شركات يملك المصريون جميع أسهمها، ويكون المسئولون فيها مصريين. على أن ينفذ القانون خلال خمس سنوات.

وكان قد اتضح من الدراسات أن البنوك الأجنبية في مصر لا يزيد رأسمالها عن خمسة ملايين ونصف. ومع ذلك فهي تتحكم في مائة مليون جنيه من جملة الودائع في البنوك التجارية وهي حوالى 195 مليون جنيه. وأن البنوك الإنجليزية والفرنسية لا يزيد رأسمالها المستثمر في مصر عن مليون ونصف مليون جنيه بينما ودائع المصريين فيها تقترب من مائة مليون جنيه.

وكان في مصر 135 شركة تأمين. منها 123 شركة أجنبية ومعظمها فرع الشركات كبيرة في الخارج.. وكانت أصولها في مصر 20 مليون جنيه من مجموع أصول شركات التأمين وهي 38 مليونا وفي عام 1957 تم تمصيرها، كما تم تمصير 9 بنوك هي بنوك باركليز، والكريدى ليونيه - والعقارى المصرى - والبنك الشرقي - يونيون - العثماني - الرهونات - الأراضي - الخصم الأهلى بباريس - و16 شركة تأمين و40 شركة كانت تتحكم في شرايين الاقتصاد، وكلها كانت أجنبية.

وفي نفس التاريخ - 14 يناير 1957 - صدر قانونان الأول بقصر مزاولة أعمال الوكالات التجارية على المصريين، والثاني بإنشاء مجلس التخطيط الأعلى، ولجنة التخطيط القومي، وبعدهما صدر قرار جمهورى بوجوب استخدام اللغة العربية في جميع العقود والسجلات والمحاضر وفرض غرامة على من يخالف القرار.

وكانت الثورة بعد قيامها بأربعة شهور قد أصدرت مرسومها بتعطيل بورصة عقود القطن بالإسكندرية، على أن تتولى الحكومة شراء الأقطان وبيعها لحسابها، ترد للمنتجين ما قد تحصل عليه من أرباح، بعد أن وصل التلاعب في سوق القطن إلى حد المقامرة وتكدس مخزون القطن، وزاد العجز في الميزان التجاري وأعيد افتتاح البورصة بعد عامين بعد ضمان حد أدني للأسعار وعدد من الشروط والشواهد تضمن عدم التلاعب والمضاربة على المحصول الرئيسي في ذلك الوقت.

والذين يتحدثون عن العجز في الميزان التجاري الذي أحدثته الثورة، بعد أن كان فيها فائضًا يغالطون، معتمدين، على أن أحدًا لن ينقب وراء أكاذيبهم فيعود إلى الخمسينات، وقبل قيام الثورة.

والحقيقة أن العجز في الميزان التجاري كان عام 1951 39 مليون بالضبط، وأنه بلغ عام 1952 حوالى 73 مليون جنيه بسبب انتكاس سوق القطن.

وفي عام 1953 بلغ العجز 37 مليون جنيه بسبب الحد من استيراد الكماليات وفتح أسواق للمنتجات المصرية، وانخفض العجز عام 1954 إلي 20 مليون جنيه وهكذا. التأميم.. لماذا؟

كانت القضية الأساسية أمام عبد الناصر بناء الصناعة، ولم يأت رأس المال الأجنبي، كما ذكرنا، وعجز القطاع الخاص عن الوفاء بمتطلبات التنمية في الوقت الذي يتزايد فيه السكان بمعدل 2.5% سنويًا، ويخرج إلى الحياة طفلين كل دقيقة يمثلون أفواهًا جديدة تحتاج إلى الغذاء، وتحتاج إلى الخدمات لسنوات طويلة قبل أن تصبح قادرة على الإنتاج.

وواجهت مصر مأزق ضرورة التنمية.. وبعد تدليل رأس المال الأجنبي، وبعد أن أوقدت مصر أصابعها العشرة شموعًا للقطاعين الخاص والأجنبي لكي يشتركا في التنمية الجادة صناعية أو زراعية كانت المحصلة النهائية لا شيء يذكر.

ومن هنا رأي عبد الناصر «أن العمل من أجل زيادة قاعدة الثروة الوطنية لا يمكن أن يترك لعفوية رأس المال المغامر المستغل ونزعاته، كذلك فإن إعادة توزيع فائض العمل الوطني على أساس من العدل لا يمكن أن يتم بالتطوع القائم على حسن النية مهما صدقت».

وبدأت عمليات التأميم، وتوسيع قاعدة القطاع العام.. ورأی عبد الناصر «أن التأميم ليس عقوبة لرأس المال الخاص حين ينحرف فنقل أدوات الإنتاج من الملكية الفردية إلى الملكية العامة أكبر من معنى العقوبة وأهم» «وأن الأهمية الكبرى المعلقة على دور القطاع العام لا يمكن أن تلغي وجود القطاع الخاص، فالقطاع الخاص له دوره الفعال في خطة التنمية من أجل التقدم، ولابد له من الحماية التي تكفل له أداء دوره، وهو مطالب بأن يجدد نفسه، وبأن يشق طريقًا من الجهد الخلاق لا يعتمد كما كان في الماضي على الاستغلال الطفيلي».

وكان رأي عبد الناصر: «أن سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج، ولا تلغي الملكية الخاصة ولا تمس حق الإرث الشرعي المترتب عليها وإنما يمكن الوصول إليها بطريقين:
أولهما خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية.

ثانيهما: وجود قطاع خاص يشارك في التنمية في إطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال على أن تكون رقابة الشعب شاملة القطاعين معا، مسيطرة عليهما معا».

وكان من رأي عبد الناصر أيضا أن الهياكل الرئيسية لعملية الإنتاج كالسكك الحديدية والطرق والمطارات وغيرها من المرافق تكون في إطار الملكية العامة للشعب، والصناعات الثقيلة والتعدينية والمتوسطة تكون في غالبيتها للقطاع العام ويجب أن يحتفظ القطاع العام بدور في الصناعات الخفيفة».
أي أن الباب في الصناعة مفتوح أمام القطاع الخاص، والاستيراد كله للقطاع العام، الذي يتحمل أيضا ثلاثة أرباع الصادرات، ويكون له ربع التجارة الداخلية بينما للقطاع الخاص ثلاثة ارباعها.
والأرض الزراعية والمباني والعقارات تظل في إطار الملكية الخاصة. وبنظرة بسيطة وموضوعية نجد أن عبد الناصر قد وسع قاعدة الملكية عندما زاد عدد الذين يملكون وأن العمود الفقري للاقتصاد... وهو الزراعة... كان في يد الأفراد أي القطاع الخاص، وقد زاد عدد الملاك بعد توزيع الأرض الزراعية على المعدمين.

فقد كان للقطاع الخاص إذن دور كبير في مجالات كثيرة ومتعددة.. وإذا لم نغفل الملكية الخاصة في مجال الزراعة فإن القطاع الخاص يكون له نصيب الأسد في السيطرة على أدوات الإنتاج اذ تقترب نسبة ما يملكه الى 80% عموما وتحمل إلى 25% في الصناعة وحدها.

القطاع العام:

القطاع العام الآن هو محصلة ثلاثة روافد.

ـ الممتلكات الأجنبية التي مصرت، وكان معظمها في مجال التجارة وقليل منها مشروعات صناعية.

ـ الممتلكات التي أممت، ومن أبرزها شركات بنك مصر، وشركات الأقطان والتأمين وبعض الصناعات.

ـ المشروعات الجديدة التي أنشأتها الثورة، ومعظمها صناعي، وقليل منها توسعات في مجالات التجارة واستصلاح الأراضي.

هذا هو القطاع العام، الذي حمل العبء الاقتصادى والاجتماعي ابتداء من الستينات.. وظل مصدر دعم الاقتصاد في توفير المنتجات بالأسواق بالسعر الذي تحدده الحكومة، وتوفير فرص العمالة لأجيال جديدة من العمال ومن الخريجين، كما ظل موردًا أساسيا لميزانية الدولة، وفضلا عن ذلك فقد كان للعاملين فيه نصيب من الربح، ومن المشاركة في إدارته. وكانت لمصر تجربة سابقة في الملكية العامة لأدوات الإنتاج، بما فيها الأرض الزراعية خلال القرن الماضي، في عهد محمد على، عندما كانت كل وحدات الإنتاج مملوكة للدولة.. ولكن هذه التجربة سرعان ما تفككت بفعل الضغوط الاستعمارية التي لم تكن تريد لمصر أن تقوى اقتصاديا.

وعادت وحدات الإنتاج إلى الملكية الخاصة، وزحف رأس المال الأجنبي ليستثمر في مجال الارض الزراعية، والعقارات، والمضاربات.

واضطرت سمر فيما بعد محمد على إلى أن تغلق المصانع أو تعيد وحدات الإنتاج إلى الملكية الخاصة، وزحف رأس المال وبنوك الرهونات، وغيرها من البنوك التي ظلت تنهب اقتصاد مصر، حتى جاء عبد الناصر ليحدث تغيرًا جذريًا بالتمصير، والتصنيع والتأميم.

ولقد بلغت القيمة السوقية للشركات المؤممة عام 1961 مبلغ 258 مليون جنيه بينما بلغ تقدير رأس المال الثابت لوحدات القطاع العام الصناعية فقط عام 1972 مبلغ 2050 مليون جنيه.
وابتداء من يوليو عام 1960 وضعت أول خطة للتنمية في مصر، بدأ تنفيذها من ميزانية ذلك العام، بعد أن أخذت الدولة بأسلوب التخطيط الشامل، بهدف مضاعفة الدخل القومي خلال عشر سنوات وحققت الخطة الخمسية الأولى أعلى معدلات.

وفي السنة الأولى للخطة أحجم رأس المال الخاص عن الإسهام في عملية التنمية، وكانت قرارات التأميم بهدف الإسراع في التنمية وتنفيذ الخطة التي اعتمدت أساسا على التمويل الذاتي، وعلى المدخرات المحلية.. وكانت القروض في صورة مصانع تسدد ثمنها من حصيلة الإنتاج.. ولم يتوقف القطاع العام عن النمو.

وقد اعتمد عليه الاقتصاد المصرى طوال سنوات الحرب... وظل مصدر دعمه في توفير المنتجات، وفرص العمالة، والموارد للميزانية.. رغم الحصار الذي فرض عليه طوال السبعينيات والاتجاه إلى هدمه، أو اشراك رأس المال الأجنبي فيه.. وعندما رحل جمال عبد الناصر، كانت مصر تحارب وتبني، كانت مجموعة ديون مصر المدنية والعسكرية أربعة آلاف مليون دولار معظمها للاتحاد السوفيتي.
القطاع العام التجارى:

.. ويقولون أيضا أنه إذا كان القطاع العام لابد أن يبقى، فإنه لا يمكن أن يستمر في مجال التجارة.. لأنه ليس هناك دولة تتاجر في فناجين القهوة على حد تعبير بعضهم.

وكل دول العالم شرقه وغربه فيها منشآت حكومية توفر مستلزمات المواطن العادي من جميع السلع، بأسعار تبعدها عن الاستغلال.

وهذا المطلب يبطل حجتهم التي تطالب بتصفية الشركات الخاسرة وحدها.

فإن كل شركات التجارة تحقق أرباحا خيالية.. بلغ بعضها في عام واحد 45 مليون جنيه رغم الالتزام بتحديد الأسعار. وتحمل الأعباء الاجتماعية.

فهم يريدون إذن تصفية القطاع العام التجارية بحيث يشتريه التجار.. أو يعود إلى شيكوريل، داود عدس، وصيدناوى وغيرهم مع أن حجم هذا القطاع ليس كبيرًا لا في العدد، ولا في رأس المال بالنسبة لحجم تجارة القطاع الخاص الذي يسيطر على معظم تجارة مصر الجملة والقطاعي.

ويكفي القطاع العام التجاري، أنه نقل المحلات التجارية الكبيرة إلى كل مدن مصر وإلى كل الأحياء الشعبية، تعرض كل السلع الاستهلاكية والمعمرة، بنفس السعر الذي تباع به في القاهرة.

ولأن التجار يريدون شراء هذه المحلات، أو التخلص منها حتي يخلو لهم السوق لينهشوا في جسد المستهلك ولأن هذه الحملة واضح أنها مخططة، فقد بدأت مبكرًا جدًا، ولما فشلت عادت من جديد بعد اثني عشر عامًا.

ففي فبراير 1974 كتب على أمين في جريدة الأهرام يهاجم القطاع العام في مجال التجارة لأن البائعة في أحد المحالات المعروفة احضرت طفلها، وأجلسته فوق «قصرية» ليقضي حاجته فوق المنضدة التي توضع عليها المعروضات.

وقد تحدته نقابة العاملين بالتجارة أن ينشر اسم متجر القطاع العام الذي وقعت فيه هذه الحادثة، ولكنه وهو رئيس تحرير الأهرام رفض نشر الرد.. وحاولت النقابة أن تنشر ردها كإعلان مدفوع الأجر، ولكنه رفض أيضا، بل وهاجم النقابة دون أن يستجيب للتحدي، ويفصح عن اسم محل القطاع العام الذي وقعت فيه هذه القصة الملفقة. وكان السبب بسيطًا، هو أن الواقعة لم تحدث، ولكنها كانت بداية المخطط يستهدف تصفية القطاع العام في مجال التجارة، وتسليمها كلها للقطاع الخاص.. ولكن إزاء رد الفعل العنيف سكتت الحملة.. وعادت تتجدد بعد كل هذه السنوات، مما يكشف الغرض من ورائها.

من الذي زيف تاريخ مصر..؟؟

ومن الافتراء على جمال عبد الناصر ما يدعونه من أنه أعتبر أن تاريخ مصر يبدأ بثورة يوليو وألغي كل تاريخ مصر قبل الثورة.

وقد انساق البعض وراء هذا الادعاء دون أن يقدموا دليلًا واحدًا يثبت صحته ظلوا يرددونه.. ويرددونه حتى صدقوا أنفسهم!

وفي المؤتمر الوطني الذي ناقش الميثاق، حينما انطلق البعض تمجيدًا في جمال عبد الناصر، قال لهم

أن مصر أبقى.. وكانت مصر قبل عبد الناصر وسوف تظل بعده.

وكان المؤتمر يناقش ميثاق العمل الوطني الذي قدمه عبد الناصر من عشرة أبواب بينها ثلاثة ابواب تتحدث عن تاريخ مصر قبل الثورة.. وفي الباب الثالث الذي خصص لعرض جذور النضال المصرى تحدث عبد الناصر عن تاريخ مصر منذ العصر الفرعوني، وعصور السيطرة الرومانية والاغريقية، وفي إطار الفتح الإسلامي «قبل أن ينزل ظلام الغزو العثماني على المنطقة بأسرها كان شعب مصر قد تحمل ببسالة منقطعة النظير مسئوليات حاسمة لصالح المنطقة بأسرها.

« ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر مع مطلع القرن التاسع عشر هي التي منعت اليقظة المصرية كما يقول المؤرخون، فإن الحملة حين جاءت إلى مصر وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة وتتعدى جدرانه إلى الحياة في مصر كلها، كما وجدت أن الشعب المصري يرفض الاستعمار العثماني المقنع

باسم الحلف.

«وجاءت الحملة الفرنسية بزاد جديد لطاقة الشعب الثورية في مصر ومعها لمحات من الحضارات

والحضارة الفرعونية والعربية في مقدمتها».

وتحدث عبد الناصر عن محمد علي مؤسس الدولة الحديثة في مصر.. ثم هجوم المرابين والسماسرة على مصر، وتركيز الاحتكارات المالية الدولية لحفر قناة السويس، وتحويل مصر إلى حقل لزراعة القطن لتدور الصناعة البريطانية: ورصد كيف كافح الشعب المصري، وكيف كانت ثورة عرابي هي رد الفعل الثوري على نكسة اليقظة المصرية، في مواجهة الاحتلال القادم بأساطيله».

ولم يفت عبد الناصر أن يتحدث في الميثاق عن محمد عبده وقاسم أمين.. وسعد زغلول، ورأی أن ثورة 1919 قد فشلت لأن القيادات الثورية أغفلت إغفالًا تامًا مطالب التغيير الاجتماعي، ولأن هذه القيادات لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف من خلال التاريخ أنه ليس هناك صدام بين الوطنية المصرية والقومية العربية، فلم تنتبه إلى خطورة وعد بلفور الذي أنشأ إسرائيل لتكون عاملًا يمزق امتداد الأرض العربية، أما السبب الثالث الذي رأى من أجله عبد الناصر أن ثورة 1919 قد فشلت فهو أنها لم تستطع أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب، حيث أعطى الاستعمار من الاستقلال اسمه وسلب مضمونه كما تحدث عن معاهدة 1936، والفترة بين توقيع المعاهدة وقيام الثورة».
الذي يتحدث في الميثاق عن جذور النضال المصري ويعرض رؤيته لهذا النضال لا يمكن أن يكون أهمل تاريخ مصر أو الادعاء بأن هذا التاريخ بدأ به.

وكان الميثاق هو دليل العمل الوطني الذي درسته كل قيادات التنظيم السياسي، أي أنهم جميعًا درسوا هذه الفترات من خلال رؤية الميثاق واختلفوا واتفقوا.

وعندما كان ميثاق العمل الوطني يناقش، لم نسمع عن واحد من الذين ينقدون الثورة اليوم، وقف ليضع رؤية مختلفة لتاريخ الشعب المصري، وكانت المناقشات واسعة داخل المؤتمر الذي يضم الأساتذة والعلماء والمفكرين، وأيضا على صفحات كل الصحف.

ولقد اختلفت مجلة روز اليوسف مع رؤية جمال عبد الناصر الثورة ۱۹۱۹وقامت بحملة صحفية على امتداد ثلاثة أشهر لحارك فيها العديد من الكتاب والمؤرخين والسياسيين، وكان عنوان هذه الحملة «لا.. لم تفشل ثورة ۱۹۱۹، فقد كانت الأجزاء التاريخية من الميثاق هي رؤية جمال عبد الناصر.. التي يلزم مناقشتها بصرف النظر عن أوجه الاتفاق والاختلاف.. كما كان الميثاق كله مطروحا للمناقشة، فلم يكن هناك حظر على مناقشته والاختلاف معه.

رد اعتبار الزعماء:

ولقد كان في مقدمة أعمال الثورة تقدير الزعماء الوطنيين وإعادة تصحيح تاريخ مصر الذى زيف لحساب أسرة محمد على، خاصة على أقلام المؤرخين الأجانب الذين تولوا مسئولية كتابة تاريخ الأسرة الملكية، والذي زيف أيضا من خلال بعض الأساتذة في جامعة فؤاد الأول بالجيزة، وجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.

وكان في مقدمة أعمال الثورة إعادة تصحيح تاريخ الثورة العربية، الذي شوه لحساب الأسرة المالكة، فأفرجت عن الكتب التي صودرت لأنها لا تهاجم الثورة العرابية، ولا تصفها بأنها هوجة.
وكان هذا أول رد اعتبار التاريخ أحمد عرابي المفترى عليه والذي ظلم طويلا.

ثم قررت في 11 فبراير 1953 - ذكري مصطفى كامل - نقل رفاته من مقبرة الإمام الشافعي إلى المقبرة التي أقيمت له، وتم ذلك في احتفال حكومي وشعبي كبير.

وبعدها بشهور في 15 نوفمبر من نفس العام تقرر أن يقام احتفال رسمي وشعبي أيضا لنقل رفات محمد فريد من مقبرته بجوار السيدة نفيسة إلى حيث يرقد جثمانه إلى جوار زميل جهاده مصطفى كامل..
بعدها أيضا تم نقل جثمان سعد زغلول إلى مقبرته التي أقيمت وظلت عشر سنوات خاوية، لأن وزارات ما قبل الثورة رفضت، ولم يستطع الوفد وهو في الحكم أن ينقلها إلى مقبرته..

وكانت هذه لفتة رسمية لتكريم زعماء مصر الوطنيين.. وعندما بدأت محاكمات الثورة التي رأسها عبد اللطيف البغدادى، وقدم إليها عدد من السياسيين، وفتح المجال واسعا لنشر ما يدور فيها من أقوال المتهمين والشهود والدفاع في جلسات علنية.. كان أحد أهداف تقديم بعض السياسيين إليها نشر كثير من وقائع تاريخ السنوات السابقة القريبة على الثورة من وجهات نظر مختلفة، لذلك فإنه رغم دور الأحكام بالسجن على السياسيين لمدد - طويلة إلا أنه تم الإفراج عنهم، لأن الهدف لم يكن سوى إتاحة الفرصة للناس لتعرف ماذا كان يدور في كواليس السياسية في مصر. ومن أجل ذلك قدم لمحكمة الثورة فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج، وسليمان غنام، وكريم ثابت، وأحمد النقيب طبيب الملك. وزينب الوكيل وعباس حليم، ومحمود وحسين أبو الفتح كما حوكم عثمان محرم وابراهيم عبد الهادي وغيره..
وعندما تنكر كل رجال الوفد لمصطفى النحاس في سنواته الأخيرة، وقدم طلبًا لبنك مصر للحصول على سلفة. اتصل رئيس البنك أحمد فؤاد بجمال عبد النار الذي أمر بأن يصرف له كل ما يريده وفورًا، وعلى نفقة الدولة، وأن توفر له حياة كريمة.

وقد انتقل النحاس باشا إلى رحمة الله، وجمال عبد الناصر في اليمن، وتقرر أن تكون جنازته رسمية وشعبية، وأن تشارك فيها الحكومة تقديرًا لجهود الرجل التي مازالت موضع خلاف.
وكان الوفاء لدور الرجل هو الذي أوحي بأن تشارك الحكومة في جنازة مصطفى النحاس.. ولكن البعض رأوا لأسباب خاصة أن يحولوا الجنازة التي شارك فيها الجيش، وسار فيها مندوب الرئيس أرادوا تحويلها إلى مظاهرة سياسية ضد النظام، الأمر الذي أدى الى القبض على عدد منهم..

نشر تاريخ مصر:

كان تاريخ مصر يدرس في الجامعات وفي المدارس.. وكان رأى الثورة واضحًا في وصم الأحزاب بالفساد.. وفي وصم النظام الملكي وفي تناول الاستعمار البريطاني الذي ظل جاثمًا على صدر مصر حتى جاءت الثورة، وحررت البلاد منه.

وكانت كتب التاريخ يعدها أساتذة متخصصون ولم يكتبها جمال عبد الناصر، ولا أحد من رجال الثورة.. ولم نسمع أن أستاذًا بالجماعة قد أملي عليه ما يقوله لطلبة أقسام التاريخ أو أن يزيف في كتبه، فقد درس طلاب الجامعات مناهج التاريخ وفقا لرؤية أساتذتهم.

ومع انتشار الجامعات في كل المحافظات، انتشرت أقسام التاريخ بكليات الآداب تدرس للطلاب تاريخ مصر الحديث والقديم. ومع الكثافة الهائلة في أعداد طلاب الدراسات العليا والحاصلين على شهادات الدكتوراه والماجستير. قدمت إلى الجامعات مئات من الرسائل الجامعية في تاريخ مصر الحديث، وتطور الحركات الوطنية، والعمالية والسياسية والاقتصادية، ودراسات علمية أخرى عن الأحزاب المصرية ودورها في الحياة السياسية، وعن البرلمان المصري، وديمقراطية ما قبل الثورة والاحتلال البريطاني، ودور القصر الملكي، وغيرها من القضايا التاريخية الحديثة كانت موضع المناقشة والدراسة داخل مدرجات الجامعة وأغلبها قامت بطبعه ونشره دور النشر الحكومية.. ولم يُصادر كتاب واحد في التاريخ، ولم يُمنع كاتب واحد من تسجيل رؤيته أو مذكراته، بل أن مصطفى أمين كتب سلسلة من المقالات حول فشل ثورة 1919، لأنه كان قريبًا من سعد زغلول ويعرف أسرار الثورة، كما أنه هو الذي هاجم النظام الحزبي قبل الثورة، كما هاجم النظام الملكي، وهو الذي كرس جهده للهجوم على حزب الوفد، ووصفه بالانحراف، وكان يركز هجومه بالذات على فؤاد سراج الدين.. وإذا كان ذلك تزييفا للتاريخ، فإن من قام به هم الذين يتهمون عبد الناصر بأنه ريف التاريخ، وإذا كان التزييف قد وقع. فلماذا سكت العالمون، وأساتذة التاريخ عن تصحيح الوقائع التي يعرفون كذبها.. ولم نسمع أن واحدا قد كتب مقالًا ومُنع، أو أصدر كتابًا وصودر.

كتب الرافعي للتلاميذ:

أعادت الدولة طبع كتب المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أكثر من مرة، وهي تروي تاريخ مصر في العصر الحديث، ولم يحدث أي تغيير فيها.. بل أنه عاش حتي أصدر جزءًا عن «ثورة يوليو في سبع سنوات»، قال في مقدمته أنه سبق أن كتب تاريخ الثورات التي قام بها الشعب المصري... وأجدني أكثر غبطة وابتهاجا لثورة يوليو لأنها جاءت تتويجًا للثورات الماضية وهي في مجال المقارنة والموازنة تعد أنجب الثورات في تاريخ مصر الحديث فقد حققت الأهداف القومية أكثر مما حققته الثورة السابقة جاهدت واستطاعت أن تصل إلى نتائج كنا ننادي بها ونجاهد في سبيلها طول السنين، فجلاء الاحتلال الأجنبي ورفض الأحلاف العسكرية الاستعمارية وتقوية الجيش وتسليحه، وتأميم قناة السويس، وبعث القومية العربية، كل هذه الأهداف التي كنا نعمل لها قد تحققت في عهد الثورة، كما سارت الثورة قدمًا في سبيل تصنيع البلاد وبذل الجهود المتواصلة لبعث النهضة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وإلى جانب النهضة السياسية. فإذا قورنت ثورة يوليو بالثورات السابقة عليها كان لها الأفضلية عليها وإذا قورنت بثورات قامت في بلدان أخرى نجدها أيضا تفضلها في المنهاج والتتابع فكثير من الثورات الأخرى أصابها الانتكاس والإخفاق. واقترنت بالفظائع والتخريب وسفك الدماء» لم تمنع كتب عبد الرحمن الرافعي عن تاريخ مصر القومي قبل الثورة، وطبعتها الدولة على نفقتها، وبعضه قررته على المدارس الإعدادية والثانوية.. ولأول مرة تتقرر كتب التاريخ للقراءة على تلاميذ المدارس في سلسلة اسمها تاريخ مصر القومى.

دراسة ثورة 1919:

ولقد حظيت ثورة 1919 باهتمام خاص من الدولة.. فكانت ضمن المنهج الدراسي لتنظيم الشباب في الاتحاد الاشتراكي «منظمة الشباب، وأيضا ضمن الدراسات التي توجه لكوادر العمل السياسي في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية.

وصدرت عشرات الكتب عن ثورة 1919، كما خصصت سلسلة للكتب التاريخية أصدرتها وزارة الثقافة، وأنشأت الحكومة دارًا الوثائق، وجمعية للدراسات التاريخية. وظهرت مدرسة تقدمية ووطنية في كتابة التاريخ وتحرر التاريخ المصري من عقدة الخواجة فهم الذين كتبوه، وهم الذين استدعوا من الخارج ليسجلوا أمجاد اسماعيل المفترى عليه، وجميع حكام أسرة محمد على.

وفي عام 1969 كان قد مضى نصف قرن على ثورة 1919، وقررت الحكومة أن تحتفل بهذه المناسبة، وأقيمت الندوات، ونشرت الكتب والدراسات، وشاركت صحف مصر ومجلاتها في هذا الاحتفال، ونشر الأهرام وحده مسلسلا من 35 حلقة يومية عن ثورة 1919.

وأنشأت جريدة الأهرام.. المقربة من جمال عبد الناصر مركز للدراسات التاريخية لمصر المعاصرة وكان أول عمل قام به المركز هو إعداد دراسات عن ثورة 1919 تم نشرها بعد ذلك في مجلد ضخم، صدر في عهد عبد الناصر. وقال محمد حسنين هيكل في مقدمة الكتاب أن الأهرام كان «يشعر أن تاريخ مصر الحديث قد تعرض لأزمة سببها سوء الفهم أحيانا، وسوء القصد أحيانا أخرى وتمثلت هذه الأزمة في عدة ظواهر بينها:

1 ـ أن وثائق كثيرة من تاريخ مصر الحديث ضاعت أو هي معرضة للضياع بسبب العجز عن تمثيل رؤية تاريخية سليمة تستطيع تتبع مسار التطور المتصل والحى لشعب كان له في التاريخ الانساني كله دور مرموق.

2 ـ أن تاريخ مصر الحديث تعرض لحملة من سياط التعبيرات المطلقة والسهلة تدمغ الماضي اجمالا، وتظن أنها بذلك ترضى الحاضر ناسية أن الحاضر مهما كان اختلافه عن الماضي، ولد في أحشائه وبدأ فيه... وبالتالي، فإنه ليس هناك ذلك الانغلاق الكامل بين عهد بائن، وعهد جديد قام على أطلاله.

3 ـ ومن نتيجة ذلك أن ساد تصور سطحی بدأ معه - خطأ وكأن تاريخ مصر الحديث لم يبدأ الا بعد 23 يوليو 1952 وكان ذلك إهدارا غير مقبول، كما أنه غير صحيح لصفحات هامة من تاريخ مصر

الحديث جرت وقائعها قبل سنة 1952».

دفاع عن تاريخ مصر:

وليس ذلك دفاعًا عن عبد الناصر، ولكنه دفاع عن تاريخ مصر، الذين يقولون أن - تاريخ مصر بدأ مع الثورة ينالون من شرف مصر وكفاح شعبها، ونضاله، ويتجاهلون - إنجازات الشعب ونضاله ومواقفه على امتداد آلاف السنين..

ولم تقل الثورة أبدا أنها أتت من فراغ، وما كان يمكن أن تأتي من فراغ، ولكنها قالت إنها جاءت نتيجة للأوضاع الفاسدة الظالمة في المجتمع.. ووصفت الحياة السياسية قبل الثورة بالفساد، ولكنها لم تمنع من دراستها، ولم يحل بين المؤرخين، وبين إظهار وجهة نظرهم معها أو ضدها، كما أنها وسعت مجال الدراسات التاريخية.. والذين يتحدثون اليوم عن تزييف التاريخ سواء كانوا من الكتاب أو الأساتذة لم يقولوا لنا ماذا كان موقفهم عندما كانوا يرون هذا التزييف، وكيف طاوعهم ضميرهم أن يسكتوا طوال هذه السنوات، ليستيقظوا فجأة على الجريمة التي ظلت ترتكب أمام عيونهم ثمانية عشر عامًا وهم صامتون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق