عبد الناصر والحملة الظالمة .. « 2 »
عبدالله امام .
الديمقراطية المفترى عليها ..
ولا ينقطع الكلام عن قضية الديمقراطية، والحريات.
والمعتقلات أبدًا.. ويذهب البعض الى أن الذي كان يقول نكتة يلقي القبض عليه..
وأذكر انني سألت صلاح نصر عن ذلك. فتحداني أن أعلن في كل الصحف ليتقدم شخص واحد
اعتقل بسبب نكتة.
بل ان النكات كانت تجمع. كمؤشرات في دراسة الرأی العام،
وتوضع أمام جمال عبد الناصر، كثيرا ما كان يقرأها للوزراء في اجتماعاتهم، على أساس
أنها نبض الشارع المصري.
ولقد راجت في مصر بعد هزيمة 1967 عشرات النكات. ووقف
جمال عبد الناصر في خطاب علني ليصف هذه الحملة من النكت بأنها حملة لنقد النفس،
ويطلب من المواطنين في رجاء ان يكفوا عن هذه الحملة.
وقال لي صلاح نصر في حديث مسجل أن أعداء الوطن في الداخل
والخارج استطاعوا أن يبثوا كثيرا من الشائعات، وحاولوا غرسها في أذهان الناس على
أنها حقيقة.. وانتهزوا فرصة الغموض الذي يكتنف بأعمال الأمن بصفة عامة، وعدم معرفة
الشعب بطبيعة الأجهزة واختصاصاتها، فقالوا مثلا ان المخابرات كانت تضع أجهزة تسجيل
في مكاتب الموظفين، وهو ما كان يردده راديو إسرائيل، ولو كانت المخابرات تقوم بذلك
لاحتاجت إلى أفراد يكونون جيشًا كبيرًا، ولاحتاجت إلى معدات لا تكفي عشرات أضعاف
ميزانية المخابرات لتغطيتها، بل لو جندت كل مصرى ليقوم بهذه العملية ما استطاع..
أن تجهيز غرفة واحدة للتصنت على من فيها. ولتكن مساحتها 4 متر في 4 متر يحتاج الى
معدات وأفراد يتكلفون ألافا من الجنيهات، فهل يوجه مثل هذا العمل إلى المواطنين أم
إلى عشرات قضايا التجسس التي اكتشفتها المخابرات في عهدي، والتي بلغ عدد العملاء
في أحدها الى ثلاثين عميلا مثل قضية اليونانيين الذين كانوا يتجسسون لحساب إسرائيل.
اما مراقبة التليفونات، فكانت تتم بعد دراسة لنشاط
التآمر والتجسس، وإذا وضع تليفون شخص تحت المراقبة فيدرج في دفتر خاص، وتسجل
الساعة التي وضع فيها والساعة التي يرفع فيها وكل الأشرطة التي لا علاقة لها
بالقضية تمسح فورًا.
وليس هناك مواطن استخدمت هذه الوسيلة ضده لسلوك شخصى أو
عام بعيدًا عن تآمر أو تخابر.
وجميع الأجهزة تستخدم هذا
الأسلوب في مصر والعالم... حتى بوليس الآداب.. حتى رجال مكافحة التهريب.
ولم تكن العملية أبدا
مراقبة التليفونات، ولكنها كانت مراقبة لكل نشاط العميل، وكانت توضع الخطط
المتكاملة لذلك بواسطة أفراد متخصصين من رجال مكافحة التجسس.
وبعد ذلك هل يمكن أن تدلني على شخص ألقي القبض عليه لأنه
قال نكته.. أو لأنه تحدث في التليفون بما لا يرضى النظام.. او حتى نتيجة ذلك..
عمليات المراقبة كانت تتم وفقًا لاعتبارات الأمن وتقدم نتيجتها إلى المحكمة إذا
ثبت التجسس، أما فيما عدا ذلك فهى إشاعات يروجها العدو الإسرائيلي، والتقطها البعض
في الداخل وظلوا يرددونها، لأنها جاءت على هواهم، وترضى ما في نفوسهم».
ومع كل ذلك، فقد أعلن عبد
الناصر بنفسه سقوط دولة المخابرات، وحاكم رجالها على تجاوزاتهم.
الإفراج عن المعتقلين:
على أن القضية الأساسية هي المعتقلات.
ولقد بلغت تهمة الاعتقالات عام 1954 عقب مؤامرة الاخوان
المسلمين، ولقد رأينا أن عدد الذين كانوا في المعتقلات يوم وفاة عبد الناصر 450
مواطنا منهم 150 طلبت المخابرات الحربية اعتقالهم لشبهة اتصالهم بإسرائيل.
وفي 30 مايو 1956 وقبل تأميم القناة، وما تبعه من عدوان
ثلاثي ذهب المرحوم كامل الشناوي رئيس تحرير جريدة الجمهورية ليجرى حوارا مع جمال
عبد الناصر. وقال له لقد قررتم رفع الرقابة عن الصحف نهائيًا وبصورة كاملة فهل
سيتبع ذلك اتخاذ قرار بتخفيض قيود الأحكام العرفية التي فرضت على البلاد أثناء
فترة الانتقال؟
فقال له عبد الناصر: ان الأحكام العرفية استمرار لقرار
آخر برلمان في 26 يناير 1952 مع فرق انها كانت تستعمل ضد الوطنيين، أما بعد الثورة
فقد استخدمت ضد أعداء الوطن، وسأعلن وجهة النظر في هذا الخصوص في نهاية الأسبوع.
وقال له كامل الشناوي: والمعتقلون..؟
فقال: لقد قررنا الافراج عنهم.
كامل الشناوى: جميعًا..؟
عبد الناصر: جميعًا، وبلا استثناء.. ولكن هل تعرف عدد
المعتقلين؟
كامل الشناوي: ليس عندي معلومات أكيدة عن عددهم، وكل ما أعلم أن كثيرين ممن اعتقلوا أو صدر عليهم احكام قضائية، ونشرت قوائم بأسمائهم قد تم الإفراج عنهم في صمت، ولست أعرف ما هي الحكمة في كتمان هذه الأنباء.
جمال عبد الناصر: سأذيع خلال أيام قليلة بيانًا عن من
اعتقلناهم، ومن أفرجنا عنهم، وسيفاجأ الرأي العام حين يعلم أن حملات التضليل قد
ضربت الرقم الحقيقي للمعتقلين في عشرة او عشرين، وسيعلم الرأي العام أيضا أننا لم
نؤذ معتقلًا في رزقه، ولم نهمل شأنه، أو شأن أحد ممن يعولهم، وأن الاعتقال كان إجراء
تحفظيًا لسلامة الدولة وحماية مصلحتها العليا، وأن الاعتقال بالنسبة إلى كثير من
المعتقلين لم يكن عقوبة، بل كان علاجًا ووقاية.
كامل الشناوي: هل أستطيع أن أعرف عددهم..؟
جمال عبد الناصر: أن عدد المعتقلين الآن 571 سيفرج عنهم
جميعا قبل 22 يونيو.
كامل الشناوي: إن المشتغلين بالصحافة تصل إليهم رسائل من
المعتقلين تتضمن شكوى أو طلبات وقد تلقيت أخيرا كلمة من أحد المعتقلين قال فيها
إنه حارب الثورة اعتقادا منه بأنها عقدت اتفاق تنظيم الجلاء لتنضم الى المعسكر
الغربي، وتجر البلاد الى الدمار ولكن الأيام أثبتت أن قائد ثورة مصر هو الذي قاد
الثورة على الأحلاف العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وأنه حرر بلاده حقيقة لا قولًا
من الفساد، والإقطاع، والملكية والموت، أی من الأحلاف العسكرية، ويقول هذا المعتقل
انني لا أبغي بهذا الكلام أن التمس طريقا للإفراج عني ولكني أردت أن أعبر عن شعورى..
اقرأ هذا الخطاب، ومزقه ولا تبح لاحد بإسمى..
ولقد تلقيت خطابًا من زميل محكوم عليه في احدى القضايا بثماني سنوات، ومن هذا الكتاب يحلل الزميل سياسة مصر التي وضعها الرئيس جمال عبد الناصر، وكيف أنها أصبحت عاملا جوهريا، في إقرار السلام العالمي، ويقول بالحرف الواحد: أن التهاون في تأييد جمال عبد الناصر في مواقفه التاريخية الباهرة جريمة وطنية.
وقال جمال عبد الناصر: إن
هؤلاء المعتقلين كانوا ضحية التغرير، وحملات الافتراء التي شنها علينا خصوم
البلاد، وأعوان الاستعمار الذين فقدوا آمالهم بقيام الثورة فأرادوا أن يستردوا هذه
الآمال، ولو كان فيها قضاء على آمال الأمة، واستغلوا عواطف الشباب، وحماستهم في
تشويه أعمالنا، وإلقاء ظلال الشك والريبة على تصرفاتنا، وعلى الاندفاع في مؤامرات
لو نجحت لدمرت البلاد وردتها على أعقابها مئات السنين إلى الوراء، ولقد أثبتت
الحوادث أننا كنا صادقين، وأننا نصنع لبلادنا شيئًا.
وقال كامل الشناوي: بل
صنعتم مجدًا.
فقاطعه جمال عبد الناصر قائلًا: إن ما عرفته الثورة من
أعمال يحتمل ألا يبقى ما لم يكن هناك مجتمع سليم يحمي هذه الأعمال، ويحرص عليها
ويدافع عنها، ولا يقف منها موقف المتفرج، بل يشارك فيها، ويضيف إليها، وهو ما
نحاول اليوم أن نضع خطوطه الرئيسية؟
المعتقلون.. ولماذا؟
بعدها بيومين كان جمال عبد الناصر يفي بوعده، ويعلن عن
عدد المعتقلين، وقصة اعتقالهم كاملة في المؤتمر، فقال: إن أكبر عدد للمعتقلين طوال
هذه الأيام بلغ في 24 أكتوبر سنة 1955 عدد 942، بعد اكتشاف القنابل، ومخازن
الأسلحة والمنظمات السرية، وكلكم تعلمون الفترة التي مررنا بها.
«وقبل هذا الوقت، وهذه الحوادث كان أكبر عدد للمعتقلين في
أكتوبر 1954 وكان عددهم في عامى 52، 53 حوالى 237 شخصا فقط، ولما قامت الحوادث
المؤسفة باسم الدين قام بعض الناس ممن خدعوا، وغرر بهم، ودفعوا دفعا لمقاومة هذه
الثورة، ورغم هذا كله فإن عدد المعتقلين وصل الى 2943.
«وفي سنتي 1948 و1949، لم تكن البلد تحكم احكاما
استثنائية، وصل عدد المعتقلين إلى خمسة آلاف شخص، وأنتم تعلمون أن هذه الأرقام مع
فارق واحد. هو أن المعتقلين في الماضي كانوا الذين يعملون من أجل الوطن والحرية،
وتحقيق الآمال، والمعتقلين الذين اعتقلوا في الثورة كانوا وبالا على الشعب وآماله،
وأهدافه، وكانوا يمثلون خطرًا على مستقبل هذا الوطن وكيانه الذي كان يسعى إلى
التحرر من الاستعمار وأعوانه».
أسباب الاعتقال:
وشرح عبد الناصر الأسباب التي دفعت للاعتقال «فإن علينا
أن نفكر في الأسباب والدوافع قبل الحكم على قرار ما حتى نستطيع أن نحكم عليه حكمًا
سليمًا، وقال عبد الناصر في شرحه لهذه الأسباب: «أنه في السنوات الماضية أقيمت
محاكم عسكرية، وحكمت على الأشخاص الذين كانوا يقاومون هذه الثورة، والذين كنا
نعتبر أى نجاح لهم يعد انتكاسا لهذه الثورة. وأن أى نجاح قد يثبت الاستعمار
وأعوانه، المحاكم العسكرية حكمت على 254 فردًا بأحكام متفاوتة، وعلى ما أعتقد
أحكاما لا يتجاوز أقصاها ثماني سنوات.
« كما أقيمت محاكم الشعب التي حاكمت الجهاز السری والتنظيمات المسلحة
التي كانت موجودة في مصر والفصائل التي كانت موجودة في شبرا، وفي مصر القديمة، وفي
امبابة، وفي كل مكان التنظيم المسلح، والتنظيم العسكري، ولم يكن المقصود بذلك جمال
عبد الناصر، أبدا، كان المقصود به أنتم، كان المقصود به حريتكم، وهذه المحاكم التي
حاكمت الجهاز السري الذي كنا نعتبر وجوده خطرًا على الشعب، وكنا نقول دائمًا، كما
قلنا في الدستور أننا أمة قمنا ضد السيطرة المعتدية من الخارج والسيطرة المستغلة
المستبدة في الداخل، لا يمكن أن نعيش في بلد تشعر فيه بالحرية، والأمن والطمأنينة،
إذا كانت البنادق موجهة إلى صدورنا.. والإرهاب مسلط على قلوبنا وعقولنا.
«وبعد أن انتهت معركة الجهاز السري، ولم تكن خسائر هذه
المعركة كبيرة، حكمت محاكم الشعب على 867 عضوا في الجهاز السري البالغ عددهم حوالى
أربعة آلاف أو خمسة آلاف موجودين في شعب، وفي خلايا مسلحة. يمثلون فصائل وجماعات،
ومناطق جيش حر في داخل البلاد. في المحاكم العسكرية حكم على 254 وفي محاكم الشعب
حكم على867. ولو قارنا هذه الثورة بثورات العالم أجمع، نجد أنه ما من ثورة قامت في
العالم واستطاعت أن تثبت أقدامها. وتقاوم الرجعية والانتهازية، والسيطرة،
والتحكم.. إلا ببحر من الدماء.
« محكمة الثورة كانت درسًا سمعتم ما كان فيها، وعرفتهم ماذا كان يجري في
الماضي وراء الستار، وعرفتم كيف كانت تحكم مصر. ومن أين كانت تحكم.. كان يحكمها
الخدم والشماشرجية.
«هذا هو الدرس الذي أخذناه من محكمة الثورة، أما من حكم
عليهم من محكمة الثورة فقد أفرج عنهم جميعا تقريبًا، ولم يكن الغرض انتقامًا، ولم
يكن الغرض حقدًا، ولم يكن هناك أي عامل شخصی».
مفهوم الحرية في العالم:
وفي نفس الخطاب، وفي سنة 1956، وفي حملة عبد الناصر
للتعبئة للاستفتاء على أول دستور بعد الثورة، وعلى رئاسة الجمهورية لأول مرة بعد
انتهاء الفترة الانتقالية شرح عبد الناصر مفهوم الحرية السياسية كما يراه - وكان
ذلك قبل الميثاق. فقال اننا: ظللنا سنين لم تكن في مصر حرية سياسية ولا
ديمقراطية.. وكانت تتمتع بها طبقة معينة، إن كل ما وصلنا إليه اليوم وكل هدفنا من
نظام الحكم الجديد هو أن يمنع استغلال الرجعية، واستغلال الانتهازية لهذه الحرية
السياسية حتى لا تستخدم ضدنا وضد مصالحنا.
« الحرية السياسية لا يمكن أن نبيحها ونمكن منها أعوان الاستعمار ، اذن الحرية السياسية.. كل بلد تطبقها بما يلائم مصلحتها، وبما يلائم ظروفها، وبما يلائم الطبيعة.
« الحرية السياسية إذا قيدت فيجب ان تقيد لصالح المجتمع.. لا توجد ابدا
حرية سياسية كاملة.
اجراءات متعددة:
ورأي عبد الناصر ومصر على أبواب مرحلة جديدة من مراحل
التطور الثورى، وحتى تكون هناك مشاركة من غالبية جماهير الشعب في ممارسة حقهم
الديمقراطي ان هناك عددا من الاجراءات لابد من اتخاذها ضمانا لتكون الانتخابات
نزيهة، ومحايدة:
ـ الفرصة مفتوحة لجميع المواطنين يرشحوا أنفسهم، والدوائر مفتوحة، وحتى لا يقول أحد أننا سوف نتدخل فأننا سنحذف من قائمة المرشحين - أو نعترض على الرجعيين، والانتهازيين وأعوان الاستعمار ، وبعد ذلك فكل واحد في هذا البلد يمكنه ترشيح نفسه.
ـ كان التصويت اختياريا، وأصبح اجباريا، ويجب على كل واحد
أن يتوجه للإدلاء بصوته، وأن ينتخب من يمثله لأنه سيؤثر في مستقبله وتاريخه.
ـ في الماضي كانت هناك مبالغ تدفع، وكلنا نعرف
هذا، واليوم أصبح سن الناخب 18 عاما، ومن يريد أن يدفع نقودًا فسيجد أمامه عددا
كبيرا من الناخبين فلا يستطيع أن يدفع لهم، فضلا عن أن ذلك سيزيد من قاعدة
المشاركة، بإتاحة الفرصة لأوسع الجماهير لممارسة حقها السياسي في اختيار من تراه
جديرا بتمثيلها.
ـ أصبح الانتخاب سريا. فقد كان في الماضي يمثل
كل مرشح في لجنة الانتخابات وكيل ينوب عنه، ويجلس في انتظار ما سيقوله الناخب،
فإذا لم يذكر اسمه كان حسابه عسيرًا يؤثر في رزقه.. لأن الانتخابات كانت تجري
شفويا - نظرا لنسبة الأمية الكبيرة - كان المواطن يدخل اللجنة الانتخابية ليدلي
بصوته لشخص، لا يطيق رؤيته ولكنه كان يفعل ذلك لتأمين رزقه. واليوم أصبح كل شخص
حرا لأنه سيكون سريا، وكل مرشح سيكون له لون، ومن يعرف القراءة يقرأ الاسم، ومن لا
يعرفها سيري الالوان ويختار من بينها اللون الخاص بالمرشح الذي يرضي نفسه ويرضى
ضميره في حجرة خاصة بعيدا عن أعضاء اللجنة.
ـ منحت المرأة حق الانتخابات لتمارس حقها لأول
مرة - حتى لا يكون نصف الأمة مشلولا، عاجزًا عن التعبير، والمشاركة في صنع مستقبل
الأمة.
وكانت هذه خطوات - الى جانب نشر التعليم واجهزة الاعلام
وتوسيع قاعدة الثقافة - نحو الديمقراطية، في وقت مبكر قبل القوانين الاشتراكية،
وقبل الميثاق..
ثم اتخذت خطوات أخرى لتعميق الديمقراطية المفترى عليها،
والتي يتمسحون بها منها إلغاء البدل وعضوية مجالس للعاملين وغيرها النقدي الذي
يدفعه المرشح، ثم نسبة الى 50٪ للعمل والعاملين.
ولا تصبح القضية هنا هي
الدفاع الموضوعي عن الديمقراطية، ونقد سلبيات التجربة بل الرغبة في تشويه كل شيء،
وتدمير كل ما تم، والبعد عن الحقيقة في تناول كل ما يخص جمال عبد الناصر، كل
القرارات الجائرة تلصق به وحده، حتى لو صدرت في ظل قيادة جماعية، أو في ظل سنوات
الثورة الأولى، وقبل أن يكون جمال عبد الناصر مسئولا.. فإذا فرغنا من قضية
الديمقراطية التي لا بد من دراستها بهدوء بسلبياتها وإيجابياتها لا تكون هذه هي
النهاية..
ان الحملة على جمال عبد الناصر تستمر.. وتتخذ مسارات
أخرى.
الانغلاق.. والتأميم.. والحراسات..
عثمان أحمد عثمان نجم السياسة، والاقتصاد، والمقاولات
طوال السبعينات، هو قبل ذلك كله واحد من أبطال ما سمى بالانفتاح الاقتصادي في مصر.
وقد جاءت تسمية سياسة الانفتاح الاقتصادي، في مقابل ما
سمي بسياسة الانغلاق طوال فترة عبد الناصر.
وكان عثمان أحمد عثمان بكل
هذه الصفات واحدا من الذين قادوا الحملة على جمال عبد الناصر، التي بدأت همسا في
منزل السادات بالجيزة عقب سبتمبر 1970، ولم تظهر للناس الا في، منتصف السبعينات.
وقد أسفر عثمان عن موقفه
من جمال عبد الناصر في كتاب من ألف صفحة ملأه بالتجريح في جمال عبد الناصر، وعمره، وحتى ذمته لم يرحمها.
وكان كتاب عثمان مستفزا لكل الناس، فأن يطعن عثمان أحمد عثمان بالذات في ذمة أي إنسان فهو أمر غير مقبول، وأن يكون هذا الإنسان الذي يطعنه عثمان هو جمال عبد الناصر فإن الأمر يصبح نكته وأضحوكة وإزاء غضبة الجماهير، ذهب عثمان أحمد عثمان إلى مجلس الشعب متراجعًا نادمًا، قائلًا أنه لم يكن يقصد جمال عبد الناصر، ووفقا لما جاء في ما ضبطة مجلس الشعب فقد قال النص «إنه شخصيا مدين للرئيس جمال عبد الناصر في أمور كثيرة» فقد أعطاه - حق السفر للخارج دون الحصول على قرار جمهورى كما سمح له باستمرار نشاطه في قطاع المقاولات في الدول العربية ولم يتوقف هذا النشاط إلا عندما أرادت مراكز القوى أن تجنده لحسابها. كما اختص الرئيس عبد الناصر شركة المقاولون العرب، وان يكون لها نظام متميز في الإدارة ولا يتدخل في شئونها أحد، الأمر الذي ساعد على نجاح هذه المؤسسة الضخمة.. شرفه الرئيس عبد الناصر بأن أسند الى شركة "المقاولون العرب" بناء السد العالي ووقف بجانبه ضد الخبراء السوفيت.. كما وضح أن ولاءه لثورة 1952 لم يكن بالخطب أو الشعارات وإنما بالأعمال، وقال إنه عرض التنازل عن 50٪ من ملكية شركته للدولة قبل التأميم، وأسهم في تطهير قناة السويس بعد عدوان 1956 واستمر في خدمة قطاع التعمير والبناء بعد تأميم شركته سنة 1961. كما قرر أمام اللجنة أن الرئيس عبد الناصر له إنجازات ضخمة لا ينكرها إلا الجاحدون وأنه غير مسئول عن الذين يفسرون كتابه بأنه طعن في ذمة عبد الناصر».
انغلاق عصر عبد الناصر:
ظلت حملة الانفتاحيين مستمرة حتى اليوم.. رغم أنهم
أغرقوا البلاد في الديون، بعمليات النهب المنظم، والطفيلي، وأعادوا الى المجتمع
عصر أصحاب الملايين، بل وأصحاب البلايين أيضا، حتى بلغت ديون مصر أكثر من 40
مليارا من الدولارات للولايات المتحدة الأمريكية، ودول الغرب.
وكان الانفتاح الاقتصادي،
هو بداية الردة على سياسة التنمية الاقتصادية المخططة، وهي السياسة التي حققت أول
خطة للتنمية في مصر أشادت الأمم المتحدة بمعدلاتها، وقد استعانت فيها مصر بكل دول
العالم من المعسكرين الاشتراكي أو الرأسمالي حيث أقامت ألمانيا الغربية قاعدة
صناعة الحديد والصلب، واليابان صناعة الالكترونات.. وفرنسا كهربة خزان أسوان،
وإيطاليا صناعة السيارات.. ونقبت الولايات المتحدة على البترول، وأقامت سويسرا
مصانع الدواء، وأقيمت مصانع النسيج بالتعاون مع اليابان والهند.. ومصانع كيما
والسماد بالتعاون مع ألمانيا الغربية، وبالنسبة للكتلة الاشتراكية فقد ساهم
السوفيت في توسيع مصانع الحديد والصلب، وأقاموا مجمع الألمونيوم وشاركوا في بناء
السد العالي ومصنع المحروقات والكيماويات في أبي زعبل. وتشيكوفاكيا مصانع الخزف
والصيني.. وأقامت شركات العالم الفنادق المختلفة..
والقائمة طويلة، تقول ان مصر شهدت أعظم انفتاح انتاجى
على العالم حيث شارك الشرق والغرب في بناء الصناعة المصرية، كانت القضية الأساسية
هي استيراد التكنولوجيا الحديثة في ذلك الوقت من الشرق والغرب، وفقا لأفضل الشروط
بالنسبة لمصر.
واستطاعت مصر أن تبني قاعدة من الصناعات الثقيلة..
الخفيفة، التي مازالت تحمل العبء الأساسي في الاقتصاد المصرى حتى اليوم، ورغم مرور
سنوات عديدة، فإنه لم يزيد عليها صناعات تذكر كما أنه لم تجر مشروعات جادة
لتطويرها وتحديثها..
ولقد تحققت التنمية في مصر معتمدة على التمويل الذاتي..
والتسهيلات في الحصول على مصانع تسدد ثمنها من عائدها..
وكان للقطاع الخاص المنتج دور في التنمية، وفي التصدير،
وكان هذا الدور موضع التقدير، في الوقت الذي اتخذت الدولة فيه موقفا من القطاع
الخاص الطفيلي أو المستغل..
ولكن القضية الأهم، أن مصر في ذلك الوقت كانت تبني
الاشتراكية فتقيم الصناعة، وتستصلح أرضا جديدة، وتوزع أراضي الإقطاعيين تحقيقا
لشعار العدل الاجتماعي.. وإذابة الفوارق بين الطبقات، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل..
وعندما تغير الاتجاه، في محاولة لبناء مجتمع رأسمالى،
كان لابد للنظام الجديد ان يخلق طبقة يعتمد عليها، وتكون دعامته، وأداته في إحداث
الانقلاب الذي يريده.
وكان اللورد كرومر يقول أننا نستطيع أن نترك مصر، ونحن
واثقون أن أقدامنا ثابته فيها بعد أن خلقنا طبقة من كبار ملاك الأراضي الزراعية
يمكن أن يكونوا رصيدا لنا، وهذا هو بالضبط ما فكر فيه الذين كانوا وراء الانقلاب
وقادته.. فخلقوا طبقة الانفتاحيين، من المستوردين، وسماسرة الأراضي، وتجار السوق
السوداء، وكثر عدد أصحاب الملايين بطريقة يصعب حصرها.. وهذا وحده دليل إدانة فإن
عدم معرفتهم يدل على أن دخولهم طفيلية وغير مشروعة ولا بارزة، كما أنه ليست لهم
مشروعات انتاجية يمكن أن تحسب لهم، ويعرفوا بها.
واستطاع الانفتاحيون أن يكونوا وراء الحملات على سنوات
الثورة، بل أن نفوذهم امتد إلى كثير من المواقع المؤثرة في كافة الأجهزة وكان
صوتهم عاليًا، فهم أصحاب المال والنفوذ، وهم الذين أغرقوا البلاد في سلع لا
يستهلكها عامة الشعب.. ربما لم يسمعوا من قبل عن اسمها، وظهر في الأسواق ما أطلق
عليه السلع الاستفزازية، وبلغ من جشع بعضهم أن استورد أطعمة الكلاب والحيوانات
ليأكلها الناس، واستورد الجبن المسمم لتلاميذ المدارس، والدواجن الفاسدة، واللحوم
التالفة.. وحققوا ثروات هم مستعدون لأن ينفقوا معظمها للقضاء على كل ما يذكر الناس
بجمال عبد الناصر.
ومن الملفت أن حملاتهم، مثل الأطعمة التي استوردوها،
اتضح أنها فاسدة، ولم تستطع أن تؤثر في المواطن العادي، الذي عاش مرحلة البناء،
والتنمية، وهو مشغول بقضايا هامة، وبحلم كبير يسعى لتحقيقه، فقده خلال سنوات
الانفتاح كما فقد الانتماء، وأصبح يحس بالغربة، ويعيش شعور الحرمان، ومرارة
الحاجة، ودفع الضيق الناس إلى أن تشهد مصر لأول مرة في حياتها ظاهرة هجرة جماعية
للعمل في الخارج، امتد من المدن الى الريف، ومن الموظف للفلاح، وكان الفلاح المصري منذ
قدماء المصريين «قرارى» ۰۰ مستقرًا في أرضه، ولكنه خلال انفتاح السبعينات، هاجر
ليس فقط إلى المدينة، ولكنه ترك بلاده كلها انفتاح السبعينات، هاجر إلى الخارج
وأقفرت بعض القرى من الرجال، ولم يصبح بها سوى النساء والأطفال والمسنين، وحملت
المرأة عبء زراعة الأرض، وتربية الأولاد، بل وأيضا تشييع الجنازات.. وانهار
الانتاج الزراعي، كما انهار الانتاج الصناعي تحت ضغط المنافسة الأجنبية المدعومة
والمرسومة، وتكدست البضائع المصرية في المخازن، وهرع الناس بعوامل إغراءات مختلفة
الى البضائع المستوردة من كل أنحاء العالم.. وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية
التي وضع في يدها كل مقومات الشعب المصرى السياسية والاقتصادية..
من يملك الشركات:
والحقيقة أن هذه الطبقة الجديدة، هي من بقايا الطبقة
القديمة التي ضربت بالإضافة إلى عناصر جديدة، استطاعت أن تثري بواسطة النفوذ، أو
الجاه أو الصلات، أو المال لكي تبني لنفسها موقعا على الخريطة الجديدة للمجتمع
الجديد الذي لم تعرف بعد هويته.. فالمجتمع الرأسمالي له أصوله، والقواعد والنظم
التي تحكمه، وكذلك المجتمع الاشتراكی، أما مجتمع السبعينات الذي راجت خلاله الحملة
على عبد الناصر فإنه يصعب تحديد هويته.. إذ أنه مجتمع بلا هوية.
وكانت الثورة بعد قيامها بشهور، قد أصدرت القانون رقم
424 بإعفاء المواد الأولية اللازمة للصناعة من كافة الرسوم.. وفي عام 1952 أصدرت
قانونا بإعفاء الشركات التي تقوم بمشروعات تهدف الى زيادة الاستثمارات الصناعية
والتجارية من الضريبة لمدة سبع سنوات.. وأصدرت قانونا آخر بإنشاء مناطق حرة في
الموانئ، كما أصدرت قانونا بتشجيع استثمار رأس المال الأجنبي في مصر.
ولكن هذه القوانين لم تحقق
نتيجة مؤثرة في التنمية، وبعد حرب 1956 فرضت الحراسة على الشركات الانجليزية
والفرنسية.. وفي يوليو 1961 صدرت أول قوانين التأميم التي هدفت إلى تصفية امتيازات
الطبقة.. ونقل الملكية للشعب حتى يصبح الشعب هو المالك الحقيقي لثروته التي كان
يملكها قبل ذلك خليط غريب غير متناسق من الناس فمثلا..
ـ شركة صناعة الطحن بالإسكندرية: كان يمتلكها خمسة أشخاص
من عائلة الشامي، ثم ادمون تكامولى وثلاثة من أشقائه، والسيدة ايدموريستكوين،
وروبير بولار، جيوزبيش فريدی كوين وثلاثة من أشقائه سوزان اروس، سوزان موستاكى -
موريس باروخ كوهين، ريمون ريمون ايريرا.
ـ شركة الغربية العقارية: أصحابها اميل عدس، موريس اميل عدس لويز دى جوبر فيل، رينيه رباط، فرناندس رباط، نيلوب ديموسفين ميخائيلرس، انسناس زينود وراكى، اندريا جوانو، صوفی جوانى.. جورج هيوستن ميخائيلوس، حرم واصف بطرس غالى.. مارى درماركا - وخمسة من عائلتها..
ـ شركة النيل العامة لأتوبيس الغربية: يوسف ساويرس واثنين
من أشقائه، صديق خير الله، زكى جرجس، حسن ثابت، اسكندر سعيد.
ـ شركة حلاجة الأقطان: هييا ثياق مشتراكی واثنين من أشقائه جان سلفاجر - ايصانوبيل – هانج جارينان - اسبيروادی مولتا.
ـ شركة كاسترو اخوان: سلفاتوری كاسترو - هيلين كاسترو.
ـ مصنع اسكندرية للحرير الطبيعي والصناعي: لويجي. في.
بولفارا.
ـ شركة مصانع الغزال المصري: ستة من عائلة مباهى.
ـ شركة نيللوس للتخزين نقولا بال - نقولا سمعان - سطنطين
ميشيل - سيمون منلاس، ارجين بالى.
ـ شركة البطاطين المصرية: ونيس فلتس، قسيس موسى سليمان
عياد فلتس، فخري قريا توص جرجس - عيد سمعان - ألفريد عياد، كمال شوقي عياد.
ـ شركة الواردات والصادرات السودانية: يوسف حبيب توتونجى
و16 من عائلته.
ـ شركة التجارة والتبادل للشرق الاوسط: سليم نخلة - مارسيل
نخلة - ألبرت تاج - شارلوت ويصا.
ـ شركة المصابغ: يوسف ديمتراكی ثابت وخمسة من عائلته.
ـ شركة النيل العامة للمقاولات: يملكها كلها رشاد يوسف.
كما يملك هو وأولاده ثلاثة أرباع أسهم الشركة العامة للمقاولات والطرق، وكذلك شركة
سيارات الشمس.
ـ شركة الأهرام لسبك المعادن: يملكها عبد القادر الحراكى
وأولاده. كما يملكون محلات جانينيو وشركة شيفيلد وتملك عائلة عرفة معظم أسهم محلات
هانو. ومعهم ريمون هانو، ومارسيل هانو، وعدد من المصريين.
ـ شركة النصر للمواسير: مريم يمسيس، مارسيل موصيری، شارل
مولار - جورج جوشا - وعدد من الشركات.
ـ شركة الدلتا التجارية: جوزيف نيقولا رباط وسبعة من
عائلته بالإضافة الى عدد من المصريين.
ـ شركة الشوربجي: عدد من عائلة الشورربجى بالإضافة الى
رویی حمص - هند حفار - مومي دوس - إيزاك حاييم.
ـ شركة باسيلى للأخشاب: عائلة باسيلى باشا..
ـ مصانع قها: روفائيل خوري حداد، ريمون يورغاكر عباس -
هنرى اسعد نقولا - لندا جبران حداد، أوجيم نقولا طنوس، جان جورج خوری، اليس جبران
خوري.
ـ شركة حليج الوجه القبلى: جان أغرمان نجعان - ناجی
انكالیه - وجيه لورنس قلدس.
ـ الشركة المصرية لتصدير الأقطان: أرمان نجمان - جيرار
هومان - حان كنترافورس - جورج باندلیدس.
ـ شركة تجارة الأقطان: بباوى وعدد من الأشخاص. وشركة تجارة
الأقطان: نيقولا د. وراكبس وأقاربه.
ـ شركة الحلاجة الأهلية: ماريا بور كهارت وأقاربها، جاستو
مونتان - أندريه شيدل، جيدو فيرت وغيرهم من الأجانب.
ـ شركة الأقطان والأعمال المالية: فرناندكوهين، ومحمد أحمد
فرغلى وأقاربه، وجاكلين أبو عافية.
وكان هؤلاء هم الذين
يسيطرون على سوق القطن، المحصول الزراعي الأول في مصر حتى ذلك الوقت كما أنه كان
مفتاح الاقتصاد المصري.
هذه نماذج فقط من الذين أمموا في مصر - أو الذين سُلبت
أموالهم -، خلال عام 1961 إلى جانب شيكوريل وداود عدس وسليم وسمعان وصيدناوي
وغيرهم ويلاحظ أن معظمهم من الأجانب، وأنه بهذه القرارات نقلت الثورة إلى مصر..
الى الشعب المصرى لأول مرة منذ بدأت عمليات النزح الاستعماري خلال القرن التاسع
عشر. وكان هذا من أبرز ما حققته قوانين التأميم.
من يملك الأرض؟
فإذا ما انتقلت الى مجال الملكية الزراعية، فإن مجموع ما
استولى عليه من أرض زراعية بموجب قوانين الإصلاح الزراعي كلها، 755 ألف فدان من
أراضي الإقطاعيين ثم توزيعها على نحو 317 ألف أسرة وعندما نرجع إلى القائمة الأولى
لأسماء أصحاب الأراضي المستولى عليها في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر 1952 بعد
قيام الثورة بشهور، فإننا سنجد غير أسماء أفراد العائلة الملكية واقاربهم، وعائلة
سراج الدين والبدراوي، عشرة أفراد من عائلة خياط، وخمسة من عائلة ويصا، وثلاثة من
عائلة بشرى شارل، وعلى الكسان، ومحمد على شعراوي، وثلاثة من عائلته، وزينب
الاتربي، وعدلي مالح لملوم وغيرهم..
هذه أيضا عينات من الذين كانوا يملكون الثروة في مصر
كانت لهم أراض زراعية ومصانع، وشركات ومشروعات، أما الآن فإن الذين يملكون الثروة
مجهولون يصعب أن نحددهم.
ولقد كان هؤلاء وأولادهم
هم رصيد الانفتاح الاقتصادي، والذين يقودون أو يمولون الحملة على عبد الناصر
باعتبارهم ضحايا الثورة، بعد أن استرد الشعب ثرواتهم التي عادت إلى بعضهم أخيرًا
لأسباب مختلفة.
والحراسات أيضًا:
ويقولون إن عبد الناصر أغرق مصر في الحراسات.. وأن هذه
الحراسات كانت توضع لأسباب شخصية، وأحيانًا بالتليفون.
ويجدون من ينشر لهم، ومن يروج هذا الهراء.. ولو كان
صحيحًا فإن عليهم أن ينشروا اسم واحد فقط من الذين فرضت عليهم الحراسة بالتليفون،
أو بأوامر شفوية.. ولو كان هذا صحيحًا أيضًا لنشروا قائمة بأسماء هؤلاء الذين
وضعوا تحت الحراسة لأسباب شخصية.
لقد ثبت من خلال التحقيقات المضنية التي قامت بها
النيابة العامة، ثم المدعي العام الاشتراكي - أثناء قضية مايو 1971 - أنه ليست
هناك قضية حراسة واحدة تمت لأسباب شخصية، أو أنها فرضت دون مذكرة مكتوبة موضحة
الأسباب..
وكان السادات قد طلب إدراج قضية الحراسات ضمن قائمة
الاتهامات الموجهة إلى مجموعة مايو.
وكان يجرى البحث بجدية عن
اتهامات توجه إليهم، ومن مصلحة السادات الشخصية تشويه سمعتهم وتلويثهم، وإدانتهم،
ولذلك فقد تم جرد لجميع قضايا الحراسة..
وبعد البحث والتنقيب عثر على ملف واحد، ليس به قرار
مكتوب بفرض الحراسة.. واستدعى أمين هويدي الوزير الذي كان مسئولا عن الدراسة
للتحقيق في منتصف الليل، لأن الأمر عاجل.. وهام...
واعترف هويدي بالواقعة، ولكن اضافته كانت مذهلة، ذلك أن
هذه الحالة بالذات لم يصدر فيها قرار مكتوب لسبب بسيط، هو أن فرض الحراسة عليها تم
بقرار من اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي بعد مناقشات طويلة، وكان عبد
الناصر قد رأى أن تعرض الأوراق والتقارير على اللجنة العليا، لأن المطلوب فرض
الحراسة عليهم كان بينهم بعض أقارب أعضاء في اللجنة العليا.. وكانت مفاجأة، ولكن
الهجوم المحموم على الحراسات ظل مستمرًا، وظل يردد أن الحراسة كانت تفرض لأسباب
شخصية.. حتى قيل إن أحد اعضاء مجلس الثورة اختلف مع عبد الناصر فوضع شقيقه تحت
الحراسة..
والحقيقة أن الشقيق وضع
تحت الحراسة بناء على مذكرة تقدمت بها الرقابة الإدارية. وكان رئيس الهيئة العامة
للإصلاح الزراعي الدكتور احمد عامر النشرتى قد تقدم بمذكرة «صادر رقم 356 بتاريخ
2/5/1965" إلى رئيس الرقابة الإدارية شرح فيها المخالفات التي ارتكبها شقيق
العضو والتي أدت الى تحويله لنيابة أمن الدولة. هو وبعض السادة مهندسى إدارة
الميكانيكا والكهرباء بالهيئة. وقد رأت النيابة الإدارية محاكمة المهندسين تأديبيا
وتمت محاكمتهم التأديبية بتاريخ 14 فبراير 1965 وأخطرت الهيئة بالجزاءات التي
توقعت عليهم.
أما السيد شقيق عضو مجلس الثورة فقد وضع تحت الحراسة فلم
تكن القضية التي حققت فيها النيابة، وحولت إلى المحكمة، وشاركه فيها عدد من
المتهمين سجن معظمهم، تتعلق بخلاف بين عضو مجلس القيادة وعبد الناصر، وأن وضعه تحت
الحراسة لم يكن أبدا لأسباب شخصية.
والحراسة إجراء وقائي..
استخدم في عدد من الأمور:
وضعت الحراسة على رعايا الدول المعتدية، وعلى بعض اليهود
في مصر أثناء حرب 1956.
وضعت الحراسة على تجار المخدرات أو الذين حامت الشبهات
بموجب التقارير حول اتجارهم في المخدرات وقد أطلق عليها اسم حراسة الأمن.
وضعت الحراسة على عدد من الأجانب والمصريين كخطوة
ايجابية لتمصير الاقتصاد.
وضعت الحراسة على عدد من السياسيين السابقين ولفترات
طويلة أو قصيرة.
وضعت الحراسة على الذين تهربوا من تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي بموجب قرارات لجنة تصفية الإقطاع التي كان يرأسها المشير عامر.
وكان عدد الحالات التي وضعت تحت الحراسة على امتداد
السنوات 1771 حالة..
وهكذا فإن مصر كلها لم تكن موضوعة تحت الحراسة كما
يحاولون لتصوير الأمر لخدمة أهدافهم.. وبين هذا العدد..؟ كانت النسبة الكبرى
للأجانب.. وعندما انتقل جمال عبد الناصر إلى رحاب الله كانت الحراسات قد صفيت
تقريبا، ولم يبق منها إلا 128 حالة هناك مشاكل وعقبات في تصفيتها وظلت هذه المشاكل
إلى بعد منتصف السبعينات.. بل أن بعضها مازال مستمرًا حتى اليوم.. فلم تكن
الحراسات ثأرا شخصيًا، ولا لتصفية حسابات بين عبد الناصر وبين أحد.
ولقد فتح الباب واسعا للتشهير بسنوات حكم عبد الناصر، من
خلال كلمات عامة، لا تحمل أبدا وقائع مهددة.
ولما كان المال هو هدف
الانفتاحيين الأساسي.. لقد حاولوا تشويه كل الإجراءات التي اتخذتها الثورة
لاسترداد المال لصالح الشعب.
القطاع العام.. وتصنيع مصر
.. ولا يملون أبدا من الهجوم على القطاع
العام.. والمطالبة بتصفيته. ووراء هذه الحملة جريمتان للقطاع العام...
الأولى: أن الذي انشأه هو جمال عبد الناصر، وأن في تصفيته هدم
لجزء هام، وحيوي، ونابض من تراث، وإنجاز الرجل الذي مازال يؤرقهم.
الثانية: أن القطاع العام، يشير إلى مرحلة التحول الاشتراكي
ووجوده يذكر الناس بالاشتراكية، أو قد يدفع إليها، كما أنه يحجب بعض أنشطة للقطاع
الخاص.. الذي يدعمونه ويعدونه ليكون الوريث.
وكان عبود باشا ومعه عدد
من الرأسماليين قد ذهبوا إلى جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي مطالبين أن
يشتروا المصالح الأجنبية التي وضعت تحت الحراسة أثناء العدوان.
وفكر عبد الناصر بأنه لا يمكن أن تكون احدى نتائج الحرب،
وكانت قرارات التمصير تعني أن تعود هذه المنشآت للشعب، وهو أن الناس قد قاتلوا، أو
استشهدوا، لكي يزداد ثراء الأغنياء.. ما عبر عنه جمال عبد الناصر في ميثاق العمل
الوطني بأن «السؤال الذي طرح نفسه غداة النصر العظيم في السويس هو: لمن هذه
الإرادة الحرة التي استخلصها الشعب المصري من قلب المعركة الرهيبة.؟
«كان الرد التاريخي الذي لا رد غيره، هو أن هذه الإرادة
لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.
« إن الشعوب لا تستخلص إرادتها من قبضة الغاصب لكي تضعها في متاحف
التاريخ، وإنما تستخلص الشعوب إرادتها وتدعمها بكل طاقاتها الوطنية لتجعل منها
السلطة القادرة على تحقيق مطالبها».
وفي بداية الثورة، أنشأت
مجلسين، أحدهما للإنتاج والثاني للخدمات، وكان الغرض من إنشائهما دفع عمليات
الإنتاج، والنهوض بالخدمات لتعويض سنوات حرمان المواطنين، والقضاء على الثالوث
الذي كان ينهش جسد المجتمع المصري، وهو: الفقر... والجهل... والمرض.
وكانت هذه القضايا الثلاث هي التي يدور حولها الصراع بين
الأحزاب السياسية، ويجهد المصلحون أنفسهم في البحث عن حلول لها.. هذا إذا استثنينا
القضية الأولى وهي: الاستعمار البريطاني الذي ظل محور مزايدات الأحزاب السياسية،
وموضع مفاوضاتها، ولعبتها عشرات السنين، حتى جاءت الثورة، وخلصت البلاد منه
باتفاقية الجلاء التي وجهت إليها سهام كثيرة.. انتهت كلها بتحقيق جلاء المستعمر عن
مصر بعد احتلال دام أكثر من سبعين عاما.
مجلس الانتاج القومي:
صدر القانون رقم 213 لسنة 1952 بإنشاء «المجلس النائم
لتنمية الانتاج القومي» وهي هيئة مستقلة ملحقة برئاسة مجلس الوزراء، ورئيسه الأعلى
هو رئيس الوزراء وأعطي المجلس بنص القانون سلطة عقد القروض مع المصارف والهيئات
المحلية والأجنبية والدولية، ووفقا لما جاء في تقريره فقد وجه عناية ملحوظة إلى
المشروعات الخاصة نعمل على توثيق الصلة بها، والتعاون معها، وشجعها على أداء دورها
في الاقتصاد القومي عن طريق التوسع فيما هو قائم من جهة، والإنشاء الجديد من جهة
أخرى وعمل على تذليل ما اعترضها من صعاب تشريعية أو مالية أو إدارية،.
وبدأت محاولات جذب رأس
المال الاجنبي ليقوم بالاستثمار في مصر، وصدر القانون رقم 120 لسنة 1952، ينص على
أن تعديل القانون القديم الذي صدر عام 1947، وكان ينص على عدم زيادة نسبة رأس
المال الأجنبي في الشركات المساهمة عن 41%.
وكان التعديل الذي أدخلته النورة لاجتذاب رأس المال
الأجنبي للمساهمة في التنمية الإنتاجية، أن نص قانون على تخصيص نسبة 49% على الأقل
من أسهم الشركات للمصريين، وأعطى رأس المال الأجنبي الحق في 51%. أى رفع نسبة
مشاركة رأس المال الأجنبي حتي عن نسبة المصريين.
وصدر قانون آخر بإعفاء
الخامات المستوردة من الرسوم الجمركية، على أن يعاد تصديرها في شكل منتجات، كما
صدر قانون ثالث بإعفاء المواد الأولية من الرسوم الجمركية بأنواعها، الاستهلاك
وعوائد البلدية.
وفي محاولة أخرى لجذب رأس المال الأجنبي إلى مصر صدر
القانون رقم 156 لسنة 53. الذي حدد المال الاجنبي بأنه يشمل الأموال المحولة عن
طريق البنوك والآلات، والمعدات الزراعية والصناعية ووسائل النقل والمواد الأولية،
والحقوق المعنوية المملوكة لأجانب مقيمين في الخارج وأنه ينتفع بالقانون من كان
مستثمرًا في مشروعات الصناعة والزراعة والتعدين والقوى المحركة والنقل والسياحة،
وحدد القانون نسب تحويل الربح وحصة الخبراء الأجانب الذين يعملون في المشروع، ونص
على إنشاء لجنة بوزارة المالية خاصة باستثمار المال الأجنبي وتمثل فيها الوزارات
المعنية تقدم إليها طلبات المشروعات الاستثمارية وتكون مهمتها ليس الموافقة فقط بل
وتتصل «بالمصالح المختلفة بشأن رؤوس الأموال الأجنبية وتيسير الحصول على التأشيرات
واعتماد تحويل المكافآت، وغيرها.. وبعدها صدر قانون آخر يعطي مزيدًا من الضمانات
لرأس المال الأجنبي وزيادة في تدليله، فقد نص على إعفائه من ضريبة الأرباح
التجارية والضريبة على القيم المنقولة لمدة سبع سنوات، كما يعفى من أداء الضرائب
شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم التي تنشا ويكون غرضها لازما للتنمية سواء
عن طريق الصناعة أو التعدين أو القوى المحركة أو الفنادق أو استصلاح الأراضى البور
وقال تقرير المجلس القومي للإنتاج أن هذا القانون. يعتبر من أهم التشريعات التي
أصدرتها حكومة الثورة كدعامة من الدعامات التي تقوم عليها سياستها في دعم الاقتصاد
القومي وتنميته».
وبعد كل هذا التدليل،
والترغيب، كانت النتيجة مفاجأة: فقد كانت مساهمة رأس المال الأجنبي خلال أعوام 54،
55، 56 مذهلة.
لقد دخل مجالين اثنين فقط، هما صناعة الأحذية، والسياحة.
وخلال هذه السنوات الثلاث، استثمر 440 ألف جنيه فقط.
أي أنه بعد هذه القوانين التشجيعية الغريبة والمفرطة في
الكرم لم يستثمر من رأس المال الأجنبي في مصر إلا اقل من نصف مليون جنيه.
مشروعات الخدمات:
كان مجلس الإنتاج قد استعان بأكبر بيوت الخبرة في
العالم، العمل مسح اقتصادى شامل لمصر، بهدف وضع خطة تفصيلية للمشروعات الإنتاجية
اللازمة للنهوض بالاقتصاد ووضع الخبراء خريطة الصناعة المصرية الجديدة، ووسائل
الحصول على الطاقة من كهربة خزان أسوان، كما وضعوا مشروعات للنقل، واستغلال
الثروات المعدنية، وبدأ تنفيذ خطة العمل الصناعي وأعلن عن الاكتتاب للمساهمة في
الشركات الجديدة بدعم من الحكومة.. وهي المساهم الأول.
وقامت عدة مشروعات خدمية حيوية، مثل كهربة خط حلوان
ووفقًا لخطط أخرى وضعها المجلس الدائم للخدمات العامة، حرمت الدولة القمار بقانون،
وأصدرت القوانين العمالية، وقانون التعاون وأنشأت الثورة الوحدات المجمعة في
القرى، لتكون مجمعًا لوحدات علاجية صحية وبيطرية وزراعية، وكانت تبني قبل الثورة،
مدرسة كل عام فأنشأت الثورة مدرسة كل ثلاثة أيام، وأقيم مجلس أعلى لرعاية الفنون،
وآخر للعلوم، وثالث للشباب، وأنشئت لجنة الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبدأت
خطوات تقريب الفوارق بين الطبقات، فخفضت إيجارات المساكن أكثر من مرة وأقيمت
المساكن الشعبية، وشق كورنيش النيل بطول القاهرة كلها، وأعيد توسيع كل ميادين
العاصمة، ميدان رمسيس، السيدة زينب، سيدنا الحسين، والتحرير حيث أنشئ فيه مسجد عمر
مكرم تكريما لذكرى المناضل عمر مكرم.. وغيرها.
السد العالى:
على أن من أهم ما أسفر عنه وجود مجلس الإنتاج القومي هو
ما قررته لجنة من الخبراء العالميين في اجتماعها يوم 15 نوفمبر 1954.. من إنشاء
أخطر وأهم مشروع في مصر بالقرن العشرين وكانت اللجنة مكونة من:
المستر كارل ترزاكى، والمسترا. س ستيل من الولايات
المتحدة الأمريكية والمسيو أندرية كوين من فرنسا.. والهرماكس بروس من ألمانيا
الغربية. والمستر لور نزج شرادب الأمريكي ثم انضم إليهم يوم 18 نوفمبر المسيوا.
انسي الفرنسي وفي 26 نوفمبر انضم إليهم الهرمور الألماني.
كانت هذه لجنة الخبراء العالميين الذين درسوا مشروع السد
العالي، وحددوا مكانه، واختاروا موقعه، وصمموا قطاعاته.
وكان يشاركهم العمل في جميع مراحله خبراء مصريون. ويلاحظ
أن لجنة الخبراء التي درست مشروع السد العالى، وأقرته ليس فيها سوفيتي واحد.. فهي
لجنة ضمت أكبر الخبراء في أمريكا والمانيا الغربية، وفرنسا.
وقد درست اللجنة تكاليف المشروع، وتأثيراته على الإنتاج
الزراعي، والإنتاج الصناعي.. كل إيجابياته.. وكل آثاره الجانبية:
وفي يوم 4 ديسمبر 1954 قدم الخبراء تقريرًا موحدًا
أجمعوا فيه على صلاحية مشروع السد العالى، وحددوا موقعه عند الكيلو 6.5 جنوب خزان
أسوان، حيث اتضح أنه أصلح المواقع المختارة للسد.. «إن إنشاء السد العالي حسب
التقييم الذي اعتمده الخبراء فيه أقصى الضمانات لسلامته مع وفائه بكافة المطالب
التي أنشيء من أجلها، هكذا قالوا، قبل أن يقروا برنامجا للتنفيذ يستغرق عشر سنوات،
وأوصوا بضرورة القيام فورًا بإعداد الرسومات التفصيلية والمواصفات لأجزاء المشروع
المختلفة.
خطوات التمصير:
وقصة السد المالي بعد ذلك معروفة.. فعندما أوحت أمريكا
إلى البنك الدولي ألا يسهم في تمويله، اتجهت مصر إلى الاعتماد على قوتها الذاتية
لتمويل المشروع، وأممت قناة السويس وتعاقدت مع الاتحاد السوفيتي للقيام بالأعمال
الإنشائية فيه، أما حفر الأنفاق، وإبعاد الأتربة، فقد كان عمل شركة المقاولون
العرب، وقامت شركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح بإعداد الخرسانات اللازمة، وكانت أعمالها
أكبر جهد مصري في بناء المشروع.
وهناك مثل آخر مصنع الحديد والصلب الذي تعاقدت عليه
الحكومة مع شركة ديماج الألمانية عام 1954، ليبدأ العمل فيه فورًا، وقد ساهمت
الحكومة بمليون جنيه ومجلس الإنتاج بمليون جنيه، وطرحت بقية أسهمه للاكتتاب العام.
وكانت الدراسات قد أثبتت وجود خام الحديد في مصر، وبدأت
عام 1932 فكرة إقامة صناعة الحديد والصلب وظلت الفكرة موضع مزايدات ومناورات
الأحزاب لمدة أربع سنوات حتى شكلت لجنة لبحث المشروع عام 1936، ولكنها لم تتقدم
خطوة واحدة.
وعندما جاءت الثورة بعثت المشروع الذي ظل مطلبًا لمدة أكثر
من عشرين عامًا، وبعد التعاقد مع الشركة الألمانية بذلت بعض الدول جهودًا لتحول
بين الشركة وبين اتمام التعاقد حتى لا تتجه مصر إلى التصنيع الثقيل.
وأقامت الثورة المصنع، وفي يوليو 1959 افتتحه جمال عبد
الناصر قائلًا: «إن إقامة صناعة الحديد والصلب في بلدنا كانت دائمًا حلمًا نعتقد
أنه بعيد المنال، واليوم حققنا هذا الحلم».
وإلى جانب هذا أيضًا،
ساهمت الحكومة في عدد من المشروعات الصناعية الجديدة في مصر مثل صناعة عربات السكة
الحديد، والمواسير، والبوتاجاز، والراديو، والبطاريات والكاوتش، والورق، كما توسعت
في كل الصناعات القائمة، وبدأت في إقامة الصناعات الحربية.
وفي عام 1956 أنشئ في مصر
لأول مرة وزارة جديدة هي: وزارة الصناعة.
وكانت هذه الخطوات هي البداية الحقيقية لتمصير الاقتصاد
بأن تقام صناعة مصرية تعتمد على رأس المال المحلی..
ثم جاءت إجراءات التمصير، التي بدأت بتمصير شركة جريشام
للتأمين عام 1954.
وعندما جمدت انجلترا
الأرصدة المصرية لديها، وامتنعت البنوك عن تمويل محصول القطن أو الإنتاج الصناعي..
صدر أمر عسكري في 2 نوفمبر 1956 بتعيين حراس على مؤسسات الدولتين المعتديتين
وأموالهما في مصر.. وهكذا بدأت الحراسة بهذه المؤسسات التي بلغت 1000 مؤسسة بينها
البنوك وشركات التأمين والشركات البترولية، ثم أنشئت المؤسسة الاقتصادية بعد ذلك.
وفي 14 يناير 1957 صدر
قانون ينص على ألا يقوم بأعمال البنوك وشركات التأمين وفروعها إلا شركات يملك
المصريون جميع أسهمها، ويكون المسئولون فيها مصريين. على أن ينفذ القانون خلال خمس
سنوات.
وكان قد اتضح من الدراسات أن البنوك الأجنبية في مصر لا
يزيد رأسمالها عن خمسة ملايين ونصف. ومع ذلك فهي تتحكم في مائة مليون جنيه من جملة
الودائع في البنوك التجارية وهي حوالى 195 مليون جنيه. وأن البنوك الإنجليزية
والفرنسية لا يزيد رأسمالها المستثمر في مصر عن مليون ونصف مليون جنيه بينما ودائع
المصريين فيها تقترب من مائة مليون جنيه.
وكان في مصر 135 شركة تأمين. منها 123 شركة أجنبية
ومعظمها فرع الشركات كبيرة في الخارج.. وكانت أصولها في مصر 20 مليون جنيه من
مجموع أصول شركات التأمين وهي 38 مليونا وفي عام 1957 تم تمصيرها، كما تم تمصير 9
بنوك هي بنوك باركليز، والكريدى ليونيه –والعقارى المصرى - والبنك الشرقي - يونيون
- العثماني - الرهونات - الأراضي - الخصم الأهلى بباريس - و16 شركة تأمين و40 شركة
كانت تتحكم في شرايين الاقتصاد، وكلها كانت أجنبية.
وفي نفس التاريخ - 14
يناير 1957 - صدر قانونان الأول بقصر مزاولة أعمال الوكالات التجارية على
المصريين، والثاني بإنشاء مجلس التخطيط الأعلى، ولجنة التخطيط القومي، وبعدهما صدر
قرار جمهورى بوجوب استخدام اللغة العربية في جميع العقود والسجلات والمحاضر وفرض
غرامة على من يخالف القرار.
وكانت الثورة بعد قيامها بأربعة شهور قد أصدرت مرسومها
بتعطيل بورصة عقود القطن بالإسكندرية، على أن تتولى الحكومة شراء الأقطان وبيعها
لحسابها، ترد للمنتجين ما قد تحصل عليه من أرباح، بعد أن وصل التلاعب في سوق القطن
إلى حد المقامرة وتكدس مخزون القطن، وزاد العجز في الميزان التجاري وأعيد افتتاح
البورصة بعد عامين بعد ضمان حد أدني للأسعار وعدد من الشروط والشواهد تضمن عدم
التلاعب والمضاربة على المحصول الرئيسي في ذلك الوقت.
والذين يتحدثون عن العجز
في الميزان التجاري الذي أحدثته الثورة، بعد أن كان فيها فائضًا يغالطون، معتمدين،
على أن أحدًا لن ينقب وراء أكاذيبهم فيعود إلى الخمسينات، وقبل قيام الثورة.
والحقيقة أن العجز في
الميزان التجاري كان عام 1951 39 مليون بالضبط، وأنه بلغ عام 1952 حوالى 73 مليون
جنيه بسبب انتكاس سوق القطن.
وفي عام 1953 بلغ العجز 37 مليون جنيه بسبب الحد من
استيراد الكماليات وفتح أسواق للمنتجات المصرية، وانخفض العجز عام 1954 إلي 20
مليون جنيه وهكذا.
التأميم.. لماذا؟
كانت القضية الأساسية أمام عبد الناصر بناء الصناعة، ولم
يأت رأس المال الأجنبي، كما ذكرنا، وعجز القطاع الخاص عن الوفاء بمتطلبات التنمية
في الوقت الذي يتزايد فيه السكان بمعدل 2.5% سنويًا، ويخرج إلى الحياة طفلين كل
دقيقة يمثلون أفواهًا جديدة تحتاج إلى الغذاء، وتحتاج إلى الخدمات لسنوات طويلة
قبل أن تصبح قادرة على الإنتاج.
وواجهت مصر مأزق ضرورة التنمية.. وبعد تدليل رأس المال
الأجنبي، وبعد أن أوقدت مصر أصابعها العشرة شموعًا للقطاعين الخاص والأجنبي لكي
يشتركا في التنمية الجادة صناعية أو زراعية كانت المحصلة النهائية لا شيء يذكر.
ومن هنا رأي عبد الناصر «أن العمل من أجل زيادة قاعدة
الثروة الوطنية لا يمكن أن يترك لعفوية رأس المال المغامر المستغل ونزعاته، كذلك
فإن إعادة توزيع فائض العمل الوطني على أساس من العدل لا يمكن أن يتم بالتطوع
القائم على حسن النية مهما صدقت».
وبدأت عمليات التأميم، وتوسيع قاعدة القطاع العام.. ورأی
عبد الناصر «أن التأميم ليس عقوبة لرأس المال الخاص حين ينحرف فنقل أدوات الإنتاج
من الملكية الفردية إلى الملكية العامة أكبر من معنى العقوبة وأهم» «وأن الأهمية
الكبرى المعلقة على دور القطاع العام لا يمكن أن تلغي وجود القطاع الخاص، فالقطاع
الخاص له دوره الفعال في خطة التنمية من أجل التقدم، ولابد له من الحماية التي تكفل
له أداء دوره، وهو مطالب بأن يجدد نفسه، وبأن يشق طريقًا من الجهد الخلاق لا يعتمد
كما كان في الماضي على الاستغلال الطفيلي».
وكان رأي عبد الناصر: «أن سيطرة الشعب على كل أدوات
الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج، ولا تلغي الملكية الخاصة ولا تمس حق
الإرث الشرعي المترتب عليها وإنما يمكن الوصول إليها بطريقين:
أولهما خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم في جميع المجالات
ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية.
ثانيهما: وجود قطاع خاص يشارك في التنمية في إطار الخطة الشاملة
لها من غير استغلال على أن تكون رقابة الشعب شاملة القطاعين معا، مسيطرة عليهما
معا».
وكان من رأي عبد الناصر أيضا أن الهياكل الرئيسية لعملية
الإنتاج كالسكك الحديدية والطرق والمطارات وغيرها من المرافق تكون في إطار الملكية
العامة للشعب، والصناعات الثقيلة والتعدينية والمتوسطة تكون في غالبيتها للقطاع
العام ويجب أن يحتفظ القطاع العام بدور في الصناعات الخفيفة».
أي أن الباب في الصناعة
مفتوح أمام القطاع الخاص، والاستيراد كله للقطاع العام، الذي يتحمل أيضا ثلاثة
أرباع الصادرات، ويكون له ربع التجارة الداخلية بينما للقطاع الخاص ثلاثة ارباعها.
والأرض الزراعية والمباني
والعقارات تظل في إطار الملكية الخاصة. وبنظرة بسيطة وموضوعية نجد أن عبد الناصر
قد وسع قاعدة الملكية عندما زاد عدد الذين يملكون وأن العمود الفقري للاقتصاد...
وهو الزراعة... كان في يد الأفراد أي القطاع الخاص، وقد زاد عدد الملاك بعد توزيع
الأرض الزراعية على المعدمين.
فقد كان للقطاع الخاص إذن دور كبير في مجالات كثيرة
ومتعددة.. وإذا لم نغفل الملكية الخاصة في مجال الزراعة فإن القطاع الخاص يكون له
نصيب الأسد في السيطرة على أدوات الإنتاج اذ تقترب نسبة ما يملكه الى 80% عموما
وتحمل إلى 25% في الصناعة وحدها.
القطاع العام:
القطاع العام الآن هو محصلة ثلاثة روافد.
ـ الممتلكات الأجنبية التي مصرت، وكان معظمها في مجال
التجارة وقليل منها مشروعات صناعية.
ـ الممتلكات التي أممت، ومن أبرزها شركات بنك مصر، وشركات
الأقطان والتأمين وبعض الصناعات.
ـ المشروعات الجديدة التي أنشأتها الثورة، ومعظمها صناعي،
وقليل منها توسعات في مجالات التجارة واستصلاح الأراضي.
هذا هو القطاع العام، الذي حمل العبء الاقتصادى
والاجتماعي ابتداء من الستينات.. وظل مصدر دعم الاقتصاد في توفير المنتجات
بالأسواق بالسعر الذي تحدده الحكومة، وتوفير فرص العمالة لأجيال جديدة من العمال
ومن الخريجين، كما ظل موردًا أساسيا لميزانية الدولة، وفضلا عن ذلك فقد كان
للعاملين فيه نصيب من الربح، ومن المشاركة في إدارته. وكانت لمصر تجربة سابقة في
الملكية العامة لأدوات الإنتاج، بما فيها الأرض الزراعية خلال القرن الماضي، في
عهد محمد على، عندما كانت كل وحدات الإنتاج مملوكة للدولة.. ولكن هذه التجربة
سرعان ما تفككت بفعل الضغوط الاستعمارية التي لم تكن تريد لمصر أن تقوى اقتصاديا.
وعادت وحدات الإنتاج إلى الملكية الخاصة، وزحف رأس المال
الأجنبي ليستثمر في مجال الارض الزراعية، والعقارات، والمضاربات.
واضطرت سمر فيما بعد محمد على إلى أن تغلق المصانع أو
تعيد وحدات الإنتاج إلى الملكية الخاصة، وزحف رأس المال وبنوك الرهونات، وغيرها من
البنوك التي ظلت تنهب اقتصاد مصر، حتى جاء عبد الناصر ليحدث تغيرًا جذريًا
بالتمصير، والتصنيع والتأميم.
ولقد بلغت القيمة السوقية للشركات المؤممة عام 1961 مبلغ
258 مليون جنيه بينما بلغ تقدير رأس المال الثابت لوحدات القطاع العام الصناعية
فقط عام 1972 مبلغ 2050 مليون جنيه.
وابتداء من يوليو عام 1960
وضعت أول خطة للتنمية في مصر، بدأ تنفيذها من ميزانية ذلك العام، بعد أن أخذت
الدولة بأسلوب التخطيط الشامل، بهدف مضاعفة الدخل القومي خلال عشر سنوات وحققت
الخطة الخمسية الأولى أعلى معدلات.
وفي السنة الأولى للخطة أحجم رأس المال الخاص عن الإسهام
في عملية التنمية، وكانت قرارات التأميم بهدف الإسراع في التنمية وتنفيذ الخطة
التي اعتمدت أساسا على التمويل الذاتي، وعلى المدخرات المحلية.. وكانت القروض في
صورة مصانع تسدد ثمنها من حصيلة الإنتاج.. ولم يتوقف القطاع العام عن النمو.
وقد اعتمد عليه الاقتصاد المصرى طوال سنوات الحرب... وظل
مصدر دعمه في توفير المنتجات، وفرص العمالة، والموارد للميزانية.. رغم الحصار الذي
فرض عليه طوال السبعينيات والاتجاه إلى هدمه، أو اشراك رأس المال الأجنبي فيه..
وعندما رحل جمال عبد الناصر، كانت مصر تحارب وتبني، كانت مجموعة ديون مصر المدنية
والعسكرية أربعة آلاف مليون دولار معظمها للاتحاد السوفيتي.
القطاع العام التجارى:
.. ويقولون أيضا أنه إذا كان القطاع العام
لابد أن يبقى، فإنه لا يمكن أن يستمر في مجال التجارة.. لأنه ليس هناك دولة تتاجر
في فناجين القهوة على حد تعبير بعضهم.
وكل دول العالم شرقه وغربه فيها منشآت حكومية توفر
مستلزمات المواطن العادي من جميع السلع، بأسعار تبعدها عن الاستغلال.
وهذا المطلب يبطل حجتهم التي تطالب بتصفية الشركات
الخاسرة وحدها.
فإن كل شركات التجارة تحقق
أرباحا خيالية.. بلغ بعضها في عام واحد 45 مليون جنيه رغم الالتزام
بتحديد الأسعار. وتحمل الأعباء الاجتماعية.
فهم يريدون إذن تصفية القطاع العام التجارية بحيث يشتريه
التجار.. أو يعود إلى شيكوريل، داود عدس، وصيدناوى وغيرهم مع أن حجم هذا القطاع
ليس كبيرًا لا في العدد، ولا في رأس المال بالنسبة لحجم تجارة القطاع الخاص الذي
يسيطر على معظم تجارة مصر الجملة والقطاعي.
ويكفي القطاع العام التجاري، أنه نقل المحلات التجارية
الكبيرة إلى كل مدن مصر وإلى كل الأحياء الشعبية، تعرض كل السلع الاستهلاكية
والمعمرة، بنفس السعر الذي تباع به في القاهرة.
ولأن التجار يريدون شراء
هذه المحلات، أو التخلص منها حتي يخلو لهم السوق لينهشوا في جسد المستهلك ولأن هذه
الحملة واضح أنها مخططة، فقد بدأت مبكرًا جدًا، ولما فشلت عادت من جديد بعد اثني
عشر عامًا.
ففي فبراير 1974 كتب على أمين في جريدة الأهرام يهاجم
القطاع العام في مجال التجارة لأن البائعة في أحد المحالات المعروفة احضرت طفلها،
وأجلسته فوق «قصرية» ليقضي حاجته فوق المنضدة التي توضع عليها المعروضات.
وقد تحدته نقابة العاملين بالتجارة أن ينشر اسم متجر
القطاع العام الذي وقعت فيه هذه الحادثة، ولكنه وهو رئيس تحرير الأهرام رفض نشر
الرد.. وحاولت النقابة أن تنشر ردها كإعلان مدفوع الأجر، ولكنه رفض أيضا، بل وهاجم
النقابة دون أن يستجيب للتحدي، ويفصح عن اسم محل القطاع العام الذي وقعت فيه هذه
القصة الملفقة. وكان السبب بسيطًا، هو أن الواقعة لم تحدث، ولكنها كانت بداية
المخطط يستهدف تصفية القطاع العام في مجال التجارة، وتسليمها كلها للقطاع الخاص..
ولكن إزاء رد الفعل العنيف سكتت الحملة.. وعادت تتجدد بعد كل هذه السنوات، مما
يكشف الغرض من ورائها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق