الدكتور عصمت سيف الدولة .
الفصل السادس : في البعد الرابع .
ـ 1 ـ
في الكل الشامل للطبيعة والإنسان ; كل شيء مؤثر في غيره متأثر به . كل شيء في حركة دائمة . كل شيء في تغير مستمر . في إطار هذه القوانين الكلية يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي ، وينفرد الإنسان بالجدل قانوناً نوعياً لتطوره : في الإنسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض بالعمل ، إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما إلى خلق جديد .
بهذا المقياس الواحد الذي أسميناه " جدل الإنسان " ، تتبعنا الإنسان في حركة تطوره من الإنسان ، إلى المجتمع ، إلى الأمة لنصل به إلى حيث نحن الآن في الطور القومي للمجتمعات الإنسانية . ثم عرفنا كيف تتطور الأمم خلال الجدل الاجتماعي ( الديمقراطية ) متجهة إلى مزيد من الحرية ( الاشتراكية ) . وبهذا يكون جدل الإنسان قد أرسى الاشتراكية على أساسين القومية والديمقراطية .
نحن إذن على عتبة المستقبل ، فمن أين نبدأ ؟
في الإجابة عن هذا السؤال لن يكون الحديث عن الإنسان او المجتمع او عن الأمة ولكن عن امة معينة . فقد علمنا جدل الإنسان أن البداية إلى المستقبل تكون من نهاية ’لماضي ، وان بناء التاريخ المقبل ظروفاً أكثر حرية يبدأ من حيث انتهى التاريخ الذي انقضى ظروفاً معبأة بالقيود . ثم علمنا أنه في داخل المجتمع الإنساني تتميز الأمم بظروفها فتتميز بمصيرها . عندئذ يكون الحديث المطلق عن مصير الإنسان ، او الجماعات ، أو الأمم تجهيلا جاهلا بان لكل امة مصيرها الخاص . لا بد إذن - طبقاً لجدل الإنسان - من أن نبدأ من حيث نحن . من بعدنا الرابع في الزمان . نحن العرب في العقد السابع من القرن العشرين . هذا هو المنطلق . ومن هنا إلى نهاية الكتاب سيبرز ضمير المتكلم معلناً أننا نتحدث باسمنا عن ظروفنا ومشكلاتنا ومستقبلنا .
ـ 2 ـ
نحن أمة وحد الزمان ظروفها ، فلها وحدة اللغة ووحدة الأرض ووحدة التاريخ - الذين لا يدركون هذا عن طريق معرفة التاريخ يدركون حصيلته فيهم شعورا بالانتماء القومي . وعلى الذين لا يشعرون به أن يكتشفوا أنفسهم من غربتهم في الأمم الأخرى ، فهم ثمة متميزون بعروبتهم عن الأمم لا تقبلهم لأنهم لا ينتمون إليها . فإن كان كل هذا لا يكفي فليدلنا المنكرون إلى أية أمة ينتمون ، فليس ثمة إنسان مبتور الجذور . والى ان يعثر كل منهم على جذوره ، يهمنا - نحن العرب ـ ان نعرف عن امتنا ما يغني معرفتنا بظروفنا .
دخلت أمتنا طور التكوين القومي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ، فسبقنا ـ في الزمان ـ أغلب أمم الأرض الى الاستقرار وبناء الحياة المشتركة . وكان تكويننا القومي متميزاً ببدايته فميز وجودنا القومي عن كثير ض الأمم . ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع استقرت قبائل متجاورة في رقعة من الأرض يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق هضبة إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي وهضبة الحبشة والصحراء الإفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي - وكانت تلك الجماعات القبلية الأصل متميزة بعضها عن بعض بما يميز القبائل في أول عهدها بالاستقرار على الأرض ، أي بالأصل الخاص ، واللغة الخاصة ، وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد والطور الحضاري - وعندما استقر كل منها في مكانه دخل مرحلة التكوين القومي . ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمما متميزة .
فالأمم التي أدركها الإسلام وقد اكتمل وجودها القومي ، كان الإسلام بالنسبة إليها إضافة أغنت تركيبها الداخلي وأمدتها بإمكانيات جديدة لمزيد من التطور ، ولكنه لم يلغ قوميتها ، فظلت أمماً مسلمة ، لها وجودها القومي ، ولها دولتها الواحدة ، وان كانت تلك الدولة مشتركة بينها وبين مجتمعات أخرى .
بتلك البداية تميزت الأمة العربية عن الأمم الأخرى التي دخلتها الرابطة الدينية بعد ان أصبحت أمما . فكان الدين ، بالنسبة إلى الأمة العربية ، مصدر وجود ، وبالنسبة إلى الأمم الأخرى كان الدين أداة تطور . وبتلك البداية أيضا . كان الإسلام مميزاً للأمة العربية حتى عن الأمم الأخرى داخل العالم الإسلامي الواحد ، لأنها تكونت به أمة ، بينما كان الإسلام ، بالنسبة إلى الأمم المسلمة الأخرى ، إضافة إلى تكوينها القومي الذي تم من قبله . تميزت بلغة القرآن عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية ... الخ . حتى عندما كان الإسلام يشملها جميعا في دولة واحدة . وتميزت بوحدة الأرض التي امتدت إلى حدود فارس ، وإلى حدود تركيا ، وإلى حدود اسبانيا ، وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى ، حتى عندما كانت كل تلك الأرض بما فيها أسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دار الإسلام . وصنعت من أرضها ، وبلغتها ، أنماطاً من الفكر والمذاهب والتقاليد والحضارة ، كانت تراثاً عربياً خالصاً ، حتى عندما كان الإسلام يطبع حضارات قومية عديدة بطابع مميز . وسنرى أثر كل هذا عندما تتفكك دولة المسلمين فيسفر العالم الإسلامي عن تلك الأمم التي دخلها إضافة إلى وجودها القومي ، وهي كما كانت أمما متميزة بوحدة الأرض ووحدة اللغة ووحدة التاريخ ووحدة المصير ، ولكنه لا يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات التي دخلها عندما كانت في طور التكوين القومي ، وهب على ما كانت عليه ، بل نجدها قد تكونت أمة عربية واحدة في ظله .
بدأ الإسلام عقيدة تجمع المسلمين ، ولكنه عندما دخل عنصراً في التركيب القومي للأمة العربية ، أصبح مضمونا للحياة ، أسهم في بنائه المسلمون وغير المسلمين ، فكان لهم تاريخا وكانوا به أمة واحدة . أصبح جزءاً من الوجود القومي العربي ، يقدم مع غيره من عناصر الظروف إمكانيات بناء مستقبل العرب جميعاً ، مسلمين أو غير مسلمين .
فنحن العرب ـ مثلا ـ أياً كانت عقائدنا الدينية ، لم نعرف في تاريخنا القومي أزمة الحرية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى . لم نحتج إلى كتاب أو فلاسفة ، من أمثال روسو ليضعوا لنا نظريات تبرر أن الناس متساوون أمام القانون ، وأن لكل منهم حق الرأي أو حق التملك وحق العمل . ولم نقض قروناً لنعترف بالملكية حقا للنساء . ولم نخض حروباً لنكسب الحريات المدنية أو السياسية . لم تعوزنا يوماً الحجة لندين الاستبداد ؛ لقد كنا نخضع للاستبداد عاجزين عن مقاومته ، متربصين به ، وكنا نعرف دائما أنه استبداد غير مشروع ، وكان المستبدون أنفسهم يعرفون . ونحن العرب - مثلا آخر- لم نعرف قط نظام الإقطاع الذي غرفته أوروبا . كانت لدينا ملكيات كبيرة من الأرض ، تمكن أصحابها من الاستبداد الذي يخالف القانون والعرف والتقاليد والعقيدة السائدة . كنا نعرف ـ حيث وجد في تاريخنا ـ عدوانا مادياً وكان المعتدون أنفسهم يعرفون . ولم يكن الإقطاع في أوروبا مجرد ملكيات كبيرة من الأرض ، بل كان نظاماً من الحقوق المشروعة التي يمارسها أمراء الإقطاع في مواجهة تابعيهم . كان الإقطاع سيادة يدعمها القانون ، وتؤيدها التقاليد والعقائد ، وتطيقها الأخلاق ، وقد يتغنى بها الفن قصيداً وألحاناً . ولما لم نعرف الإقطاع نظاماً لم نعرف البرجوازية ثورة . فالبورجوازية الثورية كانت " الطبقة الوسطى " بين الإقطاعيين والفلاحين التي قادت ثورة التحرر من عبودية النظام الإقطاعي الأوروبي . وكان خروج البورجوازيين على سيادة الإقطاع ثورة ، لأنها كانت تحطيماً لإطار شرعي من النظم والقيم والتقاليد . أما الذين كافحوا ويكافحون استبداد كبار المالكين في أمتنا فإنهم لا يحطمون حقوقا مشروعة ، بل يدفعون عن أنفسهم وعن غيرهم اعتداء غير مشروع .
إنهم حماة الحرية ولكنهم ليسوا بورجوازية . كذلك ملأنا العلم كشفا عن أسرار الطبيعة المادية ، وأرسينا كثيرا من قوانين تحول المادة ، ولم ننزلق إلى القيم المادية الأوروبية التي سادت في القرن الثامن عشر . وملأنا الفكر فلسفة واجتماعاً ، ولم ننزلق إلى القيم الفردية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر . وملأنا الحياة أخوة وتضامناً ، ولم ننزلق إلى القيم الجماعية التي سادت أوروبا في القرن العشرين . وملأنا الأرض حضارة ، ولم ننزلق إلى القيم الاستعمارية التي سادت أوروبا وتسودها إلى حين ... الخ .
كنا محصنين ضد الانزلاق بحكم تكويننا القومي ، فقد قضينا معاً أكثر من ثلاثة عشر قرناً نحيا الحياة ، ونصنعها كل يوم ، في أرضنا وحيث كنا من الأرض ، في ظل الفكر والثقافة والقيم الإسلامية الكامنة في تكويننا ذاته ، فملأنا الزمان تاريخا عربيا خالصاً وإن كانت لبناته من الإسلام . حتى عندما عبرنا ـ معا ـ مرحلة الصراع الداخلي الذي يصاحب بداية التكوين القومي ، كان الصراع عربيا خالصاً ، دار بين الرواسب القبلية العربية والنزوع القومي العربي ، واتخذ موضوعه الاستئثار بالسلطة في الدولة القومية الواحدة . ولقد انتقلت به الدولة من المدينة الى دمشق الى بغدد الى القاهرة ، وقامت أكثر من عاصمة واحدة في وقت واحد ، إلا أن كل عاصمة من تلك كانت تعصم العرب جميعاً أو تحاول هذا أو تدعيه ، ولكنها لا ترتضي ـ في أي حال ـ ؛ن تكون دولة إقليمية . كاًن ذلك صراع الماضي والمستقبل في طور تكوين الأمة العربية ، ولم يكن صراعاً بين أمم يغزو بعضها بعضاً . لقد كان الأمويون والعباسيون والحمدانيون والأيوبيون والفاطميون .. الخ ، أحزاباً من العرب ، ولم يكونوا أمما في الأمة الواحدة . لهذا كان الصراع مقصورا على العرب ، تعبيراً عن مشكلة تطورهم القومي ، ولم يتجاوزهم إلى الأمم الأخرى في دولة المسلمين . لم يكن فيه طرف من المسلمين في إيران أو أفغانستان أو تركيا أو الهند ... الخ .
ولما أن اكتمل للعرب وجودهم القومي كانوا قد أصبحوا امة صنعت تاريخها الخاص حتى خلال الصراع الداخلي الذي كان مقصوراً عليهم . فلما ان أرادت الأمة التركية أن تصل إلى الخلافة كان عليها أن تغزو الأمة العربية ، بمن فيها من مسلمين وغير مسلمين ، غزوا داميا . وبينما كانت الجيوش التركية متميزة بانتمائها القومي ، لا تخفيه راية الإسلام ، كانت ضحاياها في كل مكان من الخليج إلى المحيط عرباً متميزين بعروبتهم وإن كان بعضهم من غير المسلمين .
كذلك كنا أمة واحدة .
سيان بعد هذا ان نكون ساميين أو من أجناس أخرى ، وسيان أن نكون من أجداد نزحوا من الجزيرة العربية أو أن نكون من أصول شتى ، وسيان أخيراً أن نكون مسلمين او غير مسلمين ، فقد تم التكوين ، وأصبحت لنا وحدة الوجود القومي ، لا نستطيع ان نلغيه ولا يجدي ان ننكره ، فنحن كما نحن امة عربية واحدة . قد لا يشعر الذين يكونون هذا الوجود به ، ولكن الوجود القومي - كما قلنا - تمييز عن القوميات الأخرى . وإن كل الأمم لتنظر إلينا وتعاملنا كأمة واحدة ، لأنها تعرف بالقياس على وجودها القومي ذاته أن لنا وجودا قومياً متميزا عنها .
كذلك عاملتنا حتى الأمة التركية في ظل الدولة الواحدة .
فقد درج العثمانيون في أول عهدهم بالخلافة على سنن الإسلام الأولى ، فكانت الخلافة دولة مشتركة تتحقق بها وحدة جهاز الإدارة والردع . كانت دولة كل امة داخل الدولة الواحدة ، فقد كانت تلك المساواة حكم الشريعة السمحاء المطهرة تماماً من الاستعلاء والتسلط والاستعمار . وإذا كانت الدولة الواحدة قد قسمت الأرض ، أو أبقت قسمتها السابقة إدارات ، منها المقصور على مدينة واحدة ومنها ما يضم إقليماً كاملا ، فلم يكن ذلك خلقا لدول عربية داخل الدولة الواحدة . حتى المتردون من حكام الأقاليم وولاتها ، والطامعون منهم والطامحون ، كان تمردهم وطمعهم وطموحهم يدور داخل الدولة الواحدة ولو أدى إلى القتال طريقا إلى إقناع السلطة . المركزية بما يريدون . واذا كان لكل ولاية مجذدون من أرضها ، فتلك جيوش وكتائب من جيش المسلمين ، تذود عن الدولة الواحدة ، ولو ذهب الجند من وادي النيل إلى جبال القرم .
كانت مصر ولاية وكانت عكا ولاية ، ولم تكن مصر كما لم تكن عكا دولة ، ولا كانت أيهما أمة ، وفى ذلك تساوينا قسمين إداريين ، ولو كان سكان مصر أضعاف أضعاف سكان عكا . كان تقسيما إدارياً في دولة واحدة تضم قوميات عدة . ولم يحدث قط - منذ الفتح الإسلامي حتى الاحتلال الأوروبي - ان احتاج عربي الى إذن من احد لينتقل ، ويعيش ، ويمتلك ، ويتاجر ويثور ، أيان شاء من الخليج إلى المحيط . كان يسعى أيان يسعى على أرضه في أمته .
غير أن الأمر لم يلبث كثيراً حتى انقلبت الخلافة من دولة للمسلمين إلى دوله للترك ، يسخرونها في بناء مستقبل الأمة التركية من إمكانيات الأمة العربية ، ويفتدون بقاءهم كأمة بأجزاء من الوطن العربي . فقد تآمر الاستعمار الأوروبي على دولة المسلمين . وكان خطر الغزو الأوروبي الاستعماري يتجاوز دولة الخلافة إلى الأمم التي تعيش في ظلها . لهذا تحصن كثير من العرب بالوحدة الإسلامية ضد التهديد الأوروبي . وكان ذلك الموقف يمثل قمة الوعي وقمة الثورية في ذاك الزمان حاربته أوروبا المستعمرة بالموقف المضاد دعوة إلى الإقليمية . وأغرت الأقاليم الإدارية ، داخل الأمة العربية ، بالاستقلال عن تركيا ، لتفرض العبودية بعد الاستقلال ، وتلتهمها لقمة مغزولة فسائغة . وقدم المتعالمون من خريجي مدارس أوروبا ، والإقليميون من المشايخ والأمراء والسلاطين ، أكبر عون للاستعمار باسم الاستقلال . ولم يفطن أحد منهم إلى ما فطن إليه المستعمرون ، وخططوا الطريق إليه ونفذوه : أن تكون الدول التي تستقل عن الدولة العثمانية ، ليحتلها الاستعمار الأوروبي بعد هذا ، قائمة على أسس إقليمية وليس على أسس قومية . وستثبت الأحداث فيما بعد أن الاستعمار الأوروبي كان يخشى ان يستقل العرب دولة قومية واحدة أكثر مما كان يغشى بقاء الدولة العثمانية ذاتها . ولعل ذلك ان يكون وراء كل تلك المحاولات التي بذلتها الدول الأوربية . وصاغتها اتفاقاً على المحافظة على الدولة العثمانية ، في الوقت الذي كانت تلتهم فيها أجزاءها العربية واحداً بعد آخر . كان تحالفاً استعمارياً " أوروبا ـ تركيا " ضد العرب . لهذا وقفت الدول الأوربية تساند الخليفة وتحرضه ضد أحمد عرابي قائد ثورة " أولاد العرب " في مصر، واجتمع المستعمرون ، أوربيين وأتراكا ، في مواجهة ما نسب إلى عرابي من انه كان يهدف إلى قيام دولة عربية تضم أطراف الأمة العربية جميعاً . فلما أن خان الخليفة أحمد عرابي وخذله ، دخل الانجليز مصر باسم الخليفة ، وسار موكب المستعمرين يتقدمه الخديوي التركي . على أي حال لم يفطن المتعالمون والإقليميون في ذلك الوقت إلى أن الصراع كان بين الأمم الاستعمارية الأوروبية والأمة التركية في جاذب ، والأمة العربية في جانب آخر، وانه كان دائراً على أسس قومية ، وان الإقليمية ـ حينئذ ، كانت تتعدى الاستقلال عن تركيا إلى تمزق الأمة العربية دولا ، لن تلبث أن تذهب جميعها ضحية الاستعمار، بينما تبقى تركيا دولة مستقلة . هكذا خطط الاستعمار ونفذ .
وقد أثبت موقف الخلافة ، خلال الصراع العربي ضد الاستعمار الأوربي ، أنها دولة تركية متآمرة مع الأمم الأخرى في أوربا المستعمرة ، ضد الأمة العربية ، وان العرب قد فقدوا بذلك دولتهم القومية . فبينما كان الأسطول العربي من الجزائر محتشداً في نافارين ، حيث دمر وهو يدافع عن الدولة الواحدة ، انتهزت فرنسا الفرصة واحتلت الجزائر سنة ١٨٣٠ ولم تفعل دولة الخلافة شيئاً ، مضحية بإقليم عربي للمحافظة على الوجود التركي . كذلك لم تفعل الخلافة شيئاً عندما حاصرت فرنسا قصر الباي في تونس سنة ١٨٨١ ، لتفرض عليه معاهدة تمهد بها لاحتلال تونس العربية . وفي ذلك العام أيضاً تآمرت الخلافة التركية مع الاستعمار الانجليزي ضد ثورة " أولاد العرب " في مصر، وتم الاحتلال الانجليزي في سنة ١٨٨٢ . ولم يلبث الانجليز أن قمعوا ثورة " العرب " في السودان . فلما ان قضي الأمر قبل الأتراك مشاركة الانجليز في إدارة السودان العربي اتفاقا سنة ١٨٩٩ . ومن قبل هذا كله احتل الانجليز الشواطئ العربية على الخليج ، وفي الجنوب ، بسلسلة من المعاهدات فرضت أولا على أمير لحج وعدن سنة ٠٢ ١٨ ثم أمير البحرين سنة ١٨١٤ ثم أمير ... إلى أخر الأمراء والمشايخ والسلاطين الذين نثرت بهم انجلترا احتلالها على طول شاطئ الجزيرة العربية . وبينما كانت الخلافة في تركيا تدير سياستها على أسس قومية تركية خالصة ، فتعقد مع المستعمرين الأوروبيين الاتفاقات والمعاهدات ، محاولة الإبقاء على وحدتها كأمة ( كادت الأمة العربية أن تهضمها ) ، كان المستعمرون الأوربيون يعقدون الاتفاقات معاً قسمة للوطن العربي فيما بينهم . في اتفاق ١٩٠٢ تحتل فرنسا مراكش مقابل أن تختل إيطاليا ليبيا . وفي اتفاق ١٩٠٤ تحتل انجلترا مصر مقابل أن تحتل فرنسا المغرب . ويوم أن أصبح احتلال إقليم عربي شرطاً ، ومقابلا ، لاحتلال إقليم عريي أخر، قدم التاريخ أكثر الأدلة مرارة على وحدة المصير . وقد تحقق المصير الواحد في مراكش سنة ١٩١١ وفي ليبيا ١٩١٣ وأعلن رسميا في مصر سنة ١٩١٤.
كان كل ذلك كافيا ، وأكثر من كاف ، ليدور الصراع في قلب الإمبراطورية العثمانية المتداعية على أساس قومي خالص . في معركة الوجود القومي ، أمة العرب ضد أمة الترك . وعندما طرحت تركيا دستور الإسلام وأصدرت دستور ١٩٠٨ ، بدأت حركة تتريك العرب ، وأصبح الصراع على الوجود القومي بين الأمتين سافرا . وكان طبيعياً أن تكون طليعة النضال العربي ، وضحاياه ، من أولئك الذين لم يحبسهم الاستعمار الأوربي في الدول التي اصطنعها ، فحمل أبطال العروبة في المشرق العربي كل العبء إلا قليلا وان كان الستار الحديدي الذي عزل به المستعمرون الأوربيون الأجزاء المحتلة عن معركة المصير الواحد ، لم يمنع كثيراً من العرب في كل مكان من أن يسهموا في النضال القومي ، ولو كان الطريق إليه هروباً إلى أوريا أو إلى الاستانة ذاتها . كان النضال من منطلق قومي إلى غاية قومية . وبرغم دولة الترك تأسست جمعية الإخاء العربي ، وجمعية المنتدى الأدبي ، وقامت منظمات سرية ، عسكرية ومدنية ، مثل الجمعية القحطانية ، وجمعية العهد ، وجمعية العربية الفتاة . وفي قلب البرلمان العثماني تكونت كتلة من النواب العرب ، تميزت بعروبتها في ظل الدستور الواحد . كانت كلها جهوداً ثورية تهدف إلى استقلال العرب ووحدتهم ويسهم فيها أبناء العروبة من جميع الأقطار .
وكان طبيعياً ، عندما دخلت تركيا المستعمرة ، حرب المستعمرين الأولى (١٩١٤ ـ ١٩١٨) ، أن يحدد العرب موقفهم على ضوء غايتهم القومية في الاستقلال والوحدة ، فقامت الثورة العربية سنة ١٩١٦ ضد الأتراك ، على اتفاق مع أعدائهم ان يكون للعرب الاستقلال بعد النصر . وانهزمت تركياً وانتصرت الثورة العربية . اما العدو التركي الذي انهزم فقد بقيت له وحدته . واما الحليف العربي الذي انتصر فقد مزقوه إرباً . كذلك خططوا منذ البداية ، وكذلك حققوا في النهاية ، وكذلك كنا دولا . حتى متصرفية " البلقاء " التي كانت قسماً إدارياً تابعا لولاية الشام أصبحت دولة " شرق الأردن " . وأكمل مصطفى كمال الشوط فألغى الحروف العربية واستعار الحروف اللاتينية ، وأكمل المستعمرون الشوط فجمعوا نفاية الرجعيين من أممهم ودقوهم إسفينا استعماريا في قلب الوطن العربي باسم إسرائيل .
ـ 3 ـ
عرفنا الاستعمار عدواناً على وجودنا كأمة ، فعرفنا من أمره ما لم تعرفه الأمم الأخرى .
فقد كان الاستعمار ـ ولا يزال ـ بالنسبة إلى الأمم المقهورة سلبا لإمكانياتها المادية والبشرية ، يسخرها قسرا لبناء الحياة الحرة في الدول الغاصبة ، ويبقي للمقهورين مشكلات ظروفهم قائمة بدون حل . أي يعوق تطورهم إلى الحرية ، فارضاً عليهم التخلف ومع التخلف العبودية . وبهذا كان الاستعمارـ ولا يزال ـ عقبة في سبيل التطور إلى الحرية ـ لا تزول إلا بالتحرر . وفى النضال التحرري من الاستعمار تقدم الوحدة القومية في البلاد المحتلة ، أمضى الأسلحة لقهر المستعمرين : وحدة الثورة ٠ وحدة أرض المعركة في مواجهة العدو الواحد . وحدة الثوار ووحدة القيادة . وحدة الصف ووحدة الهدف . وحدة الإستراتيجية ووحدة التكتيك . ومع وحدة الثورة النصر القريب لا ريب فيه . ثم بعد النصر ، تقدم الوحدة القومية ـ أيضا ـ أسرع الطرق إلى تجاوز التخلف : كل إمكانيات الظروف ، وكل عمل الجميع ، في سبيل حرية الجميع . وهكذا كانت الوحدة القومية حتى في البلاد المستعمرة ـ ولا تزال ـ الأداة الحاسمة للتحرر والحرية معاً .
أما نحن العرب فقد عرفنا من الاستعمار كل هذا وأكثر منه . فعندما فرض علينا إرادته ، خيانة أو خديعة أو قهرا ، اغتصب إمكانيات الأمة العربية ، المادية والبشرية ، لتطوير الحياة إلى ما يبلغ الترف في إنجلترا وفرنسا وايطاليا . امتص دماءنا ليزيد صحة وقوة ، ولم يترك لنا فرصة التطور إلى أبعد مما تحدده مصالح الدول الاستعمارية ، فأمضينا تاريخا طويلا قاسياً ، مجرد مصدر للمواد الخام والعمل الرخيص ، وسوقاً نستهلك فائض إنتاج مصانع المستعمرين ونفايته ، بالسعر الذي يفرضونه . وتساوينا في هذا مع الأمم المقهورة المستعمرة . غير أننا قد شربنا من الاستعمار جرعة خاصة وكبلنا بقيود مضاعفة ، إذ حرمنا ، بالتجزئة المفروضة ، من المقدرة على الثورة الواحدة ، فأضاف إلى قيود الحرية قيود التحرر، وأصبح على العربي أن يثور ليتحرر إقليمه . ثم يثور لتتحرر الأقاليم الأخرى ، ثم يثور لتتوحد الأجزاء ، قبل ان تتوافر له الإمكانيات الكاملة ليثور ضد الظروف المتخلفة ، ويبني مستقبل الحياة في أمته . يتوزع المناضلون ضد الاستعمار كتائب معزولة بعضها عن بعض ، يحمل كل منها منفرداً عبء محاربة الاستعمار ككل . وهكذا كان عبء الاستعمار على الوطن العربي مضاعفاً ، فبينما كان الاستعمار يواجه كل جزء منفرداً بمجموع إمكانيات القهر التي يسخر بها الشعوب ، كان كل جزء من الوطن العربي يحمل بإمكانياته وحده عبء الصراع كله . وبذلك عوقت التجزئة تحرر الأجزاء جميعا ، وعوقت تحرر كل جزع على حدة ، وكانت سبباً في فشل كثير من ثورات التحرر العربية ٠ وعندما كانت هزيمة الثوار في جزء من الوطن العربي سببا ، او نتيجة ، لهزيمة الثوار في جزع آخر قدم التاريخ دليل جديدا على وحدة المصير .
لقد بدأت ثورات التحرر العربي في جميع الأقطار العربية فور الاحتلال . فما أن احتلت فرنسا الجزائر سنة .١٨٣ حتى قامت الثورة التحررية الأولى سنة ١٨٣٢ . وفي ذات الليلة التي أجبرت فيها فرنسا السلطان عبد الحميد على توقيع معاهدة احتلال مراكش ، قامت الثورة التحررية الأولى ، وحاصر الشعب العاصمة ، فدكتها المدفعية الفرنسية ، لتنقذ السفاح الماريشال ليوني . وعلى أثر احتلال تونس قامت الثورة بقيادة علي بن خليفة . وفي مصر بدأت ثورة التحرر بقيادة أحمد عرابي فور الإنذار بالاحتلال ، وقبل ان تطأ الجيوش الانجليزية أرض الإسكندرية . فلما انهزمت الثورة الأولى في مصر ثار العرب بقيادة المهدي في السودان ، وأنذر المهدي الخديوي توفيق بأنه قادم لتحرير مصر من الغزاة ، ولما مات قبل ان ينفذ وعده ، نفذه خليفته التعايشي فأرسل حملة إلى مصر بقيادة النجومي سنة ١٨٨٥ . وفور الاحتلال الذي فرضته الدول الغالبة في الحرب الاستعمارية الأولى سنة ١٩١٩، قامت الثورة التحررية الثانية في مصر، والثورة التحررية الأولى في العراق وسوريا ولبنان سنة ١٩٢٠ .. الخ . ثم لم تتوقف الثورات التحررية أبدا على الأرض العربية . ما ان تنتهي ثورة في مكان ولو بالهزيمة الموئسة حتى تقوم ثورة في مكان آخر كلها أمل في النصر . برغم هذا ، برغم البطولات الأسطورية والتضحيات الخارقة ، لم يكن النصر حليفاً لأغلب تلك الثورات طوال مائة عام أو أكثر ، لأنها كانت متفرقة . لأنها كانت في إطار التجزئة . قاد عبد القادر الحسيني ثورة الجزائر خمس عشرة سنة (١٨٣٢ ـ ١٨٤٧ ) ثم انهزم في الوقت الذي كانت الجيوش العربية من مصر كافية لردع فرنسا ذاتها . وفي تاريخ غير بعيد عن هذا ، عبرت الكتائب العربية من مصر مياه المحيط . لتحارب في المكسيك ، مساعدة لنابليون الثالث . وفي عامين اثنين ( ١٩١٩ و .١٩٢ ) كانت الثورات التحررية قائمة على قدم وساق في مراكش ، وفي تونس ، وفي ليبيا ، وفي مصر، وفي العراق ، وفي سورية ، وفي لبنان، وانتهت جميعاً إلى هزيمة كاملة أو إلى شيء يشبه معاهدة ١٩٣٦ التي أنهت المد الثوري في مصر إلى حين .
ولما أن تعلمنا من ظروف الماضي ما أضاعته التجزئة من أحقاب ثمينة ، وما أهدرته من دماء غالية ، وأدرنا صراعنا في سبيل التحرر- بقدر- على أساس " التضامن " القومي لا أكثر ، تحررت أغلب أجزاء الوطن العربي في أقل من عشرة أعوام . وإن كنا لم نتعلم بالقدر الذي يكفي لانتقالنا من التضامن القومي إلى الوحدة القومية ، فلا يزال الجنوب العربي محتلا ، ولا تزال فلسطين محتلة . والى أن يتحرر الجنوب وتتحر فلسطين ، سنظل أمة واحدة كما صنعنا التاريخ ، ولكنا أمة مجزأة دولا كما أراد الاستعمار . وسيظل الاستعمار يستنزف دماءنا ليزيد قوة ، وستظل جهودنا موزعة بين الصراع ضد الاستعمار، والصراع ضد التجزئة ، فلا يتوافر لنا الجهد الكافي لبناء الحياة الحرة .
ـ 4 ـ
ونحن أمة متخلفة ، حالت التجزئة وحال الاستعمار، دون أن نستفيد من كل إمكانياتنا ، ولا نزال في حاجة إلى جهود ثورية في الحقل الاقتصادي لنحقق للإنسان العربي التحرر من الجوع ، أي لنحقق له أولى الحريات : مجرد ان يكون الإنسان إنساناً ؛ فمع أن كثيرا من الأقطار العربية قد تحررت من الاستعمار، وانطلقت تبذل الجهد في سبيل تخطي التخلف ، وحققت على الطريق ما يثير الغبطة ، إلا أن هذه الغبطة التي قد تؤدي إلى قناعة كاذبة ، ينقصها ان تعرف مدى ما كنا نستطيع أن نحققه من تقدم في ظل الوحدة . استردت أجزاء من أمتنا بعض مقدرتها الخلاقة بعد أن حطمت قيود الاستعمار بالتحرر، غير ان قيود التجزئة لا تزال تعوق انطلاقنا وتحبس بعضاً أخر من مقدرتنا على الخلق . وقد كان من أثار التجزئة التي فرضها الاستعماًر ، أن أصبحنا أمة غير مستوية الأجزاء في النمو الاقتصادي . ففي أمتنا أجزاء تعيش في حاله البداوة الأولى ، وفينا من يعيشون في مثل عهود الإقطاع ، وفينا أقطار زراعية ، وفينا أقطار تجاًوزت الرأسماًلية الناًشئة إلى التحول الاشتراكي . ومع هذا فإن التقدم النسبي في بعض الأجزاء لا يخفي ان الملايين من أمتنا ـ في أغلب أقطارها - لا يزالون دون مستوى حرية الوجود الأولى ، أي حرية الحياة والصحة والتحرر من الجوع . وقد علمنا جدل الإنسان أن حرية الوجود شرط لكل الحريات وتحدهاً . فالمترفين الذين يحاولون أن يجعلوا من التقدم النسبي ، أو الترف ، في بلادناً مشكلة نقول : اننا لم نصل بعد إلى هذا المستوى الرفيع من التقدم . إن الملايين من العرب لا يزالون في حاجة الى مجرد ما يحفظ الحياة . مجرد الغذاء الكافي ليستطيعوا التفكير في التطور الى مزيد من الحرية . مجرد الصحة اللازمة ليعبروا عن أنفسهم التي هدها المرض والجوع .
ان لنا في الدساتير والقوانين ، كلمات مرصوصة عن حقوق وحريات لم نذق طعمها بعد ، لأن التخلف الاقتصادي يجردها من كل مضمون . لنا حق الحياة لم ينكره قانون . ومع هذا فلا معنى لحق الحياة إذا كاًن الإنسان العربي يقتل ، ويمرض حتى يموت ، ويجوع حتى يمرض فيموت . ففي حق الحياة يستوي أن تتلف خلاياً الجسم الحي دفعة واحدة بالقتل ، او تتلف بالتدريج المؤلم نتيجة للمرض ، أو تتلف بالتدريج الذي لا يؤلم يوم لا تجد من الغذاء ما يعوضها عن احتراقها بالمجهود . لا يهم في حق الحياة من الذي قتل ، أو ما سبب المرض أو لماذا يجوع الإنسان فان حق الحياة ، في كل هذه الحالات ، مهدر مرة واحدة أو على دفعات . إن مجتمعا يجوع فيه الإنسان ليس مجتمعاً من بني الإنسان . وكم في بلادنا العربية من أقطار يجوع فيها الإنسان العربي حتى يموت . ولنا حق العلم والمعرفة لم ينكره قانون . ومع هذا فإن حق المعرفة والعلم يظل فارغاً ماً لم تتوافر للإنساًن مادة المعرفة ووسائل تعلمها ومعاهد العلم والثقافة التي لا يصده عنها الفقر . ان العلم ضرورة حية لأي إنسان ، يتميز به عن الحيوان الحي . وكم من الأحياء في بلادنا العربية ضحايا حيه للجهل المطبق . ولنا حق العمل لم ينكره قانون . ومع هذا فإن حق العمل يظل عقيماً إذا كان الإنسان العربي لا يجد العمل ، أو يفصل منه دون أن يجد غيره ، أو لا يعمل إلا إذا باع نفسه . وكم في بلادنا العربية من المتعطلين . ملايين من الفقراء الجهلة الذين لا يعملون . ملايين فوق ملايين ، محرومون من أن يحصلوا من أرضهم ، وبعملهم ، على ما يبقيهم بشرا . ملايين من العرب على أرض معبأة بإمكانيات خيالية كافية لتحقيق الرخاء للجميع ، ولكنها إمكانيات متعطلة آو ضائعة أو مبددة . إمكانيات معطله ، لأن العربي لا يستطيع ان يفلت من زحاًم الحياة حيث يكون ، ليجد في مكان اًخر الظروف الراكدة في انتظار مجهود ، إلا اذا قضي بعضا من عمره في تبرير رغبته ، واستيفاء شروط المغادرة والانتقال ، وقدم ضمانات العودة وحصل على جواز سفر ، ما أن يقدمه حتى يرفض طلبه في أغلب الأحيان . وتبقى الأرض عاطلة في مكان والناس في زحام خانق في مكان . وتبقي الثروات بدون خبرة في مكان والخبراء لا يجدون الثروات في مكان ، ويستقدمون الأجانب من كل مكان . وتلك نكبة العرب في هذا الزمان ، حيث يفتقدون العمل في جزء فتبقى الإمكانيات عاطلة ، ويتزاحم العمل في جرء فلا يجد الإمكانيات ، فتضيع هنا ثروة ويضيع هناك جهد . وبجوار الإمكانيات المتعطلة إمكانيات ضائعة . بعضها مسخر لتدعيم الرخاء الأوربي غصباً من بلاد الفقراء ، وبعضها يفلت به البعض من ظروفهم ، محققين لأنفسهم ، وعائلاتهم ، من أرض الفقراء الغنية ، ما يتجاوز الأحلام حتى في أرض الأغنياء . كل هذا وإمكانيات أخرى مبددة . إمكانيات واحدة ، من ظروف واحدة ، لأمة واحدة ، تديرها عشرات الحكومات ، ومئات الوزارات ، وعديد من النظم ، وما لا حصر له من الخطط الاقتصادية المتنافرة ، المتناقضة ، المتنافسة ، يعطل بعضها بعضاً ، عمداً في بعض الأوقات . ويتوهم الإقليميون بعد هذا ، ان جزءاً من الأجزاء ، مهما بذل فيه من جهد ، قادر على ان يبني مستقبل الرخاء من إمكانيات إقليمه . نعم عن الحياة لم تتوقف في أي جزء من الأمة العربية ، ولسنا نتهم أحدا من العاملين بخيانة مستقبل أمته ، ولسنا نقول لأحد قف فلا تصنع الحياة بقدر ما تستطيع حتى تتحرر باقي الأجزاء ، وتتوحد الأمة الواحدة . لا ، فإن الحياة لا تقف . وإنما نكشف أسباب التخلف في الأجزاء وفى الكل معاً ، ونقدم الاستعمار والتجزئة معوقين لإمكانات بناء المستقبل الحر في كل الأجزاء . بلا استثناء ، حتى ما تجاوز منها البدائية الأولى إلى مشارف التحول الاشتراكي . لا نقول لأحد قف ، ولكنا نقول إن التقدم النسبي الذي يحققه جزء من أمتنا ، لا يغير الحقيقة القائمة وهي أن التجزئة عبء معوق حتى للأجزاء المتقدمة ؛ لأنها محرومة من كل إمكانيات الظروف الواحدة في الأمة الواحدة ؛ ولأنها ، وهي تبني المستقبل في الجزء ، تقتطع من قدرتها قدرا لمواجهة المشكلات التي يطرحها الكل . فهي متخلفة بالنسبة إلى إمكانيات الكل ، وإن كانت متقدمة بالنسبة إلى الأجزاء الأكثر تخلفاً . وهكذا تبقى - على المستوى القومي وبالنسبة الى أغلب الجماهير العربية ـ امة متخلفة إلى الحد الذي يكاد يمس إنسانية الإنسان العربي .
ـ 5 ـ
ومع أن بعض الأجزاء تحاول جاهدة أن تحقق للجماهير فيها مظاهر الديمقراطية ، وبعضاً من جوهرها ، ولا يستطيع أحد أن ينكر عليها المحاولة الجاهدة . كما لا يستطيع أحد ان يقول للديمقراطيين في الأجزاء لا تعجلوا حتى تتحرر الأجزاء وتتوحد الأمة ، فإن هذا لا يغير الحقيقة القائمة . والحقيقة القائمة في اغلب الأقطار العربية مرة كطعم العبودية ذاتها . إن ملايين من أبناء الشعب العربي لم يصلوا إلى حد التحرر من الخوف والبطش بلا إنذار ، والاتهام بلا تحقيق ، والسجن بلا محاكمة ، والقوانين بلا عدالة ، والجوع والتشريد بلا ذنب ٠ الخوف من ان تهدر الحياة ، وان يقطع الرزق ، وأن تهان الكرامات ٠ الخوف الذي يشل التفكير ، ويعمي البصائر ويخلع القلوب ، فلا تقوى الجماهير على مجرد الشكوى من المشكلات ، ولا على معرفتها ، ولا على حلها ، وتبقى المشكلات قائمة بدون حل . وما دام الخوف يحبس الألسن فلا تشكو ، ويرعب الناس فلا تقول ، ويخرب الذمم فتختلق الحلول نفاقا ، فإن أول أسباب الجدل الاجتماعي معدوم . أول شروط الديمقراطية غير قائم . فإننا إذ ننطلق من مشكلات غير معروفة ، لأن الخوف قد حبسها ، أو لأن النفاق قد زيفها ، فإن تبادل الرأي ـ ولو شكلت له المجالس والتنظيمات ـ سيدور على مشكلات مجهولة أو زائفة ، فتصبح الحلول معلقة في رؤوس أصحابها تدور على هوى المستبدين . ولن يجدي بعد هذا أن يكون لكل إنسان حرية العمل ولو كان عملا سياسياً . المنطلق خطأ . والأساس الديمقراطي منهار . لأن الناس في أغلب أقطار الوطن العربي خائفون . وللناس في اغلب أقطار الوطن العربي أسباب تبرر الخوف الدائم ، ولو كانت أسباب الخوف قد انقطعت – فإن كثيراً من حكام العرب لم يستطيعوا حتى الآن أن يكسبوا ثقة الناس في أقوالهم ولو قالوا لهم : إنكم آمنون .
ـ 6 ـ
أمة واحدة مجزأة دولا ، ولا تزال بعض أقطارها في قبضة الاستعمار . أمة واحدة معبأة بإمكانيات الرخاء . ولا تزال الجماهير فيها تعيش في أقل من مستوى الإنسان . أمة واحدة تعلمت الحرية نفذ أن وجدت ، وعلمتها الناس قروناً ، ولا يزال الناس فيها ضحايا الاستبداد والاستغلال .
تلك بعض ظروفنا . والبعض الأخر أننا جزء من المجتمع الإنساني . وقد تعلمنا من جدل الإنسان أننا متأثرون بغيرنا مؤثرون في غيرنا متغيرون دائماً مع الجميع ، لهذا فإننا لا نستطيع أن ننعزل عن العالم الذي نعيش فيه . ولا ان نمنع تاثيره فينا ، ولا أن نطلب منه أن يتوقف عن الحركة أو عن التطور حتى نعد الحلول لمشكلاتنا الخاصة . كل هذا وهم . فسواء أردنا أم لم نرد فإننا جزء من هذا العالم بكل ما فيه من التجمعات الإنسانية .غير أننا قد عرفنا أيضا أن التأثير كم نسبي ، ولهذا فان أقوى التأثير والتأثر يأتينا مما هو قريب منا . فالأمم التي تقرب منا على الطبيعة تؤثر في أمتنا أكثر من الأمم المعزولة عنا . والقرابة في المشكلات ، وفي الثقافة ، وفي العقائد ، وفي الحضارة ؛ أي القرابة في التاريخ تقرب التأثير المتبادل في المصير ٠ والشعوب التي تواجه مشكلات قريبة من مشكلاتنا ، وتخوض معارك قريبة من معاركنا أقرب إلينا تأثرا وتأثراً ، من الأمم التي تتجاوزنا بكثير أو تختلف عنا بكثير . غير ان التطور المذهل في وسائل الاتصال ، والسهولة الفائقة التي تنقل بها المعرفة والثقافة ، والإمكانات الميسرة للتغلب على الانفصال اللغوي عن طريق التعليم والترجمة ، أدخلتنا في دائرة التأثر المباشر بالأمم الأخرى جميعا ، وكادت أن تلغي عزلة المكان ، ليستوي التأثير والتأثر بالأمم في أي مكان ليشملنا معا الوجود الإنساني الواحد . وقد عرفنا من جدل الإنسان أن الوجود الشامل شرط الوجود الجزئي وحفاظ له ٠ يكمله ولا يلغيه . لهذا فإن وجود أمتنا ومصيرها مرتبطان بالمجتمع الإنساني ومصيره . كل خطوة إلي الحرية في العالم تدعيم لمقدرتنا على التحرر، وكل ما يهدد مصير الناس في المجتمع الإنساني يهدد مصيرنا . من هذه العلاقة المتبادلة بيننا وبين المجتمع الإنساني ككل ، تصبح الظروف العالمية جزءا مكملا لظروفنا ، فتضاف مشكلاتها إلى مشكلاتنا ، وتضاف إمكانياتها إلى إمكانياتنا ، ليصبح مصير المجتمعات الإنسانية جزءا من مصيرنا .
وأخيرا ، فقد طرحت الظروف العالمية مشكلة جديدة بعد الحرب الاستعمارية الثانية . فبعد أن هزمت الفاشية والنازية ، واندحر الاستعمار الياباني ، انقسم الغالبون محورين كل منهما ذو سمة عالمية . أما الرأسمالية الغربية فقد عرفنا سمتها العالمية عندما عرفنا الاستعمار عالمياً . وأما الشيوعية الشرقية فتستمد عالميتها من أساسها العقائدي . وقد كانت المصالح الاستعمارية المشتركة مبررا لتقدم الولايات المتحدة إليها الدول الأوربية الغربية وقطيعاً آخر من دول الأرض لتقيم كتلة واحدة ، وتسخر إمكانياتها المادية والبشرية والعلمية لحرب أخرى تجهز بها على الشيوعية . وتحت تأثير الدعاية المنظمة للوحدة الغربية ضد الشيوعية كادت المصالح الواحدة أن تصبح عقيدة واحدة . ثم كانت الأسس العقائدية الواحدة مبررا ليضم الاتحاد السوفييتي إليه الدول الأوربية الشرقية وقطيعاً أخرمن دول الأرض ليقيم كتلة واحدة ، ويسخر إمكانياتها المادية والبشرية والعلمية لحرب أخرى يجهز بها على الرأسمالية . وتحت تأثير الدعاية المنظمة للوحدة الشرقية ضد الرأسمالية ، كادت العقيدة الواحدة أن تصبح مصلحة واحدة . وحيثما اجتمع ممثلو الرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية مزقوا الأمم اتفاقا فيما بينهم ؛ كذلك فعلوا بألمانيا وكوريا وفيتنام . المهم أن كلأ من الكتلتين قد نشطت في أن تضم إليها شعوباً أخرى دعماً لقوتهاً في الحرب المقبلة ، أو سلباً لبعض قوة الكتلة الثانية . واستعملت كل من الكتلتين أساليب متشابهة في فرض هذا التكتل على شعوب الأرض جميعاً . كل منها وعد وأغرى ثم توعد وهدد . وجنى الرافضون من كلتيهما مساعدات مغرية وتهديدات جائرة . وفى سنة واحدة ( ١٩٥٦ ) استعملت كل منهما القوة الباطشة محاولة لردع الذين لم يقبلوا التبعية ( الجمهورية المصرية ) أو الذين يتمردون عليها ( المجر) . وانطلقت كل منهما تعد للحرب ، مقتطعة من إمكانياًت الشعوب وقوت الجماهير ما تبني به أجهزة الدمار. وسلطت كل منهما أجهزة الدعاية ، وسخرت وسائل الثقاًفة ، لتبرر ما تعد له من أسباب التخريب . وفي المكتبات وعلى أرصفة الطرقات في كل عواصم الدنيا ، دارت معركة فكرية طاحنة ، بان كتب مختلفة ألوانها ، معبأة بألوان مسمومة من الفلسفة والأدب والفن ، يحاول كل منها أن يجند الناس في المعركة المقبلة ، منطلقاً من بداية مغرضة .. إما معي أو علي . وقد كاد السلاح الفكري على وجه خاص أن يحيل الناس جنداً منقسمة ببن الكتلتين كلتيهما الى شعوب الأرض جميعا . حينئذ طرحت الظروف مشكلة السلام العالمي ، ولم تعد أي من الكتلتين منفردة المصير، نصراً أو هزيمة ، في أية حرب ذرية .
ـ 7 ـ
وإذا كنا نبذل من إمكانياتنا ما نسهم به في حل مشكلة الاستعمار في الأمم الأخرى ، فإن كل الأمم ، التي عرفت الاستعمار وذاقت آلامه ، تقف معنا في معركة التحرر وتعوضنا عما بذلناه ونبذله أضعافاً من تأييدها المادي والسياسي والأدبي ، وتحمل بهذا عن عاتقنا بعض أعباء المعركة . فعندما أصبحنا طرفاً في معركة تحرر الشعوب من الاستعمار، أصبحت تلك الشعوب طرفاً في معركة تحررنا . وفي نظير ما نسهم به ، محدوداً بمقدرتنا ، نتلقى مساهمة غير ذات حدود . والفرق بين ما نقدر عليه وما نتلقاه مقدرة مضاعفة هو تلك الإضافة التي تغني بها الظروف العالمية الشاملة إمكانيات ظروف الأجزاء منها .
وإذا كانت الظروف الاقتصادية العالمية ، المتخلفة او المتقدمة ، تفرض علينا عبء حسابها في تخطيط جهودنا في تخطي التخلف ، فإنها تقدم لنا من إمكانيات التقدم ما يدفع بنا قدماً على طريق الإنتاج ، وتقدم لنا أسواقاً لمنتجاتنا ، وتوفر لنا ، بالتكامل الاقتصادي على المستوى العالمي ، جهوداً وأموالا كان من الممكن أن تضيع في إقامة صناعة مقصورة عينا إنتاجا أو توزيعا أو استهلاكاً .
وإذا كنا نسهم في معركة السلام العالمي ، فإن السلام العالمي يحفظ لنا وجودنا ذاته . إنه قضيتنا الخاصة ، وإن كان قضية البشر جميعاً ؛ لأن وجودنا ومصيرنا مرتبطان بالمجتمع الإنساني ومصيره . وكل ما نبذله في المحافظة على السلام العالمي ، يعود إلينا مضاعفا مما تبذله الأمم في المحافظة على وجودنا ضد أخطار الحروب في عهد الذرة .
ـ 8 ـ
تلك هي ـ فيما نرى ـ بعض المعالم الرئيسية لظروف أمتنا العربية في العقد السابع من القرن العشرين ، مثلا ضربناه ، وليس حصرا لمفردات الظروف . وقد تعلمنا من جدل الإنسان أن الظروف هي النقيض من الماضي ، وأن النقيض من المستقبل " غاياتنا " أي " المثل العليا التي نتطلع إليها . إنها الظروف التي نريد أن نحققها . فما هي غاياتنا ؟ . لو كنا قد استوعبنا جدل الإنسان منهجاً للتفكير لكان ردنا الأول في كل الظروف واحدا : إن غايتنا الحرية . نريد ان نحقق ظروفاً خالية من القيود . إن تلك ـ كما عرفنا ـ غاية ثابتة للنشاط الإنساني ، يتجه إليهاً تطوره ؛ويسير على دربها تاريخه ، أيا كانت ظروفه . في هذا نتساوى مع الناس جميعاً ، ونسير مع الأمم جميعاً على درب واحد إلى غاية واحدة الحرية ثم مزيد من الحرية . ذلك مثلنا الأعلى الشامل كأمة من بني الإنسان ، وبه تتسق غاياتنا مع اتجاه التاريخ .
غير أننا لسنا أمة من الناس فحسب ، بل نحن أمة عربية أيضا .
ذلك أننا لسنا أمة عربية فحسب ، بل إننا أمة عربية في القرن العشرين أيضا .
هنا لا يكفي أن نعرف الحرية مثلنا الأعلى وغايتنا كباقي البشر ، ولا يكفي أن نعرف ما صاغه الإسلام لنا مثلا أعلى وغاية في كل زمان ، بل يجب أن نضيف إلى هذا ما نعرف به غايتنا في هذا الزمان . فبهذا يتميز جدل الإنسان في إطار جدل الأديان . وقد قلنا من قبل : " إذا كانت المثل العليا لكل إنسان محدودة بظروفه كنقيض لها ، فإن عدم تقيد التصور بالزمان أو المكان يجعلها أكثر غنى من ظروفه في زمان معين أو مكان معين ، فيستطيع ان يتصور المستقبل ظروفاً مركبة من عناصر الظروف الخاصة به وظروف غيره من الأفراد أو المجتمعات . وتسهم المعرفة والعلم في أن يغني الإنسان تصوره فتصبح مثله العليا أكثر شمولا وأكثر سمواً " .
وقد عرفنا وعلمنا ، من ظروفنا وظروف غيرنا من الشعوب والمجتمعات ، بكل ما فيها من ألام وآمال ، ومن نجاح وفشل ، ما يكفي لتحديد غاياتنا في القرن العشرين ٠ وأجملنا كل هذا في موضع سابق عندما تتبعنا تطور المجتمعات حتى انتهينا إلى الاشتراكية غاية الإنسان في هذه الحقبة من الزمان . وقلنا إن الاشتراكية " ظروف فيها كل الحريات التي كسبها الإنسان ، يضاف إليها ان تتحول الحريات السلبية إلى حريات إيجابية او حقوق . أن تجد الحريات مضمونها ; أن تكون حرية الحياة ، حياة صحية آمنة من الخوف والجوع والمرض ٠ وتكون حرية الفكر علما وثقافة متاحة بدون فقر ، مزدهرة بدون إرهاب . وتكون حرية العمل عملا فعلياً دائماً يختاره العامل فيه القادر عليه . وتكون حرية الإرادة والتعاقد طريقا مضموناً إلى تحقيق الغاية من العقد . وتكون حرية التملك ملكية حقيقية يمارس الإنسان فيها حريته . وتكون الحريات السياسية مساهمة إيجابية في الحكم والسيطرة على الدولة ... الخ كل هذا في إطار من الجدل الاجتماعي : علم الجميع ورأي الجميع وعمل الجميع لمصلحة الجميع . لكل حسب إسهامه في الجدل الاجتماعي . لكل حسب عمله : علماً ، أو رأيا ، أو عملا ، حرية ايجابية بدون استغلال " .
تلك غايتنا في القرن العشرين : الاشتراكية .
غير أننا لسنا أمة عربية في القرن العشرين فحسب ، بل نحن أمة منكوبة بالاستعمار أيضاً . ونكبتنا بالاستعمار شاملة كل أنواعه ، فقد انتزع الاستعمار أجزاء بكاملها من وطننا العربي ، طرد منها إخوة لنا وجمع فوقها خلاصة الرجعية العالمية ، وأقام منهم دولة تمكن له منا كقاعدة وتجمد قدرا كبيرا من طاقتنا المادية والبشرية ، نرصده لرد خطرها . وتسلبنا قدرا أخر من إمكانيات هذه الأمة أرضا وبشرا ، وتستنزف جهودنا دفاعاً عن مجرد وجودنا القومي ، فلا تتاح لكل هذه الطاقات والإمكانيات والجهود أن تنصرف إلى بناء الحياة على الأرض السليبة ، وعلى كل أرض من الوطن العربي . ثم أن الاستعمار يفرض إرادته بقوة السلاح في أجزاء أخرى من الوطن العربي ، وينهب إمكانياتها ليسخرها لبناء مستقبل المستعمرين أنفسهم ، تاركاً الشعب العربي في تلك الأجزاء مثقلا بالمشكلات محروماً من إمكانيات حلها ، حائلا دون التحام الجزء بالكل لتستفيد الأجزاء المحتلة من إمكانيات التطور الغنية في باقي الأجزاء . ثم إننا منكوبون بالاستعمار الخفي الذي يحقق غاياته اتفاقاً مع العملاء بدون حاجة إلى البطش الظاهر، وإن كان البطش الظاهر احتمالا قائماً غير بعيد عن الحدود . وبهذا يذهب قدر كبير من إمكانياتنا إلى حيث يصنع الحياة رخاء خارج الوطن العربي ، ويبقى الشعب العربي ـ في أرض البترول مثلا ـ يعاني المشكلات الأولى ، جوعاً ومرضاً وجهلا ، وهو يحمل الثروات ليديه إلى غيره . ونعرف من الاستعمار الخفي ، محاولات من بنات القرن العشرين . فبالإضافة إلى الاغتصاب بالبطش والاختلاس بالخديعة ، تتعرض الأمة العربية لاستعمار مسموم مسلط على أفكارنا ، يحاول المعتدون به ، أن يصوغو لناً علومنا وثقافتنا وتقاليدنا وأخلاقنا على مناهجهم الخاصة ، طريقا سهلا للاستيلاء على الناس أنفسهم ، فلا يصبح صعباً بعد هذا أن يكون لهم الناس وما يملكون ، بدون أن يكلفوا أنفسهم عناء الاغتصاب بالبطش أو الاختلاس بالخديعة . ولكل لون من الاستعمار في بلادنا عملاء ملونون ، من أول الذين يطلقون المدافع إلى آخر الذين يطلقون الكلمات . نحن الهدف والضحية وفي هذا يتساوون . وقد عرفنا من قبل أن الاستعمار اعتداء على الوجود ، وأن الوجود شرط التطور . لهذا لا يكفي أن تكون الاشتراكية غايتنا في القرن العشرين ، بل يضاف التحرر من الاستعمار بألوانه جميعاً غاية وحلا لمشكلة أضافها الاستعمار الى ظروفنا فلا يلهينا عنها عملاء المستعمرين .
ثم إننا لسنا أمة عربية منكوبة بالاستعمار في القرن العشرين فحسب ، بل نحن أمة مجزأة دولا أيضاً .
من هنا تصبح الوحدة إحدى غاياتنا .
بذلك تستقيم لنا من ظروفنا غايات ثلاثة : الحرية والوحدة والاشتراكية . هذا هو مثلناً الأعلى في القرن العشرين . تلك هي غاياتنا ، إنها النقيض الثاني من المستقبل الذي نعاني في أنفسنا صراع تناقضه مع ظروفنا ، وتحدد به مشكلتنا الي يجب أن تحل . وعلى من يريد أن يعرف حدة المشكلة التي تعانيها أمتنا ، ومدى عمق الصراع الذي يدور فينا بين ماضينا ومستقبلنا ، ومدى الألم الذي يعانيه من يدركون مشكلة أمتهم ، على من يريد أن يعرف ، أن يقارن بين ظروفنا وغاياتنا ، فقد عرفنا من جدل الإنسان أن المشكلة التي يثيرها الصراع بين النقيضين في الإنسان ، تتمثل في الفرق بين ظروفه وأماله . بين ما هو عليه وما يريد أن يكون . وبقدر ما يكون الفرق كبيرا ، تكون المشكلة حادة ، فيكون الصراع عميقا . وإن الفرق بين ما نحن عليه وبين ما نتطلع إلى تحقيقه لفرق هائل ، ومن هوله أصبحت مشكلاتنا مؤلمة ألما حادا .
ـ 9 ـ
أما الذين يريدون أن يعرفوا كيف تحل المشكلة . ولا يكتفون باجترار الألم ، فليرجعوا إلى جدل الإنسان فقد عرفنا منه أن حل المشكلات يتوقف على مدى معرفتنا الصحيحة بالظروف التي تطرحها ، ومدى صحة استعمالنا للقوانين العلمية التي تحكم تلك الظروف ٠ فلئن كنا نهدف إلى الحرية والوحدة والاشتراكية ، فإن هذا لا يعني أن نصدر سلسلة من التشريعات تحمل في كلماتها نصوصاً لفظية عن الحرية والوحدة والاشتراكية . إنه عندئذ لعبث مضلل غير علمي ، فإن تلك الغايات هي النقيض من المستقبل ، وظروفنا هي النقيض من الماضي ، ومشكلتنا هي الصراع بينهما ، وحلها الجدلي هو التحقيق الجزئي عند التقاء النقيضين وطبقاً لإمكانياتنا ٠ إن الحاضر هو نقطة الانطلاق إلى الحرية والوحدة والاشتراكية . والقفز من الماضي إلى أقصى أمانينا في المستقبل مجرد أحلام لن تتحقق في الواقع ؛ لأن الواقع لا يخضع إلا للعلم ولن يخضع يوماً للأحلام .
إن لنا في الاشتراكية مستقبلا وغاية نتجه إليها ونبذل الجهد في سبيلها ، ونصبح بهذا اشتراكيين متميزين بغايتنا عن القانعين والمنحرفين . ولكن لنذكر ما قلناه إن هذا المثل الأعلى الذي يناقض الظروف فيسهم في طرح المشكلات ، ويكون بسموه دافعاً لعجلة التطور وتحقيق حرية الإنسان ، قد يكون معوقاً للتطور ومعطلا لتحرر الإنسان ، عندما ينقلب من مثل أعلى إلى مثالية ؛ والمثالية ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ هي توقع حل المشكلات عن غير طريق جدل الإنسان الذي عرفناه ، وعلى هذا قد تكون مثالية فكرية أو مثالية مادية ، تستويان في أنهما موقفان عقيمان ، لا يتقدم الإنسان خلالهما ، بل سيظل عبداً لظروفه ؛ لأن تحققهما غير ممكن علمياً ، وذلك مميز المثالية ، وصورتها إلغاء أحد النقيضين .
مثاليون إذن في أمتنا أولئك الذين يتجاهلون الاستعمار والتجزئة ، محاولين ـ لا ندري كيف ـ أن يحققوا الاشتراكية . إنه موقف عقيم . لأن بداية الطريق إلى الاشتراكية التي عرفناها غاية نريد ان نحققها في الوطن العربي ، أن نرصد لها كل إمكانيات الوطن العربي ، المادية والبشرية ، كل الإمكانيات الطبيعية والعلمية وكل الجهود لتحقيق هذه الغاية . وهذا غير ممكن علمياً ما دام المستعمرون ينهبون من ثرواتنا وجهودنا ما يبنون به الحياة في بلادهم سلباً لمصادر بناء حياتنا الاشتراكية . فلا بد إذن من استرداد مصادر الثروة ، أرضا وبشرا ، من أيدي المستعمرين بالتحرر. فان استخلصنا من المستعمرين ما كانوا ينهبون ، فإن تحقيق الاشتراكية يقتضي أن تنظم كل تلك الإمكانيات ، وكل الجهود ، طبقاً لخطة واحدة تتكامل بها الإمكانيات والجهود في سبيل الغاية المشتركة ، وهذا غير ممكن ما دامت إمكانيات الوطن العربي ، طبيعة وبشراً ، موزعة دولا ، عرفنا من قبل كيف تبدد الإمكانيات الاقتصادية ، وتضيع الجهود . لابد إذن من الوحدة السياسية لتتحقق الاشتراكية . لهذا قلنا ، ونكرر دائما : إن الوعي الصحيح ، للقومية العربية لا يعرف إلا رفع الحواجز ليلتحم الشعب العربي في جدل حياتي ، هو شرط التطور، بل هو التطور ذاته إلى الاشتراكية . أما توهم أن تحل المشكلات في كل جزء قبل أن تتحقق الوحدة فإدراك خاطئ للقومية وللأمة التي تحتم وحدتها العضوية ألا تحل مشكلات الأجزاء إلا في الكل . إننا نسأل كل الذين يرفعون القومية العربية شعارا ، ويتخذون الأمة العربية ستارا ، ترى لو كان من الممكن أن يحل كل جزء مشكلاته فيصبح اشتراكياً ديمقراطيا حقاً في ظل التجزئة ، فما جدوى الوحدة ؟ ونضيف أنه لو كان هذا ممكناً ، لكان لا بد من مراجعة فكرة القومية العربية ، والتحقق من وجود الأمة ذاته ، إذ أن وجود الأمة كوحدة عضوية ، تتضمن عناصر المشكلات وإمكانيات حلها لا يمكن أن يقوم معه تصور إمكان حل الأجزاء مشكلاتها حلا سليماً بدون أن تسهم الأمة بمجموعها في حل تلك المشكلات . لهذا فإذا كان المنطق الإقليمي خيانة قومية ، فإن الانطلاق إلى الاشتراكية قفزا فوق التجزئة ، مثالية عقيمة. فإن تحققت الوحدة إثر التحرر ، فرصدت كل الإمكانيات والجهود في خطة واحدة ، بقي أن ينتزع الشعب العربي من إمكانيات وطنه ، وبعمله ، الثروات الكافية ليكون لكل عربي مضمون مادي يمارس فيه حريته بدون استغلال . وهنا يحتم أن تعرف المشكلات التي يثيرها ؛ التطبيق على حقيقتها ، غير منكورة أو مزيفة ، وهذا غير ممكن إلا برفع الخوف وبحرية المعرفة والشكوى . ثم يحتم أن توضع لها أسلم الحلول ، وهذا غير ممكن إلا بحرية الرأي لنعرف الحل السليم . ثم يحتم أن يسهم الجميع في العمل تنفيذا لرأي الأغلبية ، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا كانت الحكومة مختارة من أغلبية الشعب ، لتلغي استغلال الأقلية وتنظم عمل الجميع في سبيل الاشتراكية . أي لا بد من الحرية (والديمقراطية) . ليس ثمة ضمان أخر ـ غير الديمقراطية ـ لكي تكون كل الإمكانيات التي استردها الشعب بالتحرر، وحشدها بدولة الوحدة ، في طريقها إلى غايتها : الاشتراكية . إذ ليس ثمة طريق علمي لصنع المستقبل لا يبدأ بالوجود القومي ( الوحدة ) فيصل عن طريق الجدل الاجتماعي (الديمقراطية ) إلى الحرية (الاشتراكية) .
لا يعني هذا أن الحياة ستقف لو انتهجنا إلى الاشتراكية نهجا غير علمي - ولكن يعني أن المثالية التي تحاول أن تقفز إلى الاشتراكية متخطية الوحدة ، أو تحاول أن تبني الحياة في ظل الاستبداد ، تعوق تقدمنا إلى الاشتراكية ، وتبقى المشكلات قائمة بما في المشكلات من صراع وآلام ، وتبدد طاقات وثروات فيما تبذله من جهود غير علمية ، وتضيع أحقاباً أخرى ، قبل أن تتعلم من التجربة المرة أن المستقبل لا يقع إلا طبقاً لقوانينه الحتمية . فالتجزئة إذن لست حائلا دون الاشتراكية ، ولكنها معوق لتحقيقها ، وضياع للجهود ، إلى أن تتم الوحدة حتماً . والاستبداد ليس حائلا دون الاشتراكية ، ولكنه إهدار لإمكانات تحقيقها وتزييف لمشكلات التطور، واصطناع مثالي لاشتراكية غير قائمة ، الى أن تتم الحرية حتماً . وإن جزءا ينطلق منفلتاً من الوحدة في سبيل تحقيق غاياته الخاصة لهو جزء واهم ، فإن غاياته غير قابلة للتحقيق الكامل إلا في الكل الذي يشملها . والكل هو الذي يحدد مدى ما يمكن تحقيقه من تقدم نحو الاشتراكية . وإن جزءاً يسلب الناس فيه حرياتهم ، بحجة تحقيق الاشتراكية ، لهو جزء واهم ؛ لأن الاشتراكية ليست سوى تحقيق المضمون المادي لتلك الحريات . لهذا فإن النضال والتخطيط للثورة التحررية في ظل الاستعمار بداية واجبة وممكنة علمياً يتحدد بها الاتجاه إلى التحرر، ولكن التحرر لا يتحقق إلا بطرد المستعمرين . كما ان النضال والتخطيط للوحدة في ظل التجزئة بداية واجبة وممكنة علمياً يتحدد بها الاتجاه القومي ، ولكن الوحدة لا تحقق إلا بإلغاء التجزئة . والنضال والتخطيط الاقتصادي للاشتراكية في ظل الاستبداد بداية واجبة وممكنة علمياً يتحدد بها الاتجاه الاشتراكي ، ولكن الاشتراكية لن تتحقق إلا حرية مضافة إلى الديمقراطية .
بهذا يصبح النضال والتخطيط من اجل الوحدة والحرية نضالا وتخطيطاً اشتراكياً ، ويصبح للاشتراكية في بلادنا مضمون متميز لنقول إنها اشتراكية عربية . فالاشتراكية العربية لا تعني إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج كما يقول الماركسيون ، ولا تعني التوزيع العادل للدخل وفرص العمل كما يقول الفابيون ، ولا تعني رفع مستوى المعيشة كما يقول الاشتراكيون في بلاد الرخاء ، بل تعني ما يشمل هذا ويتجاوزه إضافة من ظروفنا إلى مستقبلنا إنها تعني الوحدة والحرية والرخاء معاً . وبهذا تتميز الاشتراكية العربية عن المفاهيم الاشتراكية الأخرى ، ويتميز بها الاشتراكيون العرب عن غيرهم من الاشتراكيين ، ماركسيين كانوا أو غير ماركسيين . فليس اشتراكياً عربياً من يدعو ويناضل من أجل إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ويقبل التجزئة أو الدكتاتورية . انه شيوعي . وليس اشتراكياً عربياً من يدعو ويناضل في سبيل التوزيع العادل للدخل وفرص العمل ولو في ظل الوحدة ويقبل الاستبداد . انه فاشستي . وليس اشتراكياً عربياً من يدعو ويناضل من أجل رفع مستوى المعيشة في ظل الاحتلال . انه عميل استعماري . إنما الاشتراكي العربي من يدعو ويناضل في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية معاً .
ليس هذا تمييزا في التطبيق الاشتراكي ، كما تتميز الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي عن الاشتراكية حتى في الصين ، فإننا لم نتناول التطبيق بعد ، بل نرسي أسس الاشتراكية العربية . إنما هو تمييز في مفهوم الاشتراكية ذاته ، أي في النظرية . وآية هذا أننا لم نصل إليه عن طريق مناقشة الخطط الاقتصادية ومناهج التطبيق في أي جزء من الوطن العربي ، او في الوطن العربي كله . بل وصلنا إليه عن طريق منهج في التفكير، ومقياس علمي ، لم نستعره من احد .
هل معنى هذا أن النظام الاشتراكي يختلف من مجتمع إلى آخر ، أو أن هذا امتياز مقصور على الأمة العربية ؟ هل هناك اشتراكية واحدة يختلف مضمونها التطبيقي من مكان إلى مكان ، أو أن لكل مجتمع اشتراكية خاصة ؟
تلك أسئلة تستحق إجابات واضحة ، حتى لا يظن أحد أن وراء الاشتراكية العربية نعرة قومية متعصبة .
إذا كان المقصود " بالاشتراكية " أن تكون مجرد عنوان على أي تغيير، فثمة اشتراكية واحدة ، تختلف تطبيقاتها ، تبعاً لما يعنيه كل متحدث عنها ، وبهذا تكون الاشتراكية غير ذات دلالة مميزة .
وإذا كان المقصود بالاشتراكية ، منهج التغيير ، أو فلسفته ، أي القوانين والقواعد التي يستعملها الناس في فهم حركة المجتمعات وتغييرها ، فليس للاشتراكية دلالة مميزة أيضاً . يكون المنهج علميا أو غير علمي ، ولكن المنهج العلمي لا يعني أن صاحبه سيستعمله في تحقيق الاشتراكية . فمثلا نستطيع ، باستعمالنا العلمي لقوانين الهندسة ، أن نبني القصور أو أن نحفر القبور . وقد استطاع الأمريكيون " الرأسماليون " ، والروس " الاشتراكيون " أن يستعملوا ذات المناهج العلمية ، فوصلوا جميعاً إلى إنتاج الطاقة الذرية . ولم يكن انتهاجهم العلم مميزا لأحد منهم عن الآخر، إنما يتميزون بالغايات التي يستعملون فيها الطاقة التي أنتجوها . لهذا ـ مثلا ـ لا يكفي أن يقول إنسان عن نفسه إنه مثالي ، أو مادي ، أو وضعي ، أو تجريبي ... الخ ، ليكون اشتراكيا ، إنه قول يعبر به عن منهجه في تدقيق غاياته ، ولكنه لا يميز تلك الغايات بما تصبح به اشتراكية ، وفوضوية ، أو وجودية . كذلك لا يكفي أن يقول انه جدلي مادي ليكون اشتراكياً ، على نحو ما يفعل الماركسيون الذين يقبلون المنهج الماركسي ( الجدلية المادية ) ، ولا يقبلون الاشتراكية الماركسية ( الشيوعية ) ، ويستعملون كلمة الاشتراكية كمرادف " للجدلية المادية "، مع ان مجرد معرفة أن كل شيء متأثر، ومتحرك ، ومتغير، وانه يحتوي في باطنه على تناقض وصراع ، لا يعني أننا سنستعمل هذه المعرفة لتحقيق الاشتراكية ، بل قد يستعملها البعض في تخريب المجتمعات بكل ما فيها من " طبقات " ، رجعية وتقدمية معاً ، ما دام ذلك ممكنا على الوجه الذي جاء في البيان الشيوعي ، إنها " منهج " إن صح علميا ، فهو ضمان تحقيق الغايات ، ولكنه لا يحدد تلك الغايات تلقائياً .
وإذا كان المقصود بالاشتراكية " نفي " الرأسمالية ، فبهذا المعنى يقال عن أغلب الذين يكافحون الرأسمالية ، انهم اشتراكيون . قد يصلح هذا مميزا تاريخياً تتميز به الاشتراكية كموقف مضاد للرأسمالية . غير ان هذا المميز التاريخي الذي قد يصلح ـ تسامحاً ـ لتمييز الاشتراكية ، لا يميزها عن نظم أخرى مضادة للرأسمالية ، كالإقطاع مثلا . ولا شك في ان حكم الإمامة في اليمن كان مضادا للرأسمالية أو الاشتراكية أو أي نظام مهما كانت سمته ، يختلف عن نظام الحياة في اليمن السعيد ، ويتضمن ولو بذرة تقدم .
وطبيعي أننا ، فيما كتبنا وما نكتب ، لا نقصد بالاشتراكية عنواناً أو منهجاً أو موقفاً سلبيا معاديا للرأسمالية .
إنما الاشتراكية التي عنيناها ، ونعنيها ، هي " مجموع حلول المشكلات التي طرحتها الرأسمالية " . وهذا وحده لا يغني شيئاً في فهم الاشتراكية أو تعريفها . إنما تفهم وتعرف ، عن طريق معرفة ما هي تلك الحلول ومضمونها ( الاشتراكية النظرية ) وكيف تتجسد في الواقع (التطبيق الاشتراكي ) .
وهو ما أثبته التطبيق الاشتراكي على الوجه الذي رأيناه في الفصل الأول من هذا الكتاب .
وهكذا وصلنا عن طريق التطور التاريخي للاشتراكية ، وعن طريق جدل الإنسان كمنهج ، إلى نتيجة واحدة ، أجبنا بها عن أحد السؤالين اللذين بدأنا بهما هذا الحديث . لماذا ؟ ... وكيف ؟ . فعرفنا لماذا لا يمكن أن تقوم في الوطن العربي إلا اشتراكية عربية متميزة في النظرية وفي التطبيق ،عن النظم الاشتراكية في الأمم الأخرى .
بقي أن نعرف كيف ؟
كيف تتحقق الاشتراكية العربية ؟
ـ 10 ـ
تتحقق الاشتراكية العربية ـ طبقا لجدل الإنسان ـ بالثورة .
وقد عرفنا من جدل الإنسان أن الثورة ظاهرة حتمية إذا تحقق شرطها ، وأن شرطها أن يحرم الإنسان من المقدرة على التطور . كما عرفنا من جدل الإنسان أيضاً أن الوجود القومي شرط التطور لا يتم التطور إلا به . لهذا فإن وسيلتنا العلمية إلى التحرر من الاستعمار ( أحد مفاهيم الاشتراكية العربية ) الذي يمس وجودنا القومي ، وبجردنا من المقدرة على حل مشكلات الحياة أو ينتقص منها ، أن نثور عليه . عبث غير علمي ، ومثالية فاشلة ، أن نتقيد في نضالنا ضد الاستعمار والصهيونية بالنظم أو القوانين التي وضعها الاستعمار نفسه . عبث كذلك أن تكون مشكلة التحرر من الاستعمار محل استفتاء حول" حق تقرير المصير" . ليس ثمة إلا طريق علمي واحد للتحرر تدمير الاستعمار ودولته وسحق عملائه . لا يحتاج الثوار في نضالهم من أجل التحرر مبررا من القانون الدولي ، أو القانون المحلي ، أو أن يرضى الناس عن عملهم ، أو أن يبارك المستعمرون تصرفاتهم . كما أنهم في غير حاجة إلى إثبات أنهم يمثلون الأغلبية المقهورة . المبرر الوحيد المشروع هو ما يحققون بالثورة من حرية ، وما يستردون من أجزاء الوطن المغتصبة ، وما يطهرون من أجزاء الوطن المحتلة . إن دفع الاعتداء عن وحدة الوجود القومي ، مبرر الثورة وسند مشروعيتها . لهذا فإن الذين يشطح بهم العلم " بالقانون " إلى حد ينسيهم وجودهم القومي متعلمون فاشلون ؛ لأن حرية الوجود القومي هي مصدر شرعية القانون . والعلم ذاته ضياع في المتاهات الفكرية المطلقة من كل حد ، إذا لم يكن في خدمة الوجود القومي . لسنا في حاجة إذن الى ميثاق الأمم المتحدة ، أو نص في معاهدة دولية ، لنطرد المستعمرين ونسترد فلسطين ، فلنا عن كل هذا بديل في ضرورة التحرر لإمكان الحياة ، وحق الحياة أكثر مشروعية من كل القوانين والمواثيق والمعاهدات . كذلك الذين يشطح بهم العلم " بالفلسفة " فيتشدقون بالعالمية ، والأممية ، والإنسانية ، كبديل عن القومية متفلسفون مخربون . إن هذا تخريب لا تحرر ولا حرية ؛ لأن حرية وجود المجتمع ـ كما عرفنا - مصدر لكل الحريات . لن نقبل إذن بقاء الاستعمار والصهيونية ثمنا من وجودنا ذاته للسلام الزائف ، فإن السلام الذي يعنينا هو السلام الذي يحمينا ، وكل حرب نشنها ضد الاستعمار تدعيم للسلام العالمي . ولن نقبل بقاء الاستعمار ثمنا من وجودنا للاشتراكية الأممية الزائفة ، ولن نؤجل ثورتنا التحررية حتى تتسق خطانا مع خطا " الطبقة " العاملة في الأمم جميعاً ، فإن الاشتراكية التي تعنينا هي الاشتراكية التي تغنينا ، وكل حرب نشنها ضد الاستعمار دعم للاشتراكية في كل مكان . ولن نقبل الاستعمار ثمناً من وجودنا لسلامة المستعمرين ، ولن نبقي على حياتهم خدمة للإنسانية ، فإن الإنسانية التي تعنينا هي إنسانية الناس جميعاً ونحن منهم ، وكل حرب نشنها ضد الاستعمار تدعيم للقيم الإنسانية .
إن جدل الإنسان الذي رسم لنا الثورة طريقاً إلى التحرر ، علمنا أيضا أننا جزء من المجتمع الإنساني نتأثر به ويؤثر فينا فنتغير معا ، أردنا هذا أم لم نرد . لهذا فإنه من العبث المثالي ، أن نحارب الاستعمار في بلادنا لنسترد وجودنا القومي من قبضته ، ثم ندعم الاستعمار في بلاد أخرى تمكيناً له من أسباب القوة والبطش . إن كل ثورة تحررية في أي مكان من العالم تعنينا ، لأنها إذ تضعف قبضة الاستعمار، بما تسلبه من أسباب القوة ، تدعم جهودنا في سبيل الإفلات من قبضته .
وأخيرا فقد عرفنا القومية تمييزا عن غيرنا وليس امتيازاً عليه . وعرفناها شرطاً للتطور وليست أداة تخريب . فإذا كانت لنا حرية الثورة ضد الاعتداء على وجودنا القومي ، بغير حاجة إلى تبرير من القانون ، فليس لنا حرية الاعتداء على غيرنا ، يردنا عنه فهمنا القومية دون حاجة الى رادع من القانون أيضا .
وحيثما يتحقق التحرر من الاستعمار تكون الثورة أيضاً هي السبيل العلمي الوحيد إلى الوحدة . عبث ومثالية فاشلة أن يتقيد الوحدويون في نضالهم ضد التجزئة بالنظم والقوانين التي أقامتها التجزئة ، وقامت عليها ، وأبقتها ، تدعيماً لوجودها . إننا أمة واحدة نشترك في التاريخ ، ونشترك في المصير ، وإن مشكلاتنا مشتركة وحلها مشترك . وإن هذا لحكم لا نستطيع أن نفلت منه . إن الأمة بالنسبة إلينا ليست مجرد تجارب تغني خبرتنا ، بل إنها مصدر مشكلاتنا الواحدة . وليست تبادلا للثقافة ، بل هي ثقافتنا الموحدة . وليست تعاوناً لحل المشكلات ، بل هي الحل لكل المشكلات . الأمة هي نحن ولا نستمد وجودنا إلا منها . وإذا كنا نتطلع إلى الاشتراكية مصيرا أفضل ، فإنها لن تتحقق إلا على مستوى الأمة كلها . لسنا أمماً مختلفة تحاول أن توحد جهودها في سبيل غاية مشتركة ، فلا بد من ان يستفتى الناس كما تفعل الأمم في السوق الأوربية . ولسنا مجتمعات قبلية لم تتكون أمماً بعد ، لنستفتي الناس في الأجزاء فيما إذا كانوا يرغبون ، أو لا يرغبون ، في أن يتحدوا أو يتوحدوا كما يفعلون في الولايات المتحدة الأمريكية . إننا أمة مجزأة كألمانيا . إن الوحدة السياسية بالنسبة إلى أمتنا حتم لأنها التعبير السياسي عن الوجود القومي السابق عليها ، لا تتطلب شرطاً سوى التحرر من الاستعمار الذي فرض عليها التجزئة . إن الوحدة بالنسبة إلى أمتنا ليست توحيداً سياسياً لكيانات غريبة ، لا تقوم إلا بأن تتقارب الرؤوس ، أو أن يستوي فيها مدى التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، ولكنها رفع الحواجز لتعود الأمة كما كانت من قبل ذات دولة قومية واحدة . إننا أمة جزأها الاستعمار لم يأخذ رأينا ولم يستفت منا أحدا ، فبمجرد التحرر تفرض الوحدة نفسها على من يقبلونها أولا يقبلونها ، طريقاً علمياً وحيدا إلى المصير الواحد ... إلى الاشتراكية . لهذا فإن الثورة ضد التجزئة غير محتاجة إلى أن يرضى كل الناس عنها أو أن يباركها القانون . إن المبرر الوحيد للثورة في سبيل الوحدة هو ما تلغيه من التجزئة فعلا .
إن هذا يعني تماماً أن الوحدة يجب أن تفرض على من لا يقبلونها ، ولكن لا يعني أن يكون الوحدويون مثاليين . والمثالية التي تفسد الجهد الثوري في سبيل الوحدة هي التي تتجاهل الظروف المحلية في الأقاليم ، والظروف التي خلقتها التجزئة فيما يزيد عن نصف قرن . فقد عرفنا أنه : " كما أن الوجود القومي ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ لا يلغي الروابط العائلية والمحلية والإقليمية ، بل يشملها ويكملها ، إضافة إلى مقدرتها على التطور ، ويحددها كما يحدد الكل الجزء ، نقول ان الدولة القومية ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ لا تلغي الإدارات المحلية والإقليمية ، ولكن تشملها وتكملها ، إضافة لمقدرتها على التقدم إلى مزيد من الحرية ، وتحددها كما تتحدد الأجزاء بالكل الواحد " . لهذا لا تعني الثورة في سبيل الوحدة ، إلغاء الإدارات في الأقاليم ، ولا فرض نظام إداري واحد فيها ، فتلك مثالية فاشلة . يستوي فشلا أيضاً تجاهل ما صنعته التجزئة في الأقاليم نظماً وقواعد وعلاقات وتقاليد ؛ لأن تجاهل المشكلات التي تطرحها الظروف مثالية غير علمية ، فقد عرفنا أن الماضي لا يمكن إلغاؤه ولا يجدي تجاهله ، ولكن يمكن إيقاف امتداده في المستقبل . وقد يقتضي تطهير المستقبل ، في ظل الوحدة ، من آثار التجزئة بعض الوقت الذي يتطلبه العلم لإلغاء آثار النظم الإدارية والاقتصادية والسياسية التي قامت على أسس من التجزئة . وقد تبقى تلك الآثار طيلة هذا الوقت ، على ان تكون غاية بقائها ان تزول ، لا أن تقف عقبة في سبيل عودة الحياة المشتركة في الأمة الواحدة . لهذا لا تعني الثورية في علاج مشكلة التجزئة ان تمتد تنقل الحياة من جزء إلى آخر ، كما لا تعني أن تبقي في كل جزء نظم الحياة التى قامت على أساس التجزئة ، بل تعني ألا تؤجل الوحدة إلى أن تستقيم الحياة في الأجزاء على نظام واحد ، إن هذا لن يكون إلا بإلغاء التجزئة ذاتها ، لنرى بعد هذا ، وليس قبل هذا ، كيف يكون التقسيم الإداري للأقاليم ، وكيف تتخلص الأجزاء من رواسب التجزئة ، ولنسخر في سبيل هذا إمكانيات الدولة الواحدة .
والثورة في سبيل الحرية طريق سبق أن عرفناه ، قلنا : " قد تحدث محاولات لتعطيل قانون الجدل ، أو تطوير المجتمعات عن غير طريق الديمقراطية . وتكون وسيلة المستبدين في هذا اصطناع " نظم " شكلية تكبت فيها حرية الإنسان ، وتلغى بها الديمقراطية . مثل أولئك كمثل الذي يحبس البخار في المرجل متجاهلا قوانين الضغط الطبيعية . إن نهاية هذا أن ينفجر المرجل حتماً لينطلق البخار تحكم حركته قوانينه النوعية . فالحرية والديمقراطية ، إذ هما قانونا اندفاع الفرد والمجتمع من الماضي على المستقبل ، لا يمكن تجاهلهما لأن الزمان لا يتوقف ، فلا بد من ان ينفجر الإطار وتتحطم القيود ، ولا بد من أن يهدم الإنسان ، الذي لا حيلة له في أن يكون حرا ، سدود حريته ، ون تدك الشعوب ، التي لا حيلة لها في أن تتطور، صروح الاستبداد ، ونسمي هذا ثورة " . وقلناً : " من هنا نفهم لماذا لا تأخذ الثورة شكل التطور الديمقراطي ، فلا يستفتى الناًس فيها ، ولا تخططها أغلبية الشعوب ، ولا يفجرها الجميع . إذ لو تحققت في أي مجتمع حرية الرأي للجميع ، وتخطيط الأغلبية للحلول ، ومساهمة الشعب في العمل ، لتحققت الديمقراطية ، وبالتالي لم يعد ثمة مبرر للثورة . ذلك ما علمنا جدل الإنسان ، لهذا فحيث يوجد الاستبداد في الوطن العربي تصبح الثورة الطريق العلمي الوحيد إلى الحرية . وانه لمن العبث المثالي الفاشل ألا تقوم الثورة في سبيل الحرية إلا بإذن المستبدين ، وان نتوقع الديمقراطية " عودة الى الحق " من الفاشيين . إنما تنتزع الحرية والديمقراطية انتزاعا ويرغم عليها الفاشيون والمستبدون .
غير أن الثورة في سبيل الحرية والديمقراطية لا تعني أن يكون الثوار مثاليين . والمثالية التي تفسد جهد الثوار في سبيل الحرية ، أن يتجاهلوا القوانين العلمية التي تضبط حركة تطور المجتمعات ، وتطور الفرد في المجتمع . فقد عرفنا من قبل أن : " العالم بما فيه الإنسان منضبط على قوانين حتمية ، وأن حرية الإنسان في هذه الحتمية ، ولا حرية فيما يخالف ما تقضي به القوانين العلمية ". ثم عرفنا " أن الحرية هي المقدرة على التطور، وان قانون الجدل الذي يحكم التطور قد رتب العلاقات بين الحريات طبقا لحركة الجدل نفسها . وإن هذا لمهم من ناحيتين ؛ فمن ناحية أولى لنكف عن توهم تحقيق أي تقدم بدون حرية أو على حسابها . إن الذين يعتقدون أن ما يهم الإنسان هو أن يأمن مخاطر المرض والجوع والبطالة وانه يكفيه أن يؤمن له مستقبل مادي ، واهمون ؛ لأن الشبع المادي والمحافظة على وجود الإنسان هما أول طريق الحاجة إلى المعرفة والثقافة . والذين ينشرون التعليم ويفتحون الجامعات ، ويبنون صروح الثقافة ، ثم يكبتون الرأي ويفرضون العقائد واهمون ؛ لأن الشبع الثقافي بذرة الحرية العقائدية . والذين يطلقون حرية الرأي والعقيدة تم يفرضون الحلول التطبيقية الخاصة بهم واهمون ؛ لأن حرية الرأي مقدمة لحرية العمل . ومن ناحية أخرى لنكف عن البحث عن حريات لا وجود لها فإننا ننقلب عندئذ معتدين . فالذين يتشدقون بالحرية المطلقة الخالدة التي لا تعرف الحدود واهمون ؛ لأن الحريات حقوق وكل حق محدود . وقد بين لنا قانون الجدل حدود الحقوق ومداها متفقة في ذلك مع حركة الجدل نفسها ، أي مع التطور نفسه . فالذين يعملون ما شاء لهم الهوى دون قيد معتدون على حق غيرهم في أن يعمل . والذين يعتبرون أن النتائج العملية هي كل الحريات واهمون ؛ لأن التطبيق تنفيذ للرأي ، فلا يمتد إلى حد إلغائه وإلا أصبح عدواناً . والذين يطالبون يفرض أرائهم ، أو الذين يفرضونها على الناس ، بحيث يحددون بذلك مضمون الثقافة والمعرفة في أمة معاً ، معتدون ؛ لأن العقائد وليدة حرية الثقافة ، ولا تمتد إلى حد إلغائها أو تقييدها " . لا شيء إذن - لا الطبيعة ، ولا المجتمعات الإنسانية ، ولا الأمم ولا الأفراد ـ له المقدرة على الفوضى . إذ ليس للحرية معنى سوى القدرة الايجابية على حل المشكلات . وهي مقدرة منظمة ذلك النظام الذي بينه قانون الجدل والذي أسميناه الديمقراطية . ومن يتوهمون غير هذا ، وكل الواهمين في تقدم بدون حرية ، أو حرية بدون حدود ، مثاليون فاشلون .
في ظل الحرية والوحدة تتحقق الاشتراكية بالثورة مجازا . قلنا عندما تكلمنا عن حل التناقض بين العبودية الاقتصادية والحرية الاشتراكية ، إن الطريق الوحيد هو جدل الإنسان . " الإنتاج ثم الإنتاج ثم مزيد من الإنتاج . تحدي الطبيعة على أسس من العلم ، وتسخير إمكانياتها ، بتعبئة شاملة لكل الجهود لتوفير الإنتاج . لخلق مضمون الحريات السلبية خلقاً ، ليصل الإنسان إلى عالم الوفرة الذي يتيح لكل إنسان فيه الموضوعات التي يمارس فيها حريته . فيصبح أكثر حرية من ذي قبل ، لأنه ـ حينئذ إن أراد فعل ، بعد ان كان يريد ـ وله حرية الإرادة ولا يجد محلا لإرادته . بعد ان كان حرا ولا يجد موضوعاً لحريته .
إذن :
الثورة في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية . إنها الأسلوب الذي تحتمه ظروفنا . إنها الأداة العلمية التي حددها لنا بعدنا الرابع في الزمان . فإن كانت ثورة سلمية فبها ونعمت ، وإن كانت قتالا فأين المفر ؟ كتب القتال علينا وهو كره لنا وعسى أن نكره شيئاً وهو خير كثير .
ـ 11 ـ
وذا كانت دراسة الظروف العربية على هدى جدل الإنسان قد حددت لنا الثورة سبيلا إلى الاشتراكية ، بمضمونها القومي الديمقراطي ، أي الاشتراكية العربية ، فإننا بهذا نكون قد عرفنا المشكلة ، وحلها ، والأسلوب العلمي لتحقيق هذا الحل معرفة موضوعية ـ أي عرفنا ما تطرحه ظروفنا من مشكلات ، وما تتضمنه ، من معوقات ، وما تقدمه من إمكانيات ، والطريق العلمي لاستعمال تلك الإمكانيات لتخطي العقبات ، وحل المشكلات بتحقيق ظروف أكثر حرية . غير ان هذا لا يعني أن المشكلات ستنقضي ، وان المعوقات ستزول ، وأن الإمكانيات ستبني ذاتها مستقبلا حراً ، لمجرد أنها قائمة موضوعياً ، أو لأننا عرفنا أنها قائمة . فقد عرفنا من جدل الإنسان أن الظروف غير جدلية ، وان الإنسان وحده هو الجدلي : حلاّل المشكلات وبنّاء المستقبل . وعرفنا أن حركات الجدل ثلاثة : المعرفة فالحل فالعمل . إن العمل الذي يقوم به الإنسان الجدلي هو الذي يحسم الأمر في النهاية ، ويوقف الامتداد التلقائي للظروف ، ويحل المشكلة بما يحققه تغييرا فعليا لظروفه ، وخلقا جديداً تصبح به الغايات واقعاً من الإمكانيات ، فيتقدم بهذا - وليس قبل هذا ـ في اتجاه الحرية . لهذا صدق من يقولون : لا حرية بغير أحرار ، ولا وحدة بغير وحدويين ، ولا اشتراكية بغير اشتراكيين ، ولا تقدم بغير تقدميين ـ ولإ ثورة بغير ثوار .
فمن التقدميون في الوطن العربي ، ومن الثوار ؟
لو كنا ماركسيين لكان جوابنا : التقدميون هم الطبقة العاملة . والثوار هم الحزب الشيوعي طليعة الطبقة العاملة فيما يزعمون . ولشد ما يسعد المستعمرين والصهيونيين والإقليميين والرجعيين هذا المنطق " العلمي " جداً . إذ سيبقى كل شيء على ما هو عليه إلى أن نفتش في الوطن العربي عن الطبقة العاملة فلا نجدها ، ونفتش عن الشيوعيين فنجدهم مشغولين بما تشغلهم به نظريتهم : إلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج ، والصراع الطبقي ، ومصلحة الطبقة العاملة في الأمم جميعاً . وستفتقد الثورة عندئذ ، كل الذين لم تتح لهم فرصة ليكونوا طرفاً عاملا في علاقات الإنتاج الصناعية ، وهم أغلبية الشعب العربي حيث لا وجود لهذه العلاقات أصلا في كثير من أجزائه . لو كنا ماركسيين لتهنا بحثاً عن التقدميين في بلادنا المتخلفة ، وكذلك يتوه الشيوعيون في كل البلاد النامية التي لم تبلغ الطور الرأسمالي بعد .
ولكنا غير ماركسيين . نحن جد ليون ٠
فمن التقدميون في الوطن العربي ومن الثوار ؟
ـ 12 ـ
قلنا هذا ، ثم عرفنا أن الحل الموضوعي العلمي الواحد ، للمشكلات التي تطرحها ظروف الأمة العربية في هذا الزمان هي : الحرية والوحدة والاشتراكية معا .
على ضوء هذا تتحدد المواقف في الشعب العربي .
فالتقدميون ، هم كل ضحايا الاستعمار الذين يرفضون استمراره ويناضلون في سبيل التحرر . وكل ضحايا التجزئة الذين يريدون إلغاءها من مستقبل أمتهم ويناضلون في سبيل الوحدة . وكل ضحايا الاستبداد الذين يريدون ويكافحون من أجل الحرية . وكل ضحايا التخلف والاستغلال الذين يرفضون نوع الحياة التي يحييونها ، ويبذلون الجهد في بناء الاشتراكية . كل هؤلاء تقدميون ؛ لأنهم يرفضون أن يمتد الماضي كما هو في المستقبل ، فيتصدون لتغييره وبناء مستقبل عريي أكثر حرية . وانهمم لجبهة عريضة تضم الأغلبية الساحقة من الشعب العربي ، نجدهم في كل مكان من أقطاره ، مبعثرين في تجمعات ، ونقابات ، وتنظيمات ثقافية وسياسية ، وأحزاب ومنظمات جماهيرية ، يجمعهم الألم الذي يعبر عن إدراكهم مشكلات أمتهم ، ومدى تناقض ظروفها مع مستقبلها ، ويبذلون ، كل قدر طاقته ، الجهد في سبيل حل تلك المشكلات وتغيير الظروف ، وإن كانوا مع هذا متميزين ٦ ف^م متميزون تبعا للإقليم الذي يعيشون فيه ، ومتميزون تبعا للمهن التي يمارسونها ، ومتميزون تبعا لمدى إدراكهم المشكلات أي مدى ثقافتهم ، ومتميزون تبعا لمدى مقدرتهم على إبداع الحلول أي مدى مقدرتهم الفكرية ، ومتميزون تبعاً لطاقاتهم على العمل . وقد يؤدي تميزهم إلى اختلافهم في أولوية الحلول في التطبيق ، ولكن هذا لا يخرجهم من صف التقدميين .
في مواجهة التقدميين العرب ، تقف الرجعية العربية .
والرجعيون كما قلنا من قبل هم : " الذين لا يدركون مشكلات ظروفهم إدراكا صحيحا ، او يتجاهلون تلك الظروف ، او يبتكرون ظروفاً ومشكلات لا وجود لها ، والذين لا يستطيعون ان يجدوا الحلول العلمية الصحيحة للمشكلات التي أدركوها يضللهم الجهل او المثالية ( الفكرية والمادية ) ، والذين تقعد بهم السلبية عن بذل الجهد حلا للمشكلات ، توهماً ان المشكلات تحل ذاتها ، إو اتكالا واختلاسا لعمل الآخرين ، فهم عبء على جهود الأولين وعائق في سبيل التطور " .
طبقاً لهذا المقياس يتحدد الرجعيون جبهة واحدة معادية للحرية والوحدة والاشتراكية ، تضم كل الذين يقبلون الظروف ولا يعملون لحل مشكلاتها ، او يعملون إبقاء لمشكلات الظروف بدون حل . فالذين يهادنون الاستعمار الظاهر، ويتآمرون مع الاستعمار الخفي ، رجعيون أياً كان وضعهم الاقتصادي . والذين يقفون ضد الوحدة ويدعمون التجزئة ، عملا او فكرا ، أو سلباً لا عمل ولا فكر ، رجعيون سواء أكانوا ملوكاً أم وزراء أم رأسماليين أم عمالا أم انتهازيين أم شيوعيين . والذين يقفون ضد الديمقراطية ويدعمون الاستبداد ، أو يقبلونه ، رجعيون ولو كانوا وحدويين ، أو كانوا اشتراكيين . والذين يقفون ضد الاشتراكية ويدعمون التخلف أو الاستغلال أو يقبلونه ، جهلا أو قناعة أو اكتفاء بما عندهم ، رجعيون سواء أكانوا رأسماليين أم عمالا وحتى لو كانوا معدمين . إن كل إنسان يتحدد بموقفه من المشكلات القائمة وليس بنوع العمل الذي يؤديه . وقد قلنا أن الرجعيين في جدل الإنسان ليسوا نقيضا لازما للتطور ولكنهم عبء يعطل جهود التقدميين ، كذلك الرجعية العربية ؛ إنها ليست ضرورة لا يتطور المجتمع إلا بها ، ولكنها عقبة في سبيل التطور . إنهم يعطلون تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية ، إما بتشبثهم بالواقع أو بانعزالهم وعدم مبالاتهم ، أو بجهلهم ، أو لأنهم عملاء للذين يهمهم الإبقاء على الوطن العربي مستعمرا مجزئا متخلفا ، فهم أكثر عداوة من الجاهلين ، ويستوي الجميع في الرجعية .
موقفهم الرجعي هذا يحدد موقف التقدميين منهم . إن انطلاق التقدميين كله إلى الأمام ، وثورتهم كلها ضد الاستعمار والتجزئة والاستبداد والتخلف والاستغلال ٠ أما الرجعيون كعبء فإن الغاءهم ، او تقتيلهم ، أو سحلهم ، لن يحقق الحرية والوحدة والاشتراكية ، فليس التقدميون سفاحين . ولكن ما يستلزمه تحقق المستقبل هو ان تجرد الرجعية من إمكانية الوقوف في طريقه . عندئذ لا يكون تجريدهم من أسلحتهم اعتداء على حرياتهم ؛ لأن حرياتهم الفردية محدودة بالحريات الاجتماعية . ولن يستعمل التقدميون ضدهم العنف إلا دفاعاً عن مقدرتهم على التطور . عندئذ هم المعتدون . بهذا يكسب التقدميون من حقهم في الردع شجاعة النضال الثوري ضد الرجعية . فكل الذين يناهضون الحرية والوحدة والاشتراكية معتدون ، وعلى قدر أسلحتهم يتحتم على التقدميين أن يختاروا أسلحة الدفاع عن مصير أمتهم ؛ فإن أعدوا للعنف فبالعنف يدفعون ولن يكونوا جائرين .
كل هذا وهم واعون تماما أن التناقض الذي يحرك التطور قائم بينهم وبين ظروف أمتهم . وأن جهودهم الرئيسية يجب ان تندفع بكل طاقاتها لتحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية . وان أداتهم العلمية إلى هذا هي الثورة . فكيف تتجسد الثورة في الإنسان العربي حركة ثورية ؟
من الطليعة ؟
ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق