بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 نوفمبر 2024

ندوة المركز العربي الإسلامي للدراسات – جريدة الشعب بتاريخ 23 فبراير 1996

  

ندوة المركز العربي الإسلامي للدراسات – جريدة الشعب بتاريخ 23 فبراير 1996

د.عصمت سيف الدولة :

الدول العربية مجتمعة مكنت إسرائيل من فلسطين حتى اليوم ..

الديمقراطية واستبعاد الحكومات .. السبيل الوحيد لتحرير فلسطين .

حضر الأستاذ إبراهيم شكري – رئيس حزب العمل – يوم الخميس الماضي ، الندوة المهمة التي عقدها المركز العربي الإسلامي للدراسات بالحزب تحت عنوان "مستقبل القضية الفلسطينية" في عودة لأنشطة المركز والتي تحدث فيها المفكر الكبير د.عصمت سيف الدولة وحضرها لفيف من المثقفين والمهتمين بالقضية الفلسطينية وأعضاء حزب العمل وذلك بمقر حزب العمل الرئيسي .

وفي بداية كلمته أشار د.عصمت سيف الدولة الى أننا لن نفهم مستقبل القضية الفلسطينية الا اذا أدركنا واقعها ، واذا كانت أي قضية هي عبارة عن نزاع بين متعدّدين على حق يزعم كل منهم أنه صاحب الحق . اذن نجد أن أول نقطة يجب التركيز عليها هي : ما مضمون الحق في فلسطين ؟ فالصهاينة يدّعون حقهم فيها ، بينما أصبح السائد في دولنا العربية أن الفلسطينيين هم أصحاب الحق في فلسطين . وبالتالي يتم تأييد منظمة التحرير الفلسطينية وكفى . ! فالدول العربية تختلف فيمن هو صاحب الحق في فلسطين طبقا لجغرافيتها ..

ففلسطين تدخل في منطقة الأمن القومي لكل من مصر ، وسوريا ، والسعودية ، بينما المغرب مثلا لا تشعر بأن هناك قضية لأنها بعيدة ، بينما تصر أطراف أخرى على أن مضمون الحق في فلسطين متوقف على القدس أو المسجد الأقصى فقط !! 

وأضاف سيف الدولة أننا كعرب ننازع الصهاينة على فلسطين لأننا جيران (وهذه وجهة نظر موجودة) وهذا النزاع له حلّان : اما أن تهزم العدو وتفرض عليه رأيك واما أن تقوم بالصلح معه فتأمن شرّه وقد مثل هذه النظرة الرئيس التونسي السابق "بورقيبة" البعيد جغرافيا عن فلسطين حين قال يوما للعرب : اما أن تحاربوا إسرائيل ، واما أن تقوموا بالصلح معها . ثم وصلنا مع منظمة التحرير الى ما نحن فيه لأن وجهة النظر السابقة والموجودة منذ عام 1964 كانت تتعامل مع قضية فلسطين على أنها أجنبية عن القضية ، ومن هنا كان هؤلاء ينشطون ويحاربون على هامش قضية فلسطين ولم يخطر على بال أحد أو أي دولة أو حتى منظمة التحرير ، تحرير أرض فلسطين !! وهذا مدخل مهم لمعرفة مستقبل القضية .

كما أن هناك مدخلا اخر بشأن القضية – كما قال د.سيف الدولة – هو أن فلسطين أرض عربية وهذا ليس جديدا ، اذ لم تدخل هذه النظرة في صلب القضية ، وذلك يجرنا الى سؤال كيف تكونت الأمة العربية ؟ والأمة باختصار هي أرض محدّدة مملوكة لمجموعة محدّدة من البشر استمر استقرارهم عليها الى أن أصبحت عليها حضارة مميزة ومن هنا نقول ان العرب لم يكونوا أمة قبل الإسلام الذي أتى فأصبحت لهم حركة الهية مباركة بها فكر وفلسفة وقواعد للسلوك وتجمعوا في المدينة وفيها تم تحرير أقدم دستور في تاريخ البشرية "وثيقة الصحيفة" الذي نظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار ، والقبائل اليهودية ، وكانت المرة الأولى التي تعرف فيها البشرية مصطلح "وطن" .

الانطلاقة الحضارية

وأوضح المفكر الكبير أنه انطلق من المدينة مشعل الإسلام بعناصره الحضارية ، وحين وصل الإسلام الى مصر والشام وغيرها من بلاد العرب كان الجميع تحت نظام واحد وقانون واحد ، الشريعة الإسلامية ، وتحت راية حاكم واحد ولم تكن هناك حدود أو قيود وبذلك امتدت حضارة عربية كما مارسها العرب ، وفي ظل هذه الظروف ، وابّان الحروب الصليبية جاء التأثير الهائل لمصر في بقية أطراف الوطن العربي حيث الأمن والأمان بها مما جعلها مركزا للإشعاع الحضاري حيث يتلقى كل العرب والمسلمين الحضارة العربية الإسلامية من منشئها في مصر ودليل ذلك أن القاهرة بلد الالف مئذنة أغلبيتها الساحقة ليست لمصريين . ومن هنا كانت حركة طرد الصليبيين الذين ظلوا بالشام لمائتي عام من مصر حيث التفاعل الحضاري تحت راية دين واحد ، ودستور واحد هو الشريعة ، وتحته تتعدد المذاهب (المالكي ، الحنفي – الشافعي – الحنبلي) وهكذا وجدت الأمة العربية .

واستطرد د.عصمت سيف الدولة قائلا : واستمر هذا الحال من وجود الدول العربية ذات الحدود المفتوحة وكانت السيادة على فلسطين آنذاك لهذا التكوين البشري الموجود المسمى "الامة العربية" حتى جاء عام 1919 حين تم تقسيم الأمة الى دول جيران مستقلة بحدودها ورئاستها وقوانينها وجنسيتها وهنا جاء الصهاينة في ظل هذه الدول المتعددة واستولوا على فلسطين فحاول الشباب العربي الإسلامي مثل الاخوان المسلمين الدفاع عنها وكلهم كانوا من العرب ، ثم رأت الدول العربية خطورة المسألة فدخلت الحروب بعد طرد المتطوعين العرب فانهزمت نتيجة تامر وخيانات ، ومنذ هذه الهزيمة قلت – والكلام للمفكر الكبير – قامت إسرائيل ونجحت في الانتصار بعد مساعدة وتحت حماية الدول العربية جميعا معنى ذلك أن الدول العربية مكنت إسرائيل من فلسطين الى الان ، اما بعدم القيام بعمل كان لازما واما بالقيام بعمل لم يكن لازما . !!

وشدد سيف الدولة على أن الذين بقوا يقولون "فلسطين عربية" غيروها الان الى "فلسطين فلسطينية" الى أن وصلنا الى الاتفاقات الحالية . فكيف تواجه منظمة التحرير إسرائيل بعد ان هزمها الصهاينة ؟ وهنا نذكر أن العالم لا يحترم الدول العربية التي تقول بتحرير فلسطين ، فالعالم الان يقول هذه ليست أرض العرب بل ارض أبو عمار الذي اتفق مع إسرائيل .. اذن لا شان لكم أيها العرب !! ..

ثورة شاملة

وعرّج د.عصمت سيف الدولة الى مستقبل القضية الفلسطينية في ضوء ما سبق حيث أن حلها يكون أولا : باستبعاد الدول العربية بالأسلوب المناسب عن التدخل في قضية تحرير فلسطين . وثانيا : السماح للشعب العربي في كل مكان بخيار الديمقراطية لأنه في ظل الديكتاتورية بالكاد سنفكر في حماية بيوتنا وليس بيوت الفلسطينيين . فالشعوب هي التي تحرر فلسطين فحسب وليست الحكومات .. فالثورة الشاملة التي تحرر فلسطين وتؤدي الى الوحدة العربية تنطلق من الشعوب .

وانتقد سيف الدولة من يروّجون للسوق الشرق أوسطية ويقولون أنه مستحيل أن يؤثر (5) ملايين إسرائيلي في (200) مليون عربي حيث اننا يمكن أن نوافق على التطبيع والشرق أوسطية بشرط واحد هو قيام إسرائيل بإلغاء قانون العودة الذي ينص على أن أي يهودي يذهب لإسرائيل يصبح مواطنا إسرائيليا !!

معنى ذلك اننا في ظل الشرق أوسطية سنجد ما لا يقل عن عشرة ملايين (يهودي إسرائيلي) داخل بلادنا برأسماله ، وهنا يحدث الغزو الذي نخاف منه على اعتبار أن إسرائيل هي رأس حربة للاستعمار العالمي في المنطقة . وقانون العودة ذلك الذي مازال ساريا سيجعل الفلسطينيين سنة بعد أخرى أقلية في بلادهم . والعجيب أن المفاوضين الفلسطينيين لم يتطرّقوا اليه رغم اجبار الاسرائيليين المنظمة وأبي عمار على تعديل ميثاق المنظمة بشأن ما يسمى تدمير إسرائيل .. وعموما فان معركة أبي عمار قد انتهت ولكن معركة الفلسطينيين لم تنته ، فاذا كان أبو عمار قد تعب فان هناك أجيالا ستخرج لم ولن تتعب .

مناقشة مفتوحة

ثم دخل سيف الدولة في مناقشة مهمة مع الحضور حيث أكد ممدوح الشيخ مقرر أمانة الدعوة والتثقيف بحزب العمل أن الاطار القومي العربي للصراع مع الصهاينة أدى بنا الى ما نحن فيه . لذا يجب البحث عن اطار اخر هو الاطار الإسلامي حيث اصبح للرصيد الديني باع كبير عند طرفي الصراع وبخاصة أن الإسلاميين يؤمنون بأن فلسطين من النهر الى البحر وقف إسلامي يجب تخليصه من دنس الصهاينة . وهنا تجدر الإشارة الى وجود متطوّعين مسلمين غير عرب أثناء حرب 48 .

أما الباحث محمود سلطان – عضو حزب العمل – فأوضح أن مستقبل قضية فلسطين يتوقف على نهاية الصراع العلماني الإسلامي في دولنا العربية والاتفاقات الأخيرة بين منظمة التحرير وإسرائيل تكرس انتصار الطرف العلماني .. والرؤية العلمانية للصراع مع إسرائيل جعلته في البداية صراعا عربيا إسرائيليا ثم أخيرا صراعا فلسطينيا إسرائيليا مع أن الرؤية الحقيقية هي أنه صراع إسلامي – إسرائيلي يهودي ، فالسياسي الإسلامي أكثر واقعية في مواجهة هذا الصراع حيث يمتلك رؤية وله سوابق في تجربتي الاندلس والحروب الصليبية ولا شك في أن شكل الصراع سيختلف اذا كانت دول الطوق تحديدا إسلامية .

القيادي الشيوعي أحمد شرف أشار الى ان كلام د.سيف الدولة ركز على الاستراتيجية ولكننا نريد أيضا التكتيك لمنع نفاذ إسرائيل اى الجسم العربي أو المصري بخاصة أن الرؤية الإسرائيلية لا يقصد بها النفاذ الى فلسطين فقط بل الامة العربية وتحويلها الى شراذم .

وأكد محمد أبو الفتوح – عضو اللجنة التنفيذية لحزب العمل – أن الشعب اللبناني أسقط اتفاقية أيار 1983 التي ابرمها أمين الجميل مع الصهاينة ، وهي بمثابة "كامب ديفد" لبنان لأنها كانت بلا حكومة حيث أن الأنظمة الحاكمة معوقة عن مواجهة الصهاينة وانهاء دولتهم .

وأضاف أبو الفتوح أن المرحوم خالد الحسن أكد في ندوة بصوت العرب في بداية الستينات أن فلسطين هي المنطلق لتشمل ثورة في الوطن العربي كله . ولذا حين قامت انتفاضة الحجر ضد الصهاينة في فلسطين كانت تمثل خطرا على الأنظمة الظالمة التي خافت من انتشارها .. ومن هنا يجب توضيح دور العقيدة في تحرير فلسطين لأن كل الاتفاقات الحالية منذ مؤتمر مدريد مقصود منها محاربة الصحوة الإسلامية .

العروبة والاسلام

وفي تعليقه على المناقشة أوضح د.عصمت سيف الدولة أنه لا يوجد شيء اسمه اطار القومية العربية بل ان القضية الفلسطينية عربية ليس بمعنى أنه لن يأتي أحد من ماليزيا مثلا لتحريرها ، بل ان الاطار العربي مقصود به عدم الخضوع للتجزئة من الدول العربية ، ويجب التنبيه الى أن العروبة ليست في مواجهة الإسلام على الاطلاق فحين تصبح بلادنا عربية كما أوضحنا سوف نلمس بوضوح المرجعية الإسلامية مثلما حدث في حرب أكتوبر 1973 حين قال جنودنا بدون أوامر "الله أكبر" ولذا يجب تأكيد أنه لا يوجد قومي عربي علماني لأن هناك تناقضا جذريا بين الاثنين ، فالإسلام هو مصدر حضارتنا العربية سواء كنا عربا مسلمين أو مسيحيين ونرى أن الصهيونية ليست لها علاقة بالدين .

وأضاف سيف الدولة : ان ما توصل اليه الذين اتفقوا في اوسلوا قد انتهى دورهم فعليا ، والساحة العربية والفلسطينية مليئة بمن سيستمر في النضال ، فحركة "فتح" أنشئت قبل احتلال الضفة الغربية عام 1967 ، اذن ليس لها عذر أن تقايض عن فلسطين 1948 ، بجزء من فلسطين 1967 .

وانتقد سيف الدولة دعاة الواقعية الذين يركزون على اللعبة الاقتصادية حيث ان معركة الاقتصاد واوراقها في يد الدول الرأسمالية الغربية ، ومع الرأسمالية لا يوجد دين أو قومية بل هناك الربح والربح فحسب ، وهم يريدون إسرائيل كمركز استعماري في منطقتنا ، ولسنا أحرارا لعمل حركة تنمية في بلادنا ، ويكفي أننا بعد الانفتاح أصبحنا نأكل رغيف الخبز بمواصفات أمريكية ، ونعمل وفق خطة اقتصادية عالمية .

وأخيرا قال د.عصمت سيف الدولة : ان الطريق الوحيد لإلغاء إسرائيل لسلاحها النووي هو وجود سلاح نووي عندنا بعيدا عن أي دعاوي أخرى .

 

متابع الندوة : طارق عبد الحميد .

آخر نشاط للدكتور عصمت سيف الدولة رحمه الله

الاثنين، 18 نوفمبر 2024

ما وراء الاشتراكية .

PDF

 ما وراء الاشتراكية .

د.عصمت سيف الدولة .

ليس اخر الحديث عن "الاشتراكية العربية" أن نقول : اننا مع تسليمنا بأن جوهر الغاء استغلال الانسان لأخيه الانسان ، فانا نضيف الى الاشتراكية سمتها القومية لنعبّر بكلمة واحدة عن المضمون الاشتراكي المقابل لحصيلة أمتنا من الاستغلال ، وأنه اذا كنا متميزين عن غيرنا من الأمم بأن الاستغلال الرأسمالي يتجسد في احتلال بعض أجزاء وطننا العربي ، وتمزيق أمتنا دولا شتى ، وحبس تطورنا عند مرحلة متخلفة من النمو الاقتصادي ، فان "الاشتراكية العربية" تكون أوضح التعبيرات دلالة على أن "الغاء الاستغلال" الذي يكافح الشعب العربي من أجل تحقيقه ، يعني الغاء الاستعمار والتجزئة والتخلف . يعني حياة الحرية والوحدة والرخاء . ليس هذا اخر الحديث بل أوله . انها البداية البسيطة الملموسة الصالحة بهذا لتفتيت جمود أولئك الذين تكلس رفضهم السلبي "للاشتراكية العربية" . اننا نبدأ بما لا يستطيعون انكاره ، رغبة منا في أن يقبلوا – مجرد قبول – أن يسيروا معنا حتى نهاية الشوط .

فاذا كان مقبولا أن نستمر في الحوار عن "الاشتراكية العربية" فتلك فرصة مواتية لنغوص معا الى مستويات من البحث أعمق قليلا ، علناً عندئذ أن نجد – معا – أن وراء الاشتراكية نظرة تحتم أن تقترن دائما بسمتها القومية ، فلا تكون سمتها تلك مجرد اختبار غير لازم لتعبير أوضح دلالة يستمد كل قيمته من انضباطه اللغوي ، بل تكون استجابة لنظرة ذات قيمة خاصة قد تستحق أن نقبلها .

ولا بأس في أن نكشف نحن ما في المميز الذي ذكرناه أولا "للاشتراكية العربية" من قصور يحتم أن نتجاوزه اجتهادا في البحث عن أسس غير قاصرة ، اذا كانت "الاشتراكية العربية" تعني تحرر الانسان العربي من الاستغلال الرأسمالي في صوره : الاستعمار والتجزئة والتخلف ، فان بعض الأمم من العالم الثالث لها ذات الحصيلة من الاستغلال الرأسمالي ، فهي محتلة مجزأة متخلفة . وفيها تكافح الجماهير العاملة – كما نفعل نحن – من أجل الغاء ذلك الاستغلال بالتحرر والوحدة والرخاء . وتجمعها معا تحت شعار الاشتراكية كما نفعل نحن أيضا . فهل معنى ذلك أن تلك الأمم المكافحة تناضل من أجل "اشتراكية عربية" ؟ !! وكيف يتسنى هذا الا بأن تفقد "الاشتراكية العربية" سمتها القومية لتصبح عالمية ، أو بان تسقط تلك الأمم المكافحة سمتها القومية لتستعير عروبتنا ؟ واذا لم يكن الامر كذلك وكانت لكل منها اشتراكية ذات مضمون مماثل لمضمون الاشتراكية العربية فما الذي يميز هذي عن تلك حتى لو كانت لا تمتاز عليها بشيء ؟ .

الاشتراكية والقومية :

ان أخطر منزلق يتعرض له القائلون بالاشتراكية العربية ، أن يحاولوا الخروج من هذا المأزق بالبحث عن أسباب التميز في مشاعرهم القومية . عندئذ يجردون الاشتراكية العربية نهائيا من أي سمة علمية . ذلك لأن القومية – كما نعرف – وان كانت صنعة التاريخ ومحصلة تفاعل عناصر موضوعية عديدة ، الا أنها تنتهي الى شعور مستقر بالانتماء القومي يحسه الانسان في نفسه ، ويستغني به عن تلمس أسبابه التاريخية . وعند تلك المرحلة من النضج القومي ينطوي هذا الشعور غير المعلل على عاطفة حب كامنة وان كانت قابلة للانفعال عند الاستفزاز . وسواء أكانت كامنة أم منفعلة فهي قادرة – عند الاستفزاز خاصة – على التأثير في أفكار أصحابها وسلوكهم ، بحيث يحتاج الامر الى تحوط شديد من الجنوح الى العاطفة القومية عندما نعجز عن تبرير أفكارنا أو سلوكنا تبريرا علميا . لا ضمان مع العجز عن التأصيل العلمي للفكر والسلوك معا في أن تنقلب الاشتراكية العربية - بفعل العاطفة القومية - من اشتراكية متميزة الى اشتراكية ممتازة . ممتازة الى حد أن تصبح عالمية أو الى الحد الذي تسقط فيه الأمم سمتها القومية الخاصة لتستعيرها منا . هنا يفتح باب التعصب القومي على مصراعيه ليقدم للخائفين من الشوفانية – بحق – مبررات قوية لموقفهم ضد الاشتراكية العربية .

اذن ، فكلنا - الذين مع الاشتراكية العربية والذين ضدها - في حاجة الى مزيد من الحوار العلمي على مستوى أعمق من المنطلق القومي . وهذا يعني ألا تكون القومية هي المسلمة الأولى التي نبني عليها سرح أفكارنا الاشتراكية ، بل نفتش عما وراءها من أسس تؤكد أو تنفي أن تكون القومية ذاتها منطلقا الى الاشتراكية .

كل هذا والحوار محصور بين الاشتراكيين ، فلندخل في الموضوع .

المستقبل للاشتراكية :

وموضوعنا مجموعة من البشر تعيش معا في وسط جغرافي وتكافح بالفكر والعمل وأدواته لتحقيق حياة أفضل تسميها الاشتراكية . تلك هي الظاهرة التي نريد أن نفهمها لنحدد مضمون وسمات تلك الغاية التي تسعى الى تحقيقها ، فهل هذا ممكن وكيف ؟

تتوقف الإجابة على منهج كل واحد في فهمه للظواهر الاجتماعية . تتوقف على النظرية التي يتخذها مقياسا لتحديد أبعاد الظاهرة وضبط حركتها بقصد تحديد مضمون ذات الظاهرة في المستقبل .

ولن يفاجأ أحد بمن يقول ان كل هذا عبث لأن المستقبل غير قابل للمعرفة العلمية . ان معرفته العلمية للمستقبل تعني امكان التنبؤ به طبقا لقاعدة حتمية ، ولما كانت الظواهر الاجتماعية ، أو تلك الظاهرة التي نبحثها ، تكون من أفراد من بني البشر أخص ما يميزهم أنهم قادرون على اختيار مستقبلهم فان هذا يعني أنهم سيختارون المستقبل الذي يروق لهم . وكل محاولة لمصادرة هذا الاختيار الحر ، واستباق المستقبل قبل ان يقع لتحديد مضمونه محاولة غير علمية ، لأنها تتجاهل إرادة أولئك الذين سيصنعونه على ما يريدون .

تلك نظرية يلوذ بها أعداء الاشتراكية . اذ لو صح أن المستقبل غير قابل للمعرفة أو التحديد فان الحديث عن المستقبل الاشتراكي لا بد من أن ينقطع . لنقبل ما هو قائم فعلا فهو اليقين الوحيد ، ولنترك للمستقبل أن يكشف - في حينه - للذين سيعيشونه ماذا اختارت لهم الصدف أو الأهواء أو الأقدار . وان جاءت الاشتراكية فعلا فسيعلمون هم خصائصها وسماتها ، أما نحن فتفصلنا إرادة البشر عن معرفة المستقبل فلا نتحدث عنه ، وبالتالي نكف عن عبث الدعوة اليه .

غير أن تلك النظرية ذاتها وراء جهد بعض الاشتراكيين الذين يتخذون التجربة والخطأ منهجا لتحقيق المستقبل الاشتراكي . انهم لا يريدون الالتزام مقدما بمضمون خاص للاشتراكية التي يتحدثون عنها ، تاركين للممارسة اليومية أن تنتهي الى ما تنتهي اليه . انهم يرفضون عادة النظريات ويرون فيها قيودا معوّقة ، ويغضون من قيمة العمل الفكري في الحقل الاشتراكي ، ويفخرون بأنهم ينتقون من الواقع حلولا لمشكلاتهم عندما تقع ، وانهم يهذا يحققون اشتراكية تنبثق من واقعهم . وهكذا أصبح التحرر الكامل من الالتزام بنظرية - على أيديهم - نظرية كاملة بدون التزام . والعيب الرئيسي في تلك النظرية أنها خالية من أي ضمان لتحقيق الاشتراكية أو عدم الارتداد عنها . اذ لما كان المصدر الوحيد لسمة الاشتراكية التي يطلقونها على ما يمارسونه هو قولهم انه اشتراكية ، فان أحدا لا يستطيع أن يضمن ألا يطلقوا ذات الشعار على بناء يقيمونه لا يمت للاشتراكية بصلة . أو لا أحد يستطيع أن يضمن ألا يلغوا ما صنعوه في سبيل الاشتراكية بحجة تحقيق الاشتراكية أيضا . ان المقياس أولا وأخيرا هو تقديرهم الشخصي . ولو أردنا أن نعرف – طبقا لهذه النظرية - خصائص وسمات الاشتراكية التي تسعى المجتمعات البشرية الى تحقيقها ، لكان المميز الوحيد لها مستمدا من نسبتها الى اسم قادة تلك المجتمعات .

نظرية الوسط الجغرافي :

أقرب من هذا الى البحث العلمي أولئك الذين يفتشون في الظاهرة عن العامل "الأساسي" في تطورها . ما هو دافع حركتها وموجهها وصاحب الأثر الأقوى في تحديد نوع المستقبل الذي ستنتهي اليه . اذ لو عرفنا العامل الأساسي في التطور الاجتماعي نستطيع - مع التسليم بأن المستقبل للاشتراكية – أن نسِم تلك الاشتراكية بسمته . ومع أننا هنا نقترب من البحث العلمي الا أن الأمر ينتهي الى عديد من النظريات التي تختلف تبعا للعامل الذي اختاره كل صاحب رأي ليكون عاملا أساسيا . فمثلا ، يقول أصحاب نظرية الوسط الجغرافي أو البيئة ان تلك الجماعة من البشر تقيم على الأرض . والأرض مختلفة أجزاؤها جغرافيا ومتنوعة في درجة الحرارة والرطوبة ونوع النبات والحيوان وموارد المياه وأنواع الرياح ..الخ . متنوعة الى الحد الذي تطبع فيه البشر بطابعها فيختلفون لونا وطولا ومقدرة ..الخ . انها اذن البيئة الجغرافية التي تحدد وتتحكم في اتجاه التطور وسرعته وغايته . فاذا كان المستقبل الاشتراكي سيكون متنوعا - وهو متنوع تبعا للبيئة - فيجب أن نبحث في الأرض عن كل منطقة متسقة جغرافيا . عندئذ نعرف أن الاشتراكية التي نتحدث عنها ستكون اشتراكية أوربية مثلا ، أو متوسطية (نسبة الى حوض البحر الأبيض المتوسط) ...الخ . تلك نظرية بعض الذين يبهرهم كفاح الشعوب الافريقية ضد الاستعمار فيديرون الحديث خلطا حول "الافريقية" كسمة للقومية أو الاشتراكية . وينسون أو يتناسون ما يسقط نظريتهم من أساسها . ان كل أرض افريقيا وجبالها ووهادها وغاباتها وأمطارها ..الخ عاجزة عن تبرير أن يكون المستقبل في افريقيا للاشتراكية فأولى بها أن تعجز عن تحديد خصائص الاشتراكية في افريقيا . ان الأرض مهما كانت جغرافيتها لا تختار نوع الحياة التي يعيشها البشر فوقها . وقد اتسعت أرض افريقيا للاستعمار والعبودية قرونا ، ولا تزال تحمل على كاهلها أفرادا مثل تشومي وحكومات مثل حكومة روديسيا ، ودولا مثل جنوب افريقيا . لا شك في ان للبيئة أثرا معوقا أو مساعدا في حركة التطور ، ولكنها لا تحدد نوع المستقبل الذي ينتهي التطور اليه . انها ليست العامل الأساسي . ولن تكون الاشتراكية فقط إقليمية .

نظرية الوسط الجغرافي احدى النظريات المادية ، أي التي تركز على عنصر أو أكثر من العناصر المادية لتوليه قيادة التطور ، اذ ترى فيه العامل الأساسي الذي يطبع التطور بطابعه . ومع أن أغلب تلك النظريات المادية قد سقطت ، الا ان ثمة نظرية مادية لا تزال تغالب السقوط وان كان مآلها اليه : انها الماركسية .

النظرية الماركسية :

ترى الماركسية أنه من الممكن أن نعرف الظواهر الاجتماعية وان نكشف قانون حركتها وأن نحدد خصائص مستقبلها على ضوء القانون الذي اكتشفناه . كل هذا ممكن بشرط أن نطرح النظرة الميتافيزيقية وأن ننتهج الى معرفتنا البحث العلمي . والنظرة الميتافيزيقية تعني تلمس أسباب التطور في قوة خارج الظاهرة ذاتها . اذا تجنبنا هذا وجدنا أنفسنا أمام الظاهرة الاجتماعية كما هي . ويسهل علينا أن نكشف أنها تتطور وتشق طريقها من الماضي الى المستقبل طبقا لقوانين حتمية ومادية . ومادية تعني أولا أنها ليست من صنع قوة خارجة عن الطبيعة . وتعني ثانيا أنها غير متوقفة على إرادة الانسان . وقد اكتشف ماركس – هكذا يقولون – تلك القوانين وصاغها فيما يعرف بالمادية الجدلية . وخلاصتها أن الطبيعة بما فيها الانسان والمجتمعات تتطور طبقا لقوانين أربعة : التأثير المتبادل – الحركة الدائمة – التغير المستمر – الجدل . والجدل - أهم تلك القوانين – يعني أن التطور لا يتم بالانتقال الميكانيكي من العلة الى المعلول بل عن طريق الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته ، والذي ينتهي بأن يخرج الى الوجود – طفرة – شيء جديد مختلف نوعيا عن النقيضين وان كان هو ذاته يحتوي على بذور تناقض جديد لن يلبث حتى يصبح تناقضا ينتهي بطفرة . وهكذا في سلسلة من الصعود الدائم خلال الصراع الجدلي .

بالرغم من أن تلك النظرية الجدلية مطابقة تماما – من حيث الحتمية وقوانينها والتطور الصاعد – لما قاله هيجل فيلسوف المثالية ، الا أنها متميزة عنها مما يعتبر أساسا جوهريا في الماركسية ، ونعني بها انها مادية . فالقوانين قوانين المادة . والجدل جدل المادة . وليس الفكر الا انعكاسا لمنجزات التطور المادي . المادة هي العامل الأساسي في التطور وقائدته . هي تتطور أولا والانسان يتبعها الى حيث هي متطورة .

فاذا أردنا أن نفهم حركة المجتمعات على هدي هذه الفلسفة المادية ، لنحدد خصائص الاشتراكية فلنسقط أولا ما يدور بأفكار الناس وأحلامهم ، ولننظر في مضمون الحياة المادية التي يعيشونها . عندئذ سنكتشف أن قوى انتاج الحياة المادية تتضمن عنصرين : أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج . وسنجد – بحكم نظريتنا المادية – أن أدوات الإنتاج تلعب الدور الأساسي في التطور ، فهي التي تحدد نوع العلاقات التي تربط البشر حول عملية الإنتاج ، ونكون بهذا قد اهتدينا الى مفتاح التطور لنرى أنه سائر الى حيث يسير تطور أدوات الإنتاج . فاذا أردنا أن نعرف مستقبل أية جماعة من البشر فلننظر أولا في مدى ما وصلت اليه أدوات انتاجها المادي من تطور . فان كانت في مرحلة العبودي فمستقبلها الى الاقطاع ، وان كانت في مرحلة الإنتاج الاقطاعي فمستقبلها الى الرأسمالية ، وان كانت في مرحلة الإنتاج الرأسمالي فمستقبلها الى الاشتراكية حتما . لماذا حتما ؟ لأن النظام الرأسمالي – بدون توقف على إرادة الرأسماليين أو العمال أو أي انسان – يتضمن تناقضا داخل عملية الإنتاج ذاتها . فمع أن عملية الإنتاج اجتماعية يسهم فيها الجميع بحكم التطور الفائق لأدوات الإنتاج ، وكون الإنتاج في النظام الرأسمالي للربح وليس للاستهلاك ، مع هذا نجد أن علاقة الإنتاج لا تزال متخلفة اذ يملك أفراد قلائل أدوات الإنتاج ملكية خاصة . ولما كانت علاقة الإنتاج تابعة لتطور أدوات الإنتاج ، لأن أدوات الإنتاج المادي هي قائدة التطور ، فلابد من أن تتحطم علاقة الإنتاج في النظام الرأسمالي لتتسق وتلحق بأدوات الإنتاج : لابد من أن تصبح علاقة الإنتاج اجتماعية ، ويتحقق هذا بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .. عندئذ يزول التناقض وندخل المرحلة الاشتراكية . وهكذا نعرف علميا أن الاشتراكية هي الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج الرأسمالي .. وأنه يجب أن تسبقها مرحلة رأسمالية لأن ترتيب مراحل التطور وتتابعها نفسه ذو سمة مادية بمعنى لا يتوقف على إرادة الناس . ولما كانت تلك خصائص الاشتراكية فهي لا تتغير تبعا لأمزجة الناس أو لبيئاتهم أو لأممهم . أدوات الإنتاج هي أدوات الإنتاج في كل مكان . والملكية هي الملكية في كل مكان . فلا يقال بعد هذا أن ثمة اشتراكيات متميزة على أية قاعدة ، ولا يقال أيضا أن ثمة اشتراكية عربية ، وان قيل هذا فهو فضح لافتقار تلك الدعوات لأي أساس علمي .

منطق صلب . استطاع أن يجمع ملايين البشر تحت رايته ليمارسوا الحياة ، ويصنعوا الاشتراكية على ذلك الأساس المميز : "المادية" . غير أن تلك الممارسة ذاتها قد أسقطت المادية .

فبعد خمسين سنة من البناء الاشتراكي طبقا للمنج المادي ، انتهت التجربة الى نتيجتين : الأولى أن المجتمعات المرشحة ماديا للاشتراكية لم تنتقل اليها ، وأن المجتمعات المحرمة عليها الاشتراكية طبقا للمنهج المادي الماركسي قد اندفعت اليها . مجتمعات في أوروبا وأمريكا وصلت ذروة النضج الرأسمالي وبلغت فيها أدوات الإنتاج قدرا خياليا من التطور ، ومع ذلك لم تستطع تلك الأدوات القائدة الرائدة أن تجر الناس هناك الى الاشتراكية . بينما مجتمعات أخرى في العالم الثالث غير مؤهلة ماركسيا الا للإقطاع أو للرأسمالية ، ولا تملك أدوات انتاج رأسمالية أو غير رأسمالية ، وان ملكتها فهي نماذج بالغة التخلف ، تولى الناس فيها قيادة تطورها متخطين مراحل كاملة ، متحدّين أدوات انتاجهم ليقتحموا الطور الاشتراكي . ولما أن حدث هذا لأول مرة في روسيا المتخلفة نظر اليه وفسر على أنه استثناء من النظرية ، غير أن الأمر قد اطرد حتى أصبح الاستثناء الروسي قاعدة . وكاد يثبت للاشتراكية سمة جديدة وهي أنها وسيلة المتخلفين الى التقدم . واستقر الامر حتى سلم الاشتراكيون بإمكان التطور الى الاشتراكية عن غير الطريق الرأسمالي .

وكان طبيعيا أن يعاد النظر في الموضوع كله للبحث عن علة هذه المفارقة .

تجربة العالم الثالث :

أما الذين قضوا حياتهم ثوارا مناضلين تحت لواء المادية الماركسية ، فقد كان صعبا عليهم أن يسقطوا اللواء الذي جمعوا الجماهير حوله ، فانطلقوا يؤوّلون النظرية ويمدّون أبعادها لتغطي حصيلة الممارسة الحية . أو يؤوّلون ظروف الممارسة ويهوّنون من قيمة الصدع بين النظرية والتطبيق .

أما الذين لا يربطهم بالماركسية رباط خاص ، الذين يقدّرونها كمحاولة رائعة ولكنهم لا يقدّسونها ، فأولئك أبناء العالم الثالث أصحاب القدر الأكبر من التجربة التي أسقطت الماركسية . السؤال الأول الذي طرحوه هو : ان قيمة أي نظرية علمية في أن تجنب الذين يصنعون الحياة على هديها مفاجآت الممارسة ، فاذا كانت حصيلة الممارسة قد جاءت على غير ما يتفق مع المنهج الماركسي فما فائدة الماركسية ؟ ولما كانوا غير متعصبين للماركسية أو ضدها فقد اتجهت جهودهم الى البحث عن علة قصور المنهج الماركسي . لم يدينوا تجربتهم الرائدة ، ولم ينكروا طموحهم الاشتراكي ، بل بحثوا عن الثغرة النظرية فوجدوها .

ولعل الأمر أن يكون قد أخذ شكل الحوار الاتي : من الذي فشل في الانتقال بالمجتمعات الرأسمالية النامية الى الاشتراكية ؟ الناس هناك . ومن تحدى أدوات الإنتاج المتخلفة وتخطى الرأسمالية واقتحم المرحلة الاشتراكية ؟ الناس هنا . من الذي يقود التطور اذن ويحدد غايته ويحقق تلك الغاية ؟ الناس في كل مكان . من الذي يدرك المشكلة ويصمّم حلها ويحقق الحل بالعمل ؟ الانسان .

وأثار العالم الثالث حماسا بالغا لاحترام الانسان والثقة فيه ، واقر له من خلال تجربته الذاتية بأنه العامل الأساسي ، القائد لعملية التطور . القائد الثائر الذي يستطيع أن يهزم الاستعمار بكل قواه المادية وهو لا يملك الا انسانيته . القائد القادر الذي يستطيع أن يحطم قيود التخلف ويلغي الاستغلال ، وينتقل الى الاشتراكية وهو لا يملك أدوات انتاج متطوّرة أو غير متطوّرة . القائد الواثق الذي بلغت ثقته بقيادته أن يسقط المرحلة الرأسمالية بكاملها من تاريخه ، ويصنع ذلك التاريخ كما يريد لا كما تريد أدوات الإنتاج المادي . وكما يحدث عادة في غمرة الحماس ، اتخذ البعض من سقوط النظرية الماركسية حجة لإسقاط النظرية عامة والاستغناء عنها بالتجربة والخطأ وثقة الاشتراكيين بأنفسهم .

الا أن هذا لا يمنع أن الحماس ولو للإنسان ليس منهجا علميا . ولابد -ان صح أن الانسان يستأهل هذه الثقة – أن يؤدي البحث العلمي الى تأكيد موضوعي هادئ لها . أي لابد من أن توجد النظرية التي تنتهي الى أن الانسان قائد التطور فعلا ، وأن يكون البحث العلمي الهادئ هو الطريق الى اكتشافها . والا فان الحماس لن يجدي شيئا .

ولا يشغل العالم الثالث الان شيء – على المستوى الفكري – أكثر من البحث العلمي لاكتشاف النظرية العلمية التي تؤكد حصيلة التجربة . نظرية تؤكد أن الانسان هو العامل الأساسي في التطور وقائده .

الانسان هو قائد التطور :

نقطة الانطلاق التي أرستها الممارسة وحدّدتها لأي بحث في هذا المجال هي ، اسقاط النظرة المادية الى عملية التطور . التخلي نهائيا عن الفرض الأول وهو أن المادة أيا كانت صورتها تلعب الدور الأساسي في عملية التطور وتحديد اتجاهه وغايته . بعد هذا يصبح الأمر أكثر يسرا . فحتى الماركسية لو جُرّدت من أساسها المادي لانتهى الأمر الى مجموعة من القوانين التي تحكم حركة التطور والتي يقال لها قوانين الجدل . والانتباه الى ما أثبتته الممارسة من أن الانسان هو قائد التطور ، ينتهي ببساطة الى أن يكون الجدل – أي التطور الصاعد – قانونا خاصا بنوع الانسان ، وتبقى قوانين التأثر والحركة والتغير كلية وحتمية تحكم الطبيعة بما فيها الانسان ، بينما ينفرد هو كنوع متميز بطريقته الخاصة للانتقال من الماضي الى المستقبل . فمن ظروفه المادية الجامدة الى أقصى غاياته كما يتصورها فكريا ، يقود الظروف ويطوّعها بالعمل وأدواته ، ليحقق المستقبل الذي يريده .

ويكون ميسورا عندئذ تعليل الحل الاشتراكي . فيكفي الانسان القائد أن يعرف الاستغلال الرأسمالي معرفة فكرية – وان لم يجرب الرأسمالية – ليختار الاشتراكية . ولما كان الانسان هو الذي يطوّع المادة ويصوغها على ما يريد ، فإننا نفهم بيسر لماذا استطاع ويستطيع أن ينطلق من أي طور اجتماعي الى الاشتراكية رأسا .

المهم هو النظرة أو النظرية أو نقطة الانطلاق التي تكمن وراء الاشتراكية التي نتحدث عنها ونريد أن نحدد خصائصها .

وقد انتهينا الى اسقاط النظرة المادية . وردّ العالم الثالث الى الانسان قيمته . وأصبح الانسان هو الذي يضع أصابعه على الاشتراكية التي يبنيها وتحمل عنه سمته وطابعه . مجرد أن نردّ الى الانسان قيمته في البناء الاشتراكي ، ونوليه ما يستحقه من ثقة ، ونعترف له بما هو أهل له من مقدرة ، تحتم علينا أن نسم أعماله بسمته .

فعلى مستوى البشرية تمثل الاشتراكية النموذج الإنساني للحياة . ان كل اشتراكية إنسانية لأنها من صنع الانسان . ولكننا – داخل هذا الاطار الشامل – نجد التاريخ قد تولى قسمة الناس أمما ، وأن الانسان يتميز بالأمة التي ينتمي اليها . وأن تلك هي الرابطة القومية التي تجمع أبناء الأمة الواحدة وتميزهم عن غيرهم . لهذا يحتم علينا مجرد انطلاقنا غير المادي في البحث عن المضامين الاشتراكية ، أن نسم كل اشتراكية بسمتها القومية ، معبرين بذلك عن معرفتنا بأن الانسان هو الذي يصنعها فهي تحمل طابعه أينما كان . ولما كان هو متميزا قوميا ، فان كل اشتراكية ستكون متميزة قوميا . وتكون لنا "الاشتراكية العربية" ، وتكون للأمم الأخرى اشتراكيتها الخاصة ولو اتحدت مع اشتراكيتنا في المضمون الاقتصادي .

وهكذا نكتشف أن وراء الإصرار على "الاشتراكية العربية" إصرارا على أن تبقى للإنسان قيمته الأساسية في عملية الخلق الاشتراكي .

مجلة الفكر المعاصر العدد 15 - بتاريخ 1 ماي 1966 .

الاثنين، 11 نوفمبر 2024

الوحدة بين القومية والإقليمية .

PDF 

الوحدة بين القومية والإقليمية .

د.عصمت سيف الدولة .

مقال منشور بمجلة الفكر المعاصر عدد 70 – ديسمبر 1970 .

1 - منذ أن مزق المستعمرون الأوروبيون الوطن العربي ثم اقتسموه فيما بينهم وأقاموا عليه دولا اصطنعوا لها الحدود والحكام ، ما تزال الوحدة العربية هدفا لكل المناضلين من أجل الحرية .

أولئك الذين يرفضون أن يخدعوا أنفسهم أو يخادعوا الاخربن ، فيزعمون التحرر وهم سجناء الحدود التي أرساها المستعمرون ،  وهم يرثون الدولة  التي أنشأها لأول مرة السادة السابقون .

أولئك الذين يعرفون أن اجلاء الغاصبين خطوة أولى ، لا أكثر ، لتصفية تركتهم ، وأنهم لن يذوقوا طعم الحرية فعلا الى أن تُمحى ، الى الأبد ، بصمات الاستعمار في الوطن العربي . ومن بصماته الشّائهة تلك الحدود التي رُسمت على الخرائط في مكاتب المستعمرين فمزّقت أمة واحدة الى شعوب متعدّدة ، وجزّأت وطنا واحدا الى دول عديدة .

ومن قبل ، ظن بعض الذين ألهتهم فرحة النصر على المستعمرين أنهم قد كسبوا معركة التحرر يوم أن كسبوا معركة الجلاء ، فجاءت الأحداث التي نعاصرها وأثبتت بقسوة أن أحدا في الوطن العربي لا يستطيع ان يزعم التحرر طالما بقي جزء لم يتحرر . وأن المستعمرين لم يكونوا يعبثون يوم أن جزّأوا الوطن العربي دولا ، ومزّقوا الشعب شعوبا . فعلى الأرض العربية في فلسطين ، ومن بين العرب أنفسهم في أقطار أخرى ، وفي حماية الحدود المصطنعة واستقلال كل دولة بشؤونها الداخلية ، يُبقي الاستعمار على قواه ويحشدها ، ويدرّبها ، ويسلّحها ، ويعدّها للانقضاض ، خفية أو علنا ، تخريبا أو حربا ، على المناضلين من أجل الحرية فور انتصارهم في معارك الجلاء .

ونحن نعيش اليوم أقصى الدروس التي يلقّنها التاريخ الحي للذين لم يدركوا بعد أنه اذا كان التحرّر من الاستعمار الظاهر أمرا لا يحتاج الاّ الى الشّجاعة الثورية ، فان الحفاظ على الحرية أمر لا يتحقّق الاّ في دولة الوحدة .

فعلى ضفاف النيل دولة عربية استطاعت تحت قيادة واحدة من أصلب وأشجع أبطال الحرية في التاريخ أن تُجلي عنها المستعمرين في معركة محلية قومية دولية ، سياسية ومسلحة ، عنيدة ومعقدة ، دارت في سنة 1956 ، ثم اتجهت بكل قواها المادية التي لا تتاح لدولة عربية غيرها ، وبكل قواها البشرية التي لا تتوافر لدولة عربية أخرى ، وتحت قيادة عبد الناصر الذي لا يشابهه أحد ، تحاول بجدية قالت عنها تقارير خبراء الأمم المتحدة أنها فريدة في العالم الثالث ، لتحقق للشعب العربي فيها حياة أفضل . لتترجم التحرر الى مأكل ومسكن وعلم وصحة ومتعة لكل مواطن . فما الذي حدث ؟.. منذ سنة 1956 حتى هذه الساعة لم يترك المستعمرون للشعب العربي هناك ، ولا لقيادته ، يوما واحدا ينعمون فيه بالحرية . واتصلت المعارك بدون انقطاع من أول الحرب النفسية الى الحرب الاقتصادية الى الحرب الساخنة . ولما بدى أن ذلك الشعب المكافح العنيد تحت قيادته الصلبة الواعية يكاد يتجاوز مرحلة البناء الاقتصادي والاجتماعي ، وان التامر الخفي والصراع غير المسلح لم يمتص كل مقدرته ، تامرت قوى عربية في حماية دولها الإقليمية ، وتحركت القوى الاستعمارية في قاعدتها المغتصبة في فلسطين ، وعرف من لم يعرف لماذا رُسمت الحدود ، ولماذا أقيمت الدول . ففي أسبوع اسود من يونيو (حزيران) 1967 دفع الشعب العربي ثمنا فادحا في سيناء وهو يتقدم اليها ، لا دفاعا عن القاهرة المستقلة ، ولكن دفاعا عن استقلال دمشق ، وادركنا جميعا مدى الكارثة التي حلت بنا يوم الانفصال سنة 1961 ، وتعلمنا من الهزيمة درسا ثمينا ، او يجب ان نكون قد تعلمنا منها الدرس المتكافئ مع تضحياتنا : لا يستطيع أحد في الوطن العربي أن يحافظ على حريته الا اذا تحرر الوطن العربي جميعا ، ولا يستطيع العرب أن يحافظوا على حرية وطنهم الا اذا تحققت لهم القوة الكافية لردع المتامرين ، ولا تتحقق تلك القوة في الوطن العربي الا بوحدته . وهكذا بدون فلسفة ، أو بدون سفسطة يستطيع حتى العميان أن يروا ، يستطيع حتى الجهلة أن يعرفوا ، أن أحلام الحرية في ظل التجزئة وهم ، وأن الوحدة ، وحدها هي الضمان الوحيد ، الذي يكف عنا القوى الاستعمارية فنستطيع حينئذ - فقط – أن نقول لقد انتصرنا في معركة الحرية .

فهل تعلمنا ؟ ... أم تذهب أرواح شهدائنا هدرا ؟

لا أريد أن أجيب . ويكفي أن أقول أن جمال عبد الناصر قائد معركة التحرر العربي ، قائد معركة الصمود برغم الهزيمة ، قد استنفذ اخر سنة من حياته وهو يحاول أن يقنع طغمة من الإقليميين في الشرق العربي بأن يكفوا عن صراعاتهم الصبيانية حول مواقعهم الإقليمية الرخيصة ، ليقيموا الجبهة الشرقية . لأن أحدا لن يستطيع أن يحلم بالحرية ما دامت فلسطين محتلة . وقضى جمال عبد الناصر ، وبقيت الإقليمية الخائنة . وسيدفع الاقليميون يوما الثمن العادل جزاء خيانتهم . ولن يرحمهم أحد حينئذ ، لأنهم في أسوأ فترات التاريخ العربي ، لم يرحموا أمتهم الجريحة .

ان غدا لناظره قريب .

2 – ومنذ أن سقطت الليبرالية وتعلمت الشعوب من معاناة الحياة اليومية في ظل الفقر والاستغلال أن الحرية ليست كلمة تقال ، وأن الاستقلال ليس شعارا يرفع ، وأن الناس لا يأكلون الكلام . بل الحرية عمل لكل قادر وعلم لكل ناشئ ، وعلاج لكل مريض ، ومنزل لكل اسرة ، وراحة لكل شيخ . وبعد هذا كله مقدرة متاحة لكل انسان في أن يتمتع بمباهج الحياة بعد أن يكون للحياة ذاتها مضمون الحرص عليه . منذ أن وعى الناس كل هذا ما تزال الوحدة العربية هدفا لكل المناضلين من أجل الرخاء والاشتراكية . أولئك الذين يرفضون أن يخدعوا أنفسهم أو يخادعوا الاخرين باستقلالهم العقيم ، وبأعلامهم المزوقة ، وبمقاعدهم المريحة في هيئة الأمم المتحدة ، أرقاما أصفارا في عدّاد الدول لا أكثر ولا أقل . أولئك الذين يعرفون أن الاستقلال خطوة الى الهدف الأصيل : حياة أفضل للمواطنين . وأن الحرية التي لا يلمس كل مواطن ، كل مواطنة ، أنها قد تُرجمت وتجسّدت في مأكل أفضل وملبس أفضل ، وثقافة أفضل ... كلمة جوفاء يفرح بها الحاكمون ويدقّون لها الطّبول لأنّهم وحدهم الذين ينعمون بثمراتها . أولئك الذين يعرفون أن الدولة ليست مخفرا للحدود تحمي الوطن وتترك الناس فيه يأكل بعضهم بعضا ، وأن وظيفتها أن تخطط وتوجه وتنفذ كل الإمكانات الاقتصادية والبشرية فيها من أجل التقدم الاجتماعي ، وأن أية دولة عاجزة عن أن تفي بمسؤوليات هذه الوظيفة تفقد مبررات وجودها ولا تستحق أن يموت جندي واحد من أجل الإبقاء عليها . والتقدم ليس جعجعة بل هو علم وجهد وبذل وتضحية ... ثم رخاء . ذلك لأن الذين يعرفون كيف يُصنع التقدم في القرن العشرين ، يعلمون علم اليقين ضخامة وجسامة المتطلبات السياسية والاقتصادية والمالية والفنية والبشرية اللازمة لها بمنطق عصر العلوم وسباق الرخاء بين الدول الكبرى . وعندما نعرف هذا ، ونكف عن الاحلام غير العلمية وغير الواقعية ، يبيّن حتى للذين يدفنون رؤوسهم في الرمال ، ان التقدم الاجتماعي لا يقوم على أساس التجزئة كما قال عبد الناصر سنة 1964 . يبيّن حتى للمغرورين بمقدرتهم الذاتية كم هي واهمة أحلام الحياة الأفضل في ظل التجزئة . يبيّن للفرحين بدولهم الهزيلة ، وأعلامهم المزوقة وبمقاعدهم المريحة أنهم فرحون بدول غير معقولة كما يفرح الأطفال بلعبهم الغريبة . يبين لكل الإباء والامهات الذين لا يريدون لأبنائهم أن يعانوا مذلة الفقر ، الذين يحلمون من أجلهم بمجتمع كتلك المجتمعات المتقدمة في أمريكا وفي أوروبا ، ان الفرصة الوحيدة لتحقيق تلك الأحلام لا تكون الا في دولة الوحدة الاشتراكية . الدولة الوحيدة القادرة بما تملك من ثروات طبيعية متكاملة وقوى بشرية ملتحمة أن تدخل - في ظل التخطيط الاشتراكي - سباق التقدم الاجتماعي ثم تفوز .

3 – هذه هي الوحدة العربية ، الأمل . المنقذ . الطريق الذي لا طريق غيره للانتقال من العبودية الى الحرية . ومن الفقر الى الى الرخاء . ومن المذلة الى الكبرياء . ومن الهزيمة الى النصر .

الى الإباء والامهات خاصة قولوا لأبنائكم ، والى الشباب تأملوا مستقبلكم : عندما تكون فرص التقدم المتاحة أقل مما يكفي الجميع فان أحدا لا يستطيع أن يحصل على فرصة الا اذا سرق فرصة غيره ، ولا أحد يستطيع أن يتقدم الا على جثة أخيه . فان أردتم أن تتقدموا في حياتكم بشرف وبدون سرقة أو استغلال ، فأقيموا الدولة التي تمنحكم جميعا فرص التقدم وتفيض . أقيموا دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية .

4 – نعم أنا أعلم أن هذا كلام معاد . ونعرف جميعا أن أحدا في الوطن العربي لم يعد – بعد كل التجارب المريرة – ينكر ضرورة الوحدة العربية ، ونرى الناس في كل مكان من الوطن العربي يهتفون للوحدة العربية ، ويتظاهرون من أجلها ، ويدعون اليها ، ويقسمون بأغلظ الايمان انهم قابلون التضحية حتى بالحياة من أجل تحقيق الوحدة .

كل الناس في الوطن العربي ، فيما يزعمون ، وحدويون .

شيء عجيب . لماذا اذن لم تتحقق الوحدة ؟ هذا هو السؤال المشكلة . وهو مشكلة بالغة التعقيد . ومع ذلك فان كل امال الوحدة ستظل سرابا اذا لم نجد لها حلا .

هذه المشكلة كيف نشأت ، وكيف يمكن أن تحل هو موضوع هذا الحديث . أما ما سبق من حديث منفعل فهو مقدمة نجتر من خلالها مرارة الهزائم التي لحقت بأمتنا ، ونبدّد بها بعض الأوهام التي نعيش فيها ثم نواجه المشكلة التي تواجه القوى الوحدوية في الوطن العربي ، وأول خطوة الى حل أية مشكلة أن نعرفها على حقيقتها .

5 – لماذا يعجز الوحدويون في الوطن العربي بالرغم من أنهم يمثلون أعرض الجماهير العربية ، وتنتمي اليهم أخلص وأصلب الفصائل الثورية ، لماذا يعجزون عن تحقيق الوحدة العربية ؟ .. ان أول إجابة ترد على الخاطر هي أن ثمة قوى كبيرة وعاتية ، دولية ، وفي الوطن العربي ، تبذل جهودا ضخمة في كل الساحات وعلى كل المستويات لتحول دون تحقيق وحدتها في محيط دولي معاد أو سلبي ، وهو ما لم تواجهه أية حركة قومية في التاريخ . توحدت ألمانيا في ظل تحالف مع أقوى الدول المعاصرة لوحدتها . ولم تطلب القوى الدولية من الايطاليين ثمنا لمباركة وحدتهم أكثر من ثلاثة الاف جندي اشتركوا بهم في حرب القرم ضد روسيا القيصرية . أما نحن فان أخلص أصدقائنا ينصحنا بعدم التسرع في الوحدة . ويقف العالم كله تقريبا ضد هدف الوحدة العربية . لأننا نريد أن نحقق الوحدة في عصر احتكرات الدول الكبرى . ولا يريد أحد أن يرى دولة عربية كبرى كفيلة – كما تعلّموا من التاريخ القديم وبحكم أصالتها الحضارية – أن تحرّر العالم من احتكارات القوة . بعضهم من موقع الصداقة يكف عنا المساعدة في تحقيق الوحدة . وأكثرهم يقفون ضد الوحدة خفية أو علنا . وهكذا يعجز الوحدويون في الوطن العربي عن إقامة دولة الوحدة .

هكذا يوحي الينا أعداؤنا ، وهكذا يردّد الانهزاميون منا .

وهو قول صحيح ولكنه غير كاف لفهم المشكلة . ذلك لأننا سواء رفضنا العبودية نريد الحرية ، أو رفضنا الاستغلال نريد الاشتراكية ، أو رفضنا التخلف نريد الرخاء ، أو رفضنا الجهل نريد العلم ، أو رفضنا التجزئة نريد الوحدة ، أيا كان هدفنا ، فثمة قوى مضادة لن تكف لحظة واحدة ، ولن تترك أسلوبا واحدا بدون أن تستخدمه للحيلولة دون أن نحقق أهدافنا . اننا في عصر لا يمنح أحد فيه أحدا شيئا . وعلى من يريد شيئا أن ينتزعه . في عصر يحتكم الى القوة ويقترن فيه الصراع بالعنف ، لا يتوقع الا الأغبياء أن يتقدموا شبرا الا اذا اقتلعوا الأقدام الواقفة عليه عنوة . وفي مواجهة ذات القوى المضادة استطعنا أن نحقق قدرا من الحرية وأن نحقق قدرا من التقدم الاجتماعي ، خلال معارك ضارية . فلماذا لم يقل أحد اقبلوا الاحتلال لأن ثمة قوى مضادة عاتية لا تريد لكم الحرية ، ولم يقل أحد اقبلوا الاستغلال لأن ثمة قوى مضادة عاتية لا تريد لكم الاشتراكية . ثم يحتجون بذات القوى المضادة العاتية لينشروا في أفئدتنا بذور الهزيمة أو ليبرّروا جبنهم أمام مخاطر النضال من أجل الوحدة . ويتخلّون عن أهدافهم لأن أعداءهم يريدون لهم أن يتخلّوا ؟

لماذا خاضت القوى الوحدوية في الوطن العربي معارك ضارية ، وقدّمت تضحيات هائلة ، وهي تناطح الاستعمار والقوى الامبريالية العاتية حتى حرّرت بعض الأقاليم ، ثم كفّت عن الاستمرار في نضالها الى أن تحقق الوحدة ؟

لا يمكن أن يقتنع أحد بأن ضراوة القوى المضادة هي التي حالت بين أبطال معارك التحرر وبين تحقيق الوحدة . صحيح اذن أن القوى المعادية معوّق للوحدة ، وهي معوّق طبيعي بحكم منطق العصر الذي نعيش فيه ، ولكن جوهر المشكلة لا يكمن في صفوف القوى المعادية للوحدة ، بل يكمن في صفوف القوى الوحدوية نفسها .

ان اتهام القوى الوحدوية في الوطن العربي بأنها هي المسؤولة الأولى عن الإبقاء على التجزئة ، اتهام خطير لا يمكن أن نتحمل مسؤولية إعلانه بدون أن نطرح مبرّراته العقائدية .

والمسألة باختصار شديد أن العقيدة القومية تقوم على خمسة أسس متكاملة :

أولا : ان الأمة جماعة بشرية تكوّنت تاريخيا من جماعات وشعوب كانت مختلفة لغة وتراثا وألوانا ومصالح ، متصارعة ومتفاعلة خلال ذلك الصراع ، انتهت بعد مرحلة تاريخية طويلة من المعارك الى أن تلتحم لتكون شعبا واحدا ذا لغة مشتركة وتراث مشترك ومصالح مشتركة . وهذا لا خلاف عليه . انما الخلاف حول الأرض الخاصة المشتركة كعنصر من عناصر التكوين القومي . ونحن نرى أن الاختصاص برقعة مشتركة من الأرض هو العنصر الجوهري المميز للأمة . ذلك لأن العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي تركز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة المصالح الاقتصادية التي تركز عليها النظرية الماركسية ، أو وحدة الثقافة التي يشيد بها كثير من الكتاب العرب ، أو حتى وحدة الإرادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية ...الخ . كل هذه العناصر ممكن أن تتوافر وأن تجتمع لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى " الأمة " كالمجتمعات القبلية مثلا . انما تجاوزت الطور القبلي ودخلت طور التكوين القومي بالاستقرار على أرض معينة ثم اكتملت تكوينا باختصاصها بتلك الأرض المشتركة وبهذا أصبحت أمة .

ثانيا : يترتب على هذا أن الأمة تكوين واحد من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معا . فنحن عندما نقول أننا أمة عربية ثم نتحدّث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين ، بل عن الكل (الأمة) الذي يتضمن الجزء (الوطن) .

فالشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكوّنان معا الأمة العربية ، التي ما تحوّلت من شعوب شتى وأوطان عدة الى أمة الا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكوّنا وجودا اجتماعيا واحدا وجديدا هو الأمة العربية .

ثالثا : ثم انه لما كانت الأمة تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب في الوطن هو مشاركة تاريخية . تحول من ناحية دون الشعب وأن يتصرف في وطنه أو في جزء منه في أية مرحلة تاريخية معينة لأن الوطن شركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة . وتحول من ناحية أخرى دون أي جزء من الشعب وأن "يتصرف" في الإقليم الذي يعيش عليه أو في جزء منه بالتنازل عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه علاقة (خارجية) ، وتحول من ناحية ثالثة دون أي جزء من الشعب وأن يستأثر بأي إقليم عن بقية الشعب (علاقة داخلية) .

رابعا : ان الأمة كتكوين تاريخي لم تتكوّن اعتباطا أو مصادفة بل تكوّنت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل . فاذا كنا قد بلغنا خلال المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي مادمنا أمة عربية واحدة فان هذا يعني أن تاريخنا الذي قد نعرف أحداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ كل إمكانيات العشائر والقبائل والشعوب فبل أن تلتحم معا لتكون أمة عربية واحدة وانها عندما اكتملت تكوينا كانت بذلك دليلا موضوعيا غير قابل للنقض على أن ثمة "وحدة موضوعية" ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أيا كان مضمونها . وانها بهذا المعنى مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح الا بامكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي . قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بامكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ولكنه لن يلبث أن يتبين ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافئ مع الإمكانيات القومية ، المتّسق مع التقدم القومي قد أخطأه عندما اختار أن يفلت بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكّل حلولها المصير القومي الواحد .

خامسا : وأخيرا ، فان هذه الوحدة الموضوعية بين المشكلات التي يطرحها الواقع القومي بما تعنيه من أن حلولها الصحيحة المتكافئة مع المقدرة القومية غير قابلة للتحقق الا بامكانيات وقوى قومية في نطاق المصير القومي تفرض الوحدة العربية كأداة يستحيل بدونها وضع كل الإمكانيات والقوى القومية ، واستعمالها ، في سبيل حل المشكلات العربية ، وتحقيق المصير العربي الواحد . ان هذا لا يعني ان الإقليميين ودولهم عاجزون تماما عن تحقيق أي نجاح في مواجهة المشكلات التي يتصدون لها ، بل يعني تماما أنهم لا ينجحون الا مؤقتا وأنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الوحدة لازمة لاطراد النجاح أو الحفاظ عليه .

تلك هي الأسس الخمسة المتكاملة للعقيدة القومية . ولعلنا لا ندعي لها ما لا تستحق ، ولا نسلب أحدا شيئا يستحقه اذا قلنا أنه بالرغم من زحمة العقائد والنظريات في الوطن العربي وبالرغم من ادعاءات العلم والعلمية ، وبالرغم من استهانة الكثيرين بعمق وأصالة الفكر القومي ، لا يفعل تاريخنا خلال خمسين سنة الا تقديم الدليل على صحة العقيدة القومية وسلامة الموقف القومي .

وهذا الموقف القومي العقائدي تقفه أصلب فصائل القوى الوحدوية في الوطن العربي وأعمقها وعيا ، تستهدف الوحدة العربية لأنها الأداة الوحيدة لتحقيق المصير الواحد الذي لا يمكن لأحد – حتى لو أراد – أن يهرب منه . فهم لا يهابون مخاطر النضال لأن هذا هو قدرهم التاريخي . ولا يقبلون عن الوحدة بديلا لأنهم يعرفون أن التاريخ قد تولى حرق كل البدائل . ولا تلهيهم الانتصارات الإقليمية المؤقتة لأنهم يعرفون أنها زائلة . ولا يخافون متاعب الوحدة لأنهم يعرفون أن في الوحدة تعويضا لكل المتاعب . ولا يتنازلون عن الوحدة الشاملة لأنهم يعون أن التاريخ الذي كوّن الامة العربية قد رسم حدود دولتها القومية .

أولئك الوحدويون القوميون .

ولو كان كل الوحدويين قوميين لتحققت الوحدة منذ وقت بعيد .

ولكن المشكلة في حقيقتها أن ليس كل الوحدويين قوميين .

كيف ؟

6 – ان الإجابة على هذا السؤال أولى بانتباه كل القوى الوحدوية القومية . لأن فيها – كما أعتقد – نكتشف حقيقة المشكلة وقد نهتدي الى الحل .

فقد عرفنا من قبل أن الأمة العربية وجود تاريخي موضوعي ، وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ، وأنها بذلك لا تحل الا في اطار المصير القومي الواحد . وقلنا أن هذا كله لا يتوقف على معرفة الناس به . فسواء عرفوه أم لم يعرفوه ، هو قائم في الواقع الموضوعي . مؤدى هذا أن الامة العربية كوجود تفرض ذاتها على الإقليميين في الوطن العربي أرادوا هذا أم لم يريدوه . فاذا بكل دولة إقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ، وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، تجد نفسها مضطرة الى أن تشارك في معارك المصير العربي . وكذلك يجد أنفسهم كل الإقليميين الذين يستهدفون غايات إقليمية سواء على المستوى التحرري أو المستوى الاشتراكي . أي يجرهم ويجبرهم الفشل من محاولات الإفلات بمصائرهم الخاصة على أن يقبلوا مرغمين دخول المعارك الدائرة حول المصير القومي الواحد ، ومنها معارك الوحدة .

فاذا بقطاع كبير من القوى التي ترفع شعار الوحدة ، من الإقليميين يرون في اختلاطهم بالقوى الوحدوية القومية كسبا لجهد يختلسونه بادعاء الوحدة . ويشاركون فعلا في معارك الوحدة ولكن من منطلقات اقليمة . ونعرفهم من نوع الدولة التي يقدمونها تبريرا لموقفهم "الوحدوي" . فالوحدة عندهم مقرونة بمكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية تحل مشكلاتهم الإقليمية . وهذا كما عرفنا صحيح . فالوحدة تحل مشاكل الإقليم . ولكن النضال من أجل الوحدة شيء اخر . انه صراع وتضحيات ومتاعب وهزات في الكيانات الإقليمية تقتضيها عملية لالتحام . وهنا عندما يطرح النضال من أجل الوحدة متاعبه ، وقبل أن تقدم الوحدة عطاءها يتراجع الوحدويون الاقليميون ، ويخونون ، ويوقفون المسيرة كلها دون غايتها ، لأن غايتها عندهم أن تضيف الى ما عندهم لا أن تقتضي منهم التضحيات اللازمة لبنائها . فترى القوى الوحدوية كلها مشلولة ، ومتوقفة ، أو مرتدة عن غايتها العظيمة . وترى دعاة الوحدة يستعينون بالأمة العربية كلها ، باسم القومية وباسم وحدة المصير ، ليحرّروا قطعة من أرض الوطن العربي ، والأمة العربية تبذل وتعطي وتضحي ، حتى اذا ما تحرّر شبر وثب اليه أحد "الوحدويين" وأقام عليه دولته ورفع علما أكثر تزويقا من أعلام الاخرين  ، وانقلب من مناضل الى حاكم . وقد تكررت هذه المأساة المهزلة في التاريخ العربي الحديث أكثر من مرّة . وذهب بعض الذين وصلوا الى النصر في معركة التحرير بالتضحيات الصامتة التي بذلها الشعب العربي في أقطار أخرى الى حد معاداة القومية والارتداد الى أخطبوط علاقات الرأسماليين .

هذا واقع كلنا نعرفه .

وعليه فأقول بمنتهى الوضوح ، ان مشكلة القوى الوحدوية القومية أنها انخدعت في الإقليميين . يرفعون شعار الوحدة ، ويستغلون طاقات الأمة العربية في تحقيق غاياتهم الإقليمية . فارتضت بين صفوفها كل من قال أنه يستهدف الوحدة بدون أن تسأل لماذا اختار وأية وحدة تلك التي اختارها . فاذا بالناس في الوطن العربي ، كل الناس تقريبا ، فيما يزعمون ، وترى الناس في كل مكان في الوطن العربي يهتفون بالوحدة ، ويتظاهرون من أجلها ويصفقون لدعاتها ويقسمون بأغلظ الايمان أنهم قابلون التضحية حتى بالحياة من أجل تحقيق الوحدة . فاذا جاء وقت التضحية لا بالحياة ، بل بما هو أقل من هذا بكثير ، أداروا ظهورهم وأصمّوا اذانهم واستكبروا استكبارا . فاذا بكل النضال الوحدوي قائم على حسابت وهمية في قواه ، فيتراجع أو ينهزم .

هذه هي المشكلة كما أراها .

انها اختلاط القوى الوحدوية القومية التي تستهدف الوحدة من منطلق قومي عقائدي ولا تعلق الوحدة على شرط ، بالقوى الإقليمية الانتهازية التي تستهدف الوحدة بشرط الحفاظ على مصالحها الإقليمية أو تنميتها على حساب الشعب العربي . وطالما بقي هذا الاختلاط قائما ، وطالما خشي الوحدويون القوميون فرز الصفوف ، وطالما تستروا على الخيانات يلمسونها بأيديهم كل يوم من الوحدويين الانتهازيين لن يستطيعوا على أي وجه أن يلتقوا فيلتحموا في تنظيم قومي مقصور عليهم ، مطهّر تماما من الفكر الإقليمي ، والولاء الإقليمي ، والمصالح الإقليمية ، والأهداف الإقليمية ، وقبل هذا من العقلية الإقليمية . وبغير هذا التنظيم القومي الثوري لن يستطيع الوحدويون القوميون فرض الوحدة على كل أعدائها ، وسحق كل القوى التي تقف في طريقها ، في صراع مفتوح لا تردّد فيه ولا تراجع عنه ، ثم الصبر على متابعته وتضحياته الى أن تتم الوحدة الشاملة .

7 – هذا اجتهاد في حل مشكلة معقدة ، لا نزعم أنه القول الأخير . ولكني أزعم أنه مما أرى صحيح وليست العبرة بما يزعمه كل واحد من صحة في رأيه ، ولكن العبرة بأن نجتهد جميعا حتى نكشف الحل الصحيح الذي يتوقف عليه مصير أمتنا .