بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 ديسمبر 2024

هل تعود مصر للامتيازات الأجنبية ؟

 هل تعود مصر للامتيازات الأجنبية ؟

د.عصمت سيف الدولة .

جريدة الأهالي – 8 ديسمبر 1982 .

نشرت "الأهالي" (يوم 24 نوفمبر 1982) أن البنك العربي الافريقي والمصرف العربي الدولي قد رفضا كل الطلبات التي تقدمت بها جهات الأمن والمدعي العام الاشتراكي لمعرفة أرصدة عصمت السادات وأميل ناجي بشاي الذي يحاكم الان بتهمة الاتجار في العملة . وأضافت أن أحد قيادات الأمن قد أكد لها ذلك وصرح بان القوانين والاتفاقات المنشئة لهذه البنوك تعطيها الحق في عدم التعاون مع جهات الأمن والقضاء والمدعي الاشتراكي وعدم السماح لأي منهم بالاطلاع على الأرصدة واتخاذ إجراءات الحجز التحفظي عليها بما يتيح لبعض الأشخاص تهريب أموالهم خارج البلاد اذا ما أرادت السلطات المصرية اتخاذ إجراءات قبلهم ..

وأوردت نص الخطاب الذي أرسله المصرف العربي الدولي في 19 ديسمبر الماضي ردا على طلب احدى الجهات الرسمية . وقد احتج البنك فيه بأن المادة 12 من الاتفاقية المنشئة للبنك قد نصت على أنه "لا يخضع المصرف وفروعه وتوكيلاته وسجلاته ووثائقه ومحفوظاته لقوانين وقواعد الرقابة والتفتيش القضائي أو الإداري أو المحاسبي في داخل بلد العضو " .. أي مصر . وان المادة 13 من الاتفاقية ذاتها تنص على أن "حسابات المودعين والتي توجد في بلد العضو سرية ولا يجوز الاطلاع عليها ولا يجوز اتخاذ إجراءات الحجز القضائي أو الإداري عليها " . ويحتج البنك بأن هذه الاتفاقية قد وافق عليها مجلس الشعب يوم 8 يونية 1974 وصدق عليها رئيس الجمهورية السابق في 10 يونية 1974 ، وبذلك أصبحت أحكام الاتفاقية تجري مجرى القانون النافذ في جمهورية مصر العربية طبقا للمادة 151 من الدستور .

ولقد علقت جريدة الأهالي والدكتور فؤاد مرسي والدكتور عثمان محمد عثمان على هذه الواقعة بإبراز ما تتضمنه من مخاطر على الاقتصاد الوطني وضرورة إعادة النظر في القوانين والاتفاقات المنشئة والمنظمة لتلك البنوك .

ضرورة إعادة النظر

 ان إعادة النظر في القوانين والاتفاقات المنظمة لما يسمّى "الانفتاح" قد أصبحت ضرورة ملحة . ولكن في خصوصية الموضوع الذي نشرته "الأهالي" - اذا صحت الوقائع وكانت هي كل شيء – فإننا لا نريد أن يبقى ذلك الاقتناع غير المبرر بأن الامتيازات الأجنبية التي فرضها الاحتلال على مصر حتى منتصف الثلاثينات قد عادت مع تلك المؤسسات الانفتاحية التي زرعت في أرض مصر .

لا ليس الأمر كما يزعم المصرف العربي الدولي أو غيره حتى في ظل القوانين والاتفاقات القائمة . ولا يجوز للقائمين على أمر تنفيذ القانون أن يتعللوا بتفسيرات مغلوطة لتبرير مواقفهم السلبية من تلك المؤسسات وهم بصدد ضبط الجرائم وتحقيقها .

صحيح أن المصرف العربي الدولي وأمثاله ، مؤسسات نشأت تنفيذا لاتفاقيات دولية . وأن تلك الاتفاقيات قد أصبحت لها قوة القانون طبقا للدستور ، أو كما يقال أصبحت "قوانين اتفاقية" .

ولكن السؤال المطروح هو عن مدى حجية تلك الاتفاقيات ومدى قوة نفاذها . ان الاتفاقيات ذاتها لا تجيب على هذا السؤال لأنه متروك لفرع خاص من فروع القانون اسمه (القانون الدولي الخاص) ، فيعني أن التمسك بها يستمد شرعيته لا من نصوص الاتفاقية وحدها ولكن من قواعد القانون الدولي الخاص الذي يحدد مجال تطبيقها على أساس أن المصالح موضوع الاتفاقية هي من موضوعات القانون الخاص (مدني تجاري) ، وفي هذا تختلف عن الاتفاقات الدولية التي تنظم موضوعات عامة والتي تخضع للقانون الدولي العام .

وقواعد القانون الخاص لا تسمح للاتفاقات الارادية سواء أبرمتها الحكومة أو أبرمها الأفراد بالنفاذ الا في حدود ما يسمى (النظام العام) ، وكما يقول الدكتور مصطفى كيرة رئيس محكمة النقض في كتابه المدخل الى القانون ، ان النظام العام هو مجموع المصالح الأساسية للجماعة أي مجموع الأسس والدعامات التي يقوم عليها بناء الجماعة وكيانها بحيث لا يتصور بقاء هذا الكيان سليما دون استقراره عليه ، ولذلك كانت القواعد القانونية بالمصالح الأساسية للجماعة أي المتعلقة بالنظام العام قواعد امرة لا تملك الإرادة الفردية ازاءها أي سلطان أو قدرة على مخالفتها اذ تعرّض مخالفتها كيان المجتمع نفسه للانهيار والتصدع ، فلا يسمح لاي كان بأن تجري ارادته على خلافها . وفي الطليعة من القواعد المتعلقة بالنظام العام أي من القواعد الامرة قواعد قانون العقوبات التي ترسي دعامة الأمن في المجتمع ..

هذا الرأي سليم بدون خلاف في مصر وفي كل دول العالم . وقد كان اخر تأكيد له ما أسفر عنه المؤتمر الدولي الذي انعقد في لاهاي في أكتوبر 1951 لوضع القواعد الدولية الخاصة بالشركات الأجنبية أو التي يدخل في تكوينها عنصر أجنبي . وقد نصت المادة 8 من الاتفاق الذي اسفر عنه المؤتمر على ان (للدولة المتعاقدة أن تعطل تطبيق أحكام الاتفاق اذا تعارضت مع النظام العام فيها) .

خرق الاتفاق

هذا من ناحية .

ومن ناحية أخرى فان للمصرف العربي الدولي ، أو لغيره من أمثاله ، أن يحتج ويتمسك باتفاقية انشائه في أي مجال يدخل في وظيفته المعينة بهذه الاتفاقية أي هو يؤدي وظيفته كمصرف . له الّا يسمح بالاطلاع على أوراقه ووثائقه وحسابات عملائه في مواجهة أجهزة الرقابة على النشاط المصرفي . أما حين يرتكب البنك "جريمة" تهريب مثلا أو يشترك فيها بالتحريض أو الاتفاق أو المساعدة (المواد من 39 الى 44 عقوبات) أو يخفي ما هو متحصل عن جريمة (المادة 44 مكرر عقوبات) أو يخفي أوراقا أو وثائق وهو يعلم أنها تتعلق بأمن الدولة أو بأية مصلحة قومية أخرى (المادة 77 د ، فقرة 2 من قانون العقوبات) .. الى اخر مواد التجريم ، فان نشاطه هذا لا يكون داخلا في نطاق اتفاقية انشائه بل يكون في الواقع خرقا لها قبل أن يصبح جريمة . وبالتالي لا يجوز له الاحتماء وراءها فرارا من المسؤولية .

فاذا طبقنا هذه القواعد على الواقعة المنشورة نجد – أولا – أن الدستور قد نص في المادة 179 على أن "يكون المدعي العام الاشتراكي مسؤولا عن اتخاذ الإجراءات التي تكفل تأمين حقوق الشعب وسلامة المجتمع ونظامه السياسي والحفاظ على المكاسب الاشتراكية والتزام السلوك الاشتراكي ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى " .

قبل أن نصل الى هذه الاختصاصات الأخرى نلاحظ أن ما اختص به المدعي العام الاشتراكي بنص الدستور غير قابل للانتقاص منه ولو بمقتضى قانون ، لأن الدستور أسمى من القانون ، وكل قانون أو اتفاقية لها قوة القانون تقف قوة نفاذها وحجية التمسك بها عند حدود هذا النص الدستوري فلا يجوز الاحتجاج بها على المدعي العام الاشتراكي حين يرى وفاء بالتزامه الدستوري اتخاذ اجراء يرى أنه يكفل تأمين حقوق الشعب وسلامة المجتمع .. الخ .

ثم جاء قانون المدعي العام الاشتراكي رقم 95 لسنة 1980 وخول له سلطة التحقيق في الأفعال المجرّمة بالقانون رقم 34 لسنة 1972 (المادة 3) ، هذا القانون يورد من بين الجرائم التي عدّدها "الاستيلاء بغير حق على الأموال العامة أو الخاصة المملوكة للدولة أو الأشخاص الاعتبارية" مادة 35 فقرة 5 ثم يضيف القانون 95 لسنة 1980 أن للمدعي العام الاشتراكي ، اذا اقتضت ضرورة التحقيق ضبط أو اخطار أحد الأشخاص أو تفتيشه أو تفتيش منزله أو اتخاذ اجراء من الإجراءات المنصوص عليها في المواد 91 تفتيش الأماكن و94 تفتيش الأشخاص و95 ضبط الأوراق والرسائل و126 القبض على الأشخاص و134 الحبس الاحتياطي و306 الاطلاع على الوثائق وضمها الى ملف الدعوى من قانون الإجراءات الجنائية ويجب الحصول مقدما على أمر بذلك من أحد مستشاري محكمة القيم " ..

الاتفاق لا يحميه

نحن اذن بصدد تحقيق يجريه المدعي العام الاشتراكي وهو سلطة دستورية والدستور من النظام العام ، خول فيه حق التحقيق طبقا لقانون الإجراءات الجنائية وهو قانون من النظام العام ، تحقيقا قد يسفر عن وقوع جريمة جنائية ، المادة 26 تخضع لقانون العقوبات أو القوانين العقابية المكملة لها وكلها من النظام العام .. انه ذات النظام العام الذي يعطي البنك الحق في الاستعانة بالسلطة العامة اذا ما تعرض للاعتداء . وللسلطة العامة حينئذ ، وهي بصدد حمايته ، أن تدخل مقره ، وتجرد خزائنه ، وتطلع على أوراقه وحساباته اذا ما كانت الجريمة التي وقعت عليه جريمة اختلاس مثلا . فهل يقبل البنك أو احدى الدول الموقعة على اتفاقية انشائه احتجاج النيابة أو رجال الأمن مثلا بأنهم لا يستطيعون حمايته لأن الاتفاقية تمنع اطلاعهم على وثائقه وحساباته ، طبعا لا . فكيف يمكن أن يتحصن عندما يكون جانيا أو لمساعدة أحد الجناة وراء (اتفاقية) مالية أو تجارية أو مدنية حتى لا تمتد اليه يد الدستور أو يد النظام العام .. في أي قانون أو مذهب أو دولة قيل هذا أو يمكن أن يقال ؟

ثم ما هذا الاحتجاج بالسرية ؟ ان القانون 95 لسنة 1980 ذاته قد احتاط لمثل هذا الاحتجاج فأورد نصا صريحا هو نص المادة 63 التي تقول .. "على الجهات المختصة أن تستجيب الى ما تطلبه محكمة القيم والمدعي العام الاشتراكي من بيانات وأن تضم تحت تصرفها ما يحدد أنه من أوراق ووثائق ومستندات بما في ذلك الجهات التي تعتبر البيانات التي تتداولها سرية . ولكل منهما أن يأمر بالتحفظ على أية أوراق أو وثائق ومستندات تكون لها أهمية في التحقيقات التي يجريها" .

ثم ان قيل بعد ذلك أن كل هذا لا يمس الاتفاقية التي أصبح لها قوة القانون مادامت قائمة لم تلغ أو تعدل ، نقول فلتكن قانونا وليست مجرد اتفاقية ، فماذا يمكن أن يقال ردا على المادة الثانية من قانون اصدار القانون رقم 95 لسنة 1980 الخاص بالمدعي العام الاشتراكي وسلطاته والتي تقول نصا : (يلغى كل نص يتعارض مع أحكام هذا القانون) .

لقد صدر هذا القانون في 15 مايو 1980 فهل يمكن التمسك بأي نص من قانون أو اتفاقية خاصة سابقة عليه وان كانت لها قوة القانون لتعطيل أحكامه ؟

مسألة سيادة

وبعد ..

فان المسألة ليست مسألة فرد أو بضعة أفراد ، وليست مسألة مالية الأجنبية يمكن أن تثير انتباه أصحابها فقط ، للإفلات من المسؤولية الجزائية .

فهل هي عودة الى الامتيازات ، لا. انها مسألة سيادة الدولة . ذلك لأن عدم نفاذ القواعد القانونية المكونة للنظام العام وعلى رأسها القوانين الجزائية على أي شخص عادي أو اعتباري مقيم على إقليم لدولة هو مساس صريح بسيادتها على اقليمها الا ما اتصل بالإعفاءات الدبلوماسية . لهذا كانت الامتيازات الأجنبية التي فرضها الاحتلال البريطاني على مصر انتقاصا من سيادتها واستقلالها الى أن الغيت عام 1937 وما كانت الامتيازات الا تحديا باتفاقات دولية للإفلات من المسؤولية الجزائية . فهل هي عودة الى الامتيازات الأجنبية ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق