الدكتور عبد الله عبد الدايم .
في هذا
المقال القيّم للدكتور عبد الله عبد الدايم نجده يبحث عن التقدم في بعده القطري وهو القومي المعروف ، لكنه
أمر مشروع .. لأن الهم القطري من أوكد القضايا التي تعني القوميين قبل غيرهم بشرط
أن لا يغفلوا عن العلاقة بين القومي والقطري ، وأن يعوا الحدود والقيود ومجالات المراوحة بين هذا وذاك دون أن يغرقوا في الوحل القطري حتى يزول تماما البعد القومي ولا يبقى له أثر سوى الكلام والشعارات .. وأستاذنا – رحمه الله – غير غافل
عن هذه النواحي ، حيث نجده يحذر بكل فطنة من تجاهل مثل هذه الأمور ، ويضعها في
اطارها الصحيح وهو يتحدث عن الثورة العربية في مقال له بعنوان "ثورة القومية
العربية" (مجلة الاداب – يناير 1960) قال فيه : "ان كانت فكرة القومية هي رأس الأفكار الثورية
التي نجدها في القومية العربية ، فهذا يعني شيئا لا ثاني له وهو انها لا يمكن أن
تتحقق الا عن طريق عقل ثوري وعمل ثوري . انها ، اذ تصدر عن حدس ثوري اصيل ينظر الى
الأشياء نظرة فيها تخط للفساد وتجاوز للنظرات الجزئية وذهاب الى الأصول ، لا بد
كيما تتحقق فعلا من ان يكون أسلوب عملها اليومي ونضالها الدائم مستوحى من مثل هذا
الحدس حافظا له . والمنزلق كما قلنا هين خطير بين الفكرة الثورية والفكرة الإصلاحية
. والفكرة الإصلاحية هي التي تنتحل عادة لنفسها صفة الثورية فتزيفها وتبعدها عن
أصولها وعن حرارتها . وفكرة الوحدة العربية كما قلنا ونقول فكرة اما أن تصدر عن
ثورية اصيلة واما الا تكون البتة . بل ان انقلابها الى ضدها لا بد واقع ان هي ظنت
أن الوحدة يمكن أن تتم عن طريق مهادنة التجزئة ، أو عن طريق السير بعقلية التجزئة
ضمن الوحدة.
ان العمل
للفكرة العربية ، لكونه عملا ثوريا ، لا بد فيه من نضال يومي في سبيل هذه الفكرة ،
ولا بد فيه من نظرة شاملة كاملة تغذي سلوك يومي وتطبع كل حركة . وليس أعداء الوحدة
الحقيقيون أولئك الذين لا يأخذون بها – فهؤلاء لن يقووا على مغالبة طبائع الأشياء –
بل اعداؤها الحقيقيون هم أولئك الذين يأخذون بها دون أن تغذيهم فكرتها الثورية
الحقيقية ، والذين يتبنون شعاراتها ظاهرا ويعيشون في عقلية التجزئة باطنا . فمثل
هؤلاء هم الذين يتيحون لأعداء القومية العربية أن ينقضوا عليها ويفضحوا ثغراتها ،
وما يفضحون في الواقع ثغرات فيها ، وانما يفضحون أسلوبا خاطئا في فهمها أو انفاذها"
..
التنظيم روح الثورة العربية المنشودة
يوشك أبناء
الامة العربية يرتقبون المعجزة في غير عصر المعجزات . وأمام المحنة التي جرت اليها
العقلية المتكلة على ما قد تجود به الاحداث من أعاجيب ، يكادون يشهرون من جديد كرة
أخرى روح الأمل الضبابي أو الياس الجاهل . مرة أخرى نكاد ننادي الداء بالداء : لقد
قادنا الى ما عرفنا تعلقنا الواهم بقوى غير منظورة وجنود لا نراها نرتجي من ورائها
الخلاص من تخلفنا ووهننا ، ونلقي عليها مهمة النجاة من علل مجتمعنا وأمراض حياتنا
. وكأننا اليوم ، بعد أن لدغنا بمر السموم وبعد أن راينا أوهامنا بأم أعيننا تتحطم
على صخرة الواقع القاسي ، نعاود الاستلقاء على حرير الأوهام والأخيلة والأوهام
السحرية ، فننشد الخلاص في احداث معجزة وفي قوى خفية نأمل أن تجود بها حياتنا
وقوانا . أوليس معظمنا متفرجا حزينا يرنو الى الأفق البعيد ينتظر منه اشراقة نور
مفاجئة ، ويتطلع الى الغيوم يشيم من خلالها شؤبوب غيث أو وابل مزن ؟ أليس من
الصحيح أن أكثرنا يتحدث عن الخلاص الذي سيقوم به غيره لا هو ، وعن المعركة التي
سيخوضها مجهول ، وعن الحل الذي ستقدمه له الأحداث النكرات على طبق من ذهب ، لا عن
الحل البين الذي سينزعه من الأحداث ؟..
ان كل نهضة
كبرى وكل تغيير جذري حدث في تاريخ أمة من الأمم ، كانا نتيجة عوامل كثيرة دون شك
وشروط عديدة حركت التقدم ! غير ان تلك العوامل والشروط ما كان لها ان تحرك التقدم وتحدث
التغيير الكبير الا عندما حركها جميعها سبب أساسي وعامل جامع مركب . لقد تساءل
الباحثون مثلا منذ أيام "ادم سميث" وقبل أيامه عن السبب الأول في
"ثروة الشعوب" ، فقال هذا أنها تقسيم العمل في المجتمع ، وقال ذاك أنها
القدرة على الانتقال من شكل من اشكال الإنتاج الى شكل اخر ، وقال ثالث أنها
التربية والاعداد وما يثوي وراءهما من تطوير للثروة البشرية . وتحدث المتحدثون عن
العوامل الأساسية الكبرى في القفزات التي استطاعت أن تحققها بعض بلدان العالم ، من
مثل اليابان منذ عصر "ميغي Miegi " الشهير ومن مثل الاتحاد السوفييتي منذ أيام لينين ، ومن
مثل السويد والولايات المتحدة والصين اليوم . وحاول جميعهم التقاط السبب الأساسي
المحرك لتلك النهضات الكبرى السريعة .
ولا شك أن
البحث عن الأسباب القادرة على تحريك مجتمع من المجتمعات اليوم ، لا بد أن ينطلق من
أمرين : أولهما ما تقدمه التجربة العالمية المشتركة وما تشير اليه من تفوق بعض
الأسباب في حياة الأمم على سواها . وثانيهما ما يقدمه تقري واقع كل امة وبنية كل
امة ، وما يكشف عنه ذلك التقري من خصائص وسمات متفردة . والامران لا بد أن يلتقيا
ويأتلفا ، وأن ينير أحدهما الاخر ، ليكونا سببا متكاملا متحدا .
أما التجربة
العالمية فتقدم لنا نتيجة هامة أساسية ، قلما نفطن اليها ، ولعلها درس الدروس الذي
ينبغي أن نستقيه من معنى الحضارة الحديثة وأدوات عملها . ان تلك التجربة لا تكفي
اليوم بان نشير الى أهمية تنحية الثروة البشرية والى أهمية الاعداد العلمي والتقني
لتلك الثروة . ولم يعد درسها الأول القول بان المسالة "مسألة ادمغة"
ومسالة تكوين تلك الادمغة . بل جاوزت هذا القول الى حقيقة أخرى ينبغي ان نتريث
عندها ، وهي ان المسالة كل المسالة تثوي في التنظيم العلمي المدروس لأشكال العطاء
والإنتاج جميعها في المجتمع . المسالة كلها مسالة "ثورة إدارية" تنظيمية
، قادرة على تعبيء الكفاءات وتستخدم المواهب وتفيد من الموارد المادية والبشرية
المتاحة أمثل فائدة ممكنة . وبتعبير اخر ، ان الدرس الأول الذي تقدمه لنا الحضارة
الحديثة ، حيثما وجدت في أعلى مراتبها ، أن محرك هذه الحضارة الأول ليست الموهبة
والذكاء والمعرفة وحدها ، بل القدرة على تنظيم الإفادة من تلك الموهبة والمعرفة .
ان عملا
واحدا منظما يعدل ألف نظرية عقلية ، وان صيغة عملية للتنفيذ المحكم أثمن من الاف الأفكار
العامة النائمة .. وان العمل على بناء نظام تربوي وفق خطة مكينة ، هو الذي يمنح
النظريات التربوية معناها ويعطي الأدمغة المفكرة في التغيير مداها وانطلاقها شطر
التغيير ... هذا اذا أردنا أن نبقى قي حدود التنظيم الجزئي . غير أن عملنا هذا في
مثل هذه الميادين الجزئية ، لا بد أن يُتوّجه عمل تنظيمي شامل ، يضع كل عمل جزئي
ضمن السياق الكلي الذي ينتسب اليه ، في موضعه من جملة التنظيم المرسوم . وعند ذلك
تصب الجهود في اقنيتها ، ويزول الهدر والضياع ، ونقضي على الحيرة القتالة التي تستنفد
من الانسان أكبر طاقة دون أن تمده بطاقة .. عند ذلك يصبح لكل قرار معناه ، ضمن
اطار الصورة الكلية ، ويغدو التقرير واضحا ويصبح التنفيذ أوضح . عند ذلك تقوم
عملية "الاخصاب المتصالب" فيغذي كل ميدان سائر الميادين ويغتذي كل ميدان
بسواه ويصبح لكل زاوية من الزوايا التي ننظر بها للأمور معناها العضوي الوظيفي ،
ويكتسب كل حل نقترحه قيمته وشأنه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق