القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 20 أبريل 2025

التنظيم روح الثورة العربية المنشودة

 

الدكتور عبد الله عبد الدايم .

في هذا المقال القيّم للدكتور عبد الله عبد الدايم نجده يبحث عن التقدم في بعده القطري وهو القومي المعروف ، لكنه أمر مشروع .. لأن الهم القطري من أوكد القضايا التي تعني القوميين قبل غيرهم بشرط أن لا يغفلوا عن العلاقة بين القومي والقطري ، وأن يعوا الحدود والقيود ومجالات المراوحة بين هذا وذاك دون أن يغرقوا في الوحل القطري حتى يزول تماما البعد القومي ولا يبقى له أثر سوى الكلام والشعارات .. وأستاذنا – رحمه الله – غير غافل عن هذه النواحي ، حيث نجده يحذر بكل فطنة من تجاهل مثل هذه الأمور ، ويضعها في اطارها الصحيح وهو يتحدث عن الثورة العربية في مقال له بعنوان "ثورة القومية العربية" (مجلة الاداب – يناير 1960) قال فيه : "ان كانت فكرة القومية هي رأس الأفكار الثورية التي نجدها في القومية العربية ، فهذا يعني شيئا لا ثاني له وهو انها لا يمكن أن تتحقق الا عن طريق عقل ثوري وعمل ثوري . انها ، اذ تصدر عن حدس ثوري اصيل ينظر الى الأشياء نظرة فيها تخط للفساد وتجاوز للنظرات الجزئية وذهاب الى الأصول ، لا بد كيما تتحقق فعلا من ان يكون أسلوب عملها اليومي ونضالها الدائم مستوحى من مثل هذا الحدس حافظا له . والمنزلق كما قلنا هين خطير بين الفكرة الثورية والفكرة الإصلاحية . والفكرة الإصلاحية هي التي تنتحل عادة لنفسها صفة الثورية فتزيفها وتبعدها عن أصولها وعن حرارتها . وفكرة الوحدة العربية كما قلنا ونقول فكرة اما أن تصدر عن ثورية اصيلة واما الا تكون البتة . بل ان انقلابها الى ضدها لا بد واقع ان هي ظنت أن الوحدة يمكن أن تتم عن طريق مهادنة التجزئة ، أو عن طريق السير بعقلية التجزئة ضمن الوحدة.

ان العمل للفكرة العربية ، لكونه عملا ثوريا ، لا بد فيه من نضال يومي في سبيل هذه الفكرة ، ولا بد فيه من نظرة شاملة كاملة تغذي سلوك يومي وتطبع كل حركة . وليس أعداء الوحدة الحقيقيون أولئك الذين لا يأخذون بها – فهؤلاء لن يقووا على مغالبة طبائع الأشياء – بل اعداؤها الحقيقيون هم أولئك الذين يأخذون بها دون أن تغذيهم فكرتها الثورية الحقيقية ، والذين يتبنون شعاراتها ظاهرا ويعيشون في عقلية التجزئة باطنا . فمثل هؤلاء هم الذين يتيحون لأعداء القومية العربية أن ينقضوا عليها ويفضحوا ثغراتها ، وما يفضحون في الواقع ثغرات فيها ، وانما يفضحون أسلوبا خاطئا في فهمها أو انفاذها" ..

التنظيم روح الثورة العربية المنشودة

يوشك أبناء الامة العربية يرتقبون المعجزة في غير عصر المعجزات . وأمام المحنة التي جرت اليها العقلية المتكلة على ما قد تجود به الاحداث من أعاجيب ، يكادون يشهرون من جديد كرة أخرى روح الأمل الضبابي أو الياس الجاهل . مرة أخرى نكاد ننادي الداء بالداء : لقد قادنا الى ما عرفنا تعلقنا الواهم بقوى غير منظورة وجنود لا نراها نرتجي من ورائها الخلاص من تخلفنا ووهننا ، ونلقي عليها مهمة النجاة من علل مجتمعنا وأمراض حياتنا . وكأننا اليوم ، بعد أن لدغنا بمر السموم وبعد أن راينا أوهامنا بأم أعيننا تتحطم على صخرة الواقع القاسي ، نعاود الاستلقاء على حرير الأوهام والأخيلة والأوهام السحرية ، فننشد الخلاص في احداث معجزة وفي قوى خفية نأمل أن تجود بها حياتنا وقوانا . أوليس معظمنا متفرجا حزينا يرنو الى الأفق البعيد ينتظر منه اشراقة نور مفاجئة ، ويتطلع الى الغيوم يشيم من خلالها شؤبوب غيث أو وابل مزن ؟ أليس من الصحيح أن أكثرنا يتحدث عن الخلاص الذي سيقوم به غيره لا هو ، وعن المعركة التي سيخوضها مجهول ، وعن الحل الذي ستقدمه له الأحداث النكرات على طبق من ذهب ، لا عن الحل البين الذي سينزعه من الأحداث ؟..

ان كل نهضة كبرى وكل تغيير جذري حدث في تاريخ أمة من الأمم ، كانا نتيجة عوامل كثيرة دون شك وشروط عديدة حركت التقدم ! غير ان تلك العوامل والشروط ما كان لها ان تحرك التقدم وتحدث التغيير الكبير الا عندما حركها جميعها سبب أساسي وعامل جامع مركب . لقد تساءل الباحثون مثلا منذ أيام "ادم سميث" وقبل أيامه عن السبب الأول في "ثروة الشعوب" ، فقال هذا أنها تقسيم العمل في المجتمع ، وقال ذاك أنها القدرة على الانتقال من شكل من اشكال الإنتاج الى شكل اخر ، وقال ثالث أنها التربية والاعداد وما يثوي وراءهما من تطوير للثروة البشرية . وتحدث المتحدثون عن العوامل الأساسية الكبرى في القفزات التي استطاعت أن تحققها بعض بلدان العالم ، من مثل اليابان منذ عصر "ميغي Miegi " الشهير ومن مثل الاتحاد السوفييتي منذ أيام لينين ، ومن مثل السويد والولايات المتحدة والصين اليوم . وحاول جميعهم التقاط السبب الأساسي المحرك لتلك النهضات الكبرى السريعة .

ولا شك أن البحث عن الأسباب القادرة على تحريك مجتمع من المجتمعات اليوم ، لا بد أن ينطلق من أمرين : أولهما ما تقدمه التجربة العالمية المشتركة وما تشير اليه من تفوق بعض الأسباب في حياة الأمم على سواها . وثانيهما ما يقدمه تقري واقع كل امة وبنية كل امة ، وما يكشف عنه ذلك التقري من خصائص وسمات متفردة . والامران لا بد أن يلتقيا ويأتلفا ، وأن ينير أحدهما الاخر ، ليكونا سببا متكاملا متحدا .

أما التجربة العالمية فتقدم لنا نتيجة هامة أساسية ، قلما نفطن اليها ، ولعلها درس الدروس الذي ينبغي أن نستقيه من معنى الحضارة الحديثة وأدوات عملها . ان تلك التجربة لا تكفي اليوم بان نشير الى أهمية تنحية الثروة البشرية والى أهمية الاعداد العلمي والتقني لتلك الثروة . ولم يعد درسها الأول القول بان المسالة "مسألة ادمغة" ومسالة تكوين تلك الادمغة . بل جاوزت هذا القول الى حقيقة أخرى ينبغي ان نتريث عندها ، وهي ان المسالة كل المسالة تثوي في التنظيم العلمي المدروس لأشكال العطاء والإنتاج جميعها في المجتمع . المسالة كلها مسالة "ثورة إدارية" تنظيمية ، قادرة على تعبيء الكفاءات وتستخدم المواهب وتفيد من الموارد المادية والبشرية المتاحة أمثل فائدة ممكنة . وبتعبير اخر ، ان الدرس الأول الذي تقدمه لنا الحضارة الحديثة ، حيثما وجدت في أعلى مراتبها ، أن محرك هذه الحضارة الأول ليست الموهبة والذكاء والمعرفة وحدها ، بل القدرة على تنظيم الإفادة من تلك الموهبة والمعرفة .

ان عملا واحدا منظما يعدل ألف نظرية عقلية ، وان صيغة عملية للتنفيذ المحكم أثمن من الاف الأفكار العامة النائمة .. وان العمل على بناء نظام تربوي وفق خطة مكينة ، هو الذي يمنح النظريات التربوية معناها ويعطي الأدمغة المفكرة في التغيير مداها وانطلاقها شطر التغيير ... هذا اذا أردنا أن نبقى قي حدود التنظيم الجزئي . غير أن عملنا هذا في مثل هذه الميادين الجزئية ، لا بد أن يُتوّجه عمل تنظيمي شامل ، يضع كل عمل جزئي ضمن السياق الكلي الذي ينتسب اليه ، في موضعه من جملة التنظيم المرسوم . وعند ذلك تصب الجهود في اقنيتها ، ويزول الهدر والضياع ، ونقضي على الحيرة القتالة التي تستنفد من الانسان أكبر طاقة دون أن تمده بطاقة .. عند ذلك يصبح لكل قرار معناه ، ضمن اطار الصورة الكلية ، ويغدو التقرير واضحا ويصبح التنفيذ أوضح . عند ذلك تقوم عملية "الاخصاب المتصالب" فيغذي كل ميدان سائر الميادين ويغتذي كل ميدان بسواه ويصبح لكل زاوية من الزوايا التي ننظر بها للأمور معناها العضوي الوظيفي ، ويكتسب كل حل نقترحه قيمته وشأنه ..

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق