المرجعية التاريخية في الأثر الأدبي للدكتور عصمت سيف الدولة .
(3)
كتاب : فرقة العمال المصرية
الكاتب : كايل جون أندرسون / مؤرخ أمريكي ، وأستاذ التاريخ المشارك بجامعة ولاية نيويورك بالولايات المتحدة .
ترجمة : شكري مجاهد ومحمد صلاح علي .
يروي هذا الكتاب القصة المنسية لفرقة العمال المصرية . ففي أثناء الحرب العالمية الأولى فرض البريطانيون الأحكام العرفية في مصر ، وجندوا ما يقرب من نصف مليون شاب .. كان غالبهم من الريف وجُند كثير منهم بالقوة ، وذلك ليشتغلوا عمالا عسكريين في أوروبا والشرق الأوسط . فاشتغلوا بالشحن والتفريغ على أرصفة فرنسا وإيطاليا ، وحفروا الخنادق في غاليبولي ، وساقوا الجمال المحملة بالمؤن في صحاري ليبيا والسودان وسيناء ، وأدوا دورا شرطيا لفرض النظام بين سكان بغداد المحتلة ومثلوا أغلب قوام قوات العمال العسكرية في أثناء التقدم عبر فلسطين ونحو سوريا التي كانت ثاني أكبر مسرح للحرب . لقد أنشأت فرقة العمال العسكرية مئات الأميال من خطوط السكك الحديدة وأنابيب المياه الواصلة بين مصر وفلسطين ، والتي أصبحت أساس البنية التحتية للإمبراطورية البريطانية طوال جيل بعد ذلك ..
يوثق كتاب فرقة العمال المصرية تجربة هؤلاء الرجال في الحرب ، ويتبعهم حتى الثورة المصرية في عام 1919 م ...
رواية قصة فرقة العمال المصرية :
من اللافت للانتباه ذاك الحجم الهائل لجهود تجنيد فرقة العمال المصرية ، التي انتهت الى تجنيد ما يقرب من أربعة في المائة (4%) من السكان ، وأثرت على الكثيرين غيرهم تأثيرا غير مباشر . (اقترب سكان مصر في تعداد عام 1917 من اثني عشر مليونا وسبع مائة ألف نسمة) . لكن الأشد اثارة للدهشة هو الحد الذي وصل اليه نسيان هذه القصة اليوم . يمكننا عزو جزء من ذلك الى الاخفاء المتعمّد للمصادر ، اذ منعت الرقابة البريطانية القاسية على الصحافة المصرية في اثناء الحرب أي تغطية لفرقة العمال غير متحيزة للرؤية البريطانية .. ولم يكن لدى غالب الكتاب والقراء من الجمهور الناطق بالإنجليزية اهتمام يذكر بقصص رجال غير بيض يعملون وراء خطوط الجبهة في الوقت الذي يعود فيه جنودهم الى الوطن يلفهم المجد ... وانتقل جهل المتابعين المعاصرين هذا الى الذاكرة الشعبية ، بل لم تكد فرقة العمال تذكر في سيل الحلقات الاذاعية والعروض المتحفية والوثائقيات والفعاليات التي تحتفل بالذكرى المائوية للحرب العالمية الكونية الأولى ..
وقد بدأ المؤرخون في العقد الماضي في الانتباه لفرقة العمل المصرية ، فذُكرت كتابات تتعلق بتموين الجيش البريطاني ، وكتب ماريو رويز (Mario Ruiz) مقالة عن استعمال صورهم في جهود الدعاية البريطانية ، وكتبت عالية مسلم مؤخرا مقالات بالعربية وبالإنجليزية عن تجارب رجال فرقة العمال المصرية في الخارج وحتى ثورة عام 1919 م ...
... واذا كانت المؤسسة التاريخية قد تجاهلت المشاركين في فرقة العمال المصرية أو تغافلت عنهم ، فقد احتفظت الثقافة الشعبية ، ومنها الأغاني والروايات والأفلام ، بذكرياتهم . فنجد أغنية سيد درويش "سالمة يا سلامة" تسرد تجارب فرقة العمال المصرية على الجماهير ، وكذلك تُليت قصص الحواديت في جميع أنحاء الريف وكانت أحيانا كل ما تبقى من أخبار لدى العائلة عن احباهم الذين أرسلوا للخدمة في الفرقة . ومع مرور الزمن ، صورت روايات من قبيل بين القصرين (1956) لنجيب محفوظ ، وأفلام من مثيل سيد درويش (1966) لأحمد بدرخان ، مشاهد لرجال يجندون في فرقة العمال في الحرب العالمية الأولى . وفي التسعينات ، حفظ كتاب مذكرات قرية (1996) لعصمت سيف الدولة ، والفيلق (1999) لأمين عز الدين ، ذكرى لجيل جديد .. ونواجه في هذا الكتاب مرارا وتكرارا الفجوة بين الذاكرة الرسمية والثقافة الشعبية ، فكما بين الفصل السادس ، كان رجال فرقة العمال المصرية يشغلون المساحات حولهم بأصوات الموسيقى والمسرح والكلام ليعينوا أنفسهم على تحمل ظروف الحرب القاسية ، وعاشت ذكرياتهم عبر كثير من هذه الوسائط نفسها ...
رجال الفرقة يتحركون :
بدأ رجال الفرقة يشعرون بالألفة فيما بينهم أثناء الحرب . فاتخذ حديثهم منحى سياسيا وصارت أغانيهم صريحة المغزى . كانوا أغلب الوقت يُشفون غليلهم بأفعال بسيطة كهذه ، ولكنهم كانوا ينظمون احتجاجات ضخمة واضطرابات وتمردات . ففي فرنسا ، على سبيل المثال ، كان العمال المصريون من أكثر العمال الأجانب عندا وأقلهم طاعة للأوامر من بين كل من أوتي بهم الى الحرب . وقد تمردوا على الضباط مرات عديدة ، حتى اضطر القادة هناك أن ينقلوهم في أواخر عام 1918 .. قد نرى هذا النوع من النشاط السياسي حاضرا بدرجات متفاوتة في شتى مشاهد الحروب ، سواء في موانئ لمنُس وأمفرُس وتارانتو ، أو صحاري سيناء وسيوة الحارة ، أو تلال فلسطين الصخرية الوعرة ، او مستنقعات شمال البصرة وأحراشها ..
يحلل هذا الفصل ظهور هوية جمعية بين رجال فرقة العمال المصرية . تلك العملية التي تهدم الحواجز بين الافراد وتبني تصورا جديدا عن الذات السياسية هي الشرط اللازم لبدأ التحرك المنظم ... ان هذا النوع من الشعور بالهوية يختلف عما يكون بين العمال من روح الالفة اثر عملهم سويا . وان وظيفة ما تسميه هنا أرنت "تجربة العمل سويا كالجسد الواحد" التي تظهر مثلا ، في ذلك الشعور الروحاني بالطرب أثناء غناء أغاني العمل تعمل على "تهوين مشقة الاشغال وتعبها كما يهوّن السير سويا ارهاق المشي على الجنود" ولكن ذلك يختلف عن الهوية التي يتطلبها التحرك السياسي ، فهذه الهوية ليست نتيجة تلاقي "مجموعة من الكائنات التي تتماثل في شيء أساسي بها ، أي أن محور تشابههم يأتي من كونهم كلهم نفس الكائنات الحية" - كالتشابه بين أبناء العرق الواحد – وانما بين مجموعة من البشر "جميعهم مختلفون وغير متساوين" . اذن فالهوية الجمعية ، هي ما تجمع بين الافراد المختلفين ، وتدفعهم الى تجاوز اختلافهم حتى يتمكنوا من التحرك معا .
سلاح الضعفاء : السرقة وتعطيل العمل والفرار :
عندما صار رجال الفرقة على وعي بمظالمهم المشتركة ، صاروا يعملون سويا ليصلحوا حالهم . وكان أحد الأساليب التي يستعملونها ، وربما أكثرها انتشارا ، أسلوبا يسميه جيمس سكوت "سلاح الضعفاء" . ينتقد سكوت عادة الباحثين في التركيز على الثورات والتمردات واسعة النطاق في دراستهم عن سياسة العمال والفلاحين ، مشيرا الى أن اغلب اشكال ذلك الصراع بين الكادحين ومن يسعون منهم الى استخلاص العمل أو الغذاء أو الضرائب أو الكراء أو الفوائد ، "لا يبلغ عصيانا جماعيا كامل الأركان" . يوجّه سكوت الانتباه نحو "سلاح الجماعات الضعيفة المعتاد" مثل التكاسل ، والتمارض ، والفرار ، وتعمّد إساءة فهم الأوامر ، والسرقة ، وادعاء الجهل ، والتشنيع ، وافتعال الحرائق ، والتخريب . وباستخدام أساليب كهذه ، استطاعت جماعات لا قوة لها نسبيا ، مثل رجال فرقة العمال المصرية ، أن تجعل من ظروف استضعافها مواقع قوى ، وأن ترسم لأنفسها حيزا تعيش فيه مرتاحة بعض الشيء .
كان تعطيل العمل أحد الأساليب التي اتبعها المصريون . لطالما ظنها الضباط البريطانيون تكاسلا أو قلة همّة .... وكان الفرار حلا اخر مغريا أمام الذين لا يطيقون مشقة العمل الزائد وسوء التغذية ...
المظاهرات والاضرابات والتمردات :
رغم اتخاذ رجال الفرقة "سلاح الضعفاء" ، كانوا أحيانا يفضلون تحركا مباشرا . كان أغلب تعبيرهم عن مظالمهم بالشكوى من انهم قد أنهوا مدة العقد ، وأنهم ماكثون في الخدمة لمدة أطول من المدة المتفق عليها . لكن هذه المشكلة الإجرائية ما كانت الا ستارا لما واجهه رجال الفرقة من ظلم وعنصرية متأصلة في البنية العميقة لنظام العمل ، وسرعان ما صارت الانتماءات التي تشكلت في الكتائب والفصائل بعد شهور من التفرقة بينهم وبين غيرهم وعيشهم معا ، الأساس الذي بنيت عليه محاولات إعادة توزيع القوى في المعسكر . فصار للعمال مطالب من الضباط ، وصاروا يتفاوضون معهم ، بل ويواجهونهم بالعنف في بعض الأحيان ..
بداية من سبتمبر من عام 1917 ، اندلعت أحداث متتالية بين رجال الفرقة في فرنسا ، كان أكبر حدث فيها في بولون ، حين تمرد رجال السرّيتين الثالثة والسبعين والثامنة والسبعين وأضربوا عن العمل . تذكر التقارير البريطانية الرسمية في فرنسا أن المصريين لا يقبلون نقاشا عقلانيا قط ، ولا يصلح معهم الا العنف ، اذ يجب أن يصاب أو يموت بضع رجال منهم حتى يخمد هياجهم " ..
شهد شهر سبتمبر من عام 1917 أيضا ثورات أخرى لعمال الفرقة المصرية في تارانتو بإيطاليا . اذ طبقا لسجلات وزارة الخارجية البريطانية "أثارت السرية الحادية والثمانون اضطرابا في السادس والعشرين من سبتمبر .." ..
رد الانجليز عليهم بالعنف ، لكن يصعب تحديد عدد الضحايا . أسرع المصدر بزعم أنه "لم يكن للحرس أي دور.." ..
العلاقة بثورة 1919 :
بانتهاء الحرب ، كافح السياسيون "القوميون" في مصر لينشئوا وفدا يشارك في مؤتمر السلام بباريس . وصار ذلك الوفد فيما بعد الحزب الأكثر شعبية في مصر في فترة ما بين الحربين . كان رأس الوفد هو سعد زغلول .. وكان سعد زغلول الابن الأكبر لعمدة احدى قرى الدلتا ، وانتقل في سن الرابعة عشر الى القاهرة للدراسة بجامعة الازهر ... لكن سرعان ما بدل زغلول جبته الازهرية بذلة الرجل المعاصر .. وفي عام 1906 ، عين سعد زغلول وزيرا للمعارف ، وهناك حدث صدامه الشهير مع مستشار الوزارة البريطاني حين أصرّ على أن تكون العربية لغة التعليم في المدارس الحكومية . وحين بدأت الحكومة الاستعمارية البريطانية تجربة الديمقراطية النيابية المصرية في عام 1913 ، فاز سعد زغلول بمقعد في الجمعية التشريعية ، لكنها عُلقت في السنة التالية عند اندلاع الحرب وإعلان الاحكام العرفية ..
وفي الثامن من مارس من عام 1919 ، القي القبض على سعد زغلول وقادة الوفد ونفوا الى مالطا ، وسرعان ما اشتعلت الاحتجاجات في القاهرة . نظم عدد من أصحاب المهن التخصصية من الطبقة المتوسطة ، منهم محامون ووزراء في الحكومة ، وطلبة ، وأزاهرة ، اضرابا انتشر في البلد كلها . وفي الوقت ذاته ثار واحد من أكبر التمردات الريفية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث ، اذ انطلقت حشود من الناس في القرى والبلدات تهاجم البنية التحتية لدولة الاستعمار ..
أرخت السلطات الضغط على الوفد ، فسمحت لهم بالسفر الى باريس والتفاوض معهم في عملية انتهت بقرار أحادي كثير الشروط بجلاء الجنود الانجليز عن مصر . في الوقت ذاته احتشدت قوات التجريدة المصرية لسحق التمرد بالريف ، فقتلت حوالي ثلاثة الاف . وتعرف هذه الاحداث في الدراسات التاريخية باسم ثورة 1919 . وقد ترسخت في الذاكرة الشعبية المصرية بانها تأسيس الدولة الوطنية المصرية الحديثة .
سمى العقاد الحركة التي جذبها زغلول بالنهضة السعدية ، مبرزا الصلة الشخصية بين سعد زغلول والثورة في المخيلة الشعبية . ويردد محمد صبري هذه الرؤية حين يصف سعد زغلول بأبي الثورة (Père de la révolution) . فمع رؤية الامة بوصفها عائلة ، بإمكان سعد زغلول أن يؤدي دور الاب . اذ بسبب ميلاده في الريف وسفره الى القاهرة للتعليم ، جسد زغلول شخصية المصري "المتمدن" التي تنتمي لأكثر من عالم . وكان زغلول بالنسبة للمفكرين المتنقلين أولي الأصول الريفية من أمثال صبري والعقاد ، الشخصية التي يمكنها قيادة المصريين "نحو المسار الطبيعي للأمور" .
وحتى أولئك الذين مكثوا في الريف انجذبوا لزغلول بسبب هوية الفلاح الظاهرة عليه . نرى ذلك في الكتاب المميز المعنون "مذكرات قرية" (1996) لعصمت سيف الدولة . ولد عصمت سيف الدولة في عام 1923 بقرية الهمامية بأسيوط ، وطلب منه أن يكتب "سيرة قريته" لأنه كان "ابن القرية التي تسربت حكاياتها الى مسامه" . فلم تكن تلك الحكايات هي التي شهدها سيف الدولة بنفسه وحسب ، وانما أيضا الحكايات التي سمعها طوال حياته بما جعله أهلا لكتابة سيرة أهل الهمامية . ان الأصول الشفهية والسماعية لحكايات سيف الدولة تتجلى في استخدامه العامية المصرية باستفاضة على لسان الشخصيات في النص ، كما تظهر في الطبيعة الحوارية للحكاية .
يقص الراوي دخول الثورة قرية الهمامية في حوار بينه وبين شخصية اسمها فكري عبد النبي ، ففي خضم الثورة ، يأتيه رجل يطلب منه أن ينظم اليها ، فيصفه بانه "رجل عظيم من رجال سعد باشا" . أعطى الرجل أسلحة لفكري ووافق على الانضمام قائلا : "سمعت في أسيوط أن قد سقطت حكومة الباشوات التي يرأسها رشدي بك ، وغدا تنتصر الثورة وتقوم حكومة الفلاحين " . وفقا لقصة سيف الدولة ، ان ما اقنع فكري أن ينضم الى الثورة هو صفات سعد زغلول الشخصية ، وبالأخص كونه واحدا من الفلاحين . وحينها كانت حكومة رئيس الوزراء حسين رشدي ، ابن العائلة التركية الذي تزوج امرأة فرنسية بيضاء ، توصف تحقيرا بانها "حكومة البشوات" ، وهي الكلمة التي تصف رجال الأرستقراطية العثمانية ، وأكثرهم مولودون لأمهات بيض ، الذين كانوا يشكلون الطبقة العليا من المجتمع المصري لقرون .
فرقة العمال المصرية وثورة 1919 :
قدمت الأيديولوجيا القومية "الامة" في خطابها السياسي بوصفها كيانا واحدا يستحق أن يمثل نفسه على المسرح العالمي ، وقد أخذ المؤرخون هذا الكلام على عواهنه ، فقالوا أن الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد بعد القبض على سعد زغلول وأعضاء الوفد ونفيهم ، مظاهر مختلفة لإرادة هذا الكيان الجمعي . فقال الرافعي ان الثورة "شبّت في شهر مارس 1919 ... وامتدت الحركة الى الأقاليم ... وشملت البلاد فجأة ، وعلى غير انتظار ، وكان ذلك من مظاهر جلالها وروعتها ، وظهر فيها فضل الشعب" . ويقول نداف صفران بمثل ذلك : "اندلعت ثورة 1919 ، وكانت الامة كلها من الفلاحين والباشوات والأميين والمتعلمين ، وراء سعد زغلول يقاتلون بشجاعة عظيمة وتضحيات كبرى ، دفاعا عن المثل الوطنية الليبرالية التي يمثلها" , ويتردد صدى هذا الكلام فيما كتبه جرشوني وجانكوسكي عن الثورة حين قالا : "بدأت في نوفمبر 1918 بمناورات سلمية قام بها السياسيون المصريون ... وفي 1919 تصاعدت حتى صارت احتجاجات عامة وأعمال عنف موجهة ضد الوجود البريطاني في مصر" .
يعيب هذه السردية ما أشرنا اليه في الفصل الثاني ، وهو صعود موجة من المقاومة العنيفة اجتاحت الريف في صيف عام 1918 ، أي قبل عام تقريبا من القبض على سعد زغلول وأعضاء الوفد ونفيهم . وكان سعد زغلول يعلم بهذه الاحتجاجات منذ مايو 1918 . وكان رجال فرقة العمال المصرية ، وأهاليهم في مصر ، قد اتخذوا اجراء سياسيا لم يتوقف عند كتابة المقالات والقاء الخطب ، بل انهم عرّضوا أنفسهم للخطر ، وهم يقاومون أعمال التجنيد لفرقة العمال المصرية ، وذلك طوال صيف 1918 . وكان سعد زغلول شاهد على هذا مما دفعه الى الدفاع عن قضيتهم وتوليها بنفسه .
يحلل اليس جولدبرج وراينهارد شولتز هذه الاحتجاجات التي اجتاحت الريف تحليلا دقيقا مفصلا ، ووجدا أن اهم أسباب الثورة ليس مسألة الوفد بل المظالم التي جرّتها سياسات فرضت نقل الماشية والمنتجات الزراعية والعمال من الريف من أجل الحرب ..
يحلل هذا الفصل الثقافة الشعبية وأعمال الاحتجاج من 1918 و1919 ، بغرض رسم صورة أدق للذاتية أو الذاتيات السياسية التي كانت وراء حراك الثورة . ومقولتنا الأساسية فيه تخالف التصورات التي تجعل المصريين ذاتا جمعية تتصرف على نحو موحّد ، اذ نرى أن المحتجين في مختلف أرجاء البلاد كانت تدفعهم أسباب كثيرة مختلفة ، وكانت تلك الأسباب تتعارض أحيانا ، وربما كان التضامن مع الوفد مجرد سبب ثانوي لهذا الحراك الذي يستهدف ظروفا اقرب الى المحلية . وفي أحيان أخرى ، كان المحتجون متضررين شديدا بأعمال التجنيد لفرقة العمال المصرية ، ولا سيما في المديريتين الأقرب الى الشمال في الصعيد ذي الطابع الثقافي المميز .
تجنيد فرقة العمال المصرية والغاء التعبئة وتسريحهم :
لاحظ المصريون جميعا ازدياد عملية تجنيد العمال ، منذ عام 1918 .. وكانت قصص الظروف السيئة التي تواجهها فرقة العمال المصرية تنتشر في البلاد بالشائعات وما يتناقله الناس من معلومات اذ يقول المؤرخ أمين عز الدين أن قصص سوء المعاملة التي يلقاها العمال وارتفاع معدّل الوفاة بينهم وصلت الى مصر مع العائدين من الحرب مما اثنى الناس عن قبول العمل مع الجيش البريطاني ، وأدى ذلك الى نقص كبير في المجندين .. وقد قالت احدى الشائعات أن السلطة قررت حشد جميع البنات والنساء غير المتزوجات ، فكان لهذه الشائعة بالتحديد أثر النار في الهشيم ، وادت الى ارتفاع شديد في معدلات الزواج في الريف . وفي مايو من عام 1918 ، انتشرت شائعة مفزعة بان مئات الرجال من عمال الفرقة المصرية قتلوا حين اقتحم الالمان الجيش الخامس في فرنسا ، واننا نرى أن تكرار هذه الشائعات على هذا النحو ليشبه قمة جبل الجليد الذي يمثل القلق الاجتماعي بشأن فرقة العمال المصرية ..
وقد تسببت الرقابة الواسعة على الصحف في نقل أي انتقاد لسياسات الحرب الى وسائل الاعلام الشعبية المختلفة الناطقة بالعامية المصرية ، ومنها المسرح والشعر والاغاني . وكان سيد درويش تحديدا من اشد منتقدي الحرب في أغانيه ، وهو يوصف بأنه "أهم شخصية موسيقية مصرية في أوائل القرن العشرين" .
كانت أغلب موضوعات اغانيه مرحة خفيفة ، لكن عددا منها في هذه الفترة المبكرة كان يهاجم سياسة التعبئة الحربية التي تتبعها الدولة الاستعمارية ، ومثال ذلك أغنية "استعجبوا يا افندية" ، التي يصف فيها نقص الكيروسين والغازولين في مصر جراء تخزين الجيش البريطاني الوقود في بداية الحرب .. وعنوان الاغنية جملة تعجّب يُخاطب بها الافندية ، أي أبناء الطبقة الوسطى العليا من أمثال سعد زغلول والمثقفين الذيم سبق ذكرهم في الفصل الثامن . وفي صياغة هذه الاغنية على هذا النحو ، يبرز سيد درويش الاختلاف بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية في مواجهة صعوبات زمن الحرب . فالفقراء يعانون كما كانوا يعانون دائما ، والافندية "يتعجّبون" مما يجري ، ويحمل عنوان اغنية أخرى من هذه الفترة شيئا من المفارقة ، وهي "الكُترة" (1919) ، وقد كتبت لتكون رسالة الى النخب التي لا يراها الفقراء . ويمكن ان تعد أغاني سيد درويش التي ظهرت في زمن الحرب دليلا على ما واجه مختلف الفئات الاجتماعية في مصر وقت تنفيذ الجيش البريطاني عمليات التعبئة للحرب .
وقد صارت اغنية "سالمة يا سلامة" (1918) واحدة من اشهر أغاني سيد درويش التي كتب كلماتها بديع خيري احتفالا بعودة أحد عمال الفرقة المصرية من الحرب سالما ، وشاعت الاغنية في طول البلاد وعرضها .. وانها تغنى (اليوم) حتى حين يعود الأطفال من الرحلات المدرسية ، وكلماتها تقول :
سالمة يا سلامة .... اه يا سالمة يا سلامة
سافر يا وبور واربط عندك .... نزلني في البلد دي
بلا أمريكا .. بلا أوروبا .. ما في شيء احسن من بلدي
دي المركب اللي تجيب أحسن من اللي بتودي
يا اسطى بشندي
سالمة يا سلامة .... أه يا سالمة يا سلامة
سلطة ما سلطة أهو كله مكسب ... حوشنا مال وجينا
شفنا الحرب وشفنا الضرب وشفنا الديناميت بعنينا
ربك واحد .. عمرك واحد .. أدي احنا أهو رحنا وجحينا
ايه خس علينا
سالمة يا سلامة .... أه يا سالمة يا سلامة
لا تصور هذه الاغنية عمال الفرقة المصرية بصورة "العبيد" كما تفعل كتابات الافندية ، بل تصورهم معتدّين بأنفسهم ، مقتصدين ، يعتبرون العمل في الحرب فرصة لادخار المال وخوض المغامرات . مع ذلك تقر الاغنية بصعوبات التجربة وخطورتها ، وتحمل كلماتها موضوعات وطنية ، تظهر في رغبة المغني في العودة الى بلده . وتفرض الاغنية قراءة وطنية لكلمة بلد بوضعها مقابل غيرها من البلاد "بلا أمريكا .. بلا أوروبا .. ما في شيء أحسن من بلدي" . وهكذا أسهمت هذه الاغنية الذائعة في مرحلة الاعداد للثورة في نشر الموضوعات الوطنية التي تؤكد عظمة مصر في مواجهة القوى الاستعمارية .
وتستغل اغنية أخرى اشتهرت عن فرقة العمال المصرية ذلك التداخل في المعنى الذي يسكن كلمة بلد وهي اغنية "يا عزيز عيني" .. تقول مصادر بريطانية عديدة أن العمال المصريين كانوا يغنون هذه الاغنية وقت الحرب . وفقا للأرشيف البريطاني ، توجد صيغة وطنية من هذه الاغنية تركز على خبرات فرقة العمل المصرية وعملية تجنيدهم التي شاعت في مصر صيف عام 1918 :
اه يا عزيز عيني ... وانا بدي اروح بلدي
يالي ركباكو نفوسكم ... روحو للسلطة
هيخدوا هدومكم ويدزكوا مخالي
يخدوكم الجبل وأهاليكم حزانى
يا عزيز عيني وانا بدي اروح بلدي
لما كتبوا اسمي ما كنتش راضي
بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي
خدوني بالسخرة من الغيط ..
والقطر عمل تيت ..
على فين واخدين ولدي
هيغيب سنة ولا اثنين ؟
يبدو أن "يا عزيز عيني" صيغة معدلة من اغنية شعبية قديمة .. وكما بينا في الفصل السادس ، كان تعديل الأغاني أمرا شائعا بين عمال الفرقة المصرية .... ولعل عمال الفرقة المصرية ارتجلوا بعض هذه التغييرات في فرنسا أو في فلسطين ، وأتوا بها الى مصر معهم ، ففي المرحلة التي هيأت للثورة ظهرت صيغة من الاغنية مشحونة بالسياسة وانتشرت في شوارع القاهرة في سياق الاحتجاج على تجنيد فرقة العمال المصرية ..
ولعل وصول هذه الصيغة المعدلة من "يا عزيز عيني" الى القاهرة في أغسطس من عام 1918 ، لم يكن مصادفة ، فهو العام نفسه الذي وصلت فيه مقاومة تجنيد فرقة العمال المصرية الى ذروتها في الريف المصري ، وقد أورد الفصل الثاني خمسا وثلاثين تقريرا من وزارة الداخلية عن حوادث تتعلق بهذا الموضوع ..
ما ان بدأت الحرب تضع اوزارها وانتشرت أنباء الهدنة في مصر في نوفمبر حتى اتسعت الهوة بين توقعات الغاء التعبئة وواقع استمرار التجنيد مما أدى الى تجدد العنف ، ووصلت أنباء هزيمة العثمانيين الى المصريين في بداية نوفمبر . لكن عملية التجنيد لفرقة العمال المصرية استمرت بوتيرة سريعة .. ووفقا لاحد التقارير (جريدة الوطن 4 نوفمبر 1918) ، بلغ المجندون 187 ألف رجل ، بين العاشر من مايو والحادي والثلاثين من ديسمبر 1918 ...
... وفي اثناء ذلك ، استمر سلب الحيوانات والمنتجات الزراعية من الريف ... واستنزفت الاحتياطي منها وأدت الى بداية أزمات غذائية خطيرة في مصر كلها .
وتعود آثار المقاومة العنيفة لعملية تجنيد فرقة العمال المصرية الى الظهور في سجلات المحفوظات بعد الهدنة . تورد وزارة الداخلية تقريرين عن حادثتين منفصلتين ، احداهما في ديسمبر من عام 1918 والثانية في يناير 1919 ، ويشير تقرير اخر في يناير الى عشرات الحالات ... التي جُرح فيها الخفراء وهم يجلبون المجندين للخدمة في فرقة العمال المصرية . وللأسف ضاعت التقارير التفصيلية بشأن عشرات الحالات تلك . ولكن هذه الإشارة المبهمة تشير الى أن انتشار المقاومة العنيفة للتجنيد في فرقة العمال المصرية عاد في ذلك الوقت تقريبا .
معنى ذلك أن فكرة تكوين "الوفد" ، لم تأت من فراغ . فقد عانى أهل الريف أزمات غذائية واستلبت مواشيهم واجتاحهم الوباء . كما أن مئات الالاف من الشباب ظلوا يُرسلون الى الحرب ، حتى بعد أن ذاعت أنباء انتهائها . وكما ذكرنا في الفصل الثامن ، كانت القيادات الوطنية والسياسيون والمثقفون والمهتمون بالشأن العام في مصر على وعي بهذا الغضب الشعبي ، ويملأهم كثير من مخاوف الناس .
فرقة العمال المصرية واحتجاجات الريف وتخريب السكك الحديدة :
كان الغضب من سياسات الحرب هو وقود أعمال الاحتجاج في طول البلاد وعرضها وقت الثورة . ويتضح هذا تماما في الأغاني التي شاعت بين الناس . فإحداها يشير الى "ونجِت" (المندوب السامي البريطاني) في ذروة الثورة ، وقد وُصفت بأنها الأغنية التي يغنيها الصبية في شوارع القاهرة والسيدات في الحريم . وتحتفظ سجلات المحفوظات البريطانية بترجمة لها ، وهي بعنوان "بردون يا ونجِت" :
بردون يا ونجت بلدنا غلبت
خدتو الشعير وجمال وحمير
والقمح كتير اعتقونا
طلبوا الاعانة يا غلبى يانه
شوفوا المدير ياما لم كتير
من غير تقدير ارحمونا
أنفار نسافر وكمان عساكر
سابوا الغيطان وراحوا الميدان
لجبل لبنان في الخنادق
قال بيلومونا شوف رزونا
لولا العمال ما مشيلهم حال
وسط الرمال والبنادق
يا سلطة انتي اشّطري انتي
ع الدردنيل يا سي مكسويل
ياما شفت الويل اشربوها
المصري حازم ناوي وعازم
يعمل أمور سعيه مشكور
علشان دستور وابوها
أولاد فراعنة من غير مطاعنة
عند اللزوم نمسك قدوم
نضرب بالشوم والروسية
فلتحيا مصر فلتحيا مصر
خير الأوطان أم الجدعان
ودا من زمان بس هيا
حياة جديدة مصر السعيدة
نلنا المرام وع الدوام
من غير كلام فارقونا
بكره نشقى نكرم ضيوفنا
حتى الستات ولا امتيازات
ولا تأييدات سبونا
.... و(القصيدة طويلة) ..
تخاطب الاغنية المندوب السامي نفسه ، وتذكر سلسلة من المظالم التي سببتها الحرب . فالإشارة الى الشعير والذرة والحمير والجمال ، تعني الإشارة الى الموارد الطبيعية والحيوانية التي استلبتها لجنة مراقبة التموين ، وغيرها من سلطات الدولة الاستعمارية . تتناول كلماتها عملية التجنيد لفرقة العمال المصرية تحديدا ، وتفخر بإسهامات العمال في انتصار الحلفاء في الحرب ، واستعمال الخدمة التي قدموها أداة لمقاومة استمرار النفوذ البريطاني في مصر . وقد أدت التقارير المكتوبة عن أغاني من هذا النوع الى وضع البريطانيين تفسيرا للثورة يلقي بلائمة اضطرابات الريف على الطرائق المستخدمة لاستجلاب العمالة المصرية الى فلسطين ، والطريقة التي كانت تُجمع بها الامدادات للجيش البريطاني . وينبغي أن نحذر قبول اراء سجلات المحفوظات الاستعمارية ، لكن أغاني مثل "بردون يا ونجت" تشير الى ان هذه القضايا كانت تشغل بال الناس .
أما انتشار تدمير البنية التحتية فينبغي أن يُفهم في اطار الاحتجاج على عمليات التعبئة الحربية ، ذلك أن السكك الحديدية تحديدا صارت مرتبطة بمساعي السلطات العسكرية الى نقل الطعام والحيوانات والايدي العاملة خارج الريف ...
كان اهل الريف على حافة المجاعة ، وكان تدمير السكك الحديدية لمنع القطارات المحملة بالحبوب المتجهة الى القاهرة ، عملا يجذب كثيرا من صغار الفلاحين في الريف . وكما بين المؤرخ أون باراك ، ارتبطت البنية التحتية الخاصة للهاتف والتليغراف بالدولة الاستعمارية زمنا طويلا ، ولما كان الهاتف والتليغراف ومحطات السكك الحديدية موجودا معا في بلدات وقرى كثيرة ، فقد سهلت نسبيا عمليات تخريبها .
وقعت أولى عمليات تخريب السكك الحديدة في طنطا في الثاني عشر من مارس من عام 1919 ، حين أحاط الاف الأهالي بمحطة القطار ودمروا الخط أحادي المسار الرابط بين طنطا وطلخا . ووقعت حوادث مماثلة على نطاق أصغر في الريف كله ، اذ خُرّبت خطوط بركة السبع ودسوق ورشيد وزفتي وكفر الشيخ والقليونية والشرقية والزقازيق والواسطي وأسيوط وقنا . وفي الثاني والعشرين من مارس أرسل رئيس سكك حديد مصر مذكّرة الى المندوب السامي يذكر فيها "وقوع أضرار شديدة بخطوط السكك الحديدية والتليغراف في الاضطرابات الأخيرة .. ولا تتوافر تفاصيل كاملة عن الأضرار لانقطاع الاتصال بالقطارات والتليغراف جنوبي القاهرة في أماكن كثيرة ، لكن قدرا من المعلومات ورد عن طريق النقل النهري والجوي يؤكد أن السكك الحديدية تحتاج وقتا طويلا لتعود الى سابق سعتها في النقل من الصعيد " .
لم يكن تخريب البنية التحتية في صالح مسؤولي الدولة الاستعمارية ولا "الوفد" فان خطوط السكك الحديدية والتليغراف هي اهم وسائل التواصل بيم القاهرة والاقاليم ، وكلما تعذر استخدامها صعُب التنسيق . كانت السلطات البريطانية تملك الاستعانة بالنقل النهري والقدرة على المراقبة الجوية بطائرات سلاح الجو الملكي ، ولا يملكها ناشطو الحركة الوطنية . وتتجلى دلالة أعمال تخريب البنية التحتية أكثر ما تتجلى اذا أدركنا أنها محاولات من المجتمعات المحلية لعزل أنفسهم عن اذى السلطة ، التي تجتمع فيها قوة المسؤولين المحليين المصريين والاداريين البريطانيين المسؤولين عن تجنيد أفراد فرقة العمال المصرية ..
دفع تخريب كثير من خطوط السكك الحديدية والتليغراف التي تربط القرى بالدولة المركزية المسؤولين الاستعماريين الى استخدام النقل الجوي والبحري في انزال قوات تهدئ الريف . ففي أسيوط ، دافعت الحامية البريطانية هناك عن مقار الأجانب في المدينة واتخذت وضع الدفاع في المدينة بالقرب من المدرسة الثانوية . وفي الرابع والعشرين من مارس من عام 1919 ، استخدمت طائرتان من سلاح الجو الملكي لقصف تجمع للمتظاهرين وقتلت منهم ثلاثة . وفي الوقت نفسة جهّز مسؤولو الدولة باخرة بالدروع والمدافع الرشاشة وأرسلوها جنوبا . وبرغم ما لاقته من مقاومة في الطريق ، وصلت الى أسيوط في اليوم التالي وأحاط الجنود الذين كانوا على ظهرها بالمدينة ، وحين استسلم المتظاهرون ، اعتُقل أربع مائة منهم وألقوا في السجون .
صارت أيضا حماية البنية التحتية على قمة الأولويات . ففي الثالث عشر من مارس من عام 1919 ، أصدر رئيس أركان القوات البريطانية في مصر إنذارا بعقوبة كل المتظاهرين الذين يشتركون في تخريب السكك الحديدية أو قطع اسلاك البرق أو الهاتف . وفي الثالث والعشرين من مارس ، ارسل الاسطول الملكي السفينة الملكية "فرفينا" الى بور سودان لحراسة محطة البرق اللاسلكي . وتلخص مذكرة صادرة في يوم العشرين من مارس 1919 ، من وزارة الطيران الى وزارة الخارجية أنشطة القوات الجوية الملكية في اثناء الاضطراب كما يلي : "تستخدم قوات جوية كبيرة للحفاظ على الاتصال بين المدن الساحلية والحاميات النائية . ففي أثناء اليومين الماضيين ، اطلقت الطائرات النار من مدافعها الرشاشة ، واصابت حشودا ضلعت في تخريب السكك الحديدية . وهي الان مأمورة باستخدام القنابل اذا ظهرت مثل هذه الأهداف . وقد تشكلت خمسة من اسراب التدريب وأكثر من مائة مدفع رشاش يُستخدمون حاليا " .
واستخدمت الطائرات لأغراض الاتصال والاستطلاع ، كما استخدمت لقتل وعقاب الحشود وردعها عن تدمير خطوط السكك الحديدية . وفي أثناء الثورة جلب المسؤولون البريطانيون تقنيات عنف جديدة من الحرب ، واستخدموها ضد المتظاهرين المناهضين للاستعمار ، ففرقوا بها الحشود وحموا بها البنى التحتية اللوجستية التي كانت تستهدفها الجماهير الغاضبة .
استخدم المسؤولون البريطانيون التقنيات العسكرية التي اخترعت وقت الحرب للقضاء على المظاهرات في الريف ، كما لجأوا الى العقاب الجماعي . واتبعوا سياسة حرق القرية الأقرب الى السكك الحديدية المخربة .
لعل أثر تجنيد رجال فرقة العمال المصرية الكبير في تحفيز أعمال الاحتجاج يظهر أوضح ما يظهر في المديريتين الشماليتين في صعيد مصر ، المنيا واسيوط ... والأدلة كثيرة على أن اهل أسيوط والمنيا خاصة متضررين من عملية التجنيد تضررا شديدا .. فاذا حللنا تقارير المقاومة من صيف عام 1918 والمحفوظة في سجلات المحفوظات البريطانية ، سيبدو أن نصيب المديريتين من هذه الحوادث كان اكبر من غيرهما . فقد وقعت اثنا عشر حادثة ، بحسب هذه التقارير ، في مدينة أسيوط وحدها من جملة خمس وثلاثين حادثة ، أي أربعة اضعاف العدد الذي يتناسب مع التوزويع المتساوي على المديريات ... وفي المجمل أدى العنف في احدى قرى أسيوط في صيف 1918 الى موت خفيرين وأحد رجال القرية ، وجُرح تسعة خفراء واعتُقل اثنان من أهل القرية . وقد شهدت مديرية المنيا المجاورة حوادث أقل عددا لكنها كانت اشد عنفا وكثافة ، منها انتفاضتان من بين سبع انتفاضات جماهيرية . وكان مجمل ضحايا احداث المنية ثمانية قتلى من اهل القرى وأحد عشر جريحا وجُرح ثلاثة خفراء . الأهم ان هذا العنف تواصل بعد صيف عام 1918 واستمر في عام 1919 .. والواضح أن أحداث العنف الموجهة الى مسؤولي تجنيد العمال كانت على اشدها في هذه المنطقة في الشهور السابقة على الثورة ..
ولعلنا نضع أيدينا على عامل اخر من عوامل تصاعد الثورة في أسيوط ، أو جانبا منها ، اذا قرأنا مذكرات قرية لعصمت سيف الدولة (1996) . يبدأ الراوي بالإشارة الى صعوبة سرد حياة قرية كاملة ، ففي كل مرة سأل أحدا فيها "يستبدل بمذكرات القرية جميعا ذكرياته عن ذاته فردا" . هو يتلقى إجابة من الشيخ الكبير الذي كان شيخا للخفراء ، يقول فيها ان أي قصة من أي فرد تُقدّم بوصفها القصة الجماعية ، ستسبب المشكلات لأن "ناس الهمامية مثل كل الناس يختلفون فيما بينهم" . ولا يجتمع الناس ، كما يقول الشيخ ، الا في مواجهة الكوارث . ويسأله الراوي "أي كوارث ؟ " فيرد الشيخ : "اسألهم عن أيام السلطة ... أو اسألهم عن اغتصاب ارضهم في الجزيرة" .
يدبّج سيف الدولة في الصفحات التالية حوارا بين الراوي وشخصية يسميها يونس عبد الله وهو ضمن من جُنّدوا في فرقة العمال المصرية مع أربعة وعشرين من أبناء قريته . أرسل يونس للخدمة في كالية حيث شارك واحدة من اكبر حركات التمرد على الضباط البريطانيين . ونفهم من هذا أن الشيخ يقصد بالسلطة القوة التي في ايدي المسؤولين البريطانيين والمصريين المسؤولين عن تجنيد فرقة العمال المصرية . وتعد فرقة العمال المصرية "كارثة" تجمع اهل القرية وتتيح سرد تاريخها كذات جمعية . وقد سبق أن رأينا أن أغنية يا عزيز عيني تقول باكية ان "السلطة خدت ولدي" .
تواصل مذكرات قرية سرد حكاية تجنيد شباب فرقة العمال المصرية وكيف استأثرت العمل الثوري في قرية الهمامية . وترد مسألة دخول الثورة القرية في الحوار بين الراوي وشخصية فكري عبد النبي الذي يصف شعور الناس بالثورة كالتالي : "لم تزدهم الحرب فقرا على فقر ، ولكنها زادت من شعورهم بالفقر حين تجاوزت اثارها الاقتصادية حدود الحاجات المادية الأساسية ، فأشاعت الاضطراب في علائقهم الاجتماعية المستقرة ... كان لا بد لهم من موارد مالية ليعود اليها الاستقرار فتطلّعوا الى الجزيرة التي خرجت من أحلامهم " .
لم تكن المشكلة في أن الحرب جعلت القرية أقل ثراء ، فليس لها من الثراء نصيب ، بل في انها جارت على مكونات حياتهم الأساسية . فقد اجتمع الجوع والوباء والجائحة والتهجير القسري للرجال من الريف ، حتى استحال انتاج ضروريات الحياة بها . ويصور فكري الحرب بأنها انتهاك لما يسميه جيمس سكوت "اقتصاد الفلاحين الأخلاقي" ، وهو اتفاق ضمني بين الفلاحين وأغنياء الريف على توفير الحد الأدنى من الطعام للجميع . كانت البيئة الطبيعية توفر ما يعيد التوازن الى الاقتصاد الأخلاقي وهو الطمي الخصيب الذي تراكم عبر الأجيال هناك فكوّن ما سموه "بالجزيرة" . لقد كانت تلك القطعة من الأرض تستخدم لزراعة محاصيل أخرى لسد حاجة القرية من الغذاء الأساسي ، لكن الجزيرة كان لها مالك غائب .
يحكي فكري أن ذلك المالك كان على متن القطار وقت مذبحة قطار ديروط التي يزعم أنها بدأت حين أطلق الضباط البريطانيون النار على قائد القطار لأنه رفض مواصلة السير . وبعد عودة فكري الى بلده يوافق على الانضمام الى الثورة ، ولكنه يشترط : "بعد الثورة لن يسترد أحد السلاح منا ، فنسترد جزيرتنا بإذن الله اذا لم يردوها لنا" . لم يكن غرض فكري هو نفسه غرض "الوفد" ، بل كان يريد الاستيلاء على "الجزيرة" التي بدت "كالجزيرة" على الجانب الاخر من القرية . كانت تلك الجزيرة قبل الثورة تعامل كأنها ملكية خاصة ، لكن الثورة أتاحت الفرصة لاستعادتها بالقوة ان لزم الأمر . وتقدم مذكرات قرية رواية مقبولة لكيفية تداخل الثورة مع السياسات المحلية . أتت الثورة الى الهمامية في ظروف صعبة زادها صعوبة تجنيد الرجال من أمثال يونس عبد الله لفرقة العمال المصرية . لقد كانت دوافع فكري الأساسية لانضمامه الى الثوة دوافع محلية ، مثل الاستيلاء على الجزيرة ، وكانت ثورة الوفد الوطنية هدفا ثانويا .
عند تحليل حركة الاحتجاج الشعبي في اثناء الثورة التي وقعت في المنيا وأسيوط ، نجد أدلة على أن الأحداث تطورت على نحو يخالف المشروع الوفدي . اذ يقول الرافعي أن الطلاب والمحامين بدأوا في الخامس عشر من مارس من عام 1919 حركة احتجاجات في أسيوط تشبه الاحتجاجات المنسقة في غيرها . لكن الحوادث تسارعت حتى خرجت عن سيطرة الناشطين الوطنيين المحليين . فقد أضرم المحتجون النار في مخزن حبوب ضخم مليء بأجولة التبن التي استولت عليها السلطات العسكرية . وكان التبن المضغوط وقودا للنار التي ظلت مشتعلة لأيام . غادر المسؤولون المحليون المدينة ، وشكل المحامون في المنطقة وغيرهم من الأعيان لجانا . يقول الرافعي وهو المؤرخ الوطني بامتياز ، ان اللجان بدأت "الطواف في الشوارع وتطمين الناس على حياتهم وأموالهم ، ومنع اندساس بعض الأشرار الى المدينة لأغراض غير وطنية" . ويبدو أن المحتجين لم يكونوا كلهم يعدون أنفسهم من الوطنيين ، رغم مخالفة هذه القراءة للسائد في هذا الموضوع . وقد كان يُشار الى المحتجين لأغراض أخرى "بالأشرار" . ويصف عبد العظيم رمضان حادثة أخرى في أسيوط في مارس 1919 ، حيث أحاط بعض الثائرين ببيت محمد محمود باشا سليمان في أسيوط ، وهو أحد كبار المعتقلين مع سعد زغلول ، لتخريبه واحراقه ، وأراد البعض أن ينبههم الى شخص من سيحرقون بيته ، أجابوا : وهل وزع محمود باشا سليمان أرغفة العيش على الجائعين ؟ نحن طلاب قوت " . وتقدم هذه الرواية أوضح دليل على وجود مواقف صريحة مناهضة للوفد في المظاهرات الثورية . ونجد رؤية أعمق عن آليات الحراك الطبقي في المنيا في مذكرات هدى شعراوي ، الرائدة النسوية والناشطة الوطنية وزوجة الزعيم الوفدي علي شعراوي ، وكان والدها هو محمد سلطان ، الملقب "بملك الصعيد" . عُين سلطان مديرا لمديرية المنيا ، وكان رئيسا لمجلس شورى النواب الذي انشأه الخديوي إسماعيل في عام 1866 . ولم تأت سنة 1882 حتى صار أكبر ملاك الأراضي في المنيا ، فكان يمتلك أكثر من ثلاثة عشر الف فدان ... وكما تقول ايف تروت بول "تكشف مذكرات هدى شعراوي كفاحها ضد قيود طفولتها ونشأتها ، وطريقتها الفريدة في النظر في المسلمات التي بُنيت عليها بيوتات الصعيد واكتسبت صورة مثالية في نهاية القرن التاسع عشر" ..
يتضح نهج هدى شعراوي النقدي لبيئة الطبقة العليا التي نشأت فيها في المنيا ، حين تروي قصة أحد الاحتجاجات التي راتها هناك ..
فهي تصف أهالي المنية وهم يهاجمون منازل المسؤولين البريطانيين البيض فيها ... فتدخل الأعيان ومنعوهم ، وعرّضوا حياتهم للخطر لحماية حياة الانجليز ... وتعارض الأغراض واضح في هذه القصة بين الأهالي والأعيان ..
......
وهكذا تضيف قصة فرقة العمال المصرية عمقا وتفصيلا لتصورات المؤرخين عن ثورة 1919 .... وتساعدنا على فهم تنوع المخيلات السياسية التي كانت موجودة في مناطق مختلفة من البلاد عند بداية ثورة 1919 ...
(وردت المراجع في حواشي خاصة بكل صفحة من الكتاب )
المرجعية التاريخية في الأثر الأدبي للدكتور عصمت سيف الدولة (1) .
المرجعية التاريخية في الأثر الأدبي للدكتور عصمت سيف الدولة (2).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق