د.عصمت سيف الدولة .
مجلة الشورى : العدد الأول 1974 .
الحركة الطلابية ظاهرة اجتماعية فرضت ذاتها على الصعيد العالمي منذ نهاية الحرب الأوروبية الثانية .. لم يعد أحد يستطيع إنكار وجودها كظاهرة اجتماعية .. الا أن التسليم بوجودها ، أي الاعتراف بالحركة الطلابية ، لم يكن نهاية المطاف بالنسبة الى ما تثيره من أسئلة وما تستدعيه من أجوبة ... كان الاعتراف بها بداية لمواجهة تلك الأسئلة مواجهة جدية ، ومحاولة الإجابة عليها إجابة علمية .. ومن الطبيعي أن يكون اتساع نطاق الأسئلة التي تطرحها الحركة الطلابية وعمق الإجابة عليها كان مواكبا تاريخيا للنمو المطرد للحركة الطلابية وعمق تأثيرها في الواقع الاجتماعي . ولقد تنامت الحركة الطلابية في العالم حتى كادت أن تتحول الى ظاهرة ثورية فأصبحت الأسئلة التي تطرحها على الفكر والممارسة هي ذات الأسئلة التي تطرحها الحركات الثورية .
من أي منطلق الى أي غاية ، ومن هي قوى الثورة ، من هي القوى المضادة ... العنف أو الحوار الديمقراطي ؟.
وتلك أسئلة لا تجيب عليها اجتهادات فردية ، بل المرجع في الإجابة عليها الى الإيديولوجيات التي تعكس النضال الجماهيري ، وتقود خطا المناضلين فيه .. وهكذا فرضت الحركة الطلابية على كل الإيديولوجيات المعاصرة أن تفرد لها مكانا فيها لتحدد موقفها من ظاهرة نامية ومتطورة ثوريا ..
وفي داخل الحركة الطلابية ذاتها ، تتردد أسئلة مشابهة يدور حولها حوار عنيف فيما بين الطلاب أنفسهم ، كنوع من الجدل الاجتماعي الذي يستهدف استكمال وتوحيد وعي الطلاب على حقيقة حركتهم ، وأبعادها الاجتماعية وعلاقتها بغيرها من الحركات الجماهيرية .. ومن خلال الحوار الفكري والممارسة الجماعية تتجه الحركة الطلابية بمعدل سرعة متزايد الى قمة نضجها ، أي الى ان تكون مفهومة فهما صحيحا من داخلها ومن خارجها ... ولا يتم هذا النضج بدون صراع .. فالجديد ينبت دائما من قلب القديم .. وبينما يحاول القديم أن يمد في عمره بمقاومة الجديد الناشئ ، يحاول الجديد دفن ركام القديم وكسر قيوده لينمو نموا حرا بدون عائق ..
ولقد نشأت الحركة الطلابية وفرضت وجودها وأثارت أسئلتها في عصر كاد يصل الى حد الركود الفكري .. فعندما تصل الأفكار الى حد التسليم الغبيي بصحتها ، لا تثير بين الناس تلك المعارك الخلاقة التي تسهم في تحريك طاقة التقدم .. كذلك نشأت الحركة الطلابية لتواجه مجتمعا إنسانيا يجتر أفكار القرن التاسع عشر وما قبله من القرون ، ويكاد يسلم بأن طاقة الفكر الإنساني قد توقفت عن الإبداع ، ولم يعد أمامه إلا أن يختار بين ما هو موروث من السلف العبقري ، " إما أن تكون مثاليا وإما أن تكون ماديا " .
ذلك هو شعار القرن العشرين الذي يرمز الى تركته الغنية التي ورثها عمن سبقه ، وهو في الوقت ذاته علامة إفلاسه وعقمه الفكري .. ولقد نشأت الحركة الطلابية وما يزال الشعار مرفوعا كأنه نصب تذكاري لمتوفى عزيز ،، ومترددا ببغاويا الى حد يثير الملل .. وعندما رفضت الحركة الطلابية أنن تختار أسموها حركة رافضة وأدانها المثاليون كما أدانها الماديون .. أدانهاا المثاليون لأنها رفضت المثالية مع انها رفضت المادية أيضا ، واتهم كل منهما الحركة الطلابية بما هو من مصادر قوتها ، ونعني به " الشبابية " ..
وتجاهل الطرفان عامدين أن الحركة الطلابية ، من حيث هي قوة رافضة ، لا تقف موقفا سلبيا من القضايا الفكرية التي تطرحها المثالية والمادية ، ولكنها تتحدى القهر الفكري وترفض أن تملى عليها مقولات نهائية .. إنها لا ترفض التجربة الإنسانية السابقة عليها بكل ما تتضمنه تلك التجربة من تراث فكري وخبرات متراكمة ، إنما ترفض النزوع التقليدي الى فرض الماضي على المستقبل . ترفض قدسية عتيقة أفضتها مرحلة تاريخية سابقة على نماذج بشرية كانت في أيامها ممتازة مثل : فولتير وروسو وماركس وانجلز ..
إنها إذ ترفض أن تختار بين المادية والمثالية ، إنما ترفض حصر اختيارها بينهما وما يمثله هذا الحصر من جبرية فكرية مستبدة ..
ولما كانت الحركة الطلابية حركة شبابية فان نقطة انطلاقها الفكري والحركي هي احتياجات المستقبل ، تريد أن تحل مشكلاته مستعينة بخبرة الماضي .
هذا مفهوم كموقف صحيح ، لأن الشباب هم أصحاب المستقبل ، المسؤولون عن حل مشكلاته المتوقعة .. وهو اختيار سليم تماما لأن المستقبل هو المجال المفتوح للإبداع الإنساني . أما الماضي ، وما هو واقع فعلا ، فغير قابل للإلغاء . اتساقا مع هذا الموقف كان لا بد للحركة الطلابية أن ترفض محاولات فرض الماضي وخبراته على المستقبل وتحويله إلى امتداد فعلي متكرر للخبرات السابقة ، يخضع لذات المنطلقات ويستهدف ذات الغايات ويلتزم ذات الأساليب التي جربها التقليديون . والواقع أن الحركة الطلابية كانت أمام خيار حقيقي كامن وراء ما هو معروض عليها .. الإحراج الصوري الذي يقول : " إما أن تكون ماديا أو تكون مثاليا " يخفي وراءه : " إما أن تختار القيود أو الحرية " .. وقد اختارت الحركة الطلابية الحرية برفض العبودية الفكرية لمقولات تقليدية كانت يوما ثورية ويراد لها أن تظل ثورية الى الأبد .. كأن الخلود معقود لأي شيء في هذا الوجود .. والخلود كلمة فارغة ، فكل شيء متغير متطوّر ، حتى البشر وأفكارهم ..
هذا الموقف الطلابي التحرري هو أيضا موقف تقدمي لأنه منحاز الى المستقبل ضد موقف رجعي منحاز الى الماضي مهما رفع من شعارات تقدمية .. وليس في هذا الموقف الطلابي التقدمي ما يبرر تلك الاتهامات السخيفة التي تحاول أن تلصق بالحركة الطلابية إنكار اتصال سلسلة التطور الإنساني .. إذ أن عدم قبول إخضاع التطور المقبل للتجربة الماضية ، لا يعني على أي وجه إنكار قيمة التجربة وضرورة الاستفادة منها في بناء المستقبل ذاته . إن هذا يعرفه تماما ، أو لا بد أن يعرفه ، كل الذين يدينون الحركة الطلابية من منطلقات مثالية أو مادية .. فقد كانت تلك المنطلقات يوما رفضا لما قبلها دون أن تكون قطعا لسلسلة التطور الإنساني .. لا أحد يبدأ من الصفر ، ولا الحركة الطلابية ..
لا يمكن أن يكون السبب هو جهل المثاليين والماديين ما تمثله الحركة الطلابية من دفع تقدمي ، لأنهم حتى من تاريخ فلسفاتهم ، يعرفون أن تجميد الواقع الاجتماعي أو إضفاء القدسية عليه هو موقف رجعي محافظ .. ألم يبدأ المثاليون برفض الفكر المادي ؟ .. ألم يبدأ الماديون برفض الفكر المثالي ؟..ألم يبدأ كل منهم مسيراته في التأثير الاجتماعي برفض ما صاغه الآخر من فلسفات اجتماعية ؟..
ولا يمكن أن يكون السبب هو تلك الاتهامات السخيفة التي تحاول أن تعبر عن إشفاق زائف ومنافق على الشباب ومستقبلهم .. تلك الاتهامات التي تترصد كل تغيير في أزياء الشباب وزينتهم وأسلوبهم في المخاطبة والسلوك ، الخ .. وتحتج عليه بقيم يراد لها أن تعيش أكثر مما تستحق اجتماعيا .. كأن الذي يطلق شعره أقل رجولة من الذي يجلس ساعات لدى " الحلاق " يقصقص شعره ويمشطه " ويسبسبه " ويعطره ويتأكد من " جماله " بمرآة من أمامه ومرآة من خلفه .. أو كأن الرجولة شرف يقابل عار الأنوثة .. ويقحمون الدين فيما ينافقون به أنفسهم وينسون ان محمدا ( صلعم ) أعظم الثائرين ، كان يطلق شعره ويفرقه ويظفره أيضا كما كان يفعل العرب في أيامه .. وان المسيح كان كما كان قومه .. وأن الثائرين حقا من أمثال الأفغاني وجيفارا لا يبددون طاقاتهم انتباها أو عراكا حول ما ينبغي ان تكون عليه أزياؤهم ، بل يعيشون مجتمعاتهم وهم يطوّرونها ثورة ..
إن تلك الاتهامات التافهة هي آخر محاولات التقليديين لإدانة الحركة الشبابية في العالم .. وهي ـ لأنها تافهة ـ تكشف عن عمق المأزق الذي وضع الشباب فيه أصحابها .. وتشير في الوقت ذاته الى أن ثمة أسبابا أكثر جدية يحاول المهزومون إخفاءها ..
والواقع أن الحركة الطلابية وضعت المثاليين والماديين معا في مأزق حرج .. وعلى محك الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تفتت وانكشفت إيديولوجيات ونظريات كان أصحابها يظنون أنها أكثر صلابة من أي تجربة ..
ان " متاجر" الإيديولوجيات المثالية والمادية جميعا مهدّدة بالإفلاس بفعل مقاطعة الشباب لمنتجاتها العتيقة ، والتجار ينافس بعضهم بعضا ولكنهم يقفون صفا واحدا ضد مقاطعة المستهلكين ..
هكذا يقف المثاليون والماديون موقفا معاديا واحدا ضد الحركة الطلابية التي تقود ـ على المستوى العالمي ـ حركة رفض بضاعتهم الإيديولوجية البائرة ..
هل بارت هذه الايدولوجيا لأن الحركة الشبابية بقيادة الحركة الطلابية تقاطعها ، أم أن الحركة الشبابية بقيادة الحركة الطلابية تقاطعها لأنها إيديولوجيا بائرة ؟..
هذا هو السؤال .. هل البوار الفكري متحقق موضوعيا فيما يرفضه الشباب ، أم أن الرفض موقف ذاتي من جانب الشباب لا يستند الى مبررات موضوعية ؟
السؤال صعب ومعقد برغم بساطة صياغته .. والإجابة عليه إجابة وافية أكثر صعوبة وتعقيدا .. وذلك لأنه بالرغم من البساطة الظاهرة في السؤال فان أية إجابة وافية عليه لا بد أن تشمل الأسس الفلسفية والقوانين المنهجية والمضامين النظرية والمنجزات الفعلية للمدارس المثالية والمادية المتعددة ثم مقارنة كل هذا بما تمثله الحركة الطلابية في كل مجتمع على حدة وعلى المستوى العالمي كله .. وهي إجابة لا توفي بها إلا دراسات متخصصة في مجلدات عديدة ..
لا بد إذن أن نختار من بين كل الأسئلة التي تطرحها الحركة الطلابية على الإيديولوجيات المثالية والمادية سؤالا واحدا ، نطرحه على نظرية مثالية واحدة .. ثم على نظرية مادية واحدة .. لنرى كيف تجيب كل واحدة عليه ، ونكتشف كم هي بالية تلك النظريات المثالية والمادية .. ولكي نقفل باب المغالطات الذي يفتحه الحوار حول الفرعيات والتفاصيل فإننا نختار سؤالا أساسيا ونطرحه على نظرية مثالية أساسية ثم نطرحه على نظرية مادية أساسية لنكشف أولا عن السبب الأساسي لعداء المثاليين والماديين للحركة الطلابية ، ونعرف ثانيا العيب الأساسي في الموقف المثالي والموقف المادي كليهما ..
* أما النظرية المثالية التي سنطرح عليها السؤال فهي الليبرالية .
* وأما النظرية المادية التي سنطرحه عليها فهي الماركسية .
باختصار نريد أن نعرف هل تستطيع الليبرالية أو الماركسية أن تفسر ظاهرة الحركة الطلابية .. ؟ فإذا وجدنا أن أيا منهما عاجزة عن مجرد فهم ظاهرة اجتماعية قائمة في الواقع فسنعرف أن الظاهرة ذاتها قد أصبحت دليلا ظاهرا على فشل كل منهما في أن تكون دليلا لفهم الظواهر الاجتماعية .. وان هذا الفشل الذي يهدد بكشف إفلاس النظريتين هو الذي يخشاه الليبراليون والماركسيون معا ، فيدينون الحركة الطلابية ويحاولون تشويه سيرتها أو إيقافها .. إنهم في موقف دفاع عن أبنية فكرية ظلوا عشرات السنين يقيمونها ويشيدون بصلابتها ، وهاهم يرون أنها مهدّدة بأن تنهار ..
إن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال لازمة قبل أن ندخل في أي حوار حول تفسير الحركة الطلابية ، ذلك لأنه يلزم لكل حوار أن يستعمل لغة محددة الدلالة .. ولا جدوى من حوار يدور الحديث فيه عن الحركة الطلابية ـ مثلا ـ بينما يكون لهذا الاسم دلالة مختلفة في ذهن كل محاور .. بل إنها إجابة لازمة أيضا لقطع الطريق المؤدية الى المغالطات الفكرية ، عندما يحدّد كل صاحب نظرية ماهية الظاهرة الاجتماعية على الوجه الذي يسمح له فيما بعد بأن ينقدها .. وبعدما يفرضها علينا كما يريدها ينقدها كيفما يريد .. انه تكتيك في الحوار يتقنه الليبراليون والماركسيون جميعا .. فالليبراليون مثلا يبدأون بتعريف الاشتراكية بأنها نظرية ماركسية ، وأنه لا توجد اشتراكية الا ما يقوله الماركسيون .. ويحتجون ـ في هذه الجزئية فقط ـ بما يقوله الماركسيون من ان الماركسية هي الاشتراكية العلمية الوحيدة .. ولا يكون كل هذا من جانب الليبراليين تسليما بصحة ما يقوله الماركسيون ، بل تمهيدا لنقد الاشتراكية بما تنقد به الفلسفة الماركسية .
وإذ بالاشتراكية التي هي أرقى نظام لتوظيف الموارد المادية والبشرية لإشباع الحاجات المادية والثقافية المتزايدة أبدا طبقا لخطة اقتصادية شاملة .. تصبح عند الليبراليين مجرد نظام قائم على الإلحاد مثلا .
كذلك يفعل الماركسيون بالقومية مثلا آخر .. فالقومية حركة بورجوازية اخترعها الرأسماليون للسيطرة على السوق القومي .. يحتجون ـ في هذه الجزئية فقط ـ بما يقوله الليبراليون من ضرورة الوحدة القومية .. ولا يكون كل هذا من جانب الماركسيين تسليما بصحة ما يقوله الليبراليون بل تمهيدا لنقد القومية بما تنقد به الرأسمالية ..
وإذ بالقومية التي هي انتماء الى أمة يحدد للمنتمين الساحة الاجتماعية الواقعية لنضالهم من أجل الاشتراكية .. تصبح عند الماركسيين حركة بورجوازية مناهضة للاشتراكية .. وهكذا يفعلون جميعا بالحركة الطلابية ..... يعرّفها كل منهم أولا على الوجه الذي يمكنه من إدانتها ثانيا .. وتصبحح المسألة كلها مغالطات سفسطائية .. لا بد من إحباط هذا التكتيك السفسطائي إذا كنا نريد أن نصل الى فهم صحيح للحركة الطلابية .. ووسيلة هذا أن نحددد من الآن ما نعنيه بالحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ..
الطلاب هم جزء من الشعب في أي مجتمع .. جزء مشغول جزئيا أو كليا بتحصيل المعرفة في معاهد التعليم .. إنهم على هذا الوجه لا يكونون ظاهرة اجتماعية متميزة .. فمنذ أن وجد البشر ، وجد المعلمون وطلاب العلم .. وكل شخص تعلم ويتعلم شيئا من غيره في المعاهد أو المعامل أو المصانع أو المزارع ولا يكف الناس في كل مكان عن إنماء معرفتهم ولو من خلال التجربة .. أما كون الطلاب يتلقون العلم في معاهد معدة لهذا فهو لا يميزهم داخل مجتمعهم بشئ يصل الى حد أن يكونوا ظاهرة اجتماعية .. إنهم يسيرون في الدروب التي شقها مجتمعهم من قبل على ذات المراحل التي وضعت لهم ، ويتلقون العلوم المقررة عليهم ، ويجتازون معاهدهم بالشروط المفروضة عليهم .. إنهم في كل هذا جزء غير معزول أو منعزل أو ممتاز أو متميز من مجتمعهم أيا كان نوع الحياة في هذا المجتمع .. انهم جزء من ظاهرة اجتماعية شاملة هي مجتمعهم ذاته ..
على هذا المستوى العام لرؤية الطلاب يصبح كل ما يقال من أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع يؤثرون فيه ويتأثرون به ، وتحكم اتجاهاتهم الفكرية والحركية ذات القواعد التي تحكم الاتجاهات الفكرية والحركية لكل الناس في المجتمع .. ويكذّب كل ما يقال من أن على الطلاب أن يحصّنوا أنفسهم ضد المؤثرات الاجتماعية خارج معاهدهم ، وأن يلتفتوا لدروسهم .. وعلى هذا المستوى العام لا يكون غريبا أن يتحرك الطلاب ضمن اية حركة اجتماعية .. لم يكن غريبا مثلا أن يشترك الطلاب مع باقي المواطنين في معارك التحرر وكقواعد للأحزاب التي تخوض الصراع الاجتماعي في مجتمعاتهم .. ذلك لأنهم جزء من الشعب لا يعزلهم عنه وعن قضاياه أنهم يتلقون العلم فترة من الفترات في معاهد معدة للتعليم .. ان هذا لا يلغيي روابطهم الأسرية والاجتماعية والوطنية ..
باختصار إنهم ـ على هذا المستوى العام ـ مواطنون في المجتمع .. لهم حقوق المواطنين وعليهم مسؤولياتهم ، لا يحرمهم من حقوقهم ولا يعفيهم من مسؤولياتهم أنهم طلاب علم وليسو علماء أو عاملين ..
ولكنا ـ على هذا المستوى العام من الرؤية ـ لا نكون أمام ظاهرة طلابية .. نعني أن الطلاب الذين يتحركون ، وعندما يتحركون مع غيرهم في مجتمعهم ، إنما يفعلون هذا كمواطنين لا كطلاب .. فالظاهرة هنا ظاهرة اجتماعية عامة تضم الطلاب وغير الطلاب ، فهي إذن ليست ظاهرة طلابية .. إنما تكون ظاهرة طلابية عندما تكون مقصورة تكوينا وحركة على الطلاب حتى لو كانت مؤثرة ومتأثرة ومتفاعلة مع ظواهر اجتماعية أخرى.
ويصح القول ذاته بالنسبة الى الطلاب الذين يساهمون ، وعندما يساهمون في الحركة الشبابية في العالم أو في أي مجتمع على حدة .. أنهم عندئذ جزء من حركة أعم تشملهم .. ونكون عندئذ أمام ظاهرة شبابية وليس أمام ظاهرة طلابية .. ويصح بالنسبة الى الطلاب ـ الشباب ـ كل ما يصح تفسيرا لحركة الشباب سواء كانوا طلابا أو لم يكونوا .. ولكنه ان كان صحيحا بالنسبة الى الشباب عامة لا يكفي لتفسير حركة الطلاب دون غيرهم من الشباب .. أعني ما يكون مقصورا عليهم لا يشاركهم فيه شباب العمال والفلاحين مثلا ... النظرة الشبابية الى الحركة الطلابية هي أيضا نظرة عامة .. عامة بالنسبة الى الحركة الطلابية تفسر القدر المشترك بين الشباب جميعا ، ولكن لا تفسر القدر الخاص بالطلاب فكرا أو حركة ..
الانتباه الى أننا على هذين المستويين العامين ، الاجتماعي والشبابي ، لا نكون أمام ظاهرة طلابية ، يفيدنا في تجنب خطأ الخلط بين العام والخاص ، أو توهم التناقض بينهما .. العام أشمل من الخاص ، ويتضمنه ولكن لا يلغيه .. ومن هنا ، فكما أنه من الخطأ رفض التفسيرات العامة للحركة الطلابية ،، تلك التفسيرات التي تصح بالنسبة الى المجتمع عامة أو الشباب عامة ، من الخطأ أيضا الاكتفاء بتلك التفسيرات في خصوص ما يميز الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية .. وهي لا تكون ظاهرة اجتماعية طلابية إلا بما يميزها وفي حدوده ..
لو لم يكن ثمة ما يميز شباب الجامعات كطلاب في الحركة الاجتماعية أو الشبابية الى " حركة طلابية " لما كان ثمة محل للخلاف الذي يدور لتفسير الحركة الطلابية ..
إن التصدي لتفسير الحركة الطلابية واتخاذ موقف منها ، معها أو ضدها ، يعني ويفترض أن هناك ظاهرة اجتماعية متميزة بأنها طلابية موجودة في الواقع وتحتاج الى تفسير .. فما الذي يميزها ؟
لا يمكن القول بأن ما يميزها يقع على المستوى الفكري ، إذ ليس هناك فلسفة طلابية خاصة بهم ومقصورة عليهم .. ولا يمكن ان يكون للطلاب فلسفة طلابية خاصة بهم ومقصورة عليهم .. ذلك لأن المعرفة الفلسفية أو غير الفلسفية ذات طابع إنساني شامل ، بمعنى أنها غير مقصورة على أحد حتى لو كان الذين يبدعونها أفرادا ممتازون فكريا .. الفكر الإنساني مطروح على الكافة ويدعو الكافة الى الانتماء إليه حتى لو لم ينتم إليه إلا جماعات مفرزة .. لم تعد الفلسفة وكل أنواع المعرفة الإنسانية مقصورة على طائفة بعينها كما كان السحر مقصورا على الكهنة في العهود القبلية المتخلفة ..
إذا كانت الحركة الطلابية لا تجد ما يميزها فكريا ، فقد تكون ـ كحركة ـ مؤشرا لصعود فلسفة إنسانية متميزة .. وسنرى فيما بعد مدى صحة هذا الفرض ، فقط ما يشغلنا الآن تحديد الخاصية أو الخصائص التي حولت تحرك الطلاب في مجتمعاتهم الى " حركة طلابية " .. وقد عرفنا أن ليس ثمة فلسفة أو فكر طلابي خاص بهم مقصور عليهم ، فلا ينبغي إلا ان نبحث عما يميزهم في حركتهم ذاتها ..
وسنجد أنه هنا ـ على وجه التحديد ـ نتعرف على حركة طلابية متميزة عن حركة الشباب وان كانت منها ، ومتميزة عن حركة المجتمع وان كانت تنتمي إليه .. أي نتعرف على الخاص في نطاق العام .. ومصدر معرفتنا لا يمكن أن يكون إلا الواقع الذي يختلف الناس في تفسيره ولكن لا ينكر أحد وجوده .. انه ذلك الواقع الذي فرض ذاته على حركة التطور الاجتماعي بعد الحرب الأوروبية الثانية خاصة ..
الظاهرة محل الدراسة هي أن الطلاب يتحركون معا كقوة اجتماعية مفرزة ومقصورة عليهم .. انهم يحاولون أن يلعبوا دورا سلميا أو ثوريا في تطوير مجتمعهم لا بصفتهم امتداد في داخل المعاهد العلمية لقوى اجتماعية خارجية ، ولكن بصفتهم قوة مستقلة بذاتها موازية للقوى الأخرى .. وينتمي الى الطلاب طلاب جدد ، ويخرج من صفوفهم الخريجون ، ولكن تبقى تلك الكتلة البشرية المميزة بأنها " طلاب " ، متصدية لدور اجتماعي تقوم به بدون توقف على حركة القوى الاجتماعية الأخرى .. ان هذا الالتحام المستقل في قوة نشيطة واحدة هو الذي حول نشاط الطلاب كأفراد ومواطنين الى حركة طلابية كقوة اجتماعية .. أي حولهم الى ظاهرة اجتماعية ..
وبالرغم من أن الظاهرة قد نشأت أولا في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ، إلا أنها تتبلور كظاهرة وتستقر كقوة اجتماعية في المجتمعات النامية والمتخلفة .. ففي هذه المجتمعات على وجه خاص أصبحت كل القوى الاجتماعية تقيم وزنا وتحسب حسابا جادا للحركات الطلابية ..
وفي هذه المجتمعات تؤدي الحركات الطلابية دورا تقدميا خلاقا .. وبالرغم من كل العنف الثوري الذي قامت به الحركة الطلابية في فرنسا واليابان ـ مثلا ـ فان الحركة الطلابية لم تفجر ثورة وتقودها وتنجزها الا في الصين النامية .. وما تزال الحركة الطلابية في الوطن العربي ـ بالرغم من تمزقها بين الدولل المتعددة ـ تمثل قوة طليعية في معارك التحرر والوحدة والاشتراكية .. وبينما تتعثر الحركات الطلابية في شباك التضليل الرأسمالي في المجتمعات المتقدمةة اقتصاديا كالولايات المتحدة الأمريكية ، ويتمكن الرأسماليون من تخريبها داخليا وإفساد اتجاهاتها الاجتماعية وتحويل معظمها الى قوة رفض سلبي ، تتصدى الحركات الطلابية في المجتمعات النامية لدور البناء الاجتماعي الجاد مبتدئة من مبدأ الرفض ذاته ولكن غير متوقفة عنده .. ويرجع هذا الاختلاف الى التأثير المتبادل بين الظواهر الاجتماعية في كل مجتمع على حدة .. فمن ناحية ، لا تكون الحركات الطلابية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة الا واحدة من قوى اجتماعية نشيطة وقد لا تكون أكثرها مقدرة على النشاط ،، بينما في المجتمعات النامية حيث التخلف الثقافي يشمل حركة الجماهير العريضة ، تبرز الحركة الطلابية كواحدة من أقوى وأنشط القوى المحدودة المناضلة من أجل التقدم الاجتماعي .. ومن ناحية أخرى ففي المجتمعات المتقدمة حيث حُلت أغلب المشكلات القومية ومشكلات التنمية الاقتصادية وأصبح الصراع الاجتماعي يدور حول توزيع الإنتاج الاستهلاكي بصفة أساسية ، وحيث القوى الرأسمالية عاتية ، يسهل تمييع أو تخريب الحركة الطلابية ودفعها الى مسالك منحرفة . أما في المجتمعات النامية حيثث مشكلات التحرر القومي والتنمية الاقتصادية مشكلات ملحة وحادة ، وحيثث الرأسمالية ما تزال ضعيفة الجذور ، تتعرف الحركة الطلابية بسهولة ووضوح على مشكلات مجتمعها وتكون أمنع من أن تنالها القوى الرأسمالية بالتخريب ..
لهذا كله نتعرف على الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية واضحة المعالم والحركة في الدول النامية .. ونتعرف عليها مختلطة بظواهر أخرى في الدول المتقدمة ولكنها ـ في الحالتين ـ موجودة .. في الحالتين ، وفي كل المجتمعات في العالم تبرز الحركات الطلابية كقوى مقصورة ـ بشريا ـ على الطلاب ، ومستقلة ـ حركيا ـ عن القوى الأخرى .. في كل المجتمعات ـ وبعد الحرب الأوروبية الثانية بوجه خاص ـ لم تعد حركة الطلاب ومساهمتهم في النشاط القومي والاجتماعي متوقفة أو تابعة على ما تصدره الأحزاب السياسية من تعليمات على قواعدها ، ولا متوقفة وتابعة لحركة قوى اجتماعية أخرى ينتمي إليها كل طالب على حدة ..
في كل المجتمعات في العالم ـ إذن ـ يثور الطلبة ولو منفردين ويتصدون لقيادة شعوبهم الى ما يريدون ، ولا يكفون عن الحركة حتى لو كف عنها الناس جميعا .. في كل المجتمعات الآن هناك حركة اجتماعية نشيطة وهي حركة طلابية ، ومع ذلك فليس مصدر نموها كقوة ولا مجال نشاطها كحركة هو تلقي العلم .. بل التصدي لمشكلات المجتمع والعمل على حلها ..
فكيف نفسر هذه الظاهرة ؟
قبل ان نختبر الإيديولوجيات المثالية والمادية في الإجابة على هذا السؤال ، نريد أن نضع حدين لما قلناه عن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ..
الحد الأول :
هو الحد الديمقراطي .
إن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تبرز وتتضح وتؤثر ، أو تبقى كامنة ، تبعا لتوافر أو عدم توافر الديمقراطية في كل مجتمع .. ففي مجتمع لا تفرض الديكتاتورية فيه قيودا على التفاعل الحر بين الناس تنشأ الظواهر الاجتماعية وتنمو طبقا للقوانين الاجتماعية التي تحكم التطور الاجتماعي ، وبقدر حاجة هذا التطور للظاهرة ذاتها .. ولكن الديكتاتورية في أي مجتمع تعوق حركة التطور الاجتماعي ، وتحاول شل قوانينه الاجتماعية بما تفرضه من قوانين وضعية .. فلا تكون الظواهر الاجتماعية واضحة الوجود والحركة ..
إلا أن الديكتاتورية إذ تحاول بالقوة الوضعية تعطيل القوانين الاجتماعية تفشل . لأن القوانين الاجتماعية ذات حتمية تحول دون تعطيلها نهائيا وان كان يمكن للاستبداد الوضعي تعويق حركتها .. ولما كانت الديكتاتورية تجسيدا للجهل المطبق بقوانين التطور الاجتماعي ، فان غباء المستبدين يحول عادة دون معرفتهم أين وكيف تعبّر الظاهرة التي ظنوا أنها ألغيت عن وجودها .. وتكون تلك هي الثغرة القاتلة في موقفهم الغبي .. إذ لا تلبث الظاهرة الاجتماعية ان تعبّر عن حتمية وجودها بأساليب متعددة متبعة في ذلك الثغرات التي قد تكون في النظام الوضعي .. في مثل هذه الحالة قد لا نتعرف على الحركة الطلابية ظاهرة في صبغتها الأصيلة كحركة جماهيرية تناضل من اجل التطور ، بل نتعرف عليها معبرة عن وجودها وفاعليتها في النشاطات الثقافية أو الرياضية أو حتى في المواقف السلبية والتهكمية .. وللطلاب بوجه خاص آلاف الأساليب للتعبير عن حركتهم .. كل هذا الى حين .. فمن حين الى آخر ، وفي أول فرصة تتاح لها ، تبرز كحركة طلابية متكاملة ونشيطة في ميدانها الأصيل ، الى أن تُضرب ، فتتجه الى مسالكك خفية حتى تحين فرصة أخرى ، وهكذا ..
فعندما نفتقد حركة طلابية ظاهرة ، أو نجد حركة طلابية راكدة في مجتمع ما ، أو نرى الطلاب مشغولين في أوجه من النشاط " البريء " ، يكون من الخطأ الظن بأنها غير موجودة أو أنها لن تعود الى فرض تأثيرها كحركة طلابية .. كما أنه من الخطأ دائما توهم إمكان سحق الظواهر الاجتماعية وإلغاءها بالقوة الوضعية ..
إن أشكالا متعددة من الصراع تدور علنا او خفية بين الظواهر الاجتماعية التي لا تخضع حركتها إلا لقوانينها الحتمية وبين القيود المفروضة عليها بالقوانين الوضعية .. ولا بد من أن تنتصر الظواهر التقدمية في النهاية .. لأن التطور التقدمي حتمي ، قد يعوقه الاستبداد ، ولكنه لا يستطيع أن يلغيه ..
الحد الثاني :
هو أننا نتحدث عن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ولا نتحدث عن المواقف الفردية لواحد أو أكثر من الطلاب .. ففي كل الظواهر الاجتماعية يتطلب الانتماء إليها والالتزام بحركتها حدا أدنى من الوعي .. الوعي بالظاهرة ذاتها وبعلاقتها بالواقع الاجتماعي .. لهذا لا يقدح في وجود الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية أن أفرادا من الطلاب يقفون من حركتها موقفا سلبيا أو معاديا ، إما لعجز في الوعي أو لعجز عن الحركة وإما انفلاتا انتهازيا ينحازون به إلى قوى أخرى موازية أو معادية للحركة الطلابية ..
العبرة هنا ليس بالمواقف الفردية ، ولكن بمواقف الكتلة الطلابية النشيطة ..
إذن ، فان انتقاء أمثلة محدودة من هذا المجتمع أو ذاك ، من موقف هذا الطالب أو ذاك ، لا ينال مما هو مسلم به على المستوى العالمي من أن ثمة حركة طلابية نشيطة في كل المجتمعات المعاصرة ، سواء كان نشاطها علنيا أو سريا .. وذلك ما نريد أن نختبر في تفسيره الليبرالية كنموذج للنظرياتت المثالية ، والماركسية كنموذج للنظريات المادية ..
ان الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تمثل فضيحة للفكر الليبرالي .. ولا يرى الليبراليون في الحركة الطلابية إلا دليلا على انحطاط الأجيال الجديدة ونقصا في التربية المنزلية وفسادا وشذوذا ... الخ .. ذلك أن الفكر الليبرالي قائم على أساس أن التطور الاجتماعي محكوم " بقانون طبيعي " مؤداه أن مصلحة المجتمع تتحقق حتما من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصلحته الخاصة .
ومن هنا فان إطلاق المنافسة الحرة بين البشر ، أي بدون تنظيم اجتماعي ، هو النظام الأمثل الذي يسمح لكل فرد بأن يحقق مصالحه الفردية بدون قيود .. وفي ميدان المنافسة الحرة يحصل كل فرد على ما يستحقه فعلا .. و" كل واحد وشطارته " .. على هذا الأساس أقامت الليبرالية نظامها الاقتصادي " الرأسمالية " ، وعلى هذا الأساس تقيس الظواهر الاجتماعية وتقيّمها وتأخذ منها موقفا معاديا أو مصالحا .. فالطلاب ـ في منطق الليبراليين ـ يتنافسون في ميدانهم على السبق العلمي .. وعلى كل طالب أن يفهم ألا شأن له إلا بأن يحاول التفوق على غيره من الطلاب ، ومقياس تفوقه أن يحصل على أكبر قدر من الدرجات في اختبارات نهاية العام " تمثل الدرجات هنا الربح الذي يتنافس عليه الرأسماليون في السوق الاقتصادي " .. أما كيف يحصل على الدرجات فلا يهم الليبراليين حتى لو لم يفهم شيئا و " صم " الكتب المقررة ، فالعبرة بالدرجات لا بالمعرفة ..
أما إذا لم يحصل على الدرجات لأنه أفقر من أن يشتري الكتب مثلا ، أو أن ظروفه العائلية المزدحمة في حجرة واحدة لا تسمح له بالاستذكار الطويل ، أو لأن مظهره لا يقربه من الأساتذة ، أو لأنه لا بد أن يعمل في غير أوقات الدراسة ليعول نفسه أو أهله .. الخ .. كل هذه من " شؤونه الخاصة " فلا تهم الليبراليين في شئ حتى لو كانت معوقات في طريق ذهنيات عبقرية .. ذلك أن الليبراليين لا يفهمون إلا المصالح الفردية والنجاح الفردي والمنافسة الفردية والرسوب الفردي .. " وكل واحد ذنبه على جنبه " .. لهذا يندهش الليبراليون من ظواهر " آخر الزمن " : اهتمام الأفراد بالتطور الاجتماعي بدلا من اهتمامهم بالتفوق الفردي .. اهتمام الأفراد بمصالح الغير بدلا من انتهاز فرصة تخلف الغير لسبقه أو سحقه .. يندهشون من الاهتمام بالمجتمع ومشكلاته سواء كان المهتمون طلابا أو غير طلاب .. وتزيد دهشتهم عندما يرون " الأولاد " أو " العيال " يبذلون جهدهم ، وفي بعض الأوقات دماءهم ، من أجل قضايا اجتماعية " غير مقررة عليهم " .. انه عندهم " خسارة " كبيرة ، فان الوالدين ينفقون على أولادهم ليتعلموا لا ليهتموا بمجتمعهم ويشاركوا في تطويره .. يا " خسارة " الأموال التي ينفقها الآباء دون عائد .. انه فساد .. مجرد فساد .. والأجيال الجديدة كلها فاسدة .. فالمسؤولون ـ بدون شك ـ هم أولائك الذين سمّموا عقول الشباب بالأفكار المستوردة وعلموهم ذلك الكلام الفارغ عن المجتمع والتطور والاشتراكية .. الخ ..
ما هي أسباب رفض الطلاب للمواقف الفردية التي تشيدون بها واهتمامهم بقضايا مجتمعهم ..؟
إنكم قبل أن تجيبوا على هذا السؤال لا يحق لكم أن تدينوا حركة اجتماعية تجري تحت أنوفكم برغم كل مواعظكم المنافقة .. والليبراليون لا يستطيعون الإجابة لأن نظريتهم الفردية لا تستطيع أن تفسر الظواهر الاجتماعية الجماعية .. إذا رأوا الطلاب يتنافسون على التفوق العلمي فيما بينهم ولكنهم يتحركون معا من أجل القضايا الاجتماعية يفهمون الأولى ولا يفهمون الثانية .. إنهم يندهشون منها ويسبون ويشتمون وتجري الظواهر على قوانينها غير عابئة بصياح الليبراليين ، ومعلنة في الوقت ذاته إفلاس الليبرالية ..
ثم نأتي الى الماركسية .. ولقد فتكت الحركات الطلابية بالماركسية وشتت صفوف مفكريها ، وأشعلت المعارك الفكرية فيما بينهم حول تفسير الحركات الطلابية كظواهر اجتماعية وحول الموقف منها .. وهو أمر عادي بالنسبة الى الماركسيين .. نعني أن في الماركسية ذاتها ما يفسر ويبرر تلك " الظاهرة " الماركسية " : انشقاق الماركسيين وإدانة بعضهم البعض الآخر بالارتداد والانحراف .. ثم مزيد من الانشقاق .. الخ .. وليس هذا الموقع الذي نكشف فيه عن جرثومة الانشقاق الكامنة في الفلسفة الماركسية ذاتها ، والتي تمزق صفوفهم كل يوم .. ولسنا حكاما فيما بين الماركسيين لنقول من منهم المنحرف ومن المستقيم .. إنما نحن نضع نظريتهم على محك ظاهرة اجتماعية لنرى الى إي مدى تستطيع النظرية أن تفسرها وأن تكون ـ بالتالي ـ دليلا لاتخاذ موقف منها ..
تقوم الماركسية على أساس أن أسلوب الحياة المادية هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي حتما .. وأن كل فرد يأخذ من التطور الاجتماعي الموقف الذي يتفق مع موقعه من علاقات الإنتاج .. وطبقا لهذا أقامت الماركسية صرح النظرية الشهيرة .. نظرية الطبقات والصراع الطبقية .. وأفرزت القوى الاجتماعية في المجتمعات " غير الاشتراكية " الى طبقتين إحداهما تملك أدوات الانتهاج ملكية خاصة ، والأخرى تعمل على أدوات الإنتاج ولا تملكها بل تبيع قوة عملها لمن يملكها .. وألزمت كل واحد الانتماء الى طبقته .. وإلا فهو " خائن " .. ولما كان الناس يعكسون ما يدور في أسلوب الإنتاج فان التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقاته تنعكس على مواقف الناس في شكل تناقض طبقي .. ولما كان التناقض لا بد أن يحل من خلال الصراع فانه لا بد من الصراع الطبقي الى أن يحل طفرة بالثورة ... الخ .
كل هذا جميل ومحكم الصياغة لدرجة تستهوي الشباب خاصة ويفرح بها الذين يريدون أن يقال أن عندهم نظرية .. ولكن ما رأيكم دام فضلكم في أن ثمة ظاهرة اجتماعية يقال لها " الحركة الطلابية " ينتمي إليها طلاب العلم في المعاهد الى حد التصدي لقيادة التطور الاجتماعي ، ومع ذلك فان أيا من المنتمين إليها النشيطين فيها لا يملك أدوات إنتاج وليس طرفا في أي علاقة إنتاج .. لسبب بسيط ، أنهم ما زالوا يعدون أنفسهم للعمل ولا يستطيع أي واحد منهم أن يعرف مقدما في أي مكان سيعمل . وهل سيكون مالكا أو عاملا ؟ وبالرغم من هذا فإنهم لا ينتظرون الى أن تتحدد مواقعهم من علاقات الإنتاج لتتحدد مواقعهم الطبقية ، بل يتصدون لحل مشكلات التطور الاجتماعي وهم ما يزالون طلابا ؟
ما الذي انعكس في رؤوسهم فركبوها وأصبحوا ثائرين ؟ كيف اختاروا لأنفسهم دورا اجتماعيا وسياسيا وحركيا من قبل أن تختاره لهم مواقعهم من أسلوب إنتاج الحياة المادية ؟
ان الأطفال والشيوخ والعجزة وكثيرا من النساء أولائك الذين لا يعملون فلا موقع لهم من علاقات الإنتاج ، مثلهم في هذا مثل الطلاب ، ينتظرون إجابتكم ليعرفوا هم أيضا كيف يحددون مواقفهم من مشكلات مجتمعهم مع أنهم لا يعملون .
لا نبالغ إذا قلنا أن الماركسية لم تقابل في تاريخها الطويل تحديا مثل هذا السؤال الذي طرحته عليها الحركة الطلابية .. ويزيد من مقدرته على التحديي وخطورة الإجابة عليه أن كثيرا من أنشط العناصر في الحركة الطلابية يرفعون على مواقفهم شعارات ماركسية ويتداولون تعبيرات ماركسية .. فهمم في داخل الحركة الطلابية ويواجهون في الوقت ذاته تحديها لما ينسبونه الىى أنفسهم ، أو ينسبون أنفسهم إليه من فكر ماركسي .. أما وجه الخطورةة بالنسبة الى هؤلاء بالذات فمرجعه الى ما قلناه من إن الطلاب على المستوى العام ينتمون الى مجتمعهم وقد يكون من بينهم من ينتمي فكرا أو حركة الى قوى اجتماعية خارج الحركة الطلابية ، " أحزاب مثلا " ، ولكنهم على المستوى الخاص حركة طلابية متميزة ومستقلة .. من هنا يواجه الذين ينشطون في الحركة الطلابية تحت لافتات ماركسية سؤالا خطيرا :
هل الحركة الطلابية ساحة ينشطون فيها لحساب قوى خارجية عنها ، أم أنهم جزء منها يلتزمون خططها وأهدافها ؟
الإجابة على هذا السؤال متوقفة على ما إذا كانت النظرية الماركسية تبرر وتفسر الحركة الطلابية أم لا : فان كانت تبررها وتفسرها يسقط السؤال ، إذ لا يكون ثمة تناقض بين أن يكون الطالب ماركسيا ومنتميا الى الحركة الطلابية بدلا من الحزب الشيوعي مثلا .. وان كانت لا تبررها ولا تفسرها ،، فلا نقول الا أنه على كل طالب أن يلقيه على نفسه ويتأمله ويحاول الإجابة عليه ليبقى مسلكه في حركته تجسيدا أمينا لفكره .
اذا تجاوزنا ما يقوله الماركسيون (المرتدون) الذين انحازوا الى الحركة الطلابية وأدانوا عجز الماركسية عن تفسيرها ، فان للماركسيين اجتهاداتت كثيرة في محاولة تبرير وتفسير الحركة الطلابية ..
* الاجتهاد الأول :
يلوذ بما هوعام ويتجاهل ما هو خاص بالنسبة الى الحركة الطلابية . فالطلاب عنده جزء من المجتمع وامتداد له داخل معاهد التعليم ، وهم هناك لا يفعلون ـ بالإضافة الى الدراسة ـ إلا ممارسة الصراع الطبقي كما هو واقع في مجتمعهم . فالحركة الطلابية أو ما يسمى " بالحركة الطلابية " هي الطبقات في صراعها الطبقي في ساحة خاصة من ساحات الصراع ، ويدللون على صحة هذا التفسير بكل ما نعرفه من أن الطلاب ليسوا غرباء عن مجتمعهم وأنهم جزء منه وأنهم يخضعون معه لقوانين حركته ويخوضون صراعاته ويحددون مواقفهم الطبقية تبعا للتناقض القائم في المجتمع ذاته .. الخ .. فاذا قيل لهم أن هذا التفسير يلغي الظاهرة الاجتماعية ذاتها ، إذ أنه قد يصلح تفسيرا لحركة الناس جميعا سواء كانوا طلابا أو غير طلاب ، وبالتالي فهو لا يفسر الحركة الطلابية كظاهرة . أليس الخاص يستحق فهما خاصا حتى في نطاق العام ؟ إذا قيل لهم هذا تقدم الرد الثاني للرد .
* الاجتهاد الثاني :
يقول أن تلك الظاهرة المسماة حركة طلابية ليست في الواقع الا تجمعا جبهويا بين قوى لا تتفق مواقفها الطبقية أصلا .. ان كل طالب ينتمي الى طبقة اجتماعية ويصارع مع طبقة ضد الطبقة الأخرى ، وهو لا يستطيع أن يفعل غير هذا .. وعندما يلتقي الطرفان في ساحات المعاهد العلمية يوحدان جهودهما معا لمواجهة قوة ثالثة تمثل بالنسبة إليهما عدوا مشتركا . عندئذ يتحرك الطلبة حركة موحدة مع بقاء التناقض والصراع بينهما قائما طبقا لقانون الصراع من خلال الوحدة . وتكون حقيقة ما نسميه حركة طلابية أنهه تحالف مرحلي بين شرائح طلابية منتمية الى قوى اجتماعية متحالفة مرحلياا في جبهة . ولهذا ـ هكذا يقول الماركسيون ـ ان نجاح الجبهة في صراعها ضد العدو الرئيسي مرهون بأن تتولى قيادتها أكثر العناصر ثورية ، وأكثر العناصر ثورية هي العناصر المنتمية الى أكثر الطبقات ثورية ( البروليتاريا ) المسلحة بنظرية الماركسية اليينينية ، ويكون الموقف " العلمي " الصحيح أولا أن من حق الماركسيين أن يقودوا النشاط الجبهوي المسمى حركة طلابية ، وثانيا أنهم اذا لم يقودوها فهي حركة فاشلة .
طيب . سؤال آخر تكميلي . ما هو مضمون الصراع الطبقي الذي يخوضه الطلاب في جبهتهم المسماة حركة طلابية ؟ وما هي المصالح الخاصة التي حددت لكل منهم طبقته فانتمى إليها ؟ إن أحدا منهم ليس عاملا ولا مالكا لأدوات الإنتاج . إنهم بعد ليسوا أطرافا في علاقات إنتاج . وعلى حسب الموقع من علاقات الإنتاج يتحدد الانتماء الطبقي . هكذا تقول النظرية .. وعلى حسب التناقض في أسلوب الإنتاج يتحدد الصراع الطبقي .. هكذا تقول النظرية .. فأين الطلاب من كل هذا ؟ وكيف يكونون منتمين طبقيا بدون علاقات إنتاج ، ومتصارعين طبقيا بدون مصالح اقتصادية خاصة ؟
يصدم هذا السؤال كثيرا من الماركسيين فيفقدهم هدوءهم وتتحول إجاباتهم الى مشاحنات وسباب ، ذلك أن مثل هذا السؤال قد وجه إليهم بالنسبة الى المثقفين ( من غير العمال ) الذين قادوا الثورات الاشتراكية مع أنهم بورجوازيون ، أو أنهم على الأقل بورجوازيون صغار ـ بالمقياس الماركسي ـ مثل ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وتروتسكي وماوتسي تونغ وكاستروا وجيفارا .. الخ .. وكان الرد دائما أن هؤلاء استثناء من القاعدة .
انهم مثقفون خانوا طبقتهم وانظموا الى الطبقة العاملة . ولأنهم استثناء فلا يجوز الاحتجاج بهم على صحة القاعدة . والقاعدة أن كل واحد ينتمي طبقيا حسب موقعه من علاقات الإنتاج . ثم تأتي الحركة الطلابية التي تنتمي ــ ماركسيا ـ الى البورجوازية الصغيرة فتخون جملة موقعها الطبقي ( التابعع ماركسيا للبورجوازية الكبيرة ) وتتصدى لدور قيادي وأصيل وتقدمي ومعاد في أغلب المجتمعات الى النظام البورجوازي .. ملايين الطلاب يقفون هذا الموقف ، فهل هم استثناء أيضا ؟
إنهم ان يكونوا استثناء من قاعدة فان قياس حركة الطلاب ونشاطهم الى حركة العمال ونشاطهم في المجتمعات النامية خاصة ، يجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناء .. أي لا تصح به النظرية إلا لما يعد استثناء من القواعد التي تحكم الصراع الاجتماعي وتحدد قواه في المجتمع ..
ثم انه إذا كانت النظرية ـ أية نظرية ـ تبلغ من ( الفضفضة ) وعدم الإحكام ما يسمح بان ترد عليها استثناءات بمثل هذه الضخامة في القوى والفاعلية في الأثر فإنها تفقد قيمتها كنظرية نضالية . اذ أن فائدة النظرية أن تكون ضابطا لفرز القوى والقوى المضادة ودليلا لاتخاذ المواقف النضالية . فإذا كانت ( ضابطا ) سائبا تختلط تحت أنفه القوى فلا يعرف من معه ومن ضده ، اضطربت حركته فتحولت الى ممارسة برجماتية ، لا بد إذن من اجتهاد ثالث ..
* الاجتهاد الثالث :
أن الطلاب لا ينتمون مباشرة الى أية طبقة اجتماعية بحكم أن مواقعهم من علاقات الإنتاج غير محددة ، ولكنهم ينتمون بالتبعية الى الطبقات التي ينتمي إليها آباؤهم . أو أن الطلاب يحددون مواقفهم النضالية تبعا " لمنابعهم " الطبقية ..
عندما يصل الاجتهاد الماركسي في تفسير الحركة الطلابية الى أن يصبح الموقف الطبقي " ميراثا " يكون قد أعلن عن إفلاس النظرية في التفسير والتبرير .. ذلك لأنه مجرد التسليم بأن علاقة الأبوة أو البنوة ذات اثر مباشر في تحديد الموقف من الصراع الاجتماعي بحيث ينحاز كل واحد الى طبقة آبيه يهدم نظرية الطبقات والصراع الطبقي من أساسها . لا يمكن القول بعد هذا أن موقف كل واحد من الصراع الطبقي يتحدد طبقا لموقعه من علاقات الإنتاج ..
فإذا لاحظنا أن طلاب الجامعات والمعاهد العليا يعملون بمساعدة آبائهم على أن يكونوا صالحين لآداء وظائف اجتماعية ليس من بينها العمل على أدوات الإنتاج كعمال في المصانع ، فان هذا النزوع " العائلي " للإفلات من المواقع الطبقية للآباء ( إن كانوا عمالا ) يدحض كل أوهام الميراث الطبقي . لا يوجد عامل أو فلاح واحد اقتطع من قوته ما ينفقه للوصول بولده الى مراحل التعليم الجامعي ليعود بعد التخرج فيشغل مكان والده في علاقات الإنتاج وبالتالي موقعه من طبقته . نرجو أن يتأمل أبناء الفلاحين والعمال من طلاب الجامعة هذا الذي قلناه . ان شقاء الآباء والأمهات لا ينسى ولكن اثره على الأبناء يختلف ، فكما يكون محرضا على الثورة التقدمية ، يكون مبررا للانتهازية لتعويض أيام المذلة والفقر ..
ثم نعود لعرض هذا الاجتهاد المتهافت على محك مضمون الصراع الطبقي . لو أن المواقف الطبقية تورث من الآباء الى الأبناء ، ولو أن الطلاب امتداد في المعاهد العلمية للطبقات التي ينتمي إليها آباؤهم لكان الطلاب من أبناء العمال امتدادا للطبقة العاملة يناضلون في معاهدهم من اجل زيادة الأجور في المصانع وتقليل ساعات العمل ... الخ .. ولكان الطلاب من أبناء الفلاحين امتدادا لطبقة الفلاحين يناضلون في معاهدهم من أجل الإصلاح الزراعي والجمعيات التعاونية وتوزيع السماد ... الخ .. ولكان الطلاب من أبناء المهنيين والموظفين ( لا شيء ) لأن آباءهم لا ينتمون الى طبقة بل يخدمون طبقات أخرى .. الخ ..
لو صح هذا ـ وهو غير صحيح ـ لكان علينا ان نفسر ظاهرة الصراع بين الطلاب وليس ظاهرة الحركة الطلابية . أي لألغينا الظاهرة الاجتماعية عن طريق محاولة تفسيرها ..
والواقع أن هذا هو ما يفعله الماركسيون . انهم على أي وجه فسروا الحركة الطلابية ، ألغوها وتحدثوا عن شيء آخر .. ولما كانت الظاهرة واقعا اجتماعيا ملموسا غير قابل للإلغاء ، فان الاجتهادات الماركسية كلها تنتهي ـ في جورها ـ الى محاولة استبعادها بدلا من تفسيرها . لهذا يكون أكثر المواقف اتساقا مع النظرية الماركسية هو ما يقول به بعض الماركسيين من أن الحركة الطلابية ليست الا اختراعا جديدا من اختراعات البورجوازية تريد بها أن تطمس معالم الفرز الطبقي ، وأن تجهض أو تميع الصراع الطبقي عنن طريق تضليل الشباب ودفعهم الى مواقف غير علمية .. وهنا يلتقي الماركسيون مع الليبراليون في ادانتهم لظاهرة اجتماعية تلعب في المجتمعات دورا تقدميا .. هذا لأن الليبرالية والماركسية كلتيهما عاجزتان عن تفسير الظاهرة ..
نعم ..
قبل أن نجتهد في تفسير ظاهرة الحركة الطلابية يجب أن نعرف بأن ثمة تفسيرا علميا لها ، سواء كان اجتهادنا صحيحا أو غير صحيح . ذلك لأن الظواهر الاجتماعية معطيات موضوعية . إنكارها لا يجدي شيئا ، أما تفسيرها فقد يصيب وقد يخيب تبعا لصحة المنهج الذي يُستعمل في هذا التفسير ولصحة استعماله ، بالإضافة الى صحة معرفة الواقع الموضوعي ذاته . أما إدانتها أو قبولها فهو موقف تال لتفسيرها . لهذا يكون من الخطأ الفاحش إنكار ظاهرة اجتماعية لا نستطيع أن نفهمها .. ان العيب هنا في نظريتنا التي نتخذها دليلا للفهم وليس في الظاهرة ذاتها .. وأكثر من هذا خطأ أن ننكر ظاهرة اجتماعية لا تعجبنا .. ان هذا هروب من مواجهة المجتمع وظواهره ، وكلها مواقف غير علمية ، وبالتالي مواقف فاشلة .. ينكر من ينكر ، ويدين من يدين ، ويهرب من يهرب ، وتبقى الظاهرة قائمة مؤدية دورها في حركة المجتمع ..
إذن فان فشل محاولات فهم الحركة الطلابية على ضوء نظرية مثالية نموذجية ( الليبرالية ) ونظرية مادية نموذجية ( الماركسية ) ، يجب أن يكون محرّضا على مزيد من البحث العلمي لفهم الظاهرة ، واغناء معرفتنا بما تفرزه مجتمعاتنا من ظواهر بدلا من التعصب الجاهل لنظريات فاشلة ..
وقد يكون المدخل الصحيح لأية محاولة جديدة لتفسير الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية هو معرفة لماذا فشلت الإيديولوجيات المثالية ، واخترنا الماركسية كنموذج طريق لاكتشاف القصور الفكري أن نهتدي الى الفكرة القادرة على تفسير ما نريد تفسيره ..
ولقد قلنا من قبل أننا قد اخترنا الليبرالية كنموذج للايدولوجيا المثالية ، واخترنا الماركسية كنموذج للايدولوجيا المادية ، ومعنى هذا أن العيب في كل منهما قد يكون في المثالية والمادية وليس في كل أو بعض المقولات التي تتضمنها الليبرالية والماركسية . فلكل نظرية منهما مقولات مركبة وليس من اللازم ـ علميا ـ أن تكون خاطئتين في كل مقولاتهما . وفي خصوصية دراستنا نعتقد أن قصور كل منهما راجع الى أصولهما الفلسفية الخاطئة .
فالمثالية ترجع الحركة الاجتماعية الى فكرة خارج الإنسان تسميها القانون الطبيعي ، وعندما تحاول أن تفسر حركة الإنسان لا ترجع إليه ، ولكن تطرحه على قوة خارجة لتفسر لها حركته ..
والمادية ترجع الحركة الاجتماعية الى واقع مادي خارج الإنسان تسميه أدوات الإنتاج ، وعندما تحاول أن تفسر حركة الإنسان لا ترجع إليه ، ولكن تطرحه على قوة خارجة لتفسر لها حركته ..
أما لماذا اختارت كل منهما الفكرة أو المادة لتفرضها على الإنسان فان هذا يرجع الى منطلقاتها الميتافيزيقية .. إذ كل من المثالية والمادية نظرية قائمة على أسس فلسفية ميتافيزيقية ..
ففي المثالية يكون الفكر هو القائد المحرك الذي يتحكم في حركة التطور لأن الفكر قد وجد قبل المادة .. وفي المادية تكون المادة هي القائد المحرك الذي يتحكم في حركة التطور لأن المادة قد وجدت قبل الفكر .. من هو الذي وجد أولا ؟ .. هذا هو السؤال الميتافيزيقي الذي يتنازع الإجابة عليه كل من المثاليين والماديين ، ويدعي كل منهم أنه أصح إجابة . ولكن أحدا منهم لا يستطيع أن يقدم دليلا علميا على صحة إجابته ، ولا دليلا علميا على خطأ الرأي الآخر .. لأن الدليل العلمي الذي يخضع للتجربة والاختبار لا يردّ على المقولات الميتافيزيقية .. ولأن الفكر وجد أولا أصبح هو القائد في المثالية ، ولأن المادة وجدت أولا أصبحت هي القائدة في المادية .. وتحول الزعم الميتافيزيقي بأولوية الوجود الى فرض ميتافيزيقي أيضا لقيادة التطور الاجتماعي .. أما الإنسان فهو في المادية والمثالية كليهما مقود دائما ، خاضعا دائما لما يقوده سواه كان فكرة أو مادة ..
لهذا تمثل المادية والمثالية كلاهما جبرية عاتية تفرض على الإنسان مصيره سواء أراده أم لم يرده ، وتحيله الى شيء لا إرادة له ولا حرية ..
هذه الجبرية نشأت في أوروبا وسادت فكرها كله ، وعليها قامت كل الفلسفات الأوروبية ، كما قام سرح الحضارة الأوروبية .. فهناك سواء كانوا ماركسيين ( ماديين ) أو ليبراليين ( مثاليين ) ، يتحدثون عن التطور الاجتماعي وقوانينه وتاريخه ومصيره وهم يعنون ( المجتمع ) .. والمجتمع عندهم ليس جمعا من البشر يعيشون في ظروف مشتركة ، ولكن شيء غير الناس الذين يعيشونه ..
فالإنسان ، في المجتمع ، لا شيء مثاليا وماديا ، وعليه أن يندفع مع حركة مجتمعه ( القطيع ) كما تحركه الأفكار المثالية أو أدوات الإنتاج . ان كل منهما فلسفة غير إنسانية في جوهرها ، وميتافيزيقية غير علمية فيما تزعمه من تبعية الإنسان للمادة أو للفكر .. وكل منهما فلسفة عبودية .. فالإنسان في المجتمع الليبرالي عبد للمنافسة التي لا ترحم . ان سقط هلك . والإنسان في المجتمع الماركسي عبد للأدوات الإنتاج التي لا تعقل .
باختصار ان البشر في الحضارة الأوروبية القائمة على أسس مثالية أو مادية عبارة عن قطع غيار لماكينات ضخمة اسمها المجتمعات ، إما أن تتسق حركتها مع حركة الماكينة ، وإما أن تُلفظ أو تسحق أو تُستبدل ..
غير أن الإنسان لا يقهر الى الأبد ، وهو يتعلم جيدا من خبرته كيف يثور ضد قاهريه .. وإذ بالإنسان يرى بعينه ويلمس في شواء جسده كيف أهلكت تلك الفلسفات الجبرية وحضارتها ملايين من البشر ، في المستعمرات أولا ، ثم في حربين متتاليتين في ربع قرن ، وبدأ التساؤل بعد الحرب الأوروبية الثانية : هل البشرية على الطريق الصحيح ؟ وكان الواقع غير الإنساني الذي تعيشه الشعوب اجابة حية .
ان في المسيرة الحضارية كلها خطأ لا يمكن تجاهله .. ان ضحايا الجبرية المثالية والمادية لا يمكن أن يذهبوا هدرا .. وعلى مستوى العالم كله كان لا بد من حركة تمرد إنساني ضد الاستهانة بالإنسان وإرادته .. كان لا بد من ثورة تحررية إنسانية ضد الجبرية مثالية كانت أو مادية ..
وقد بدأ التمرّد على المستوى الفكري بمحاولة لم تنجح من الوجودية . فالوجودية لم تكن الا رد الفعل المتطرف في الحرية للجبرية المتطرفة . إنها تركيز قوي على الفرد وتجاهل كامل للمجتمع . وكأي رد فعل لم تصل الى غايتها بأن تكون فعلا بديلا وان كانت قد حركت رياح التمرد في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية وفي أوساط الشباب خاصة الى أن كادت تكون دعوة فوضوية .. وما يزال سارتر يرممها ويحاول تحريرها من سمات رد الفعل ..
أما على المستوى البشري فكان لا بد للتمرد من أن يأتي من جانب أكثر القطاعات البشرية تحررا من عبودية الحضارة الأوروبية . ان الآباء والأمهات والإخوة الكبار واقعون نهائيا في قبضة النظم " الجبرية " كقادة أو موظفين أو عاملين .. إنهم مربوطون الى العجلة الدائرة من أمعائهم فبرزت حركة التمرّد في أكثر قطاعات الشعوب استقلالا عن مصادر القهر وهم الطلبة .. وهكذا نشأت الحركة الطلابية طلائع ثورة عالمية ترفض أولا صنع الحياة التي لا تقيم وزنا لحرية الإنسان وإرادته وتحيله شيئا تتحكم فيه المثالية أو المادية . ثم تحاول أن تصوغ الحياة في المجتمعات مستفيدة بخبرة الماضي ولكن بشرط أساسي هو الإبقاء على حرية الإنسان وإرادته في الاختيار والبناء ..
لهذا لا يكون غريبا أن نرى الحركة الطلابية نشيطة في كل مجتمع تقريبا حيث يمكن أن تنشط بصرف النظر عن نوع النظام الاجتماعي أو السياسي القائم في تلك المجتمعات .. ذلك لأن كل تلك المجتمعات تمثل ـ بدرجات متفاوتة ـ تجسيدا لحضارة غير إنسانية أول مميزاتها تجاهل الإنسان وإرادته .. وفي كل مجتمع في هذا العصر قيود مفروضة على الإنسان وان اختلفت أشكالها ..
هكذا تنتصر الحركة الطلابية في كل مكان للإنسان ضد المثالية والمادية . فهل الانتصار للإنسان ضدهما موقف صحيح علميا ؟
7 ـ نعم .. انتصار للانسان ..
لو تجاهلنا البحث في البداية الميتافيزيقية وكففنا عن الاختلاف على ما الذي وجد أولا ، الفكر أو المادة ، لوجدنا أولا ـ أن المجتمعات قد نشأت لأول مرة بوجود الإنسان وذلك بعد ملايين ملايين السنين من بداية الوجود الذي يبحثون في كيف وجد . ولوجدنا ثانيا ـ أنه منذ أن وجد الإنسان واجه ظروفه المادية . ووجدنا ثالثا ـ أنه يقوم منذ أن وجد بتطويع وتطوير هذه الظروف المادية لتشبع حاجته المتجددة أبدا . ووجدنا رابعا ـ أنه من خلال هذه الحركة الجدلية بين الإنسان وظروفه صنع تقدمه وطوّر مجتمعاته . ولوجدنا خامسا ـ أنه في نطاق التأثير المتبادل بينه وبين ظروفه يتولى هو اختيار مستقبله وتحقيقه في الواقع . فالإنسان منذ وجوده هو قائد حركة التطور الاجتماعي ، لا الفكرة المثالية ولا الظروف المادية .
تلك هي خلاصة تاريخ الإنسان ببساطة . انه الإنسان الخلاق الذي يمارس قيادته للظروف المادية والاجتماعية بالرغم من كل محاولات إخضاعه لما هو فوقه أو لما هو تحته .. وعندما يتمرد الإنسان على محاولات إخضاعه فانه يضع قدمه على أول طريق صحيح يصحح به مسيرة خاطئة . وإذا كانت الحركات الطلابية هي أول تمرد أنساني ضد الجبرية فأنهم طلائع الثورة الإنسانية الكبرى التي تحتاج إليها الإنسانية في هذا العصر غير الإنساني .. وغدا وبعد غد سينظم إليهم كل المقهورين . ولن يخدعنا عن رؤية هذا المستقبل الإنساني أن الحركة الطلابية ما تزال ناشئة تتعثر خاصة علىى المستوى الفكري .. فغدا أو بعد غد ستتضح وتكسب كل أبعادها الفكرية الإنسانية . والطلاب بعد ليسوا سوى طلائع . ومن هنا فان إنضاج الثورة ليس واجبا على الحركة الطلابية وحدها ، بل هي واجب على كل الذينن يتطلعون الى مستقبل أنساني يبقي على التقدم المادي ويضيف إليه إنسانيتهه ليكون التقدم المادي في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمته ..
ولعل أول واجب على غير المنتمين إلى الحركة الطلابية أن يرفعوا أيديهم عنها . أن يتركوها تتفاعل وتنضج وتؤدي دورها التاريخي من خلال تأثيرها الحر في مجتمعها . إنهم إن يكبتوها لا يلغوها ولكن يعطلوا نضوجها ، فهي ـ أرادوا أم لم يريدوا ـ واصلة الى غايتها التقدمية .
ثم يبقى المعول عليه في نضج الحركة الطلابية ومعدل سرعة هذا النضج على الطلاب أنفسهم . فحتى الظواهر الاجتماعية لا تنضج تلقائيا ، بل لا بد من جهد بشري لإنضاجها ..
عليهم أولا أن يحتفظوا بحركتهم وأن يحافظوا عليها . إن هذا أول شروط تطويرها ، إذ أن الوجود شرط أول للتطور .. إن التزامهم بالإبقاء على حركتهم مع اختلافهم فكريا سيملي عليهم قبول الحوار الديمقراطي فيما بينهم بقصد تجاوز الخلاف الى الوحدة الفكرية .
إن أية محاولة لإملاء فكر بعينه على الحركة الطلابية هو تخريب لها من الداخل ، لن تكون له نتيجة إلا تمكين أعداء الحركة الطلابية من تمزيقها . انن الديمقراطية ومزيد من الديمقراطية في إطار وحدة الحركة الطلابية هو مصدر قوتها الأساسي لمقاومة الفتك بها . وليس للطلاب عذر في رفض الحوار الديمقراطي .
إنهم .. بعد دور الإعداد العلمي والفكري أيضا ، فان كل الأفكار معروضة عليهم ليدرسوها وهم بعد في أول مراحل الحياة الطويلة ، فعليهم أن يتوقعوا ثراء متلاحقا في معرفتهم من خلال الدراسة أو التجربة ..
ان التعصب الفكري في الحركة الطلابية ليس الا تمردا على الحركة الطلابية ذاتها ، وهو تمرد عقيم ، اذ ستلفظ الحركة الطلابية المتمردين لتبقى هي ..
ثم ان على الحركات الطلابية أن تستفيد من تجارب الأجيال التي سبقتها .. إنها تجربة ثورية جديدة .. تبدأ رافضة ولكنها مطالبة بان تبقى كما هي .. لا انقطاعا في سلسلة التطور الاجتماعي .. ولكن مرحلة جديدة أكثر تقدمية .. والعبرة في النهاية بمقدرتها على الاستفادة من التراث حتى الذي ترفضه ..
ان المواعظ هنا لا تنفع أحدا . فلسنا نستطيع أن نقول للحركات الطلابية عليكم بكذا .. هذه وصاية مفروضة عن جهل . فان الحركات الطلابية هي طلائع متمردة ضد الوصاية على البشر بالذات . ومع ذلك فاننا نستمر في الحديث عما نراه مستقبلا للحركة الطلابية يتفق مع نشأتها ، ومسيرتها . انهه توقع أكثر منه دعوة . ان صح فقد كسبت الحركة الطلابية زمنا كان يمكن أنن تبدده في التجربة الى أن تهتدي إليه .. وان لم يصح فانه رأي يحمل أملا لاا تصيب الخيبة إلا صاحبه ولا تعوق الحركة الطلابية عن شئ ..
ستنجح الحركة الطلابية إذا استطاعت عن طريق الحوار الديمقراطي أن تنتهي الى وحدة فكرية ، ليست أية وحدة فكرية ، بل وحدة فكرية ذات معالم تتفق مع طبيعة الحركة الطلابية ذاتها . وقد رأينا كيف أن الإيديولوجيات المثالية والمادية قد فشلت في تفسير الحركة الطلابية .. فلسنا نعرف كيف يمكن أن تتم الوحدة الفكرية بين الطلاب في حركتهم إذا ظلوا مترددين بين هذا الثنائي المخرب : " إما أن تكون ماديا وإما أن تكون مثاليا " . أنهم إن قبلوا واحدة يكونوا قد أنكروا أنفسهم كحركة .
" الفلسفة الإنسانية " التي تبدأ بالإنسان منطلقا وتنتهي بالإنسان غاية هي إذن التي تتفق مع طبيعة الحركة الطلابية .. بل ان الحركة الطلابية ذاتها ليست إلا ممثلا لها .. لهذا ستتحقق الوحدة الفكرية في الحركة الطلابية إذا استطاعت عن طريق الحوار الديمقراطي أن ترفض المادية والمثالية كلتيهما وتجتمع على فلسفة إنسانية ..
* هذا على المستوى الفلسفي .
* أما على مستوى مناهج التطور فلا محيص للحركة الطلابية من ان تهتدي الى " الجدل " قانونا للتطور تكتشفه وتعترف به وتستخدمه في حركتها .. ذلك لان الجدل وحده هو الذي يفسر حركتها المتطورة المطورة .. وكل قانون ميكانيكي أو ميتافيزيقي سيعجز عن تفسير حركتها وتطورها الذي يخلق كل يوم جديدا ، ويحل المتناقضات في الواقع . والجدل هو التأثير المتبادل والحركة والتغير والصراع بين المتناقضات . ثم يبقى عليها أن تحدد من بين كل العناصر المؤثرة المتأثرة المتفاعلة في المجتمع ذلك العنصر القائد لحركة التطور .. عندئذ ستهتدي بفلسفتها الإنسانية لتختار الإنسان قائدا للتطور الاجتماعي .. عندئذ تكون متسقة مع ذاتها كحركة لا يتناقض وجودها مع فكرها فتتسق حركتها وتصبح أكثر فاعلية ..
* أما على مستوى النظرية ، أي الحلول الفكرية للمشكلات الاجتماعية ، فان كل حركة طلابية في كل مجتمع ستواجه مشكلات مجتمعها كما يطرحها الواقعع وبدون تزييف .. غير أنها ـ لكي تقوم بدورها الطليعي ـ لا بد لها من أنن تحتفظ في كل المجتمعات بسمتها الأساسية وهي أنها حركة تحررية ..
التحرر من الاستعمار ، التحرر من القهر السياسي ، التحرر من القهر الاقتصادي ، تلك أهداف لا تملك الحركة الطلابية أن تتجاهلها أو أن تنكص عن النضال من أجلها وإلا أنكرت وجودها وشوهت مسيرتها .. إن كل حركة طلابية لا بد لها من أن تكون تحررية اشتراكية سواء وعت هذا أو لم تعه ... فالحرية والاشتراكية (نظام التحرر من القهر الاقتصادي والاستغلال) هدفان متصلان بجوهر الحركة الطلابية ذاتها .. قد لا يدركه بعض الطلبة ولكنهم عاجلا أو آجلا سيدركونه .. ان لم يدركوه فكريا فسيدركونه من خلال الممارسة .. ولم يكن عبثا أن تنشأ الحركات الطلابية ابتداء في المجتمعاتت الرأسمالية .. اذ من هم الطلبة في المجتمع الرأسمالي ..؟
أنهم أولئك البشر الناشئون الذين يعدون في المعاهد العلمية ليصبحوا بعد تخرجهم " خدما " للرأسماليين .. يبيعون طاقاتهم الفكرية وكفاءاتهم العلمية لمن يدفع الثمن في سوق البشر التي يتحكم فيها أصحاب المؤسسات الرأسمالية .. ويبذلون طاقاتهم إرضاء لسادتهم خوفا من فصلهم .. ولا يتقدمون إلا بقدر ما يحوزون رضا هؤلاء السادة ، وهم لا يحوزون رضاهم إلا بقدر ما يوفرون لهم من " ربح " على حساب إخوتهم وآبائهم وأمهاتهم العاملين أو المستهلكين .. ولقد كان من العبث وسيبقى من العبث أن يقال للجيل الطلابي الناشئ انتبه الى دروسك وتفوق لتحصل على وظيفة لدى " شركة فلان " .. انه يباع مقدما ، وقد يدفع المشترون العربون عندما توفد الشركات والمؤسسات الرأسمالية الطلاب في بعثات بعقود تلزمهم بأن يعملوا لديها سنين محدودة في مقابل العربون الذي دفع ..
إن المعاهد العلمية في المجتمعات الرأسمالية ليست أكثر من معالف يربى فيها البشر ويسمنون ويهجنون ويدربون ليصلحوا لركوب الرأسماليين أو لجر عرباتهم .. ولقد كانت الحركات الطلابية وما تزال على حق في أن ترفض عناء التعليم لمجرد أن يصبح الطلاب عبيدا للرأسماليين .. ولما كان التعليم ضرورة إنسانية للرقي فان الطلاب لا يستطيعون أن يرفضوا العلم ولو كانوا يعرفون أن الرأسمالية تجهزهم لخدمتها .. ! وهكذا كان رفض النظام الرأسمالي جملة وتفصيلا بكل ما فيه ومن فيه من قهر من جانب السادة ومنن منافسة بين العبيد ، هو الحل الذي اختارته الحركة الطلابية .. والتي يجب أنن تتمسك به دائما لتؤدي دورها العظيم ..
هل اختارت الحركات الطلابية النظام الاشتراكي بديلا عن الرأسمالية التي رفضتها ؟ لا نستطيع أن نقول أنها فعلت هذا في جميع الحركات الطلابية ... بل كثير منها رفضت وما تزال عند مرحلة الرفض ولكن كثير منها اختارت الاشتراكية ..
ويرجع هذا الموقف المتردد أو الذي لم ينضج بعد ، الى الخلط الذي يؤكده الماركسيون بين الاشتراكية وبين الماركسية .. وقد عرفنا من قبل كيف ينظم الرأسماليون الى الماركسيين في تأكيد الخلط بين الماركسية والاشتراكية ..
ولما كانت النظرية الماركسية نظرية مادية جبرية ، فان الاشتراكية الماركسية تصد الحركات الطلابية التي هي تحررية ديمقراطية أصلا عن تبنيها خوفا من أن تكون الدعوة الى الاشتراكية مدخل اغراء للوقوع في مواطن الديكتاتورية تفقد الحركة الطلابية القدرة على الحركة كما هي عادتها في كثير من المجتمعات الماركسية ..
ولكن الاشتراكية ليست هي الماركسية . لقد كان لماركس فضل فضح النظام الرأسمالي وبيان ما فيه من عبودية .. ولكن ليس في كل التراث الماركسي منذ ماركس حتى لينين كلمة واحدة تبين ماهية النظام الاشتراكي الذي يقوم في المجتمع بعد إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .. إن هذا الإلغاء هو ما تعرفه الماركسية ، وهو اجراء سلبي .. وقد كان هذا القصور النظري محل ملاحظة لينين بعد قيام الثورة البلشيفية سنة 1917 .. وفشلت الماركسية في التطبيق لما سمي شيوعية الغرب ، وتراجع لينين عن النظرية ، فدخل الاتحاد السوفياتي مرحلة بناء الاشتراكية بمنهج تجريبي ، ثم استقرت التجربة علىى قواعد ، وعرف العالم ما هو النظام الاشتراكي ..
وبعد ان كان ماركس وانجلز يلعنان الاشتراكية والاشتراكيين باعتبارهم بورجوازيين مضللين ، ويرفعان شعار الشيوعية ، تراجع الفكر الماركسي وقبل النظام الاشتراكي تحت إلحاح ضرورات التقدم وقال عنه انه مرحلة انتقالية .. وما يزال منذ ستين عاما مرحلة انتقالية ..
ليس العيب إذن في النظام الاشتراكي إنما العيب فيه عندما يلصق بالماركسية ، والماركسية وحدها ، وهو ما يريده الماركسيون والليبراليون معا ، انه يحمل معه جرثومة المادية ( الجبرية ) فتصبح الاشتراكية مقترنة بالديكتاتورية .. وكل أعداء الاشتراكية وخاصة الرأسماليين لا يريدون إلا تأكيد هذه التهمة غير الإنسانية .. ويناضل الاشتراكيون الديمقراطيون في كل مكان ضد هذه الدعوة التي تحالف عليها أعداء الاشتراكية من ماركسيين وليبراليين ..
بمجرد التحرر من المادية تصبح الاشتراكية أكثر النظم حرية وديمقراطية .. إنها إذ تحرر الإنسان من القهر الاقتصادي تضيف الى الحرية السياسية ما يكملها ويعطيها مضمونها الايجابي فلا تبقى حرية شكلية كما يريد الليبراليون ..
ولما كانت الحركة الطلابية حركة تحررية في جوهرها ، فإنها لن تخذل جوهرها وتختار الديكتاتورية سواء كانت ديكتاتورية رأسمالية (فاشية) أو ديكتاتورية اشتراكية (ماركسية) .. وهكذا تحدد للحركة الوطنية نظام اجتماعي يتفق مع جوهرها التحرري سياسيا واقتصاديا وهو الاشتراكية الديمقراطية ..
ولسنا نستطيع أن نحدد المشكلات الاجتماعية التي تصادف أو قد تصادف الحركات الطلابية في كل مجتمع على حدة .. ففي المجتمعات المستعمرة مثلاا لا تتسق الحركة الطلابية مع طبيعتها إلا إذا كانت طليعة ثورية ضد الاستعمارر والتبعية .. وفي المجتمعات المتخلفة تتسق حركتها مع طبيعتها عندما تقود النضال من أجل التنمية وتقف بصلابة ضد الانحراف والتبذير والمظهرية الاستهلاكية وهكذا ..
قياسا على كل ما سبق نستطيع أن نقول أن الحركة الطلابية في الوطن العربي ستكون تائهة وفاشلة أيضا إذا لم تكن حركة موحدة قوميا .. حركة طلابية عربية واحدة .. إذ ما هو الأثر الفعلي للموقف الإنساني الذي تمثله الحركة الطلابية ؟ .. نعني الحركة الطلابية التي تريد أن تكون متسقة مع ذاتها منضبطة مع مبررات وجودها .. انه يتحدد في سؤال أول يطرحه الطلاب على حركتهم ..
ما دامت العبرة في قيادة التطور بالإنسان ، فمن نحن ؟ ما هو حجمنا .. على أي ارض نقيم ، ما هي مساحة حركتنا ، ما هي مدى مسؤوليتنا ، باختصار ما هو مجتمعنا ؟ .. عندئذ ستجد الحركة الطلابية وهي تحاول أن تجيب علىى هذا السؤال الأول في الوطن العربي أنها أمام خيار غير معروض على أي حركة طلابية في العالم ، ما عدا ألمانيا وكوريا وفيتنام .. إما أن تختار مجتمعها كما حدده التطور التاريخي اجتماعيا ، أو تختار مجتمعها السياسي المفروض .. إما أن تختار الدولة أو تختار الأمة العربية .. إما ان تختار القومية أو تختار الإقليمية .. ولما كانت الإقليمية مفروضة بالبطش الاستعماري والقهر السياسي والاستغلال الاقتصادي على الجماهير العربية ، فان الطبيعة التحررية للحركة الطلابية ـ بالإضافة الى المعرفة العلمية ـ ستحدد لها ما تختار ، وستختار مجتمعها القومي متحررا من التجزئة التي صنعها المستعمرون ..
عندئذ ستكون قد اختارت ـ في الوطن العربي ـ الحرية والوحدة والاشتراكية ، وأصبح هدفها الذي يتفق مع طبيعتها كطليعة ثورية إنسانية هو إقامة دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .
تنويه : ( وردت بعض الكلمات الغير واضحة من المصدر ( نسخة قديمة من مجلة الشورى العدد الاول سنة 1974 ) ، اجتهدنا في توضيحها أو تعويضها حسب السياق للمحافظة على استرسال الكلام دون انقطاع ، وتركناها بلون مغاير حتى يعرفها القارئ ( واحدة في الفقرة 3 واثنتان في الفقرة 9 ) .
*