بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 22 ديسمبر 2016

مقال في النقد الفني / د.عصمت سيف الدولة .


مقال في النقد الفني .
د.عصمت سيف الدولة .
 (1)
النقد الفني علم ذو قواعد ومقاييس محددة ، وإن كان ، مثل كل شيء متطور . وليس من شروط النقد الفني أن يكون صاحبه فنانا . ولو كان فنانا لكان أكثر إجادة في تطبيق قواعد علم النقد على العمل الفني الذي ينقده . غير أنه يستطيع بإجادة علم النقد ذاته أن يعوض الموهبة الفنية المفتقدة فيصبح ناقدا جيدا . ولكن ما هي غاية النقد الفني ؟.. ما هي مهمة الناقد ؟.. إنها الكشف عن توافر أو عدم توافر كل أو بعض عناصر الخلق الفني طبقا لقواعد ومقاييس علم النقد .. يكتشف أولا ماذا أراد الفنان أن يقول بعمله الفني . ودوره هنا مقصور على الاكتشاف ، فليس من شأن الناقد أن يبتكر أو يفترض شيئا لم يرد الفنان التعبير عنه ، لأن هذا إلغاء للفنان وإحلال للناقد محله . ومحك التفوق في هذه الخطوة الأولى هي المقدرة على الموضوعية والتحرر من الإسقاط الذاتي ، حيث تكون أفكار الفنان ” موضوعا ” للاكتشاف وليس موضوعا للحوار مع الناقد ، ذلك لأنه عن طريق اكتشاف الموضوع كما هو ، يقدم الناقد إلي قرائه أول دليل عل أمانته وجدارته بموقع الناقد ، الذي هو قريب من موقع القاضي  .
إذا تمت هذه الخطوة بنجاح ، يكون على الناقد أن يرى ، طبقا لمقاييس وقواعد علم النقد ، ما إذا كان صاحب العمل الفني قد استطاع ، أو لم يستطع ـ وإلى أي حد ـ التعبير عن أفكاره تعبيرا فنيا . نقول تعبيرا فنياً ، وليس مجرد التعبير، إذ أن ما يفرق الفن عن غيره من وسائل التعبير أنه تعبير ذو خصائص فنية وجمالية معينة . وتمنح هذه الخطوة الثانية للناقد مجالا رحبا لمناقشة المضامين منفردة ، والمضامين مجتمعة ، والصيغة ، وتركيب البناء الفني ، وحتى حرية تقييم ملائمة أو عدم ملائمة الألفاظ ، أو الألوان ، أو المواد ، المستعملة في العمل الفني . كل هذا لينتهي إلى إجابة محددة ، ليس له الحق ـ كناقد ـ أن يتجاوزها : هل استطاع صاحب العمل الفني أن يعبر تعبيرا فنيا عن أفكاره وإلى أي مدى ؟ ..
 هنا تتوقف مهمة الناقد..
(2)
غير أن قلة قليلة من النقاد تلتزم هذه الحدود ، ومرجع هذا إلى أسباب ثلاثة :
* السبب الأول : أن النقد الفني وإن كان علما ذا قواعد وأصول وأسس ، إلا أنه متعدد المدارس ، مثل أغلب العلوم . ومن هنا يختلف نقد العمل الفني من ناقد إلى آخر تبعا للمدرسة الفنية التي ينتمي إليها . صحيح أن ثمة قواعد مشتركة في كل مدارس النقد الفني ، ولكن ثمة أيضا قواعد تأخذ بها بعض المدارس ولا تأخذ بها مدارس أخرى . أغلب أسباب الخلاف تتصل بقواعد ومقاييس تقييم الموضوع . فمن المدارس النقدية ما يرى ترك المضمون لاختيار الفنان على مسئوليته وعدم مغادرة المقاييس الفنية إلى مقاييس فكرية أو سياسية أو اجتماعية .
ومن المدارس النقدية ما يرى أن تقييم ملائمة المضمون فكريا أو سياسيا أو اجتماعيا يدخل في صميم تقييم العمل الفني . ثم تأتي بعض أسباب الخلاف من التطور النامي لعلم النقد ذاته . فبعض المدارس لا تزال تتمسك بمقاييس النقد (الكلاسيكية) بينما تبتكر بعض المدارس الأخرى مقاييس جديدة، متطورة ، أو تتبناها ، والمهم أن مقاييس النقد الفني ، وإن كانت كلها عملية ، غير متفق على بعضها ، ومن هنا يختلف النقاد في نقد وتقييم العمل الفني الواحد .
* السبب الثاني : أن الناقد إنسان ذو هموم ، انه لا ينقد من فراغ ، وليس مقطوع الصلة بظروفه الاجتماعية . وبالتالي فإن لكل ناقد موقفا مسبقا من مضمون العمل الفني أيا كان مضمونه .
وإذا كان محك الإجادة في النقد ـ كما قلنا ـ هو اكتشاف أفكار الفنان كموضوع وليس الحوار معها حوارا ثنائيا من خلال النقد ، فإن هذا يتجاوز مقدرة كثير من النقاد . فترى الناقد ” الجيد” يخلط رؤيته الخاصة برؤية المؤلف ، ويأخذ من النقد وسيلة إلى تأويل العمل الفني على الوجه الذي يقترب فيه من رؤيته الخاصة . ولأنه ناقد جيد فإن فرز ما عبر به عن نفسه مما قاله نقدا للعمل الفني لا يكون مثار صعوبة كبيرة ، انه اختلاط وليس اندماجا ..
انه ضعف في التعبير وليس ضعفا في المقدرة النقدية . ويسهل عادة معرفة ما يخص المؤلف وما يخص الناقد في عملية النقد المختلطة ، ولكنه عندما يكون ناقدا غير جيد يكون همه الأول ألا تغيب ذاته عن النقد الذي يطرحه ، فيسقط أفكاره على أفكار من يتصدى لنقد أعمالهم ، ويخلط نواياه بنواياهم . إنه يبدأ عادة بأن يسر إلى نفسه لو كنت أنا صاحب العمل الفني لكنت عنيت به كذا ، فيلغي صاحب العمل الذي ينقده ويحل نفسه محله . وعلى ضوء ما يعنيه هو يقيس مقدرة المؤلف الغائب على التعبير عن نواياه ـ نوايا الناقد ـ ويكون من المتوقع حينئذ أن تختلف آراء النقاد ” غير الجيدين ” اختلافاً بيّناً في تقييمهم للعمل الفني الواحد  .
* السبب الثالث : أن كثيرا من المتصدين للنقد من الهواة ، ولا يملكون المعرفة العلمية لا بالنقد وقواعده ولا بالفن وأصوله ، ومع ذلك يتصدون للنقد منطلقين من الانطباع الأول السطحي لقراءتهم العابرة ، ومقياسهم في التقييم ان الشكل الظاهر للعمل الفني قد أرضاهم أو لم يرضهم ، إنهم يترجمون العمل الفني ترجمة فورية مباشرة الى فعل أو رد فعل . ولما كان من خصائص العمل الفني أنه ليس وسيلة تعبير مباشرة فإن مواقف الهواة تكون ـ عادة ـ ابعد المواقف عن النقد العلمي ، لأن فهمهم للعمل الفني يكون أبعد المفاهيم عما خطر ببال صاحبه .. لهذا تراهم يختلفون ، من فرد إلى فرد ومن وقت إلى وقت ، ثم ينسون الأمر كله إلى ان يتذكروه في مناسبة اتفاق أو في مناسبة اختلاف  .
ومع أن حصيلة هذه الأسباب الثلاثة ستكون على حساب مبدع العمل الفني ، إلا أن المبدعين لا يصححون عادة أراء الناقدين الجيدين ، وغير الجيدين والهواة .. وهو خبث غير مقصود . إن اختلاف الناقدين في العمل الفني الواحد ، وكثرة ” لغط ” الهواة حوله ، يضفي عليه أهمية كل شيء غامض يحار الناس في تحديد ماهيته فيختلفون به . إنه يثير الفضول ويجذب انتباه أعداد نامية من الناس إلى العمل الفني . فيسترد الفنان بذلك حضورا في أذهان الناس يعوض غيبته في أذهان النقاد  .
(3)
ومن قواعد النقد الفني ومقاييسه أن العمل الفني ” معادل موضوعي ” لفكرة ( أو مجموعة من الأفكار ) يريد الفنان أن يثيرها في أذهان القراء أو المشاهدين . هو ” معادل ” للفكرة بمعنى أنه ليس تعبيراً مباشراً عن ذات الفكرة . ولكن من شأنه ـ عندما يكون متقناً ـ أن يثير في ذهن القارئ أو المشاهد تلك الفكرة التي قصد الفنان أن يثيرها في ذهنه  .
بمعنى أن يجذب انتباهه إليها لا أن يعرضها عليه كما هي . لهذا فإن أول سلب لقيمة العمل الفني هو الطرح المباشر للفكرة أو الأفكار المحركة . وأول سلب لقيمة النقد الفني هو التقاط الفكرة من أداة التعبير الفني التقاطا مباشرا، كما لو كان العمل الفني مجرد خطاب ، وكان  رمزيا . أما أنه معادل ” موضوعي ” فلأنه لا يثير فكرته بواحد أو أكثر من عناصر العمل الفني، تكون باقي العناصر على هامشه لمجرد إعطاء شكل فني زائف لتعبير خطابي . الفنان يطرح موضوعا ، قصة ، مسرحية ، قطعة شعر، لوحة ، تمثالا .. الخ ، وفي كل من هذه عناصر عدة من الألفاظ والأشخاص والألحان والألوان والمواد ، تتكامل كلها في العمل الفني ليصبح موضوعا قائما بذاته ، بمعنى أنه لا يكون في حاجة ـ ليكون موضوعا متكاملا ـ لشيء من خارجه حتى يؤدى وظيفته . أي لا يكون محتاجا أولا إلى صاحب العمل الفني نفسه ليكمل للقارئ أو للمشاهد ما وراء ، أو ما حول ، أو ما أمام العمل الفني حتى يصبح تعبيره مفهوما أو قابلا للفهم . ولا يكون محتاجا ثانيا لتكملة منتظرة أو لعنصر إضافي من خارجه . لهذا فإن ثاني سلب لقيمة العمل الفني هو احتياجه إلى إضافة ، وثاني سلب للنقد الفني هو الاتجاه إلى الإضافة .
وعندما يكون العمل الفني معادلا موضوعيا متكاملا تبدأ المهمة الصعبة للناقد . فها هو أمام أحداث مصاغة وأشخاص مخلوقين ، أو ألوان موزعة وممتزجة ، وألحان متتابعة ، او مواد مشكلة تشكيلا جميلا .. إنه أمام موضوع ، وهذا الموضوع يعبر عن مضامين معينة بالألفاظ أو بالألوان أو بالألحان ، وهى مضامين لا يخطئ الناقد ـ وحتى الإنسان العادي ـ  في تلقيها من العمل الفني ، بحيث يستطيع بسهولة أن يعرف ما يقال ” في العمل ” الفني . ولكن لأن العمل الفني معادل وليس تسجيلا لوقائع ، فإن ما يعرفه الناقد ، أو أي إنسان ، مما يقال في العمل ” الفني ليس هو ـ على سبيل القطع ـ ما يريد المؤلف أن يقوله ” بالعمل الفني ” ، فبينهما صلة .. نعم صلة وثيقة ، ولكنهما غير متطابقين . وقد تكون الصلة الوثيقة بينهما خافية بحيث تحتاج إلى جهد جهيد لاكتشاف ما يريد المؤلف أن يقوله ( بالعمل الفني) ، لهذا يحتاج كل ناقد إلى قدر غير قليل من الحساسية الفنية والتدريب ليكون ناقدا جيدا ..
(4)
ليس هذا كل شيء . فبالإضافة إليه لابد من الإتقان ، أي إتقان البناء الفني ، إذ أن له قواعد بناء أكثر تعقيدا ـ بمراحل ـ من بناء العقارات ، ومعرفة هذه القواعد في نشأتها وتطورها لازمة لكل من الفنان والناقد . فالفنان يشيد بناءه الفني طبقا لها، والناقد يعود فيقيس البناء بمقاييسها. وهذا يعنى أن الفن ليس عملية إفراز تلقائي أو تعبيرا صوفيا في مرحلة غيبوبة كاملة أو ناقصة ، بل هو صنعة ، وصنعة دقيقة ، تبدأ المهارة فيها من اختيار المادة الخام كماً ونوعا ، سواء كانت المادة الخام قطعة من القماش أو مجموعة من الألوان ، أو فكرة فجة أو دارجة ، أو كانت لحنا سوقيا يتداول في الأزقة و الشوارع ، أو كان قطعة من الخشب أو الطين .
وفى عالم الرسم يكاد يكون لكل فنان تركيبة خاصة ـ سرية ـ من الألوان والزيوت والأقمشة ، وقلما يبوح فنان بفكرته التي يريد أن يحولها إلى قصة أو مسرحية ، ذلك لأن في اختيار المادة الخام منذ البداية تتجسد مهارة الفنان التي ستميزه عن غيره فيما يخلق من فن ، ثم يأتي التشكيل أو الصيغة ، وهذا هو الميدان الأصيل لمقدرة البناء الفني . وقد يتصور أن العمل الفني المعروض عليهم قد تم خلقه بروح ملهمة مرة واحدة ، بينما تكون عشرات المشروعات قد مر بها العمل الفني مرات ومرات ، وفي كثير من الأوقات سنوات وسنوات ، قبل أن تعرض عليهم ، والفنان عاكف على عمله الفني يخلقه ويعيد خلقه ويضيف إليه ويأخذ منه ، وفى كل مرة يختبره على محك أصول البناء الفني من ناحية وعلى حاسته الفنية من ناحية أخرى ، إلى أن يستقر أخيرا ـ على الوجه الذي يرضيه .. فيخرجه للناس . عندما نرى مثلا في إحدى المسرحيات أن حوارا قد طال ، فليس مرد هذا إلى عجز المؤلف عن الاختصار، أو أن حوارا قد قصر فليس مرده إلى العجز عن الإطالة ، وعندما نرى إيقاع الأحداث بطيئا فلا ينبغي أن نظن أن أنفاس المؤلف قد تقطعت ، وعندما نراه  سريعاً لا ينبغي أن نحسب أنه يجرى ويلهث. إن كل هذا متعمد، ولأنه متعمد فإن صاحب العمل الفني مسئول عنه ، وليس للناقد أن يلوم المؤلف على أنه أطال أو اختصر أو تلكأ أو أسرع ، بل عليه ـ أي الناقد ـ أن يكتشف علاقة هذا التنوع في تضاريس البناء الفني مما يريد المؤلف أن يقول ، فقد تكون الإطالة مقصودة مثلا لتركيز التنبيه على نقطة معينة ، وقد تكون لإثارة الضجر من ذات النقطة . أو قد يكون البطء لإثارة الملل تمهيدا لوثبة قادمة ، أو يكون لإفساح المجال للتأمل في عرض بطيء لوثبة هي في أصلها قادرة على الإسراع .
المهم أن كون العمل الفني معادلا موضوعيا لفكرة أو مجموعة من الأفكار يريد المؤلف إثارتها في أذهان القراء أو المشاهدين ، لا يعنى أنه معادل غير محكوم بقواعد موضوعية ، بل لابد للفنان من أن يكون متمكنا منها أولا ، ولا بد له ـ ثانيا ـ من التزامها فى بناء العمل الفني .
(5)
يبقى من عناصر العمل الفني الفنان نفسه ، حيث يمكن القول بشكل عام أن العمل الفني هو ما ينتجه الفنان . نعنى الإنسان ، وأي إنسان ، من حيث هو فنان . ذلك لأن كل ما سبق من عناصر العمل الفني يمكن اكتسابها بالمعرفة العلمية والمران ، حتى إتقان البناء الفني يمكن اكتسابه كما يفعل كثيرون من أساتذة الأدب والفن القادرين دائما علي أن ” ينشئوا ” ـ ولا أقول يخلقوا ـ عملا فنيا مطابقا لأصول الصنعة الفنية كما تعلموها في دراستهم للأدب والفن وقواعدهما . ولكن مثل هذا العمل لا يكون فنا ، وقد نعجز عن اكتشاف العيب فى بنائه ، وقد لا يكون في بنائه عيب ، ولكنه يبقى فاقد الروح ، إنه كتمثال اجتمعت له كل الخصائص والتفاصيل الى يعرفها علم التشريح ، ولكنه بارد ، ميت لا ينطق ، نراه  مرة فيثير إعجابنا بمهارة المثال ولكننا لا نفتقده إذا فقدناه .
ما هو مصدر هذه المقدرة على الخلق الفني إذن ؟.. إنه في الأصل موهبة ، أعني لابد من أن تكون في الأصل الموهبة . نقول في الأصل ، لأن المواهب استعداد فطرى يكتمل بالعلم . فإذا لم تصادف المواهب الفنية الظروف الاجتماعية التي تمكن صاحبها من أن يغذيها وينميها بالمعرفة تضمر وقد تموت . ولكن ما كنه هذه الموهبة ؟.. بماذا يتميز الفنان عن غيره حتى نقول انه موهوب ؟.. إن بعض الفنانين أغبياء وبعضهم مجانين وبعضهم محدودو الثقافة، وبعضهم منحلون خلقيا ، وبعضهم بخلاء أو كذابون أو حتى قذرون .. فعلى أي وجه يكون أحدهم موهوبا فيصبح بالعلم والممارسة فنانا ؟.. ثم ان كل فنان تقريبا لا يتقن إلا لونا واحدا من ألوان الفن ، فهل هى موهبة نوعية أم هي موهبة إنسانية ؟.
ونقول : الاثنتان معا ..  
فهي أولا موهبة إنسانية لابد من أن تتوافر في كل فنان . وهى تتوافر فيه جنينية قبل أن يدركها هو أو يدركها غيره . غير أن هذا لا يعنى أن الموهبة هي ما يقال له ” غريزية “. كل ما في الأمر أنها كموهبة الذكاء ، نعرف إنها نتاج عديد من العوامل البيئية والوراثية و(الفسيولوجية) اجتمعت في إنسان بعينه ، وإن كنا لا نعرف إلى أي عامل ، على وجه التحديد ، نستطيع أن نردها . فالموهبة الفنية مثل هذا تماما ، إنها لا تأتي من العدم ، ولكنا لا نعلم حتى الآن كيف يختص بها إنسان دون غيره ، ولعل مرد هذا إلى قصور معرفتنا الحالية بكل العوامل التي تصوغ الإنسان . و لكن غدا أو بعد غد قد يقدم لنا العلم كل الإجابات الصحيحة عن كل هذه الأسئلة .
وإذا كنا لا نستطيع حتى الآن أن نعرف لماذا يختص إنسان معين دون غيره بالموهبة الفنية ، فإننا نستطيع أن نجتهد لبيان خصائص هذه الموهبة .
إن الفنان ، ككل إنسان ، لا يستطيع أن يفلت من القوانين الموضوعية ، التي تحكمه وتحكم الوجود معه ، فهو يؤثر ويتأثر، ويتغير، ويتحرك ، مثله كمثل كل شيء . ثم إنه يختص ، دون جميع الموجودات ، بقانونه الذي يضبط حركته . إنه كائن جدلي ، بل هو الجدلي الوحيد. وحتى لا نغادر حدود هذا المقال إلى معمعات الفلسفة نقول إن كل إنسان لا يستطيع إلا أن يدرك الماضي الواقع ويتصور المستقبل ، ولما كان الواقع  ماديا غير قابل للإلغاء ، والتصور فكريا غير محدود بقيود ، فإنهما معا يتناقضان في الإنسان نفسه وتنتج مشكلة ، مشكلة أي إنسان ، أن يحل هذا التناقض لينهى الصراع بين الضدين في ذاته . وهو يحله بالعمل الذهني أو اليدوي الذي يأخذ من الماضي ومن المستقبل ما هو قابل للتحقيق فينجزه ، غير أن ما ينجزه ، حلا لمشكلة ، ما يلبث عند تحققه أن يكون جزءا من الماضي الواقع ، فينشأ تناقض جديد ومشكلة جديدة في الإنسان نفسه يحلها بعمل جديد ، وهكذا .. لا يستطيع إنسان أن يفلت من هذا القانون الذي يضبط حركته حتماً .. فأين الفنان وموهبته الفنية ؟.
إنها المقدرة الفائقة على تقبل أحداث الماضي الواقع ، وهى مقدرة فائقة الحساسية ، يسمونها الحاسة الفنية.. فرط الحساسية بالمشكلات التي تطرحها الحياة الواقعية . فبينما يكون الإنسان “العادي” مستغرقاً في ذلك الجزء الذي يعنيه من مشكلات الحياة ، تكون الموهبة الفنية قادرة على استقبال والتقاط ملايين من المشكلات الاجتماعية . وبينما تطغى المشكلات الكبيرة على المشكلات الصغيرة عند الإنسان العادي ، فتمر به ملايين المشكلات الإنسانية وهو مستغرق فيما يعتقد أنه جدير وحده بالانتباه ، تكون الموهبة الفنية قادرة على استقبال والتقاط تلك المشكلات التي لا تثير انتباه أحد لفرط تفاهتها . وباختصار فإن الموهبة الفنية هي لوح حساس تنعكس عليه الحياة جملة وتفصيلا ، ويأخذ كل حدث فيها مكانه من الصورة الكاملة للواقع .
ثم تأتى المقدرة الفائقة على التصور أو ما يسمونه ” التخيل ” فكل فنان لا يكون فنانا إلا بقدر تفوقه في المقدرة على إعادة تشكيل عناصر الواقع في صور ذهنية قد تبدو للإنسان العادي مفرطة الغرابة ، ليس في مضمونها فقط ، بل في مداها الذي قد يشمل الإنسانية كلها مكانا ، ويتجاوزها زمانا .. ومن العناصر ذاتها التي يعرفها ، أو يمكن أن يعرفها كل إنسان ، يستطيع الفنان وحده أن يركب ، ويعيد تركيب عوالم لا نهائية في محاولة دائمة لتصور الكمال الإنساني .
الحساسية الفائقة في إدراك الواقع، والمقدرة الفائقة على تصور المستقبل ، يؤديان إلى شعور الفنان شعورا فائقا بالتناقض بينهما ، وبالتالي يحس إحساسا فائقا بالمشكلات التي يولدها هذا التناقض . وهنا يكمن سر العذاب اللذيذ، والقلق المضني ، اللذين يسبقان عادة الخلق الفني .. حيث يعيش الفنان مشكلة قد يراها البعض صغيرة أو تافهة ، أو لا تستحق كل هذا القلق ، أو لا تستأهل البحث عن حل ، ولكن الفنان لأرهف إحساسا والأرحب تصورا، يعيشها مشكلة حادة لابد لها من أن تحل .
كيف تحل ؟.. بالعمل ، مثل كل المشكلات ، ولكنه هنا ليس الحل المباشر النمطي ، بل هو الحل الفني . أن يقدم الفنان معادلا موضوعيا للمشكلة وحلها، غايته أن يثير انتباه القراء ، والمشاهدين  إلى المشكلة الأصل والحل الأصل . ويؤدى هذا على أفضل ما يكون إذا استطاع أن ينقل إحساسه بالمشكلة وتصوره لحلها إلى القراء أو المشاهدين ، بدون أن يقول لهم ما هي المشكلة وما هو الحل ، وبالتالي ينقل إليهم عذابه اللذيذ وقلقه اللذين سبقا العمل الفني ، أما الباقي ، أي مدى استعداد القارئ أو المشاهد لتقبل كل هذا فيختلف من شخص إلى شخص ولا يسأل عنه الفنان ، ولكنه يسأل تماما عن أداة نقل إحساسه وقلقه ، ذلك لأن كل ما تحدثنا عنه من قواعد ومقاييس البناء الفني وأصول الصنعة الفنية ، ما هو إلا تلك العناصر اللازمة علميا ليكون العمل الفني موصلا جيدا بين الفنان وقارئيه أو مشاهديه .
ونعني بأنها لازمة علميا : أنها خلاصات الدراسات المقارنة في التراث الفني الإنساني . وهى قابلة للتطوير، ولكنها وإلى أن تتطور غير قابلة للإهدار، بحجة أن للفنان وسائلة الخاصة في نقل إحساسه بالمشكلات إلى الآخرين  .
وأما العنصر الثاني الذي يكاد يجعل من الفن تخصصا نوعيا فليس مرده إلى الموهبة الفنية ، فهي موجودة لدى كل فنان ، و لكن مرده الى ” إتقان ” الصنعة . ولا يكاد أي إنسان يتقن إلا صنعة واحدة . كذلك كل فنان لا يكاد يتقن التعبير عن موهبته إلا بصناعة معينة واحدة . ولهذا التخصص أسباب اجتماعية وبيئية غالبة .
(6)
من أين يأتي المؤلف الفنان بأفكاره ؟.
الإجابة تختلف باختلاف ما إذا كنا نعني الأفكار التي يريد أن يثيرها ” بالعمل ” الفني  أو الأفكار التي يصوغهـا ” في العمل ” الفني .
أما الأفكار التي يريد أن يثيرها ، والتي يقال لها ” محرك ” العمل الفني ، فلا يمكن أن يكون لها مصدر غير الواقع الاجتماعي في حركته الجدلية التي لا تتوقف أبدا . ولولا ذاك لما كان الفنان (الإنسان) هو أداة الجدل ، يلتقط الأفكار من الواقع ، ليعيدها إلى الواقع في خلق جديد، فإن الواقع بالنسبة إليه ينطوي دائما على عناصر ثلاثة ، هي عناصر الحركة الجدلية: مشكلة. حل. عمل. فهو إما أنه يريد أن يثير فكرة مشكلة ، أو أن يثير فكرة حلا، أو أن يثير فكرة عملا، أو أن يثيرها كلها معا في عمل فني ، يقال له حينئذ عمل فني كامل . ولا يمكن لأي فنان أن يستهدف ، وينجح ، في إثارة فكرة تخرج عن هذا الإطار المثلث إلا في حالة واحدة هي إثارة فكرة تتصل بالعلاقة الحركية الجدلية من هذه العناصر . أي أن يثير فكرة منهج ، وبذلك تتكامل الأبعاد الأربعة للواقع الاجتماعي ، الذي لا يستطيع أي فنان أن يتجاهله ، ولا أن يثير أفكارا إلا فيه كما هو، سواء أعجبه أو لم يعجبه  .
وهذا يعني أن الفكرة المحركة للعمل الفني لابد أن تكون فكرة اجتماعية وواقعية. فالواقع الاجتماعي حاضر أبدأ مع المؤلف الفنان . لا نقول حاضرا في ذهنه ، بل نقول حاضرا معه ، لأنه مصدر أفكاره التي يريد أن يثيرها ” بالعمل الفني ” ، بصرف النظر عن الأفكار التي يستخدمها ” في العمل ” الفني ـ كما سنرى ـ وهى الظروف الاجتماعية التي يعيش الفنان فيها .
ان اغتراب الفنان عن مجتمعه مستحيل مثل استحالة اغتراب أى إنسان آخر عن مجتمعه . واغترابه عن وعيه ممكن ، ولكن اغترابه هو نفسه مستحيل . ذك لأنه سواء كان الإنسان فنانا أو غير فنان فإن علاقته بمجتمعه ليست متوقفة على إرادته المنفردة . وعى أو لم  يع ، وأراد أو لم يرد، فهو جزء من مجتمعه مؤثر فيه ومتأثر به ، ومتغير متحرك معه ، دائما ، طبقا لقوانين موضوعية تضبط حركته وحركة مجتمعه حتما ، ولا فكاك له من هذا . حتى النزوع إلى الاغتراب أو تعمده  ليس في الواقع إلا رد فعل لواقع اجتماعي معين ومرفوض عادة ، ولكنه من حيث هو رد فعل لا يفعل شيئا أكثر من تأكيد الفعل الذي كان ردا عليه ، أي تأكيد العلاقة العضوية بين الفنان (الإنسان) وبين مجتمعه . ومن قمة ” الأبراج العاجية ” التي يحاول بعض الفنانين أن يوهموا أنفسهم بالعزلة فيها، والاستعلاء أيضا ، يستطيع كل فنان ـ لو أطل برأسه ـ أي يرى أرضه كما هي ، سواء أعجبته أو لم تعجبه ، ولن يرى إلا أرضه حق لو تقوقع داخل برجه ورفض أن يطل عليها ، وانه لا يفعل بهذا أكثر من التعبير عن أكثر المشكلات حدة في أرضه : ان الحياة عليها أو حتى رؤيتها لم تعد تطاق . ثم تبقى مسألة الحل في الهروب ومدى جدواه ، وهذه مسألة أخرى . ولو ذهب الفنان الى حد إنكار أرضه ذاتها فإن تتبع قوائم برجه العاجي ، نزولا من مكمنه ، لابد أن ينتهي إلى قوائمه المغروسة في الأرض ذاتها ، حيث تشكل صلابة الأرض و اتجاه الرياح ، الإمكانات المعينة موضوعيا لبقاء  البرج قائما ، ولبقاء الفنان مختفيا . هذا بدون حاجة إلى ترجمة تلك الصورة إلى واقعها الحى، حيث يأكل الفنان ويشرب ويلبس وينام ويستيقظ ويقرأ ويكتب وينشر… وباختصار يعيش بأدوات ليست من صنعه ، بل هي من صنع المجهولين الذين يسمون ” المجتمع “. وعلى قدر اتقىنهم صناعاتهم يستطيع هو أن يتقن صناعته.. ولا مفر . 
 فلا مهرب إذن من الوحدة بين الفن والحياة !. وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مهمة لسلامة النقد الفني  :
* انه لا عبرة ولا اعتداد مما قد يعلنه الفنان من انه ، كفنان ، فوق المجتمع ومشكلاته ، وأن الفن يجب أن يكون للفن وحده ولا شأن بما يجرى في الحياة . هذه ألفاظ ” دعائية “غير ذات مضمون . وكثير من الأدباء المرضى ” بالنرجسية ” خاصة ، أو بالشيخوخة، يحتالون لشد انتباه الناس إلى ذواتهم بحيل صبيانية ، بما يشيعونه عن أنفسهم ـ بأجر في أغلب الأوقات ـ من مواقف تجريدية أو ” سريالية “ ، أو بما يقولونه عن أنفسهم ، ولكن في شكل دفاع عن ” سمو ” الفنان واستعلائه وانفلاته من المجتمع الذي هو جزء منه . وليس أقل من هذا فراغا من المضمون ، وصبيانية دعائية ، ما يزعمه بعض الفنانين من الحيدة ـ باسم الفن ـ بالنسبة إلى مشكلات المجتمع وحركته الخارقة التي تحملهم معها شاءوا أم أبوا ، فهم إما على رأس موجة أو في قاع انحسر عنه الموج . كل هذا وهم يرددون أنهم على الحياد ولا شأن لهم بما يجرى من حولهم . ومن ألوان الحيدة الزائفة ” التعادلية ” وهي ضرب من التلفيق المثالي بين المتناقضات الموضوعية يزعم بها الفنان ، أنه هناك فوق .. فوق .. فوق المجتمع قد أقام من نفسه حكما محايدا ، ينصح الناس بأن يهتدوا إلى حل وسط ، بينما الحلول الوسطية مستحيلة .
نقول انه لا عبرة ولا اعتداد بكل هذا عندما يصدر عن فنان . لأنه فى حالة صدوره عنه لا يكون فنانا . وإن ما ينتجه من أفكار للاحتيال الدعائي أو الأوهام الحيادية الجبانة ليس فنا ، بل آراء يطرحها كما يطرح كل الناس آراءهم . وهي  آراء فارغة ترضي صاحبها ، ولكنها غير جديرة بالانتساب إلى الفن ولا بانتباه النقاد .
وعندما يحاول الناقد أن يفتش في العمل الفني عن موقف ” غير اجتماعي “، أو حتى حيادي ، تحت تأثير ما يعلنه صاحب العمل الفني ، يكون قد وقع في شباك خداع المؤلف ، فعلى الناقد أن يحاول دائما اكتشاف الفكرة التي يريد الفنان أن يثيرها ، ” بالعمل ” الفني ، فى أذهان القراء أو المشاهدين ، وسيجدها حتما، وسيعرف منها ـ بالرغم من ادعاءات المؤلفين ـ أن لكل منهم مواقف لا تجريدية ولا حيادية ولا تعادلية ، وأنهم غارقون حتى آذانهم في أمواج الحياة التي تحملهم إلى حيث تريد، إذا أبوا أن يسبحوا فيها إلى حيث يريدون .
* الثاني انه ما دام وراء كل عمل فني فكرة أو أفكار أو مواقف اجتماعية ، فإنه من العسف غير اللازم ، إلزام الفنان التعبير ” بالعمل ” الفني عن فكرة أو أفكار أو مواقف اجتماعية معينة ، إنه العسف غير اللازم الذي ساد في مرحلة ( الستالينية ) تحت شعار ” الواقعية الاشتراكية “، ويعنون بها أن من مقاييس الفن أن تكون الأفكار المحركة لنشاطه الفني أفكارا واقعية ، بمعنى أن تكون مستمدة من واقع المجتمع الذي بعيش فيه ، وهي مقولة فارغة . ذلك لأننا إذا كنا نقصد بالأفكار التي يريد الفنان أن يثيرها ” بالعمل الفني ” ، تلك التي أقلقته وأوحت إليه بالخلق الفني ، فإنها أفكار واقعية واجتماعية دائما . أما إذا كنا نقصد بالأفكار تلك التي يصوغها الفنان ” فى العمل ” الفني كمعادل للأفكار الأولى ومثير لها ، فسنرى أنه لا يشترط فيها أن تكون واقعية ، لا في الزمان ولا في المكان ، قد تكون تشكيلا خيالياً غير قابل للوجود أصلا .. وعندما نلزم الفنان أو نشترط عليه ـ ليكون فنانا ـ أن تكون أدوات تعبيره مستمدة من الواقع أو مطابقة له. فإنا لا نفعل شيئا أكثر من تحويله الى رجل شرطة يكتب محاضر دقيقة ووافية بالأحداث المكلف برصدها .
يكفينا أن الواقع الموضوعي يلزم بقوانينه الجديدة كل فنان أن يستمد أفكاره المحركة لنشاطه الفني من مجتمعه . أما كيف يحاول أداء وبناء العمل الفني المعادل لتلك الأفكار فهذا شأن الملكة الفنية فيه. وأيا كانت الصيغ التي يضع فيها خلقه الفني ، فإن الناقد الجيد ، يستطيع أن يكتشف أن مأساة ” هملت ” لم تكن مجرد استجابة لتنبؤات الساحرات الثلاث .
ثم إنه ليس عسفا غير لازم فقط ، بل هو خطير، ومدمر للفنان وللفن . ذلك أن الذين يلزمون الفنان بأدوات لبنائه الفني من أفكار وأحداث هم ليسوا من الفنانين ، إنهم عادة من الساسة أو النقاد ، ويكون دور الفنان في هذه الحالة التعبير عما يدور بالطريقة التي يريدونهـا . ولما كانوا غير فنانين ، وكان موقف الفنان مجرد صانع ، فإن الناتج الفني سيكون نصيبه من الفن بقدر نصيب الذين فرضوه ، مضافا إليه قدر من صنعة الفنان لا يمس الشكل إلا قليلا ، ولا يمس المضمون بأي حال . وهو إلغاء كامل لدور الفنان في الفن ، وقد قلنا إن الفن يمكن ان يسمى إنتاج الفنان  .
إن الفنان الحق ، كما قلنا يمتاز بموهبة الحساسية المتفوقة لما يدور فى المجتمع . وقد تلتقط موهبته مشكلات لا تستطع أن تصل إليها أحكم وسائل الإحصاء والتخطيط ، إذن ، فالمحصلة النهائية لأي عمل فني ، بصرف النظر عن موقف صاحبه ، هو التنبيه إلى بعض المشكلات الاجتماعية أو إلى بعض الحلول المتاحة لتلك المشكلات ، أو إلى المواقف الملائمة لتلك الحلول . وقد يخطئ الفنان في الحل أو الموقف من المشكلة ولكنه لا يخطئ ولا يمكن أن يخطئ فى شد الانتباه إلى وجود مشكلة ما . إن حساسية الفنان هنا أكثر دقة من حساسية الساسة والعلماء والمفكرين ، ومن هنا يؤدى العمل الفني دائما وظيفة تقدمية ، هي التنبيه إلى مشكلات واقعية. وإن مجرد التنبيه هو حل تقدمي ، لأنه إسهام في إكمال المعرفة بالواقع، والمعرفة بالواقع هي الشرط الأول لتطويره .. لهذا نقول أن كل عمل فني هو حل تقدمي مهما يكن موقف صاحبه . وإن ما يجب أن ينتبه إليه التقدميون هو استغلال  الأداء الفني لترويج الدعاية الرجعية ، ئم الانتباه إلى ما يثيره العمل الفني من مشكلات اجتماعية لمعالجتها ، بصرف النظر عن موقف الذي خلق العمل الفني . إنه إذ يخلقه ينفصل عنه ويصبح للعمل الفني ذاتيته المستقلة ، بينما قد يبقى (الإنسان) في الفنان ، يردد أفكاره الرجعية ويكون العمل الفني قائما بدوره التقدمي بالرغم من موقف صاحبه.
(7)
كل هذا ، ونحن في نطاق الأفكار التي يريد الفنان أن يثيرها ” بالعمل ” الفني ، أما الأفكار التي يصوغها الفنان ” في العمل ” الفني فلها شأن آخر، إنها المجال الرحب غير المحدود للإبداع الفني ، إنها في الأصل غير واقعية . لا يوجد عمل فني ولا يمكن أن يوجد عمل فني مطابق تماما للواقع ، حتى التماثيل الرائعة ، التي تكاد تكون مطابقة تشريحيا لنموذجها الحي ، ليست مطابقة للواقع على الأقل في وضعها ” الثابت ” المنتقى ، الذي هو أهم خصائص أداة التعبير في النحت أو الحفر. أما الرسم فلا يمكن أن تكون الصورة التي تكاد تكون ” فوتوغرافيه ” مطابقة لنموذجها ، فالاختلاف يأتي في اختيار الألوان وتوزيعها ودمجها وتلقيها للضوء أو رده .. وكل هذا هو الأداة الأساسية للتعبير في الرسم ، أما المطابقة الخارجية للنموذج أو نقل ملامحه بحيث نقول إن هذه شجرة أو بقرة أو رجل أو امرأة .. فهو على هامش العمل الفني ، هو مادته الخام ، والأمر أكثر وضوحا في الموسيقى ، إن درجات السلم الموسيقي محدودة ، وهى تحت تصرف كل فنان ، ولكن لكل فنان فنه الخاص في كيفيه تركيب وترتيب الجمل الموسيقية التي يعبر بها فنيا . أما في الأدب فإن النقل عن الواقع ، في الأحداث ، في الأشخاص ، ليس أكثر في “محضر إثبات حالة ” يستطيع أي شرطي أن يكتبه بكفاءة تتجاوز أي كاتب . ولكن الذي لا يستطيعه أي شرطي ولا يستطيعه إلا الفنان وحده هو خلق الأحداث والشخصيات وخلق زمانها ومكانها أيضا .. إنه بهذا يخلق العمل الفني خلقا إبداعيا غير مسبوق في الواقع  .
وكما يستطيع الفنان أن يخلق عملا فنيا ، مستعملا عناصر مشابهـة  لعناصر معاصرة من الأحداث أو الأشخاص حتى يظن البعض أنه ” يحكى ” قصة وقعت فعلا ، وهى تفوق في الصنعة على حساب الروح الفنية ، يستطيع أن يستعمل أسماء وأحداثا تاريخية . نقول يستعملها ولا نقول يعيد كتابة تاريخها . كما يستطيع أن يبتكر من خياله أحداثا وأشخاصا وعلاقات لا يسمح بتصورها أي واقع تاريخي ، فلا حدود ولا قيود على المضمون الذي يستعمله الفنان ” في العمل ” الفني ، وهو ـ لمجرد ألا ننسى ـ غير المضمون الذي يريد الفنان أن يثيره ” بالعمل الفني ” . الأول خاضع تماما لمقدرة الفنان على الاختيار . والثاني مضمون اجتماعي واقعي دائما  .
لذا يخطئ كثير من النقاد عندما يخلطون بين المضمونين ، وأغلبهم لا يخلط ، ولكن ينظر إلى العمل الفني نظرة أحادية . أي لا يعتد ، إذ لا يرى ، إلا بالمضمون الذي عبر به الفنان متجاهلا ، أو جاهلا ، المضمون الذي عبر عنه . ويتعرض كثير من الفنانين ، خاصة بعد نمو وانتشار أساليب الأداء التجريدية أو السريالية أو ما أسموه ” اللامعقولية “.. لحملة نقد تشهيرية لأن النقاد يحبسون أنفسهم فى رؤية مضمون الأداء . وحده فيرونه غير واقعي ، أو غير منطقي ، أو حتى غير معقول ، فيتوهمون أن ليس وراء هذا الأسلوب فى الأداء مضمون محرك ، هو دائما واقعي ومنطقي ومعقول ، وأن عليهم ، بدلا من التشهير الناقد ، أن يكتشفوه  .
إن هؤلاء النقاد يجردون العمل الفني من ثيابه ، ليبحثوا في الثياب كيف قصت ، وكيف حيكت وأبعاد أكمامها ، ونوع نسيجها وربما سعره . وكل هذا مفيد لأي ” خياط ” أو صبي خياط ولكنه غير ذي فائدة في معرفة الجسم الحي الذي صنع الثوب على قده .
 هذا الخلط بين المضمونين لا يؤدي ـ  فقط ـ الى تسطيح العمل الفني عن طريق النقد ، بل يؤدى إلى أخطاء أخرى ، عرفنا منها شيئا عن الشروط المتعسفة التي يفرضها النقاد على المضمون المستخدم فى الأداء الفني ، لأنها مطلوبة في المضمون الذي يحرك العمل الفني : الاجتماعية ، والواقعية ، و المعقولية .. إلى آخره . ونعرف منها الآن أكثرها جسامة ، أعني أكثر الأخطاء جسامة ، وهى التلقي المباشر من العمل الفني ، المقابل الذاتي ـ النقدي ـ لكون العمل الفني خطابا مباشرا. ليس بين يدي أي ناقد إلا عمل فني ذو شكل ومضمون ، وهو شكلا ومضمونا يتكون من عناصر عديدة تجتمع فيه ليكون موضوعا واحدا .
هذه هي الصورة النهائية للعمل الفني المطروح على الناقد ، وعلى الناقد أن يتحقق أولا من سلامة تركيب عناصره ، من بنائه ، من إتقان الصنعة الفنية فيه ، ثم أن يحلله إلى عناصره ، يفككه .. هذا لون أزرق . وذاك أصفر ، والثالث خليط باهت بين اللونين بنسبة كذا إلى كذا ، وضعت في اللوحة الفنية في موضع كذا ، بعيدا أو قريبا من محور العمل الفني ، تحيط بها ألوان كذا وكذا . فيها لون متداخل بدرجة كذا ومنها لون مقطوع ، وهكذا .. وهو يحلل عناصر العمل الفني ليكتشف دلالة تلك التركيبة التي اختارها الفنان ، أي العلاقة المتبادلة بين الألوان ذاتها والتقائها معا في لوحة فنية واحدة ، وحق الطريقة التي ألقيت فيها . فنحن نعرف أن بعض لوحات الرسم تتراكم فيها الألوان بكثافة غير مصقولة عن طريق المكشط المعدني (السكين) ولا تستعمل فيها الفرشاة ، وأن الفنان قد يستعمل أنواعا متباينة من فرش الرسم تختلف فقط في سمك شعيراتها ، وكل هذا يكون مقصودا به أن يمنح الرسم تعبيرا خاصا . ولابد للناقد من عملية التحليل هذه ليعرف ما وراء عملية التركيب الفني ، ليستطيع أن يكتشف المضمون الذي يريد الفنان أن يعبر عنه ” بالعمل ” الفني . أما إذا اكتفى بحصر الألوان وانتقائها والعودة إلى دلالتها الفجة ، فاللون الأحمر يرمز للدم أو للعنف ، والأزرق إلى الصفاء والهدوء واللون الأصفر يرمز إلى الغيرة و الغيظ ، و اللون الأسود إلى الكآبة ، و اللون الأبيض إلى التفاؤل ، وترجمة كل هذا إلى رؤية نقدية ، فإنه ببساطة لم ير شيئا ولم ينقد شيئا
وينطبق الموقف الخاطئ ذاته على التلقي المباشر من الفن غير التشكيل (القصص والمسرحيات والموسيقى والشعر)  ، ويكون الخطأ هنا أفدح ، ذلك لأن العمل الفني هنا ناطق ، فأشخاصه يقولون أشياء كثيرة ، ويواجهون أحداثا كثيرة ، و يحاولون ، ويحاورون ، و يتخاصمون ، وينهزم بعضهم أو ينتصر . إنه عالم كامل من الأشخاص والأفكار مجتمعة في عمل فني ، والانزلاق إلى التجزئة هنا سهل ، فكل شخص له ملامحه وله مواقفه وله أفكاره التى يعبر عنها فى الحوار، بحيث يبدو الأشخاص في العمل الروائي أو المسرحي كما لو كانوا منفردين أو كما يتفرد الناس فى الحياة . فينزلق الناقد إلى محاكمتهم واحدا واحدا ، بالدور. وفي العادة يلتقط أولئك الذين يبدون أنهم يلعبون أدوارا رئيسية في العمل الفني فيركز عليهم باعتبارهم ” أبطالا “.. وينسى في خضم هذه التجزئة أن عليه بعد أن يتبين خصائص كل شخص فى تركيبه الجسماني كما خلقه المؤلف ، في أفكاره وفى مواقفه ، أن يعيد جمعهم في العمل الفني مرة أخرى ليكتشف سر اجتماع كل أولئك الأشخاص والشخوص ، فقد يكتشف عندئذ أن مجرد اجتماع كل هذه الأشخاص فى عمل فني واحد هو المفتاح الى غرفة المضمون الذي يركد أن يعبر عنه الفنان بالعمل الفني، وقد يكتشف أن إحدى الشخصيات التي تبدو باهتة أو مهزوزة ، هى حجر الأساس فى البناء الفني كله أو هي القشة الى تقصم ظهر البعير كما يقال .
إذا لم يفعل الناقد هذا ، أو إذا حاول أن يفعله فعجز ، فسيقف فى نقده عند التلقي المباشر، لأن الاكتشاف لا يتم إلا عن طريق العمل الفني بمجموعه، وفي التلقي المباشر يذهب الفنان ضحية الدلالة المباشرة لعناصر العمل الفني . وهى هنا الحوار (بعد أن كانت الألوان فى الرسم) ، ويتصور، أو يتوهم ، أن المؤلف يخاطبه بما يريد أن يقول على لسان أشخاص الرواية أو المسرحية. فلأن أحد أشخاص الرواية قال في حواره مع علان كذا .. إن هذا رأي المؤلف ” بالضبط ” . إن فلانا ، أحد أشخاص الرواية كان غير مقتنع . ان المؤلف إذن غير مقتنع ان فلانا أحد أشخاص الرواية ، كان مقتنعاً ، ان المؤلف إذن مقتنع وهكذا.. كأن العمل الفني مجرد صياغة جديدة ، وطريفة ، لمقالة يمكن أن يكتبها أي كاتب . إن الناقد هنا يطفو على سطح البحر ربما لأنه يريد ، أو غير قادر، على أن يغوص إلى أعماقه ليكتشف أصدافه أو جواهره ، لكن المهم أن يغوص .. أما أن يلتقي بأصداف أو بجواهر فهذا يتوقف على الفنان نفسه وهو مسئول عنه .
ولا نستطيع هنا أن نغفل الإشارة إلى استشراء  هذا النوع من النقد فى الأدب العربي ، ولعل من أهم أسبابه أن قلة قليلة من النقاد في الوطن العربي لا تأخذ من النقد حرفة ومصدرا ، وحيدا للرزق ، والناقد هنا معذور، لأنه مطالب بأن يقدم كل يوم ، أو كل أسبوع ، أو كل شهر، نقدا لواحد من الأعمال الفنية المطروحة . إنه نقد صحفي من حيث ضرورة ملاحقته للأحداث ، وبدون مساس بالصحافة ، في مثل هذه الظروف لا يستطيع أي ناقد أن يعكف على دراسة عمل فني دراسة جدية لينقده نقدا جديا ، فهذا يتطلب وقتا غير مسموح له به ، وقد يتطلب مراجعة ومقارنة بأعمال فنية أخرى غير متوافرة لديه ، أو قد يتطلب ” مسئولية ” لا يطيق تحملها ، لهذا فانا لا نصادف في المكتبة العربية نقدا إلا في المراجع (الأكاديمية) المتخصصة أو في الدراسات النقدية التي تظهر في شكل كتب تحمل قدرا من المسئولية والجدية . أما نقد المقالات الصحفية فهو ـ في أغلبه ـ ضرورة لمغالبة مصاعب الحياة في مجتمعات لا توفر للمواهب الفنية أو النقدية فرص الإجادة  .
وإنا لنضرب هنا مثلا ـ مضحكا ـ من النقد الفني ” الذاتي “، لنعرف إلى أي مدى تتداخل ظروف غير فنية في عملية النقد الفني تنحدر به أو تقترب به عن أصوله العلمية .
كلنا نعرف أن الأستاذ توفيق الحكيم كاتب مسرحي فنان . هذا لا يماري فيه كثيرون ، وإن كان غيرهم ، وأنا منهم ، أقصر مقدرته الإبداعية على فترة حياته السابقة على دخوله مرحلة الشيخوخة . المهم أن توفيق الحكيم رجعي بكل معاني الرجعية .. وأوصاف أخرى نعف عن ذكرها . ولقد كشف عن موقفه الرجعي في السنوات الأخيرة عندما ظن أن التراجع أصبح مأمونا ، فحاصره التقدميون وما زالوا حتى شككوه في ” أمان ” التراجع . فانطلق يدافع عن نفسه بفقرات مختارة من مسرحياته القديمة والجديدة . وقد كان هنا ينقد فنه نفسه نقدا ذاتيا وهو ما يهمنا . فماذا فعل .. انتقى عديدا من الجمل جاءت على ألسنة عديد من أشخاص مسرحياته العديدة تبشر صراحة ومباشرة بالثورة وتدعو إلى التغيير وتهاجم الوضع الاجتماعي الذي كان سائدا عند تأليفها . لا نريد هنا أن نقيم هذا الموقف أخلاقيا . ولكنا نريد أن نضربه مثلا للنقد السطحي الذي يطفو فوق لجة العمل الفني . توفيق الحكيم جزأ كل عمل فني واختار منه قولا بعينه . ثم قدم هذا القول على أنه يعني دلالته المباشرة . كأن توفيق الحكيم الفنان المتمكن من صنعته كان يصوغ المقالات في شكل مسرحيات . وهو غير صحيح . وأننا لو أخذنا كل مسرحية من مسرحياته على حدة ، وقومناها كعمل فني متكامل .. لاكتشفنا ماذا كان يريد أن يقول هو لا ما قاله محسن بطل ” عودة الروح “. وكل هذا يحتاج إلى نقاد جادين ، وعلماء ، كما يحتاج إلى عمل فني جيد ليكون قابلا للنقد الجاد .
وتوفيق الحكيم مثل لكثيرين يفتشون في ثنايا أعمالهم الفنية في ربع القرن الأخير، ليلتقطوا كلمات من حوار، أو وصفا من رواية ، ثم يهللون كالأطفال ، ليقولوا انظروا لقد كنا نقول كذا
الخلاصة أنه كما أن المخاطبة المباشرة من خلال العمل الفني تجرده من قيمته ، كذلك التلقي المباشر من العمل الفني يجرد النقد من قيمته .
ولا بأس في أن نضيف أن للنقاد نصيبهم من ميراث العبودية الذي خلفته مراحل الاستعمار الطويلة . وهو ميراث يكاد يحمل كل مثقف في الوطن العربي نصيبه منه . إنه ميراث عهد كنا فيه في المرحلة الدنيا المسحوقة سياسيا واجتماعيا وفكريا وثقافيا . وكما يشعر المقهورون بقيود العبودية ويقاومونها ما استطاعوا، يشعرون ـ فى الوقت ذاته ـ بإعجاب بقاهريهم وبإحساس صامت بتفوق القاهرين والسادة . ونزوع ضمني أو صريح للحلول محلهم ولو بتقليدهم . ولو بالتبعية الواضحة لهم ، ولو بمقاومتهم وتصفيتهم ، أي بالتحرر من العبودية ذاتها . ثم إن التحرر يتضمن رفض علاقة العبودية القائمة. ولكنها علاقة ذات طرفين . سيد وعبد . وعندما يثور العبد فإنه في أعماقه يريد أن يكون سيدا . وليس هناك نموذج للسيد القادر الا الذي استطاع استعباده . أي سيده الذي ثار عليه . إنها حالة يعرفها تماما علماء النفس . ويعرفون أيضا أن التحرر تتبعه دفعة ” سيادية ” يحاول فيها المتحررون أن يلعبوا ذات الأدوار التي كان يلعبها سادتهم وثاروا عليها ولو أدى هذا إلى فرض العبودية على غيرهم لتكمل لهم عناصر الحلول . إنه دفعة الطاقة المكبوتة في أول انطلاقها من محبسها . وحتى عندما تنتهي ، تبقى الضمائر عالقة بنماذج السادة ، كمثل لإمكانية التفوق الذي يستحق الاحتذاء أو التقليد أو الإعجاب ..
إن هذا يفسر لنا بسهولة الموقف العام من الإنتاج الثقافي والإبداع الفني في المجتمعات المتحررة حديثا . ومثالها الذي يهمّنا الوطن العربي . إن ميراث العبودية الذي خلفته مراحل الاستعمار الطويلة تفرق بين مواقف النقاد من العمل الفني تبعا لما إذا كان فنا أوربيا أو غير أوروبي . إنهم يلتقون بالإنتاج الثقافي الأوروبي ، وبالأعمال الفنية الأوروبية ، لقاء المعجبين مقدما . وعلى ضوء إعجابهم الموروث يفتشون فيه عما يرضى مواقفهم المحددة سلفا بميراثهم الكامن في أعماق نفوسهم . أما الإنتاج غير الأوروبي عامة ، و العربي خاصة ، فاللقاء به لقاء متحفز ، أو معاد أو مستقل ، أو ـ وهذا أفضلها ـ حيادي . ولقد اهتم النقاد العرب اهتمامات متتالية ، بموجات متتالية ، من التجارب الفنية الواردة من القارة الأوربية ، وقيموها ايجابيا وشادوا بها ، وحاول بعض الفنانين أن يقلدوها ، بدون أن ينتظروا حتى إلى أن تستقر في تربتها . إذ لو أنهم انتظروا لاكتشفوا أن أصحابها أنفسهم قد أسقطوها وتجاوزوها باعتبار أنها تجارب فاشلة ..
يؤدى كل هذا إلى استهانة الناقد- مقدما- بالعمل الفني ” العربي “، فلا يجهد نفسه في اكتشاف أعماقه لأنه منذ البداية لا يعتقد أن له أعماقا تستحق الاكتشاف .
وأحسب أنه سيمضى وقت ليس قصيرا حتى نتخلص من ميراثنا التاريخي ، ولعلنا ـ حينئذ ـ أن نعود إلى إنتاج مرحلة الميراث ، لنكتشف فيها ” ضحايا ” التاريخ وميراثه  .
(8)
إذا استطاع الناقد أن يتخطى كل تلك الحواجز بدون أن يتعثر، وهو أمر لا يستطيعه إلا الراسخون في علم النقد ، فانه سيكتشف وراءه المضمون الذي استخدمه الفنان ” في العمل ” الفني مضمونا أراد الفنان أن يثيره ” بالعمل الفني ” . ولن يجد هذا المضمون بسيطاً إنه ليس فكرة مفرزة يتيمة تقف في وحدتها منتظرة  لقاء الناقد . ولكنها مجموعة متداخلة ومتراكمة من الأفكار . ويكون عليه ـ أي الناقد ـ أن يفتش بينها عن الفكرة الأساسية . الفكرة المحورية . الفكرة التي حركت أصلا النشاط الفني وأدت إليه . إن أي خطأ في التعرف على الفكرة الأساسية المحورية المحركة للعمل الفني من بين كل الأفكار الفرعية والثانوية والمساعدة سيجهض جهد الناقد ويهدر ثمرة كل ما عاناه من أجل نقد العمل الفني وتقييمه .
أضفنا هنا التقييم إلى النقد ، لأن موضوع كل عمل فني من التراث الفني الإنساني لا يتوقف على جودته ، بل يتوقف أيضا على شمول وعمق وأصالة الفكرة الأساسية المحركة له . وعندما يتحدث النقاد ، مثلا ، عن فن إنساني ، أو فن مرحلي ، أو فن خالد ، فإن مقياسهم لا يكون مدى الجودة في صنعته بل مدى الأفكار التي حركته والتي كان أداة جيدة لإثارتها. إنها أفكار محلية محدودة في المكان . أو إنسانية غير محدودة في المكان . إنها فكرة مرحلية محدودة فى الزمان أو خالدة فهي حية في كل زمان ..
ولقد ذكرنا من قبل أن الواقع الاجتماعي الذي هو مصدر الأفكار المحركة للنشاط الفني خاضع في حركته لقوانين موضوعية ومنها قوانين تحكم حركة الإنسان نفسه . وقلنا أن الأفكار المحركة للنشاط الفني لا يمكن أن تخرج عن أن تكون فكرة مشكلة ، أو فكرة حلا ، أو فكرة عملا (موقفا) ، أو هذا كله في عمل متكامل . وأخيرا أن تكون فكرة منهجا تتصل بالعلاقة الحركية بين المشكلات الاجتماعية وحلولها وممارستها.
إن هذا التصنيف على أساس من حركة الجدل الاجتماعي ذاتها يسهل على الناقد اكتشاف الفكرة المحورية التي يعبر عنها أي عمل فني ، لأن إمكانات الاختيار محددة . وعندما يكتشف الفكرة المحورية المحركة للنشاط الفني يستطيع بسهولة أن يقيم العمل الفني بقيمتها ذاتها . أن كثيرا من المشكلات الاجتماعية وحلولها والموقف منها مشكلات إنسانية ، أي أنها مشكلة تصادف الإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر عن المجتمع الذي يعيش فيه ، كالجوع والحب مثلا . وقد ألهم الجوع والحب كثيراً من الفنانين في كل العصور وفي كل المجتمعات ألوانا من الأعمال الفنية الخالدة .. ولكن ـ بالمقابل ـ ليست كل المشكلات الاجتماعية وحلولها والموقف منها مشكلات إنسانية بمعنى أنها تصادف كل إنسان . إن مشكلة البطالة مثلا لا وجود لها في مجتمع اشتراكي . مشكلة المساواة لا وجود لها في أي مجتمع رأسمالي . مشكلة الإفراط في الإشباع المادي التي قد تؤدى إلى الانتحار لا وجود لها في المجتمعات المتخلفة . مشكلة الصبر على الرزق الذي قد يصل إلى حد الخمول لا وجود لها في المجتمعات الصناعية . مشكلة الثأر مقصورة على عدد من المجتمعات . مشكلة العفة لا وجود لها في كثير من المجتمعات الصناعية .. وهكذا تكون الأعمال الفنية التي تحاول أن تثير تلك الأفكار ـ بالضرورة ـ أعمالا فنية محلية . كذلك لا وجود لمشكلات التحرير وبطولاته في المجتمعات التي تحررت . لا وجود لمشكلات الصراع الاجتماعي وأحداثه الملهمة في المجتمعات التي تجاوزت مراحل التحول إلى الاشتراكية ، كل المشكلات الملهمة التي صاحبت عهد الإقطاع وأمرائه و أميراته وفلاحيه انقضت بانقضاء مراحلها .. وهكذا الأعمال الفنية التي تحاول أن تثير المشكلات الاجتماعية ، حتى الإنسانية منها ، لن تكون ، بحكم التطور الاجتماعي الذي لا يتوقف ، إلا مرحلية ..
أفكار واحدة هي التي تحمل في ذاتها سنتي الإنسانية والخلود . إنها الأفكار المنهجية . لأنها تتصل بمنهج (قوانين) حل المشكلات الاجتماعية في أي مكان وفي أي زمان . يتغير مضمونها مرحليا ، ويتغير مضمونها من مكان إلى مكان . ولكنها هي كضابط حركة تبقى أبدا القوانين التي لا تتغير المضامين في الزمان ولا في المكان إلا طبقا لها . ولها يخضع كل مضمون وكل إنسان ..
لهذا ليس غريبا أن كل القمم الخالدات من الإبداع الفني تعبيرات عن أفكار منهجية ، حيث تكون الفكرة المحركة للعمل الفني هي ” كيف ” يستطيع الإنسان أن يحل مشكلاته . والميدان الذي تصول وتجول فيه هذه الأعمال الفنية من بين ميادين الدراما ، هو ميدان التراجيديا أو المأساة حيث يوضع الإنسان في العمل الفني في خضم مشكلات اجتماعية يكون عليه أن يحلها مستخدما كل ملكاته الجدلية . الإدراك . العلم . العمل . و بينما تلعب المضامين الاجتماعية للمشكلات التي يواجهها دورا مساعدا فقط ، تكون بؤرة العمل الفني هي الصراع بين الإنسان الذي يدرك مشكلة ويعرف كيف تحل ويعمل على حلها ، ومع ذلك لا تحل . فيكون منهج ، أو منطق ، أو كيفية ، حل المشكلات الاجتماعية هي الفكرة المحركة للعمل الفني ، أما كل الأحداث والأشخاص والحوار فيستخدم من أجل إثارة  هذه الفكرة أو شد الانتباه إليها .
وقد يحسب البعض أن مثل هذا العمل الفني قليل في التراث الإنساني . بالعكس . إن روائع الأدب العالمي مليئة بنماذج متفوقة من الخلق الفني المقصور على إثارة فكرة محورية منهجية . إن كل الأدب أو الفن المسمى ” تراجيديا ” أو مأساة أدب وفن منهجي بالدرجة الأولى أو بالدرجة الوحيدة . ونموذجه المتفوق ، كان ولا يزال ، الأدب الإغريقي  .
إن المأساة في أدب الإغريق تكاد تدور كلها أو جلها على وضع الإنسان أمام قدرة قاهرة ممثلة في إرادة الآلهة . وهم آلهة لا يتورعون عن الغيرة والحسد والبغض والحب والبطش والكيد بعضهم لبعض وللإنسان أيضاً . ويكون على الإنسان أن يصارع تلك القوى ” الميتافيزيقية ” صراعا ينتهي عادة بانتصار الآلهة وهزيمة الإنسان بالرغم من كل ذكائه ومقدرته على العمل وجهده المبذول . ذلك هو القاسم المشترك في روائع الأدب الإغريقي . تختلف الأحداث والأبطال والصيغ ولكن العمل الفني كله لا يثير إلا قضية واحدة مأساة الإنسان وهو يحاول أن يحل مشكلات حياته بالرغم من تدخل وتداخل ، قوى ” ميتافيزيقية ” أكثر منه قدرة على الفعل وأقل انضباطا منه فيما تفعل . انه يبدو ، بالرغم من إرادته وقدرته ونبل بواعثه فى بعض الأوقات ، وكفاحه البطولي لإنفاذ إرادته في كل الأوقات ، محكوم عليه مقدما بالعجز عن حل مشكلاته  .
فإذا انتقلنا إلى الأدب الأوروبي ” الكلاسيكي “، وحتى ” شكسبير ” نجد أن روائعهم قد استبدلت بآلهة الإغريق مجموعة من المثل والمبادئ الفكرية والأخلاقية المجردة . إنها قدرة الإنسان الجديد . ما إن تبدأ الأحداث في  أية قصة أو مسرحية إلا ويكون الإنسان فيها هو المبادر قتالا أو صراعا أو استكشافا أو حبا .. ولكنه لا يلبث ـ في سياق العمل الفني ـ أن يجد أن إرادته مطوقة بسدود غير منظورة تأخذ من أشخاص العمل الفني أدوات لإحباط جهوده وإفشال إرادته . فيفشل ، إن نموذج الإنسان الذي يحب إنسانا أخر حبا جارفا صادقا بدون أن يتاح لهما فرصة اللقاء أو الزواج فيعوضه العمل الفني عن غايته السوية الصحية ” مجدا ” و “تمجيدا ” لعذابه العذري نموذج ساد في الأدب الأوروبي “الكلاسيكي”. وهو نموذج منهجي . لأن العمل الفني هنا يستمد المجد والتمجيد من الاستجابة السلبية لأفكار ومثل وتقاليد يراها “المنهج ” السوي في حل مشكلة الحب بدلا من حلها عن طريق الاستجابة الطبيعية الصحية بالزواج . أما الرجال ـ الشباب ـ الذين يتقاتلون حتى الموت فى مبارزات ذات طقوس شبه دينية لأن واحدا منهم قد سبق الآخر إلى التقاط ” منديل ” إحدى الآنسات فأهانه فهو نموذج آخر يستبدل بمنهج الحياة منهج الفروسية ” الميتافيزيقية .
وعندما أراد (سرفانتس) أن يسخر من هذا المنهج قدم رائعته ” دون كيشوت ” فكانت منهجية أيضا . كل الأحداث فيها تافهة ، إنما الجوهر العميق الخالد فيها ، أنها تثير مشكلة المنهج الذي تنتهجه الفروسية في حل مشكلة القهر الاجتماعي ، تثيرها بأداة فنية ساخرة . وفى كل قمم أعمال (شكسبير) لا يستطيع أحد أن يعرف أسرار مآسي أبطاله إلا إذا فطن أولا إلى فكرة العقوبة القدرية ذات المسحة الدينية على الأخطاء حتى في النوايا .. وهى فكرة منهجية .. وهكذا ..
 (9)
وقد يحاول بعض المؤلفين أن يعارض المسرح المثالي عامة ، والمسرح الإغريقي خاصة ، الذي يطرح مأساة الإنسان من خلال صراعه ضد أفكار ومبادئ خالدة ، أو قوى (ميتافيزيقية) قادرة ، ليثير في أذهان القراء أو المشاهدين، ويشد انتباههم إلى أنه المصدر الأساسي لمأساة الإنسان ، أي إنسان ، ومجال صراعه هي الظروف الاجتماعية التاريخية التي يولد فيجد نفسه فيها بغير إرادته فهو غير مسئول عنها . ومع ذلك لا يملك من حيث هو إنسان إلا محاولة تغييرها بإرادته لأنه وحده ، دون الموجودات جميعا ، أداة التغيير الإرادي ، مع أن إرادته ذاتها هي نتاج الظروف التاريخية التي يحاول تغييرها ، والتي تحدد هي ذاتها ، لتلك الإرادة المضمون والوسائل والأدوات التي يمكن موضوعيا استعمالها في تغيير الظروف التاريخية. حتم على الإنسان أن يتعامل مع واقع تاريخي لا إرادة له فيه . وحتم على الإنسان أن يغير هذا الواقع التاريخي . وحتم على الإنسان أن يلتزم في تغييره ، حدود معطياته التاريخية العينية . في هذه الحتمية تكمن مأساة الإنسان الذي لم يكف منذ أن وجد على الأرض عن الصراع مع ظروفه التاريخية  .
ليست المأساة إذن هي أن الإنسان تواجهه مجموعة ثابتة من المبادئ المثالية أو مجموعة قادرة من الآلهة كما تحاول أن تقول الأعمال الفنية الموروثة من القرون السابقة وما قبلها منذ عهد الإغريق ولا يزال بعض المعاصرين ، فنانين ونقادا ، يرددونها أو يروجون لها . هذا خطأ. وهو خطأ علمي لا يمس القيمة المتفوقة للإعمال الفنية الرائعة التي كان ذلك الخطأ فكرتها الأساسية المحورية المحركة . والإنسانية نفسها لم تكتشف أنه خطأ إلا حديثا . ولكنه لا يقل خطأ عن المذهب (الميتافيزيقي) الذي يطرح منهج الإلهام مطلق الصحة للإنسان ، أي إنسان . إنه ينكر عنصر المأساة في حركة الحياة ، ذلك العنصر الذي يختلط بحياة كل إنسان . ويبدو الإنسان ، أو بعض الناس ، فى مثل مقدرة الله لكل ما يفعلونه ولو كان غير معقول، حكمة خفية علينا أن نسلم بها ونلتزم ” حد الأدب فلا نسأل عن السبب “…
وليس من شك في أنه عندما يحاول المؤلف أن يأخذ من العمل الفني أداة لإثارة مثل هذه الفكرة المنهجية ، يكون قد حرك نشاطه حدث اجتماعي منهجي أيضا . ففد قلنا أن المضامين التي تحرك النشاط الفني هي دائما مضامين اجتماعية . و لكن ما دامت الفكرة الأساسية المحورية في العمل الفني فكرة منهجية تحيط بها وتساندها مجموعة من الأفكار، فلابد للناقد، بعد أن يدرك الفكرة المحورية ” في العمل الفني ” ، ويكتشف أنها منهجية ، أن يبحث في الأحداث والمضامين الاجتماعية عن الحدث الأساسي الذي أراد المؤلف أن يشد الانتباه إليه ، فسيبدو أنه أيضا حدث يتصل بمنهج الأحداث أو منهج معالجتها (تحدى قدرة الآلهة ومخالفة إرادتها إن كان العمل الفني إغريقيا . الثورة على المبادئ والمثل والتقاليد السائدة إن كان العمل الفني أوروبيا (كلاسيكيا) .. محاولة ضبط النزوع الفردي إلى الحرية إذا كان المؤلف وجودي ..! أو ، أخيرا تقييم ومحاكمة الإحداث والأشخاص خارج نطاق ظروفها التاريخية . تقييمها سلبيا خارج نطاق ظروفها التاريخية . أو تقييمها إيجابيا خارج نطاق ظروفها التاريخية. لا يهم فليس من شأن العمل الفني الذي يطمح إلى إثارة قضية منهجية ، لأن قضية منهجية قد أثارته ، أن يهاجم أو يدافع ، طبقا للمنهج الذي يريد أن يثير فى أذهان الناس فكرة إدانته    
(10)
وأخيرا ، فتلك بعض قواعد وأسس علم النقد الفني . وهى متاحة للمعرفة بدون حاجة إلى التخصص ، ومتاحة لمعرفة كل الراغبين جديا في معرفتها بدون حاجة إلى أن يكونوا فنانين . وعندما يحاول كل مؤلف أن يقيم بناء على أساسها الذي يعرفه ويلتزمه تتوقف مدى إجادته البناء على مدى خبرته بصنعة الفن ، هذا إذا كانت قد توافرت له ـ من قبل ـ الموهبة الفنية . والمؤلفون المبتدئون ، أو غير الواثقين بخبرتهم في البناء الفني ، يكونون ـ عادة ـ حريصين على احترام ومراعاة قواعد وأسس علم النقد الفني ربما خوفا من النقاد. إذ لا ” سمعة ” فنية لهم يحكمون بها ” ويكلفتون ” اعتمادا على أن كل عمل ينتجه فنان ” كبير ” هو عمل فني كبير .
ولكنهم ، مثل غيرهم ، قد يوفقون وقد لا يوفقون . بل إن بعض المجيدين من كبار الفنانين قد لا يستوي إنتاجهم الفني قيمة . لأنهم بشر. ولكل إنسان هفوة كما يقولون . وهل يمكن لأي عالم بالفن وأصوله ، متابع للإنتاج المتفوق للكاتب الفنان نجيب محفوظ ، أن ينسب إليه ” روايته ” الهابطة ” فنيا التي تحمل عنوان ” الكرنك ” إذا أخفى عنه اسم المؤلف ؟.. مستحيل . وعلى النقاد في كل حالة ، أن يأخذوا العمل مأخذا موضوعا ، بدون خلفية ذاتية . بدون ذواتهم وبدون ذوات المؤلف ، وأن يبذلوا الجهد الكافي لمعرفة نصيبه من الجودة الفنية طبقا لمقاييس علم ذي قواعد وأسس  موضوعية  .

أليس كذلك ؟   

                       ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة


                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق