الإرادة
الوطنية والإرادة الأمريكية ..
د.عصمت
سيف الدولة .
من مشكلات السياسة
التي ظهرت منذ بداية الخمسينات من هذا القرن ، مشكلة مدى تحقيق حرية الإرادة
الوطنية في القرارات التي تصدرها السلطة في أي دولة ..
فمن قبل ، وعلى
وجه خاص ، قبل الحرب العالمية الأخيرة ، لم يكن إسناد القرارات التي تصدرها السلطة
في أي دولة الى الإرادة الوطنية ، أو عدم إسنادها ، يثير أي لبس . كان العالم
منقسما الى دول مستعمرة ودول خاضعة للاستعمار . وكانت الدول المستعمرة تمارس
سيطرتها على الدول الخاضعة ممارسة ظاهرة ، وتنفذ إرادتها تحت حماية القوات
العسكرية المرابطة في ارض الدول الخاضعة . كان ذلك عصر الاستعمار القديم وأسلوبه
المكشوف ، ولم يكن احد يخطئ في معرفة صاحب الإرادة في صدور أو نفاذ أي قرار . فمن
حيث الشكل كان صدور القرار الذي يبدأ بزيارة من ممثل الدولة المستعمرة الى الحاكم
المحلي لتبليغه مضمون القرار الذي يريد أن يصدر . وقد يطلبه كتابة ، وقد يأخذ شكل
البلاغ العلني أو حتى الإنذار المصحوب بتهديد باستعمال القوة كما حدث في مصر في
فبراير 1942 .. أما من حيث المضمون فقد كانت القرارات كلها ذات مضامين تخدم مصالح
المستعمرين بالدرجة الأولى ..
ثم جاءت الحرب
العالمية الثانية وانتهت تاركة أثرين خطيرين :
ـ أولهما أن الدول
الاستعمارية التقليدية قد أنهكتها الحرب ماليا واقتصاديا وبشريا ، وأصبحت في أشد
الحاجة الى توفير نفقات الاحتلال المباشر ومصروفات إنشاء القواعد العسكرية أو
المحافظة عليها ، فكان لا بد من أن تنهي الوجود المادي الظاهر للاستعمار في الدول
الخاضعة له ..
ـ ثانيهما خروج
الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب اقوى عسكريا وماليا واقتصاديا من وقت دخولها
، وتوليها قيادة المعسكر الاستعماري بدلا من القوى التقليدية المنهكة ..
وأدّى هذان
الأثران الى تغير في شكل الاستعمار الرأسمالي .. فهو موجود لكنه في أشكال خفية ،
وتتولى الولايات المتحدة الحفاظ عليه ، ولكن بأساليب غير مباشرة . هذا التغيير أدى
بدوره الى تغيير في الشكل السياسي الذي كانت تعيش فيه المستعمرات ، فقد كسبت تلك
المستعمرات ـ الكثير منها أو اغلبها ـ التحرر من التبعية الظاهرة ، فكسبت
الاستقلال الظاهر .. أعني جلت عن أرضها الجيوش المحتلة ، وتشكلت فيها حكومات
" وطنية " ، واختارت أعلامها ، وأنشأت علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى
، وتحصلت على اعتراف الدول الأخرى بذلك الاستقلال ، وحظيت بمقاعدها في هيئة الأمم
المتحدة .. وأصبح الاستقلال الوطني في كل شكلياته الدولية والدستورية حقيقة معترفا
بها .. وبه انتهى أيضا عهد إملاء الإرادة على السلطات الوطنية ، وأصبحت كل
القرارات التي تصدرها السلطة في أية دولة " مستقلة " تستند من حيث الشكل
الى الإرادة الوطنية ..
بقيت مشكلة
المضمون ..
مجموعة كبيرة من
الدول التي " استقلت " شكلا بقيت خاضعة " موضوعا " للاستعمار
في شكله الجديد . والشكل الجديد هو التبعية الاقتصادية والمالية والثقافية . فمع
بقاء المصالح الاستعمارية بالرغم من الاستقلال الشكلي ، أصبحت الإرادة الوطنية في
مضمونها محكومة بما يتفق مع الحفاظ وتنمية
تلك المصالح ، وانقلبت السلطة الوطنية الى حارس وطني للاستعمار بدلا من الجيوش
التي جلت عن ارض الوطن .. وكان هذا أقصى ما يتفق مع إرادة المستعمرين .. حيث تتحمل
الدول المستقلة تكاليف وأعباء الحفاظ وتنمية مصالحهم ، فتحمل الاستعمار اقل تكلفة
وبالتالي تزيد من معدلات الربح ..
كيف ؟
بـ " السوبرنطيقا
" . علم التحكم غير المباشر . وهو علم نما ونضج في ممارسات الحرب العالمية
الثانية ، ثم امتد بعدها ليطبق بنجاح في المجالات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية ، وتطبقه الولايات المتحدة بمهارة في سياستها الدولية .
يبدأ بالتخطيط
بعيد المدى واصطناع وقائع في داخل الدول المعنية أو خارجها ، وعلى مستويات فردية
ومستويات عامة .. ليصلوا في النهاية الى أن " تريد " السلطة الوطنية ـ
بكامل استقلالها وحريتها في الاختيار ـ
ذاك الذي يريده المستعمرون .. وبينما تكون عجلة الدولة تحت قيادتها الوطنية
منطلقة على الطريق الذي اختارته ، تتفادى مخاطره ، وتلف مع منحنياته وهي حريصة
تماما على سلامة القيادة ، مفتحة العينين حتى آخرهما ، فخورة بإرادتها الحرة ، تجد
نفسها في النهاية في الموقع الذي كان يراد لها أن تصل اليه من قبل .. فمن بين كل
الطرق عبد لها طريق بعينه .. وعلى الطريق وضعت لها علامات : " من أجل سلامتك
، هدئ السرعة " .. " أمامك منحني خطير ".. " الاتجاه الى اليمين
" .. " الطريق الجانبي مغلق ".. الخ .. وهي التي اختارت ... وهي
التي سارت ... وهي التي احتاطت ... وهي التي وصلت ... ولكن الى حيث يراد لها ..
نستطيع ان نضرب
مما يدور في الوطن العربي حاليا عشرات الأمثلة من دول وقادة وساسة وأحزاب وأفراد
وصحف .. كلها تتحرك وهي في كامل وعيها ، ولكنها لا تنفذ في الواقع إلا ما يراد لها
، ولا تقف إلا الموقف الذي أوصلتها إليه قوى عاتية حريصة على ألا تمس من قريب أو
من بعيد شعور الاعتزاز باستقلال الإرادة الوطنية ، الاستقلال الشكلي ، ما دامت تلك
الإرادة تحقق لها ما تريد ..
هل هي عمالة ؟
ليس بالضرورة . ان
العملاء الذين ينشطون بناء على تعليمات صادرة إليهم من الولايات المتحدة الأمريكية
في مقابل أجور معلومة كثيرون في الوطن العربي ، ولكن ليس كل من ينشط لتحقيق ما
تريده الولايات المتحدة عميلا لها . انه فقط ضحية عجز كفاءته عن أدراك أصول ومخاطر
لعبة السياسة الدولية في عصر " السوبرنطيقا " .. وحتى العملاء الصريحون
لم يعودوا يعملون بناء على عقود ثنائية الأطراف معقودة مع مخابرات الولايات
المتحدة الأمريكية . يكفي بألف طريق وطرق غير مباشرة ، أن يستدرج الى نشاط اقتصادي
أو مالي كشريك أو سمسار أو وكيل لأحدى المؤسسات الرأسمالية في أوروبا أو أمريكا
وأن ينجح .. أي أن يمكنوه من تحقيق مزيد من الأرباح ، ليجد نفسه وقد " اقتنع
" بأن المصلحة الوطنية لا تتحقق الا بالاقتصاد الحر ، ثم بالتعامل مع العالم
الغربي ، ثم مع أقوى دول العالم الغربي أمريكا ، ثم ـ من أجل المصلحة الوطنية ـ لا
بد من الحفاظ على مصالح أمريكا .. فيصبح " عميلا " موضوعيا بالرغم من
أنه لا يقبض أجر عمالة ، ولم يمل عليه أحد آراء ، ولم يحدد له أحد موقفه تحديدا
مباشرا ..
كيف يمكن الافلات
..؟
بفهم الأصول ثم رد
الفروع الى أصولها ..
من أجل هذا يمكن
التجاوز عما تعلنه الدول العربية ، كل الدول العربية ، عن بواعث مواقفها من حرب
الخليج .. نعني بالتجاوز عدم التوقف عندها للتأكد من حقيقتها .. ما جدوى التوقف
عند ما أعلنه العراق من أنه قد اجتاح الكويت تلبية لنداء حكومة الكويت الحرة .. أو
ما يعود اليه من أن الكويت جزء من العراق بعد أن أبرم حزب البعث الحاكم نفسه
اتفاقية الحدود مع الكويت عام 1963 . وما جدوى التوقف عند ما أعلنته دول عربية من
أنها تدافع عن السعودية ، ومع ذلك لم تسحب قواتها بعد ان حشدت الولايات المتحدة
الأمريكية من القوات ما يغني السعودية عن أي دفاع عربي .. أو ما أعلنته دول عربية
أخرى من أنها تستهدف تحرير الكويت وهي لم ترفع إصبعا دفاعا عن فلسطين أو لبنان أو
الجولان او الضفة الغربية أو غزة ..
التوقف هنا وهناك
مضيعة للوقت ..
أجدى من هذا وذاك
التركيز على صاحب المصلحة الأساسية في هذه الحرب . ثم منذ متى وهو يحضر لها المسرح
العربي بأن يخلق بهدوء وخفية وبأسلوب غير مباشر " سوبرنطيقا " الظروف
التي تحيطه في حربه ، بشركاء ، وحلفاء ، اختار كل منهم موقفه بملء إرادته الوطنية
الحرة ..
كانت بداية
التحضير للحرب القائمة الآن أثناء حرب 1973 .
فقد اتخذت الدول العربية المنتجة للنفط قرارا ـ يتناساه كثير من كتاب الصحف الآن ـ
بتخفيض الانتاج بنسبة 5 % وحضر بيع البترول
العربي للولايات المتحدة الأمريكية وهولندا الى حين حل مشكلة فلسطين ، فتوالت
دلالات التحضير للحرب القائمة الآن وأدلتها باختصار :
1) 7 أكتوبر 1974 نشرت مجلة النيوزويك
الأمريكية مقالا بعنوان " التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه " تناول
فكرة استعمال القوة العسكرية الأمريكية للاستيلاء على منابع النفط العربي ..
2) 7 نوفمبر 1974 نشرت صحيفة الواشنطن بوست
الأمريكية مقالا عن استيلاء الأمريكيين على آبار النفط في ليبيا واستيلاء اسرائيل
على آبار النفط في الكويت ..
3) 11 نوفمبر 1974 نشرت
جريدة نيولادر مقالا بعنوان " التفكير في حرب نفطية " قالت فيه اعتبار
الاستيلاء على النفط العربي واجبا وطنيا ضروريا للدفاع عن الغرب ..
4) 7 يناير 1975 نشرت نيويورك تايمز للصهيوني هنري
كيسنجر قال فيها إن العمل العسكري لحل مشكلة النفط الذي كان في الماضي حديث
صالونات قد أصبح الآن موضع دراسة جادة ..
5) 21 يناير 1975 أعلن شيلزنجر وزير الدفاع الأمريكي أن على الولايات
المتحدة أن تلجأ الى القوة في حالة احتمال اختناق اقتصادي للاستيلاء على النفط
العربي .. وسئل الرئيس الأمريكي جيرالد فورد عما إذا كان هذا الاستيلاء يعتبر أمرا
أخلاقيا ، فقال ان التاريخ البشري ملئ بالحروب من أجل الموارد البشرية .
6) في عدد يناير 1975 من مجلة كومنتري الأمريكية
كتب روبرت تاكر مستشار رونالد ريجان أن عدم التدخل للاستيلاء على حقول البترول
العربية سيؤدي الى كارثة اقتصادية وسياسية شبيهة في العديد من نواحيها بكارثة
الثلاثينات ..
( ملحوظة : تمر
الولايات المتحدة الأمريكية منذ بضع سنوات بمقدمات كارثة اقتصادية ) .
ويشرح مستشار
الرئيس الأمريكي أسلوب ونطاق التدخل فقال بما ان التدخل مستحيل في كل مكان فان إمكان
التدخل يعتمد على وجود رقعة محدودة نسبيا تحتوي على مقدار كاف من إنتاج النفط
العالمي ومن الاحتياطي المعروف ، وذلك لضمان استخدام السيطرة على تلك الرقعة في
كسر طوق الأسعار العالية وتحطيم قلب الاحتكار سياسيا واقتصاديا ، وأن هذه الشروط
تتوفر في الكويت .
7) في فبراير 1975 نشرت
السنداي تايمز تقريرا قالت فيه إن مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة
الأمريكية أعد دراسة تفصيلية لخطة سرية للغاية وضعتها وزارة الدفاع أطلقت عليها
الاسم الشفري " الخيار الرابع " لغزو حقول النفط السعودية في حالة نشوب
حرب أخرى في الشرق الأوسط .
8) أول سبتمبر 1975 انتهت السياسة الأمريكية بإبعاد
مصر عن الدول العربية " خطوة خطوة " قبل موعد انعقاد المؤتمر الدولي
المحدد له ديسمبر 1975 لحل جماعي للنزاع ، وذلك بتوقيع اتفاقية بين مصر منفردة
وبين الدولة الصهيونية تضمنت إنهاء الحرب والاعتراف .. وكان خروج مصر من الحلف
العربي أول تمهيد فعلي لتهيئة الأرض العربية للغزو الأمريكي لمنطقة آبار البترول
القائم حاليا ..
9) 26 مارس 1979
اتفاق كامب ديفد بين مصر والدولة الصهيونية وإغراء مصر بإغراقها بالمساعدات
المالية والفنية والعسكرية التي تشل مقدرتها في المستقبل على اتخاذ أي موقف معاد
لأهداف الولايات المتحدة الأمريكية ..
10) 1980 تشجيع
العراق وإيران على أن يدخلا في حرب تنهك وتستهلك قوتهما معا لإخراجهما معا ـ وهما
منتجان رئيسيان للبترول ـ من التدخل لعرقلة أو إحباط استيلاء الولايات المتحدة على
آبار النفط في الخليج ..
11) 23 يناير 1980
إعلان الرئيس الأمريكي كارتر بأن النفط العربي يمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة
الأمريكية والبدء في تشكيل قوة للتدخل السريع والحصول على تسهيلات عسكرية في دول
المنطقة وإعلان واينبرغر وزير الدفاع تشكيلها وتشكيل قياداتها في أول يناير 1983
وسميت بالقيادة المركزية ..
12) تقوم الكويت
منفردة بمخالفة قواعد الإنتاج المتفق عليها بين أعضاء الأوبيك ، فتضرر العراق ..
لا تجدي محاولات الاتفاق ... تهاجم العراق الكويت .. فتستدعي السعودية قوات التدخل
السريع ... الخ .. فتأتي القوات الأمريكية ..
نسأل الآن : لماذا
..؟
الجواب واضح ..
لتحقيق الهدف الذي تحدد خلال حرب 1973 .. الاستيلاء على
آبار النفط العربي . هذا هو جذر الموقف . كل الباقي فروع معلقة به وتتغذى منه ..
وكما هي طبيعة الجذور تبقى مطمورة ساكنة ، بينما لا تكف الفروع عن التراقص في
الهواء فخورة بأوراقها الخضراء وبأزهارها الملونة تظن أنها ذوات استقلال ، ولا تكف عن الحفيف وجذب انتباه المارة .. لا بأس .
المهم ألا تلهينا عن الجذور . إن أردنا أن نطهر أرضنا ، فلنفلت من إغراء متابعة
الفروع والتوقف عندها ، ولنجتث الجذور الأمريكية في الوطن العربي دفاعا عن الثروة
النفطية العربية وحفاظا لحرية الشعب العربي وسلامته وسلامه ، ولن تقوى على
اجتثاثها إلا الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي بالأسلوب المناسب .. أي
أسلوب مناسب ..
هذا هو الحل .
الشعب المصرية العدد
584 بتاريخ 5 فبراير 1991 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق