حديث عن الاقليات ..
(1) .
في الكل الشامل للطبيعة والانسان يتحول كل شئ وفقا لقوانينه النوعية ،
ويتميز الانسان بالجدل ، قانونا نوعيا خاصا بتطوّره .. ففي الانسان يجتمع الماضي (
الظروف ) والمستقبل ( الحاجة الى التحرّر من قيود الماضي ) ، فيقوم الصراع في
الانسان نفسه بين واقعه الذي يريد الامتدالد تلقائيا في المستقبل ، وبين حاجاته
المتجددة ابدا ، وتدفعه باستمرار لاستهداف حريته .. وهكذا ينشأ ما يعبر عنه بالمشكلة
التي تعيق تطوّره ، فلا يشعر بالراحة الا بعد ايجاد الحلول المناسبة لها أولا ، ثم
بتنفيذ تلك الحلول ثانيا .. واثر ذلك قد يصادف الانسان حظه من النجاح او الفشل
طبقا لمقدرته الجدلية الخاصة ، في ادراك المشكلات ادراكا صحيحا ، وفي تصور الحلول
تصورا ملائما لواقعه ، ثم في التزامه بتنفيذ تلك الحلول على الوجه الاكمل والمناسب
لحل المشكلة ..
ولما كان الانسان الفرد غير موجود الا في مجتمع ، فان كل مشكلة هي بالضرورة
مشكلة ذات أبعاد اجتماعية .. متصلة بالآخرين ، وباحتياجاتهم ، ومصيرهم أحيانا ،
طبقا لنوع أي مشكلة وأهميتها .. (منهج جدل الانسان ـ عصمت سيف الدولة ) .
هكذا .. بمنهج واضح ، نستطيع الوصول
الى رؤية واضحة ..
فمشكلة الأقليات ، لا يمكن فهمها الا كمشكلة اجتماعية ذات صلة بواقع المجتمع ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، وليس كمشكلة حريات ، أو كمشكلة تقرير مصير، لمجرد ان جماعة أو جزء من جماعة داخل الأمة يريد الانفصال عن كيانها التاريخي ، متوهّما أن مصيره مستقلا عن مصير كل الجماعات الموجودة في ذلك الكيان ..
ولهذا تعتبر مشكلة
" الاقليات " من أكثر المشاكل تعقيدا ، وهي في علاقة مباشرة بتلك
الجوانب المهمّة التي يتجاهلها أو يغفل عنها الحقوقيون المناصرون للمشكلة ، حينما تثار
عندهم بشكل مغـلوط ، فيسارع البعض منهم
الى تاييدها في المطلق ، ويبالغ في اظهار التعاطف مع النشطاء من ابنائها متصورين
انهم يفعلون ذلك مناصرة منهم للديمقراطية وحقوق الانسان الخ ..
والواقع ان هذه المشكلة
ـ وفي الوطن العربي بالذات ـ هي التي تقدّم أكبر دليل على وحدة الامة العـربية
التي تظهر أكثر استقرارا في الداخل في حين تظهر تلك المشكلات بالاساس في أطرافها أين
تكون امكانية الاختلاط والتفاعل والتجاذبات مع الشعوب الاخرى قوية ، وبالخصوص في ظروف
عدم الاستقرار كالتي تعيشها أمتنا ، وفي ظل التدخل الخارجي الرّهيب حيث لا تنقطع
محاولات التاثير في العديد من الجماعات العرقية والدينية التي يمكن ان تتلقى كثيرا
من الوعود من تلك الجهات بنيل مكاسب مادية ومعـنوية قد لا يكون لعامة الناس من تلك
الجماعات دراية او علم بها .. الى جانب غياب الديمقراطية والمساواة في ظل أنظمة
الاستبداد والاقليمية ..
ثم ان هذه المشكلة ليست خاصة بالمجتمع
العربي وحده ، فجميع المجتمعات فيها ثراء وتنوع عرقي وديني ومذهبي لكنها تبدو أكثر
استقرارا ، لان كل مكوانت المجتمع تتفاعل دون حواجز ، ودون شعور بالنقص أو بهيمنة فئة
على اخرى ..
وفي العموم فان"
مشكلة الاقليات " ـ ان وجدت في أي مجتمع ـ فانها لا تحل دائما بالانفصال ، بل
بالمساواة في ظل مجتمع تتوفر فيه العدالة الاجتماعية الكافية والديمقراطية السليمة
التي يستطيع في ظلها أي مواطن ان يعـبـر عن ذاته دون شعور بالغـربة او بالرغبة في الاستغـناء عن الآخرين ..
أما اذا كانت
المشكلة مفتعلة ، فانها لا تظهر عادة الا داخل المجتمعات الضعـيفة التي يكون أمنها
القومي مستباحا ، وفي ظل الانظمة الديكتاتورية التي يتحوّل فيها الاستبداد الى قهر
لكل فئات الشعب ، بحيث لا يبقى لاي فئة منها من وسيلة لمواجهة هذا الغول ، الا
الاحتماء بعصبيتها الضيقة سواء العرقية او الدينية او المذهبية وغيرها .. وهو يحدث
ايضا في المجتمعات المتخلفة التي يظهر فيها اهتزاز الثقة بالنفس لدى أبنائها بسبب التخلف الحضاري الذي تشهده ، لان
تقدم الامم وقدرتها على تحقيق نهضة علمية وحضارية وتألقها في مجالات عديدة يعـزز شعور
ابنائها بالانتماء ، فتضعـف في المقابل تلك النـزعات الانفصالية لتحل محلها
تلقائيا نزعة الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء الى تلك الامة العظيمة في نظر
ابنائها ..
(2) .
من الواضح أن واقع التخلف والاستبداد الذي يطغى على الأمة أحيانا ، ينعكس
سلبيا على شعور الافراد والجماعات داخل
المجتمع ، وقد يؤدي واقع التخلف القومي بالنسبة للبعض الى التفاني أكثر في خدمة
المجتمع ، كما يمكن ان يؤدي ذلك الواقع الى الشعور بالاحباط ، واليأس لدى البعض
الآخر ، وهو ما ينعكس سلبيا في محاولات الهروب والافلات بالمصير الخاص عن المصير
القومي باشكال متعددة ومنها مشكلة الاقليات .. غير أن المسألة ـ في هذه الحالة ـ لا
تتعلق بالاهواء والعواطف ، ولا تتوقف عندها ، بل ترتبط مباشرة بطبيعة المشكلة وتأثيرها على مصير المجتمع ومستقبله
بشكل عام .. وهو ما يحيلنا بالضرورة الى التعامل مع الوجود القومي كواقع موضوعي
قائم بالفعل ، ثم كوعاء يجمع كل مكونات الامة في منزلة واحدة ، لاعادة الثقة ـ
أولا ـ لكثير من أبنائها الذين يتصوّرون ان الانتماء القومي لا يشملهم ، أو أنه قد
ألغى وجودهم بهيمنة طرف على أطراف اخرى ..
ثم لتصحيح الاعتقاد السائد ـ ثانيا ـ بان الشعور بالظلم سببه أنهم اقلية
مضطهدة داخل المجتمع .. وهو واقع احيانا ليس له من حل من منظور قومي سوى العمل على
النهوض بالمجتمع ، وتحقيق المساواة بين جميع ابنائه .. اذ أن ظهور المجتمع القومي
معناه أن وجوده لم يكن اعتباطا أو صدفة ، بل هو نتيجة معاناة طويلة عاشها الناس
على مدى قرون ، وهم يبحثون عن حياة أفضل ، أثمرت في النهاية تلك الثمرة التي
نسميها المجتمع القومي .. ومعناه أيضا أن كل الجماعات الموجودة في مجتمعنا قد
ساهمت جميعا خلال تفاعلها في بناء أسس ذلك المجتمع بكل معالمه الحضارية وخصوصياته
القومية خلال تلك الحقب لتكون عنوان تميزه عن بقية الشعوب ، وقد كان اكبر مظاهر
هذا التميز على الاطلاق في مجتمعنا ، هو ذلك البناء المشترك للحضارة العربية
الاسلامية التي صارت ملكا جماعيا لكل
ابناء المجتمع الواحد ، بقطع النظر عن
الاصول العرقية والدينية لاي جماعة .. لان المجتمع القومي يقوم بالاساس على تجاوز
تلك العلاقات الضيقة التي عرفها الناس خلال الحقب السابقة ، كما أنه لا يكتمل
وجودا الا بتلك المكونات التي استقرت على ارض مشتركة ، و تفاعلت تفاعلا حرا على
مدى قرون طويلة ، فكان اسهامها على ذلك النحو سببا في انتاج تلك الحصيلة النهائية
المشتركة لما نسميه الحضارة والتاريخ والثقافة واللغة ... أي لتلك المظاهر التي
تعبر عن الانتماء ، والذي يستطيع أي فرد ان يختبر أثرها في شخصيته ، أوفي شخصية من
حوله من خلال ما يعبر عنه كل فرد في المجتمع بصفة تلقائية .. ثم ان الاعتقاد
الخاطئ بحصر الانتماء في الحضارات القبلية القديمة دون اعتبار لما اضيف اليه خلال
مراحل التطور الطويلة ، من نمو واضافة ، قد يكون في غالب الاحيان سببه بعض الخلط
بين الانتماء القومي والانتماء القبلي حيث يعتقد البعض ان الحضارات القديمة
كالفرعونية والقرطاجية والبربرية وغيرها ، هي حضارات قومية وهو غير صحيح ، والدليل
على ذلك ان تلك الحضارات لم يبق منها الا ما نراه هنا وهناك من معالم تاريخية جامدة
، لا يوجد لها اثر حي في الواقع سوى ما نراه من تراث معماري بعضه اندثر وبعضه
الآخر اصابه الخراب ، في حين لا تزال معالم الحضارة العر بية الاسلامية حية في
حياة الناس ، لغة وفنا وسلوك يومي لا يقدر على التخلص منه حتى من ينكر ذلك
الانتماء .. وتلك هي المعايير الصحيحة التي
نحكم من خلالها على هوية المجتمع بشكل عام ، دون أن نحاول الغاء اي خصوصية ، أو
تمايز أوتنوع أواختلاف داخله ، على ان لا يقع فرض أي منها في مواجهة الهوية
الجامعة والخصوصيات العامة للمجتمع ..
وهكذا بالرغم ممّا يبذله مناصرو تلك الحضارات من جهد لاحياء عاداتهم
القبلية ولغتهم قصد التخلص من انتمائهم القومي ،
الا أن ذلك كله يبدو محاولات فاشلة لان ما صنعه التاريخ خلال قرون طويلة ، لا يمكن ان يُهدم بمجرد رغبة
البعض في الحنين الى الماضي طلبا للعـزلة أو للانسلاخ عن المجتمع القومي ..
فالتاريخ لا يعود الى الوراء أبدا ..
وفي الاخيـر لا
بد ان يعـرف ابناء امتـنا من أي جماعة تـنكر انتماءها الحضاري للامة العربية ، بان
العام لا يلغي الخاص ، كما أن الكل لا يلغي الجزء بل يشمله ويغنيه ، لذلك فان
الشعور بالانتماء الى المجتمع القومي لا يحرم أي انسان من الشعور بالانتماء الى ما
دون ذلك المستوى كالاسرة ، والقبيلة ، والمدينة ، والقرية الخ .. كما لا يمنعه من
التعبير عن ذلك الانتماء من خلال احياء العادات والتقاليد الخاصة ، بكل ما تشمله
من لباس وأنواع الأطعمة واللغـة القبلية وغيرها .. بل أنه يمنح أبناء المجتمع
القومي جميعا امكانية الاحساس والتعبير عن ذلك الشعور الانساني العظيم ، بأن ماضي
الامة هو ماضي كل أبنائها المنتمين اليها في كل العصور، بحكم وحدة الوجود والمصير
معا .. لتكون بذلك أي جماعة جزءا من الامة
، كما يكون كل ماضيها وتاريخها الخاص ، تاريخا للأمة جمعاء .. فنحن كنعانيين واشوريين وفنيقيين وفراعنة
وقرطاجيين وبربر واكراد .. وعرب ايضا .. وهذا هو الشعور الصحيح بالانتماء للمجتمع
القومي الذي يجب النظر اليه ككل متكامل ، يمثل كل شئ فيه ملك مشترك لجميع ابنائه ،
ولذلك فلا معنى للوجود القومي وتطوّره ، الا بتوافر الاستقرار والعدالة والمساواة
لجميع أبنائه ..
( القدس عدد 213 ـ 214 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق