الاسلام بين العروبة والقومية .
د.عصمت سيف الدولة .
(1)
أريد أن أتدخل فيما نشر من حوار حول العروبة والقومية بين الشيخ محمد حسين فضل الله وبين متحدث باسم جريدة الخليج ، ولكني لست واثقا من أني سأجيد التدخل ، وذلك لأسباب عدة . أولها وأهمها أن التدخل في حوار انقطع هو مشاركة فيه تتم في غيبة المتحاورين ، هذه الغيبة قمينة بان توهم المشارك المتأخر بأنه صاحب الكلمة الأخيرة . فيظلم نفسه حينما لا يعصمها من ظلم صاحبي الكلمات الأولى ولا يجد منهما حاضرا يردّه عن الظلم في الحالتين . وقد يكون المنزلق الى الظلم مجرد عجز المحاور الأخير عن فهم دلالات الألفاظ المقروءة بعيدا عن وسائل التعبير المساعدة في حوار الحاضرين حيث قد تكون الإشارة أوضح دلالة من العبارة . والواقع أنني قد وجدت كثيرا من الأسئلة والأجوبة المنشورة غامضة الدلالة ألفاظا وغائمة الدلالة مضمونا . فلا الأسئلة تريد أن تفصح عما يراد السؤال عنه محددا ، ولا الأجوبة تفصح عما يريده المجيب تحديدا . انه حوار أصدقاء ، او كحوار الأصدقاء ذوي الألفة بأفكارهم ومواقفهم حيث تكفي الهمهمات اللفظية وأنصاف الجمل والأفعال مجهولة الفاعل ليعرفوا جميعا فيم يتحاورون .
ثم يرد سبب مانع للتدخل وهو غير منكور . ذلك هو الاختلاف بين المتحاورين في استعمال الكلمات ذاتها للدلالة على مضامين مختلفة . وقد نبه الشيخ فضل الله إلى متاعب هذا الأسلوب حين رد على أكثر الأسئلة فصاحة بقوله : ” لسنا متفقين على المصطلح ، وعندما لا نتفق على المصطلح عند ذلك أنت تفهم الكلمة بمعنى فتثبته او تنفيه ، وانا افهم الكلمة بمعنى آخر فتصبح أمام كلمتين متضادتين . اللغة العربية تمتاز بوجود اللفظ المشترك وهو اللفظ الواحد لأكثر من معنى . مثلا كلمة عين تطلق على الباصرة والنابعة . هذا اللفظ المشترك الذي يحمل أكثر من معنى لا يمكن إدراك ما تريد منه الا بقرينة تدل عليه وإلا يكون مجملا ومبهما . المسألة أن كلمة القومية او كلمة العروبة ، مرة تطلقها كحركة ومرة تطلقها كهوية ، فيختلط عند ذلك جانب الهوية بجانب الحركة بجانب المضمون السياسي … الخ ” كل هذا وأكثر منه كان مقدمة لرد متوقع على سؤال عن تضمين جماعة ” الإخوان المسلمين ” برنامجهم الدعوة الى الوحدة العربية .. ثم لم يرد الرد .
هذا المثال المتكرر في الحوار يجعل من الاختلاف في دلالة الألفاظ مصدرا لمتاعب في الفهم المتبادل على مستويين . مستوى عدم إدراك الدلالة المقصودة اللازمة للجواب . ومستوى قصد عدم إدراك الدلالة حتى لا يكون الجواب ملزما . وكلها من فنون الحوار بين الأذكياء خاصة ، اذ يجدون فيها متعة الرياضة الفكرية .. وهي ، ككل رياضة ممتعة ، لها وقتها المناسب وظروفها المواتية . لكن ، لسوء حظ هواة تلك الرياضة ، رياضة اللعب بدلالات الكلمات ، أن هموم الأمة العربية لا تسمح لأبنائها الجادين بمتعة التفنن الذكي في الحوار الفكري خاصة وان من بين أبناء هذه الأمة شبابا يبذلون دماءهم الزكية دفاعا عن أمتهم في جنوب لبنان ، ويضيئون من أرواحهم الطاهرة مصابيح أمل في ظلمة اليأس المدلهمة . فيصبح فرضا علينا ، نحن الذين ندعوهم إلى القتال ولا نقاتل ، ونفتيهم بما يحبب إليهم الموت ولا نموت ، نحن المشايخ والشيوخ ، فرض علينا دينيا وقوميا وأخلاقيا إن نؤجل رياضة الكلمات المتشابهات إلى ما بعد النصر حتى لا يحيط بمسيرة الشهداء أي قدر من الشك في صدق المنطلقات ونبل الغايات وسلامة الأسلوب .
لهذا بالذات ، لبقاء سمو الاستشهاد فوق نطاق الاجتهاد نتدخل في هذا الحوار .
لقد كان جميلا من الشيخ فضل الله قوله : ” مثلا قد يدّعى احد انه في حالة إسلامية وهو يسرق بنك .. يسرق من خلال الإسلام ” . إذا كان هذا يحدث وللإسلام حرمته المقدسة فما بالنا بالعربية والقومية والوحدة .. الخ . إن بعضهم ارتكب ويرتكب جرائم الخيانة العظمى لامته العربية وهو يدعى انه في ” حالة قومية ” ، فلندع ، إذن ، الشكوى ممن يزيفون الكلمات النبيلة أصلا ، او يفرغونها من مضامينها فتصبح كلاما فارغا . ندعها فلا نتخذها حجة لنا ولا نقبلها حجة علينا . العبرة بما نقوله نحن . المهم ما نعنيه بالعروبة وما نعنيه بالقومية نحن . المهم من نحن ؟
تفضل الشيخ فضل الله فأجاب عن نفسه فقال : ” إنني من عائلة فضل الله من بلدة عيناتا من جنوب لبنان” .( بيت جودة . هكذا يقولون في صعيد مصر تحية لمن يقدم نفسه منسوبا إلى عائلته أو قريته . يعنون ـ طبعا ـ انه كريم من بيت كريم . والكرم قيمة عربية فصلحت تحية وبها نحييه ) . وبعد ؟ اعتقد أن كثيرين من عائلة فضل الله ، من بلدة عيناتا ، من جنوب لبنان ، لا يتفقون مع الشيخ فضل الله في موقفه من العروبة ومن القومية . إن هذا يعنى أن مجرد أن يكون الشيخ من عائلة فضل الله من بلدة عيناتا من جنوب لبنان لا يكفى لمعرفة موقفه من العروبة ومن القومية . فتفضل وقال : إن العروبة قومية “و” هي إطار لوضع بشرى يجمع فريقا من الناس كما هي أي قومية أخرى . “و” هي داخلة في المعنى الواقعي الذي يتميز بخصائص وعناصر مثل ما تتميز به أي قومية أخرى . “و” هي هوية مثل الفارسية والتركية . “و” أنهم يعترفون بالهوية العربية في مضمونها الإنساني . ” و ” هي بالنسبة اليه واقع يدخل فى تكوينه الذاتي . وتساءل فضيلته مستنكرا :” هل تستطيع ان تخرج من جلدك ؟ ” .. طبعا لا يا مولانا .. لا هو ولا أنت ولا انأ .
كنت أتمنى ألا اعلق على هذا القول . إذ أنه ، في مجمله ، تعبير عن قناعة بأن ” القومية ” او ” العروبة ” اسم يطلق على واقع بشرى لا يستطيع احد ينتمي إليه أن يفلت من الانتماء إليه ( يتجرد من هويته ) . وانه على وجه أو على آخر يدخل فى التكوين الذاتي لمن ينتمي اليه (تكوين شخصيته) وان القوميات متعددة فمنها العربية ومنها الفارسية ومنها التركية ، وإنما تتمايز بخصائص كل قومية . ومن خصائص القومية أو العروبة إنها ذات تراث تختزن فيه الإسلام .
لم يقل احد من المفكرين والكتاب والقادة العرب القوميين ما هو أكثر صحة من هذا الذي قيل ، بل إن التعبير عن العروبة أو القومية بأنها واقع لا يستطيع أحد ان ينسلخ منه حتى لو أراد . ينطوي على إدراك لحقيقة القومية أكثر صحة من عشرات الاجتهادات التي حاول فيها بعض الكتاب العرب تحديد العلاقة بين الأمة والشعب . وليس من المنكور أن فريقا كبيرا من أوائل الذين كتبوا في القومية أو دعوا إليها وتلاميذهم حتى الآن ما يزالون يردّدون نظرية في القومية مستعارة من الفيلسوف الفرنسي رينان وخلاصتها ان القومية إرادة حياة مشتركة وبالتالي إن الانتماء إلى الأمة أو عدم الانتماء إليها موقف إرادي . وهى نظرية ” سياسية ” في القومية استهدف بها رينان خدمة دولته وليست نظرية علمية أو شبه علمية في فهم وتفسير ظاهرة الأمة . أيّا ما كان النظر أو كانت النظرية فاني والشيخ فضل الله على مذهب واحد في العروبة عبرت عنه بما قلته في كتاب ” عن العروبة والاسلام ” من ” إن العروبة علاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن مميزا ، ولو لم يدركها ، ولو كفر بها . لا يستطيع أي انسان أن ينتمي إلى العروبة أو أن ينسلخ منها ولو أراد .”
من حقي إذن أن اعتبر الشيخ محمد حسين فضل الله واحدا من قادة الحركة العربية القومية وان اعتبر ” حزب الله ” فصيلا من القوى العربية القومية ، واعتبر شهداء جنوب لبنان شهداء العروبة . هذا من حقي سواء أعجب أصحابه أم لم يعجبهم ، لان العبرة بحقيقة المواقف وليس بما يفضله كل واحد من أسماء لموقفه . ولأننا نعتبر هذا حقا لنا فإننا نعتبر أن لهم علينا حق الرأي فيما يرونه من مواقف ويروونه من حكايات لا تتفق مع موقفهم القومي الأصيل ، وبالتالي يضعف من آثار نضالهم القومي البطولي . والخطأ ـ بعد ـ شائع في كثير من كتابات ومواقف القوميين . انه التوحيد في الدلالة بين ” العروبة ” وبين ” القومية ” . وقد تكرّر في الحوار المنشور هذا التوحيد بصيغة : ” إن كلمة القومية أو العروبة ” ، من أن الكلمة منها ذات دلالة متميزة . ويؤدى عدم إدراك هذا التمايز أو التساهل في الاعتداد به إلى مواقف فكرية وعلمية ضارة بصاحبها موقفا وفكرا .
المسألة ، باختصار شديد ، إن العروبة نسبة إلى العرب وهم فرع من الجنس السامي يتميز بلغة عن بقية الفروع . ولقد كان العرب أسرا ثم عشائر ثم قبائل و هي أطوار من التكوين البشرى وردت ويرد على كل البشر فيتحولون خلال التفاعل بينهم وبين ظروفهم من اسر إلى عشائر إلى قبائل حتى إذا ما استقرت القبائل على الأرض أصبحوا شعوبا قبل أن يتطوروا ليصبحوا أمما .( امة ـ رجاء ـ بالمعنى الاجتماعي الحديث لكلمة الأمة ) . ولقد مر العرب بكل تلك الأطوار قبل الإسلام ولكنهم لم يبدأوا التطور إلى امة إلا بعد الهجرة من مكة إلى المدينة . فبالهجرة وفي المدينة اجتمع المسلمون من قبائل كثيرة مهاجرين وأنصارا مع غير المسلمين من أهل المدينة لينشئوا معا مجتمعا موحد القيادة ( الرسول عليه الصلاة والسلام ) موحد النظام الأساسي ( الصحيفة ) موحد الوطن ( المدينة) مطهرا تماما من الاحتكام إلى العلائق الأسرية أو العشائرية أو القبلية . فكانت ثمة نواة تكوين بشرى جديد ، سينمو بالإسلام بشرا وأرضا وينمو به الإسلام دينا ودنيا ، فينموان حضارة وبها يصبح العرب امة عربية أسهم الإسلام في وجودها ولم تكن موجودة من قبله ، وان كانت العروبة سابقة عليه زمانا . فيقال العروبة التي تطورت إلى امة ” قومية ” وتكون القومية دالة ، دون غيرها ، على أن البشر في وضعهم العروبي قد اكتمل تكوينهم امة . ومن هنا تنسب العروبة الى العرب وتنسب القومية إلى الأمة العربية وليس إلى ” القوم ” العرب . ويصبح من الجوهري لإمكان تحديد وفهم المواقف والأفكار معرفة ما إذا كانت متعلقة بالعربية أم بالقومية . لماذا يصبح من الجوهري لإمكان تحديد وفهم المواقف والأفكار معرفة ما إذا كانت متعلقة بالعروبة أم بالقومية مع انه ، منذ إن اكتملت الأمة العربية تكوينا ، انقضت مرحلة العروبة قبل القومية ( الأسرية والعشائرية والقبلية والشعوبية ) فاكتسبت كلمة العروبة دلال قومية . لماذا لا تتوحد الكلمتان في الدلالة على الواقع العربي مادام لا يوجد في هذا الواقع ما تدل عليه أيهما إلا امة عربية واحدة ؟.
لقد كان هذا ممكنا لولا ما طرأ على الوجود القومي من تجزئة الأمة العربية الواحدة إلى دول مستقلة بعضها عن بعض وامتداد العمر بتلك التجزئة ( أكثر من نصف قرن ) حتى ولدت الحياة فيها مصالح إقليمية تحرسها قوى إقليمية في رؤوسها أفكار إقليمية تستثمرها دعاوى ضد القومية . بالتجزئة ـ إذن ـ ولدت ظاهرة الإقليمية في التاريخ العربي كنقيض لظاهرة القومية التي ولدت منذ إن اكتملت الامة العربية تكوينا ( منذ نحو سبعة قرون ) فأصبحت كلمة العروبة حمالة وجهين متناقضين . إذ الإقليمية إقليمية عربية ، والقومية قومية عربية . الأولى تعبر عن تجزئة الأمة وتنفى وحدتها . والثانية تعبر عن وحدة الأمة وتنفى تجزئتها . وكلاهما واقع في التاريخ العربي المعاصر . الإقليمية واقع ملموس والقومية واقع تاريخي محسوس ، وليس التاريخ العربي المعاصر ولن يكون ـ لمدى قد يطول في المستقبل ـ الا تاريخ الصراع الذي لا توفيق فيه ولا تلفيق بين الإقليمية ( وحلفائها ..) والقومية (وحلفائها ..) وقد يكون الحلفاء عربا أو غير عرب . ولكن قوى الصراع قوى عربية والصراع عربي المنطلقات ، عربي الغايات ، لأنه يدور حول المصير العربي هل يكون إقليميا أو يكون قوميا . كل القضايا الأخرى التي يدور حولها الصراع في الوطن العربي هي فروع للصراع الأساسي بين الاقليمية والقومية . ولما كانت التجزئة الاقليمية هي ردة الى طور مختلف عن الطور القومي ، طور شعوبي في بعض الدول ، وفى بعض الدول طور قبلي ، وفى بعضها عشائري ، فان الاقليمية كثيرا ما تتستر ” بالعروبة ” التي تتسع دلالتها لغويا للأسر والعشائر والقبائل والشعوب ” العربية ” ، وذلك لتحقيق هدفين : الاول استبعاد دلالات وايحاءات كلمة القومية من الفكر العربي ” وغسل” ادمغة الشباب منها . والهدف الثاني ، رئاء الشعب العربي واختلاس قبوله الاقليميين ظنا بانهم ما داموا ” عروبيين ” والعروبة تساوى القومية منذ ان كان العرب امة فهم قوميون .
ازاء هذا اصبح واجبا ـ اخلاقيا على الاقل ـ بالنسبة الى كل عربي ان يختار موقفا واضحا يجيب علنا بدون لبس او غموض او ابهام او “لعب بالألفاظ ” عما اذا كان هو قوميا ينطلق من وحدة الامة الى دولة الوحدة ، ام انه إقليمي ينطلق من تجزئة الامة الى استقلال دولته . كما اصبح واجبا قوميا على الكتاب والمفكرين والدعاة والدارسين القوميين ان ينبهوا الناشئة من الجيل العربي الجديد الى ما يحصنهم ضد المحاولات الاقليمية لكسب ثقتهم عن طريق الاستعمال المنافق لتعبير ” العروبة “ .
ان الموقف ” العربي ” المعادي للقومية قد يقوم على واحد او اكثر من ثلاثة اسس. اولها ، واقلها خطرا ، موقف الذين ينكرون وجود امة عربية اصلا ، او يقولون انها لم تزل فى سبيل التكوين . يقف هذا الموقف بعض الماركسيين الذين يستبدلون بالوحدة العربية وحدة الطبقة العاملة في العالم كله . ويقفه بعض العرب الشعوبيين الذين يتصورون ان شعوبهم الدارسة مثل الاشورية والفرعونية ماتزال قابلة للأحياء .. لتبعث امما . انهم يحملون في رؤوسهم ذات الفكرة الصهيونية . فكرة عدم شرعية ” الاحتلال ” العربي وتحرير ارض الاباء والاجداد من الاجانب الذين عاشوا فيها اربعة عشر قرنا . ولم تكن المحاولة الصهيونية الا نموذجا للعداء الشعوبي ، ظل الشعبيون ينتظرون نهايتها ، حتى اذا ما اعترفت مصر الفرعونية بأحقية اليهود في فلسطين بدأت المحاولة الطائفية في لبنان وفى ا لمغرب وفى مصر وفى السودان . ومن هنا نرى كيف تستطيع الشعوبية ان تستر موقفها الصهيوني بكلمة ” العروبة ” ويصبح متعينا هت سترها بإلزامهم ، او ارغامهم ، على ان يحددوا موقفهم من القومية العربية ، خاصة وان عروبيين كثيرين يتسلون على استحياء الى الموقف الشعوبي الصهيوني ” الان “ .
الاساس الثاني لموقف العربي المعادي للقومية هو الهرب الى ما هو اوسع من الامة العربية شعبا ووطنا : الشرق اوسطية ، الاسلامية ، الافريقية ، العالمية . لكل واحدة من هذه الكلمات دلالة على واقع متعين ولكنه ليس موازيا ولا مناقضا للواقع القومي العربي . ومن الوحدة العربية الى الوحدة العالمية وما بينهما طريق متصل وممتد ، واذا ظلت الظروف العربية والاسلامية والدولية على ما هي عليه الان فيمكن القطع ـ بدون ترددـ بان القوى القومية العربية ما ان تنتهى من توحيد امتها حتى تستأنف مسيرتها الى الوحدة الاسلامية بحكم انها ” تختزن تراث الاسلام في حضارتها ” . ويستطيع القوميون منذ الان ان يبشروا باستئناف رسالتهم بمجرد ان يحطموا اسوار التجزئة الاقليمية التي تجزئ طاقات الامة ثم تحبس كل جزء منها في دولة او دويلة . ويواجه انصار ودعاة الوحدة الاسلامية ، او الوحدة الافريقية ، او الوحدة العالمية ـ هنا ـ سؤالا حاسما .هل وحدة الامة العربية مرحلة اولى فى خططكم الطموحة ام انكم تقبلون تجزئة امة واحدة وتزعمون الجهاد في سبيل توحيد عدة امم ؟ وفى الاجابة على هذا السؤال يمكن اكتشاف الموقف المعادي للقومية الذى يخفى ” إقليمية ” الع ربية تحت ستار الدعوة الى وحدة تتجاوز الوحدة القومية وتسبقها في الوقت ذاته باسم رسالة ” العروبة” الخالدة .
الأساس الثالث للموقف العربي المعادي للقومية موقف ” بهلواني ” فكريا وسياسيا وحركيا ، انه الاحتفاظ في ” خرج” الحاوي بكلمتين : ” العروبة” و” القومية ” واستعمال كل منهما استعمالا لا اخلاقيا . ان كان ذا مصلحة مع قوة قومية فهو قومي . وان كان ضد تجربة قومية فهو عروبي . وان كان يحلم بما هو غير هذا وذاك ويحتفظ في الوقت ذاته بهذه وتلك فهو .. ولا نزيد .
المهم ان عدم تحديد وفهم المواقف والافكار المتعلقة بالعروبة او بالقومية خاصة اذا ما كان الاسلام مطروحا كموقف او كفكر ، يؤدي في كثير من الحالات الى اخطاء فادحة في المواقف والافكار جميعا . وهي لا تتحدد وتفهم اذا ما تجاهلنا ان ورود التجزئة على الامة مع اسناد الامرين الى العروبة يفرق تفرقة دقيقة بين دلالة العروبة ودلالة القومية حينما يكون الحديث دائرا حول القضايا المصيرية مثل علاقة العروبة بالإسلام ، والموقف القومي من الدول العربية وصراعاتها ، والموقف الصحيح من القضية الفلسطينية .
فمثلا ، حين يقال ان القومية تختزن الاسلام في تراثها يكون القول مفهوما لان الامة العربية ولدت مع الاسلام وشبت معه وتكونت حضاريا من خلال تفاعلها في ظله دينا ودنيا فيكون من المفهوم او القابل للفهم ان يقال ان القومية تختزن الاسلام في تراثها . ولا يكون مفهوما على أي وجه ان تسند اية علاقة بتراث الا سلام الى العروبة مع انكار الوجود القومي العربي و التنكر لهدف الوحدة العربية أي من موقف اقليمي . ذلك لان العروبة ، من ناحية ، سابقة تاريخيا على الاسلام كما ابلغ به محمد رسول الله (ص) في القر ن السابع الميلادي . ومن قبل الاسلام لم يكن للإسلام تراث ، وبالتالي لا يكون مفهوما او قابلا للفهم ان يقال ان العروبة تختزن الاسلام في تراثها قبل ان يتطور العرب الى امة ذات وعاء حضاري تختزن فيه التراث . ومن ناحية اخرى فان العروبة قبل الاسلام كانت اسما على مطلق فرع من جنس بشرى متناثر اسرا وعشائر وقبائل لا يجمعها تراث حضاري واحد وتتناثر على السنة الناس منها لهجات شتى لم تسد احداهما لتكون لغة العروبة ، الى ان جاء الاسلام فجمعهم امة واحدة وامدهم بلغة واحدة فأنشأوا به وفي ظله تراثا حضاريا واحدا . فيبدو لنا بالغ الغرابة وعصيا على الفهم القول الذي يتحدث عن الاسلام كما لوكان دين العروبة او الصيغة الالهية لتراثها الا ان يكون تعبيرا عن موقف ” خجل” من الجهر بالعداوة للإسلام دينا وتراثا .
هذا مثال من الاخطاء التي يؤدى اليها التوحيد بين العروبة والقومية في الدلالة . وثمة امثلة كثيرة اخرى . منها موقف الدول العربية جملة وفرادى بدون تفرقة بينها . انها جميعا قائمة على ارض لوطن العربي ، ويكون مجموع مواطنيه جملة الشعب العربي ، فهي مؤسسات ” عروبية ” لا شك في هذا .. وبه يمكن ان تفهم دلالة الاخوة العرب ، والدول العربية الشقيقة .. لكنها جميعا وبدون استثناء واحد دول غير قومية . انها تجسيد سيأسى لتجزئة الوطن العربي الواحد . من اين جاءت ” فكرة ” وحدانية الوطن ؟ من وحدة الامة كتكوين بشرى ، أي من القومية ، فالقومية تتضمن في دلالتها وحدة الشعوب ، ووحدة الوطن ، ووحدة الحضارة التي صنعتها وحدة التاريخ .يرحب القوميون بكل تفاهم او تقارب او تضامن بين ” الاخوة العرب” او بين ” الدول العربية الشقيقة “، ويدافعون عن العرب افرادا ضد القهر الداخلي والعرب دولا ضد العدوان الخارجي لانهم يدافعون عن الشعب القومي الموزع افرادا بين الدول العربية ، والوطن القومي الموزع اقطاعا بين الدول العربية ولكن القوميين لا ينحازون لأية دولة عربية ضد اية دولة عربية اخرى ، لان معارك الدول العربية فيما بينها حفاظا لوجودها او حدودها لاتهم في ذاتها أي قومي .
المثال الاكثر تأكيدا لضرورة الانتباه الى التفرقة في المواقف والافكار بين العروبة والقومية يتعلق بقضية فلسطين . فمنذ عام 1948 وجزء من ارض فلسطين قد اغتصبه الصهاينة عنوة . ومنذ 1967 اغتصبوا ما بقي من ارض فلسطين وزادوا عليها فاغتصبوا سيناء والمرتفعات السورية . ان كثيرا من ” العروبيين ” دافعوا عن فلسطين قبل ان تغتصب ارضا ، ويدافعون عنها الان سياسيا ودعائيا بل ونقول ان كل ” ابناء العروبة ” ـ معدا الخونة ـ يدافعون عن فلسطين . الا يقال انها قضية العرب المركزية ؟ بلى . اين الفارق اذن بين الدفاع عن فلسطين من موقف قومي ، والدفاع عنها من موقف عروبي ؟ .
الفارق ان العروبي يدافع عن فلسطين انحيازا الى ” الفلسطينيين” ضد الصهاينة ، او دفاعا ضد مخاطر التوسع الصهيوني الى ارضه ، او تفاديا لسيطرة الصهاينة اقتصاديا و ماليا على اقتصاده او ماله ، او انقاذا لبيت المقدس اول القبلتين وثاني الحرمين ، او حتى تخلصا من عبئ الانحياز الى الفلسطينيين اللاجئين بتسكينهم جزءا من ارض فلسطين .. وطبيعي ان الاهداف النهائية لهؤلاء العروبيين تختلف تبعا لاختلاف مواقفهم فبعض العرب يقبلون الوجود الصهيوني في فلسطين ، وبعضهم يناضل من اجل تقسيم فلسطين مع الصهاينة ، وبعضهم يقبل ما يقبله العرب المطرودون من فلسطين، وبعضهم يقبل مبادلة ارض فلسطين بالسلام مع الصهاينة .. كل هذه مواقف عروبية ، وكلها عند القوميين عار عربي ولكنه على أي حال ليس عارا قوميا الا ان يكون عار الصبر على هؤلاء العروبيين اذ القومي لا يقبل الوجود الصهيوني فى فلسطين ، ولا يقبل مبادلة ارض فلسطين بالسلام الصهيوني ، ولا يعترف بان من حق احد ان يتنازل عن شبر واحد من ارض فلسطين لسبب بسيط هو ان القومي يتعامل مع ارض فلسطين باعتبارها جزءا من وطنه هو ، وطنه القومي الذى لا يملك حتى هو ان يتنازل عن شبر منه ..
وما هذه الا أمثلة ” عامة ” ..
اما الامثلة الخاصة بآراء الشيخ فضل الله في العروبة والقومية ، ومدى نصيبها من الخطأ والصواب ، ومرجع الخطأ والصواب فيها فتحتاج الى مداخلة مستقلة .
للحديث ـ اذن ـ بقية ...
القاهرة : 10 اكتوبر 1987 .
***
(2)
حينما قال الشيخ محمد حسين فضل الله ” العروبة قومية ” لم يعد ثمة أي وجه لينسب اليه انه يستعمل كلمة ” العروبة ” بدلالتها السابقة على التكوين القومي العربي ، أي بدلالتها الاسرية او العشائرية او القبلية او الشعوبية . ويصبح حقا له ان تؤخذ كلمة العروبة في أي موضع استعملها على انها تعني القومية العربية . ولكن هذا لا يعني ان يكون من حق احد ان يسند اليه مفهوما معينا للقومية لم يصرح هو به . ثم انه حينما قال فضيلته ان العروبة او القومية اطار لوضع بشرى يجمع فريقا من الناس وانها داخلة في تكوينه الذاتي الذي لا يستطيع ان يخرج منه ، فقلنا ان فضيلته ونحن على مذهب واحد في القومية فان هذا الفهم المشترك لظاهرة القومية كواقع بشري غير اختياري لا يعني اننا متفقان على مفهوم القومية الذي عبر عنه في حديثه . بالعكس . اننا مختلفان جذريا في هذه الجزئية . هذا الخلاف هو موضوع هذه المداخلة في الحوار . سنبين كيف ان فضيلة الشيخ قد اسقط الاثار الحتمية للقومية كما عرفها . نقول الحتمية أي التي لا تتوقف على اختياره وارادته . فتركنا ، نحن قراء الحديث ، أمام معضلة منطقية . ان اخذنا بالمقدمات التي طرحها فضيلته أصبح محالا ان نقبل النتائج التي انتهى إليها . وان قبلنا ما طرحه كنتائج استحال علينا اكتشاف العلاقة بينها وبين المقدمات ، بل استحال علينا ان نفهم لماذا يتبنى فضيلته تلك المقدمات .. لماذا ـ مثلا ـ يقول ان العروبة قومية وانها واقع دخل في تركيب ذاته لا يستطيع ان يخرج منه ثم يقول ان ليس لها مضمون يملآ فكره .
على أي حال نتمنى ، وسنحاول ، ان يكون الحوار سهلا . ذلك لأننا اذا قلنا فيما بعد لقد اخطأ الشيخ فضل الله في بعض ما قاله في العروبة فإننا لا نحاكم قوله بل نرد اليه قضية اثارها ونحتكم فيما قاله الشيخ او فيما لم يقله عن مسائل منهجية او تفصيلية الى ما قاله عن القومية كهوية ثم نكمل من مصادر العلم ما لم يقله ليكون كل القول قابلا للفهم .
قال الشيخ عن العروبة ” : اننا نعتبر العروبة حالة فكرية ” و” ان العروبة لم تكن حركة تحمل مضمونا محددا يملآ فكر الانسان العربي ” و” مسلمون عرب على اساس ان لا تكون صفة العروبة داخلة في المعنى الفكري” و” كيف يمكن ان تكون العروبة فكرة الى جانب الافكار” و” العروبة هي شعب . هي ناس . الناس ليسوا فكرة . الناس يحتاجون الى فكر “…. الخ . إن أول ما يلفت في هذا القول المنهج ”المثالي” المفرط في فرديته حتى انه لا يتوقف عند سنن الله التي تربط حركة الظواهر حتما ثم لا تتبدل . فها هو الشيخ محمد حسين فضل الله يقدم لنا العروبة كواقع . ظاهرة . جزء من الكون . شعب . ناس . ويبلغنا بانها ليست فكرة . وقد كان المتوقع ان يقول لنا لماذا لا تكون القومية فكرة لنعرف ـ على الاقل ـ كيف تكون القومية في عقله المدرك وهو ” يتفكر ” فيها فيدرك انها واقع من ناس فينقلها الى القراء بعد ان يرمز اليها بكلمات منشورة . او كيف يكون الناس وهم يطيعون الله فيتفكرون في” انفسهم ” ( الروم : 8) . الناس هنا هم المتفكرون وهم موضوع التفكر ففي أي الحالتين أتوا فكرة . او لنعرف ما الذى يقصده ” بالفكر” على وجه التحديد لعله ان يكون قد حل تلك المعضلة الفلسفية التي لم تحل منذ ثلاثة قرون من الجدل الفلسفي .. المهم ، اننا نتوقع ممن يقول لنا ” هذه امة ” وهي” قومية ” وهي ” واقع” وهي ” ناس” ولكنها ليست فكرة ، ان يقول لنا لماذا ؟ لا ان يبلغنا حكم اصدره منفردا على ظاهرة طبيعية او ظاهرة بشرية بانها ليست فكرة وليست متضمنة في فكرة كما لو كان يملك على ظواهر الكون سلطانا واستغفر الله . الم نقرأ له صيغة الامر على الاشياء ان تكون كما يريد . لا تهم ماهية العروبة كما هي واقع لان فضيلته لا يعتبرها فكرة . انه مسلم عربي بشرط الا تكون العروبة داخله في المعنى الفكري … لقد كان السلف الصالح من الائمة يبدعون مجلدات من الفكر البديع ثم يقولون في النهاية ” الله اعلم ” ، فما ضر الشيخ فضل الله الا يكون محيطا بماهية الفكر او بماهية القومية وان يكتفى بما قاله ” كيف يمكن ان تكون العروبة فكرة الى جانب الافكار …” انه سؤال الى أهل الذكر يستحق الجواب في أي حوار جاد لولا ان سبقه رفض لأي جواب .
نتغاضى عن الرفض ليبقى الحوار متصلا ، ونتساهل مع التساهل في استخدام كلمة ” الفكر” ونأخذ بمدلولها كما يبدو من حديثه انه يقصده . فهو يتحدث عن ” مضمون الفكر الذي تتحرك القيادة في ضوئه ” لأنه ” من الناس الذين يحاولون ان يتحركوا فكريا ” و” الناس يحتاجون الى فكر يحرك العناصر المبدعة والعناصر القومية لكي تنطلق ..” انه يقصد بالفكر ـ اذن ـ العقيدة او المذهب او النظرية التي تحدد الغاية او الغايات التي يتحرك الناس من اجل تحقيقها في الواقع ..
قياسا على هذا قال ان العروبة ليست فكرة . يعني ان العروبة او القومية ليست عقيدة ولا مذهبا ولا نظرية تحدد الغاية او الغايات التي يتحرك العرب من اجل تحقيقها في الواقع . انها واقع وهوية .
وهذا حق لا شك فيه .
الم نقل اننا وهو على مذهب واحد في القومية ؟
كل ما في الامر هو ان ” القومية العربية ” ان لم تكن عقيدة او مذهبا او نظرية ، الا انها تؤثر ايجابيا في كل الافكار ( العقائد والمذاهب والنظريات ) القادرة على ان تقود الشعب العربي ، القابلة للتحقق في الوطن العربي . ومن هنا يمكن القول ان القومية العربية تلعب دورا اساسيا في نجاح او فشل المشروعات الفكرية المعدة لصيغ الحياة في الوطن العربي . وهو ما يعني تماما ان كل ” الافكار والمشروعات” المضادة للقومية العربية مصيرها الى الفشل مهما حسنت نوايا اصحابها ومهما بذلوا في سبيلها من جهد . ونماذجها الصارخة الافكار الاقليمية التي تقود الناس لتحقيق مشروعات تحرر او تقدم او ديموقراطية في الدول العربية . كل الدول العربية . ومثل القومية العربية في هذا مثل اية قومية اخرى . مثل تأثير أي واقع في أي فرد قادر على قيادة الواقع وقابل للتحقق فيه . مثل توقف نجاح او فشل أي مشروع لصياغة الواقع ، أي واقع ، على ملائمة المشروع لخصائص ذاك الواقع .
لو كنت حاضرا الحوار لطلبت من الشيخ فضل الله ان يدلني من تاريخ البشر ، كل البشر ، على ” فكرة” غير متأثرة بواقع ، وان يدلني على فكرة ـ أي فكرة ـ خارج عقل الانسان ، وكان لا بد لنا من ان نتفق على ان كلا من المطلبين محال . حينئذ كنت سأجيبه عن السؤال : كيف يمكن ان تكون العروبة فكرة الى جانب الافكار؟
الجواب هو ان ” العروبة ـ القومية ” تصوغ العرب وتنقل اليهم خصائصها حتى قبل ان تكتمل فيهم ملكة التفكير ( قبل سن التمييز ) اولا ، ثم تحدد لهم ابعاد افكارهم فى الزمان والمكان ثانيا ، ثم تساهم في تحديد مضامين تلك الافكار ثالثا ، ثم توقع بمن يخرج عليها فكرا عقوبة الفشل رابعا .
وفيما يلي ايها الشيخ العربي تفصيل الجواب مختصرا .
اولا : قلت فأحسنت القول ان صفة العروبة ” داخلة في المعنى الواقعي الذي يتميز بخصائص وعناصر مثل ما تتميز به أي قومية اخرى ” ,” ان كلمة شعوبا وقبائل لتعارفوا معناها ان كل واحد ينقل تجربته للطرف الاخر ليحاول ان يستفيد منها حتى يكون هناك تفاعل بين الخصائص ” و” ان الاسلام لا يلغي خصوصيتك الذاتية ” و” خصوصيتك تعني فكرك ” ,” انا مسلم اتحرك في الساحة العربية بصفتي الاسلامية … بما لا يبتعد بالعروبة عن خصائصها الذاتية ” و” القومية العربية تختزن في تراثها الاسلام ” …. الخ “ .
عظيم ، ما هي هذه الخصائص ؟.
لم تقل انت ولن اقول انا اذ لا حصر للخصائص المميزة لكل امة عن الامم الاخرى المتميزة هي بدورها بخصائصها . وهناك بضعة علوم متقدمة تعنى بدراسة تلك الخصائص . علم تاريخ الانسان ، وعلم الحضارة ، وعلم الحضارات المقارن وكلها تسمي التمايز " تمايز حضاري " ( وفى بعض المراجع يسمونه " تمايز ثقافي " ) .. لا يهمنا الا التذكير بان بضعة علوم متقدمة تؤيد قولك بان لكل قومية خصائصها المميزة وتسمية تمايزا حضاريا . يهمنا حقا ما يترتب على هذا . ومن اجله ننتقل الى حقول العلوم الاجتماعية والنفسية لنعرف من هناك تأثير كل حضارة في ” شخصية ” المنتمين اليها . فنجد يا مولانا عجبا . نجد ان تلك العلوم تقرر بالإجماع ( واسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) ان الهيكل الاجتماعي الأساسي للشخصية يتكون من مجموعة من الضوابط الذاتية أي الداخلة في تكوين الشخصية ذاتها ( كما قلت عن العروبة ) التي تتحكم وتحدد لكل فرد موقفه واتجاهه وسلوكه في مواجهة الغير من الاشياء والظواهر ولناس ، وان المجتمع هو مصدر تلك الضوابط ، وانه يدس بذورها في نفس الطفل وهو بعد كائن بيولوجي لم يميز حتى ذاته ، ثم يتابع الطفل في نموه الفسيولوجي والعقلي داسا في تكوينه بذور ضوابطه بذرة بذرة ، راعيا لها ومنميها . حتى اذا ما بلغ الطفل اشده واكتمل تكوينه كان ذلك الكائن الذي خلقه الله انسانا قد خلقه المجتمع شخصية متميزة عن غيره من بني الانسان بما يميز مجتمعه من خصائص حضارية . فنقول ـ تطبيقا ـ حين يبلغ الطفل لعربي أشده ويكتمل تكوينه يكتشف انه متميز بانه ” عربي” لا يدرى كيف . العلماء يدرون فيقولون ” الطفل لا ينتقي أساسا الا ما يعتبر من اساسيات حضارة مجتمعه مقودا في ذلك باللغة التي خلقها أسلافه الاقدمون للتعبير عن تلك الأوجه المنتقاة من العالم ، ورث الطفل السوي من مجتمعه ايضا عددا كبيرا من المعتقدات المتعلقة بما انتهى الى اكتشافه من اشياء . وسيبقى الطفل حاملا تلك المعتقدات طوال حياته كلها بدون تساؤل عن صحتها ، ولا حتى بحث كيف اصبحت معتقداته “ .
ولكن أي مجتمع ؟
مجتمع العشيرة في الطور العشائري ( ثمة حضارات عشائرية ) او مجتمع القبلية في الطور القبلي ( فثمة حضارات قبلية ) او مجتمع الامة في الطور القومي كما هو الحال بالنسبة لامتنا العربية حيث حضارتنا حضارة قومية .
وهكذا نرى ، يا شيخ فضل الله ان العربي على السجية ، بدون تغريب او بدون تخريب ، لن يختار من الافكار الا ما يتفق مع هويته العربية القومية ، بدون ان يعرف حتى لماذا اختار هذه الافكار بالذات ، او ما معنى الهوية او ما معنى القومية . وانك لترى آية هذا في ثلاثة اجيال من اطفال العرب ما ان يكتملوا شبابا حتى يقاتلوا الصهاينة من اجل استرداد فلسطين مع انهم لاهم ولا آباؤهم ولا اجدادهم رأوا فلسطين او يأملون في رؤيتها او لهم مصالح فيها ..انهم اطفال بسطاء العرب في القرى العربية من موريتانيا حتى الخليج ومن جنوب السودان حتى شمال سورية .. البعيدون عن بؤر التخريب في عواصم الدول العربية . انهم العرب على السجية . الذين صاغتهم الامة قوميين فما يفكرون اذ يفكرون الا قوميا . الذين ما يزالون يحلمون بالوحدة العربية بدون ان يعرفوا من العلم انهم ينزعون الى الوحدة واعين وغير واعين لان بها تتحقق ذواتهم . لقد قلت ان العروبة ” اخذت من الاسلام الاجواء الحميمة ، وأنها ” زحفت ” نحو الماركسية ، وعندما شعرت ان الماركسية تختلف في بعض جذورها ” حاولت ان تختار ” .. الم تر يا شيخنا انك قد جعلت من العروبة فاعلا بإرادة حرة مدركة ، وهو حق ، ولكن كيف يكون ذلك في الواقع ؟ .. يكون متمثلا في ارادة الجماهير العربية المتحررة التي تدرك فتفعل على السجية .
ثانيا : تصوغ ” العروبة ـ القومية ” اذن الشعب العربي الذي يختار الافكار التي تقود مسيرته ، ولن يختار ، وهو على السجية ، بدون تغريب او تخريب ، الا ما يتفق مع هويته القومية ، ولكن دور القومية في صياغة الافكار لا يقف عند حدود هذا التأثير غير المباشر . هناك حدود الواقع القومي شعبا ووطنا . وهذا ينطبق على كل قومية . ينطبق على القومية العربية والقومية الفارسية والقومية التركية تماما كما قلت انت يا شيخ فضل الله . اذن ، فالمشروعات الفكرية ، او الافكار القائدة لشعب أية امة لن تكون لها فرصة النجاح ـ أي لن تتحقق في الواقع ـ الا اذا كانت متضمنة الشعب القومي كقوة حركة ، والوطن القومي كساحة تطبيق . هذا لا يعنى انه محال على مجموعة من الامم او القوميات او الشعوب ان تشترك في افكار قائدة لتحقيق مشروع مشترك . لا . هذا ممكن بشرط الا يكون انقضاضا ، او انتقاصا من المشروع القومي لكل امة . ان تجهيل او تجاهل الشركاء خصائص كل شريك كما هو في الواقع هو جهل لن يفيد اصحابه شيئا . وهكذا ترى مثلا ، القومية كواقع تحدد للفكر القومي الوطن العربي كما هو على الطبيعة .. وليس مترا مربعا أكثر من هذا وليس سنتيمترا مربعا اقل من هذا ولو كره اعداء الامة العربية . كما تحدد للحركة القومية قواها فهي الشعب العربي لا مرتزقة من الخارج ولا اعفاء في الداخل . ثم تحدد للفكر القومي الاعداء والاصدقاء والحلفاء والمؤلفة قلوبهم على ضوء مواقفهم من وحدة الامة العربية وسلامة وطنها وشعبها .. وهكذا ..
في منتصف الستينات اشتعلت في مصر معركة فكرية ضارية حول وصف الاشتراكية بانها عربية وكانت المعركة اساسا بين القوميين وبين الماركسيين . الاولون يصرون على ان توصف الاشتراكية التي يسعون اليها بانها عربية ، والاخرون يسخرون ويرددون ان لا توجد الا اشتراكية واحدة هي الاشتراكية العلمية ( يعنون الماركسية ) . ولقد كان لي شرف الاشتراك في تلك المعركة مدافعا عن ضرورة وصف الاشتراكية بانها عربية لنقبل اقامتها نظاما في الارض العربية . انقضت السنون ولا احد يتحدث الان عن الاشتراكية . لقد عدنا الى نقطة البداية : التحرر بعد ان سلبنا الحرية التي كانت قد تحققت .. على أي حال عاد الشيخ فضل الله يسأل “ : ما معنى ان تأخذ الاشتراكية معناها العربي ؟ ” . ذلك لأنك يا مولانا لا تدري النتائج التي تؤدي اليها منطلقاتك الفكرية . من يقول مثلك ان العروبة واقع وهوية لا بد يميز الافكار التي تقود الواقع بهوية الواقع . والواقع ان المعركة الفكرية التي اشتعلت في الستينات لم تكن دائرة حول الاشتراكية ، كانت دائرة حول الوحدة المنتكسة بعد الانفصال . كنا نقول اشتراكية عربية أي نظاما اشتراكيا في كل الوطن العربي المتجسد في دولة الوحدة ، وكانوا يقولون ” تطبيق عربي للاشتراكية ” ليترك لكل دولة عربية ان تطبق الاشتراكية بدون حاجة الى الوحدة . انه مثال لدور القومية في فرض حدود على الافكار .
ثالثا : ليس هذا كل ما تؤثر به القومية تأثيرا ايجابيا في الافكار والمشروعات . انها تفرض على تلك الافكار عناصر معينة . هذا في رايي على الاقل . ولا بأس بان اقول اننى ـ فيما اعلم ـ انفرد بادعائه . اقول هذا لأستطيع ان اعبر عن قبولي اية مناقضة . والمسالة ببساطة انه الى ما قبل عام 1965 كانت كل الدراسات في القومية تنصب على وصف الامم وتحديد خصائصها ، وانفرد الماركسيون بطرح السؤال لماذا نشأت الامم وقدموا لها سببا سياسيا يتفق مع مصالح البورجوازية في وحدة ” السوق” تطبيقا لمنهجهم المادي الجدلي في فهم الظواهر . فلما تناولت بالدراسة ظاهرة الامة كان لا بد من الاجابة على السؤال لماذا نشأت وانتهيت الى ما نشر عام 1965 من ان الامم تنشأ كآخر مرحلة معاصرة من مراحل تطور تكوين الجماعات البشرية من الاسرة ، الى العشيرة ، الى القبيلة ، الى الشعب ، الى الامة ، وهو تطور لم يحدث اتفاقا بين البشر بل حلا لمشكلات حية وصراعات وحروب ملأت التاريخ في نطاق بحث البشر في كل عصر عن حياة افضل ، وبالتالي فان المجتمع القومي (الامة) هو المجتمع المشترك الذي يحقق للناس فيه افضل حياة ممكنة . من هنا يفرض مفهوم الامة هذا على كل الافكار والمشروعات التي تستهدف صياغة الحياة في الوطن العربي ، الحفاظ على وحدته والغاء تجزئته وعدم جواز تنازل الشعب العربي او أي جزء من الشعب العربي عن حقه القومي في المشاركة في امكانات وطنه القومي وكيفية توظيف تلك الامكانيات .. من هنا لا تقبل القومية افكارا ذات مضامين فرديه او عشائرية او طائفية او اقليمية ولا نظاما يحمي او ينمي تلك الافكار ..
رابعا : واخيرا فان جزاء الذين لا يفكرون تفكيرا قوميا الا يستجيب لهم الواقع القومي فيفشلون وهو جزاء توقعه القومية بما لا يتفق معها من افكار .
الى هذا الحد تصوغ العروبة الافكار مع ان العروبة ليست فكرة .
وعند هذا الحد نتوقف وبه نكتفي .
فهل من مدّكر؟
القاهرة فى 20 كتوبر 1987 .