بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 يوليو 2017

التراث بين الأصوليين والعلمانيين : القراءة والقراءة المضادة ..


التراث بين الأصوليين والعلمانيين : القراءة والقراءة المضادة ..
يوسف بن موسى .

منذ أن ازدهر سوق القتل والذبح والمجازر التي ترتكبها العصابات الداعشيّة بمختلف تسمياتها، صارت تتعالى الأصوات في كلّ أنحاء هذا الوطن المنكوب من خليجه إلى محيطه داعية لإعادة قراءة التراث العربيّ الإسلامي، وهذه الدعوة عادة ما كانت تحرّكها غاية معلنة وهي تجاوز الخطاب الداعشيّ وفضحه، ولكن في أحيان كثيرة كانت تحركه غايات أخرى.
فلا يخفى على أحد أن الجماعات التكفيريّة تجد سهولة كبيرة في تأصيل خطابها وممارستها في بعض النصوص الفقهية والعقائدية والتاريخيّة . ففتاوى القتل مثلا، يجدون لها تأصيلا في تصورات الحنابلة وعقائد الحشويّة وعموم أقوال مدرسة الحديث، خاصة في الصحيحين والمسند، أو حتى في تصورات الأزارقة والصفريّة (وإن كانوا يتحاشون التصريح بذلك). وأمّا الممارسات الحربيّة العنيفة والموغلة في الدموية فيجدون لها تأصيلا قويّا في الممارسات العسكريّة لقادة الفتح الإسلامي ثم قادت جيوش دولة بني أمية ودولة بني العباس ودولة الفاطميّين والمرابطين والموحدين التي نقلتها متون التاريخ والسير والمغازي؟
ومن ذلك أن أغلب الكتائب والمجموعات المسلّحة وحتى الأشخاص يجذّرون أنفسهم في التراث باستعارة أسماء قادة رموز الأمّة، فيطلقون على أنفسهم ومجموعاتهم تسميات من قبيل (الفاروق، أبو حمزة، أبو بكر، أبو عبيدة، خالد…).
كلّ ما سبق معروف ومفهوم ولكن الجديد في الأمر أن طيفا واسعا من المحسوبين على النخب الأكاديميّة وأنصاف الأكاديميّة صارت منذ مدة طويلة تحاول قراءة التراث قراءة تزعم أنّها نقدية وأنّ غايتها ضرب مسلّمات الدواعش الفكريّة والأصوليّة من أجل محاربة الإرهاب على صعيد الخطاب. ولقد قاد البحث الكثيرين منهم إلى إيجاد صلة بين خطاب الدواعش وممارساتهم الإجراميّة من جهة، وبين بعض نصوص التراث وهذه الصلة ليست خافية على أحد. وعملية التأصيل محمودة لو بقيت عند مستوى محاولة فهم الخطاب والممارسة الداعشيين، ولكنّها تتعداه إلى غايات أخرى غير بريئة.
وفإذا نظرنا إلى الأصوليين نجدهم من يبرّرون جرائمهم بقراءة مجتزأة ومبتورة ومضلّلة ومنقوصة وظاهريّة وحشوية وانتقائيّة للتراث. ولكن المريب في الأمر أنّ العلمانيين باختلاف مدارسهم (ليبراليّية وماركسيّة وحتى قوميّة ولا منتمية أحيانا) يثبّتون هذه القراءاة الداعشيّة من أجل ضرب الدواعش وضرب النصوص التي ارتكز عليها الدواعش في تبريراتهم وسأسوق مثالين واحد من الخطاب والآخر من الممارسة.
1- ترتكز ممارسة الدواعش للرجم على حديث نبوي مزعوم يسمى حديث رجم الغامديّة التي زنت على عهد الرسول (ص).
وعلى الحديث نفسه يرتكز خصوم الأصوليين من الحداثيّين في التدليل على أنّ مثل هذه النصوص هي سبب وجود الدواعش وتصير عمليّة قراءة الخطاب الداعشي فرصة لتصفية الحساب مع التراث غثه وسمينه، وبعده تتلوها الدعاوى لنبذ هذا التراث برمته وحرقه لأنه سبب البليّة. وكأن الدواعش يحتاجون حقا للتراث في تبرير ممارساتهم وخطابهم.
لا أحد من النخب الحديثة (إلاّ أقلّية قليلة) يكلّف نفسه عناء التثبت في مدى صدقيّة النصوص التي يرتكز عليها الدواعش في تبريراتهم ولا أحد يكلف نفسه عناء الدفاع عن النصوص من داخلها.
2- على صعيد الممارسة جرائم الذبح والقتل يبررها الدواعش بأن جيوش المسلمين كانت تذبح الكفّار والروم والفرس …
وهذا التأصيل لا ينكره عليهم الحداثيّون بل يجدون ذلك ذريعة لتصفية الحساب مع رموز الأمة كخالد بن الوليد وعقبة بن نافع والحجاج بن يوسف وغيرهم.
ولشدّ ما يضحكني عندما أجد داعشيّا يبرر جرائمه بسطوة خالد بن الوليد وأن أجد في المقابل حداثيّا ينكر على خالد ذلك وينعته بأبشع النعوت (بالمناسبة كذلك دعاة الأمازيغاويّة في بلاد المغرب ودعاة الكردوية في سوريا والعراق ودعاة الفنيقويّة في لبنان ودعاة الفرعونيّة في مصر جميعهم يجدون في ممارسة خالد وأبي عبيدة وعقبة مرتكزا لضرب العرب والإثنيّة العربيّة).
* للفريق الداعشي أقول: خالد بن الوليد كان جنرالا عظيما لم يقتل أحد من أهل القبلة ولا عربيّا إلاّ من حارب مشروع الدولة الناشئة. وفي حروب الردة كان خالد يدافع عن مسار التوحيد العربي الذي أسسه محمد الرسول وجده هاشم بن عبد المطلب من قبله، ضد دعاوى الردة والتفتيت القبلية وحربه شبيهة بحرب الجمهوريين الأمريكان في 1863 ضد الانفصاليين الدمقراطيين في الجنوب. ولقد أمضى عمره يحارب الروم والفرس فقط (ممثلي الامبريالية أنذاك). وما كان يطمع لا في دينار ولا في درهم ولا في جارية فهو ابن الوليد بن المغيرة المخزومي ريحانة قريش حسبا ونسبا ومالا وعددا وعدة ولم يبع الإيزيديّات مثل الدواعش في سوق النخاسة.
* للفريق الحداثي أقول -وافترض أن هذا الفريق على اطلاع ولو بسيط على التاريخ العالمي- بربّكم هل وجدتم قائدا يقود جيوش دولة أو امبراطوريّة ناشئة يوزع الورود والحلوى على الشعوب التي يغزوها ؟؟؟
رمسيس الثاني، سرجون الأكادي، نبوخذ نصر، الاسكندر المقدوني، حنبعل، ماسينيسان، سقيبو الإفريقي، يوليوس قيصر، جوستنيان البيزنطي، جنسريك الوندالي، شارلمان الإفرنجي، رتشارد قلب الأسد، هولاكو وجنكيز خان الماغوليان ، محمد الفاتح العثماني، بيتر الأكبر الروسي، نابليون بونابارت، تروتسكي، مونتنغمري، إيزنهاور، رامسفيلد …
أعطوني واحد فقط من هؤلاء كان يغزو خصومه وأعداءه بالقُبلات والحلوى والعطور والورود … ثم يجب أن لا يغيب سهوا أو قصدا عن أذهانكم أن ممارسات خالد بن الوليد وغيره ممارسات اقتضتها الدولة ولم يقتضيها الدين، وتجد تبريرها في الاستحقاق السياسي بشروط عصره، فقد كانت العملية السياسية تُدار حينها بقانون الغلبة والتغلّب. وخالد كان وفيّا لعصره لم يكن مغترابا ولم تكن ثمة على عهده “اتفاقيّة جنيف” ليُطالب باحترام بنودها.
ومن المعيب على نخب تدّعى القدرة على التفكيك أن تنهش لحم رجل عظيم مثل خالد بدعوى أنه مجرم حرب في حين أن السينما الغربيّة العلمانيّية الحديثة تستدعي “آخيل” و”يوليوس قيصر” و”رتشارد قلب الأسد” و”نابليون بونابارت” بصفتهم أبطال وأعمدة الذاكرة الغربية الحديثة. في حين صرنا نخشى التغنّي بأبطالنا خوف اتهامنا بأننا نتفق مع الدواعش .
* للفريق (الأمازيغاوي الفنيقي الكردوي الفرعوني) ليس فقط خالد وعقبة كانا يذبحان خصومهما، فحنبعل ومخلد بن كيداد وابو بكر بن عمر اللمتوني، وعلي بن يحيى بن غانية المسوفي، وعبد المؤمن بن علي الكومي المصمودي ، وصلاح الدين الأيوبي الكردي، ورمسيس الثاني وتوت عنخ أمون وغيرهم كانوا يذبحون خصومهم أيضا.
نأتي لمقاربتنا حول الخطاب الداعشي وعلاقته بالنصوص القديمة :
نعتقد أن من يحاول تفكيك الخطاب الأصولي للجماعات التكفيرية لا يجب أن يعود إلى القرنين الأول والثاني للهجرة لأن سياقات الممارسة الفكريّة والسياسية والثقافية عموما في تلك الفترة لم تكن تسمح بقيام تصوّرات عقدية أو فقهية تسمح بتأصيل الفكر الداعشيّ فيها، بل على العكس فرجل مثل الحجاج بن يوسف يعتبر أكثر تطرّفا من أعتى عتاة العلمانيّة المعاصرة فهو لم يتورّع في 72 هجري عن قصف الكعبة بالمنجنيق وإسقاطها على رأس رجل ورع مثل عبد الله بن الزبير (جدته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول وأبوه الزبير مبشّر بالجنّة وأمه أسماء بنت أبي بكر صحابيّة وخالته عائشة أم المؤمنين وجده أبو بكر الصديق مبشر بالجنة) وكذلك فعل مسلم بن عقبة المريّ 61 هجري في خلافة يزيد بن معاوية، والحجاج رجل قرآن غير مطعون في دينه.
فالدولة الأموية كانت إلى العلمانيّة أقرب، حتى أن الحجاج بن يوسف حين لاحظ نقصا في عائدات الجزية والخراج عندما كان واليا على العراقيْن (البصرة والكوفة) وخرسان بسبب إسلام الكثير من الموالي المجوس المعدودين في حكم أهل الذمة، والذين أسلموا كي تسقط عنهم الجزية، وهاجروا من أراضيهم نحو المدن الكبرى مثل البصرة والكوفة كي يسقط عنهم الخراج، وهي ضريبة العمل في الزراعة. قام الحجاج بطبع دياناتهم وأصولهم على ظاهر أيديهم بالوشم والكيّ وعلّمهم بعلامات، وأعادهم إلى بلداهم وأديانهم فقط من أجل أن يدفعوا الجزية والخراج، ولم ينكر عليه الخلفاء من أبناء عبد الملك ذلك، حتى جاء عمر بن عبد العزيز فردّهم إلى الإسلام …
يعني الحجاج وصلت به الجرأة إلى حدّ إخراج الناس من الإسلام وإعادتهم إلى المجوسيّة واليهودية والنصرانية من أجل خزينة الدولة، وهذا فعل متطرّف في “العلمنة” (بالمفهوم المعاصر). ثم يأتيك أحد أساطين نخبتنا العرجاء ويقول أنّ القدامى كانوا أصوليين ومتخلفين؟؟
أنا أتحدى أن يفكّر أي حداثي أو علماني متطرف في الدعوة إلى قصف الكعبة اليوم (ولست أدعو إلى ذلك).
إذن القدامي كانوا أكثر جرأة منكم على المقدس خطابا وممارسة. وحتى المجازر التي ارتكبت في حق الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي القدري والجهم بن صفوان كانت جرائم دولة ترفض من يعارضها سياسيا وليس دينيا.
نأتي الآن إلى العصر العباسي الذي كان فيه ابن الراوندي الملحد وصالح بن عبد القدوس وغيرهم يدعون إلى الإلحاد جهرة ولا أحد يعترض سبيلهم، العصر الذي كانت الخمارات والماخورات فيها تعدّ بالآلاف في مدن العراق . والذي كان أوج ازدهار خطاب العقل في الحضارة العربية الإسلامية.
خلاصة رأينا أنّ الأصوليّية المتطرّفة تجد تمثيلها الأكبر في نصوص الثقافة العربيّة الإسلامية التي كُتبت بعد النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة (بعد 240 هجري) لعدة أسباب:
اجتماعيّا : تكوّن مجال اجتماعي حضري في مدن العراق سمح بنشوء أحزمة فقر وجريمة وجهل وبؤس كبير، خاصة في البصرة والكوفة وبغداد، مما جعل عوام المسلمين يبحثون عن الخلاصين الدنيوي والأخروي، فوجدوهما عند فرقتين كلاهما ستجرّ البلاء على الأمة، وهما الحنابلة والصوفية.
فالحنابلة بحشويتهم وظاهريتهم وتشددهم الفقهي، والصوفية بإشراقاتهم وتهويماتهم وانسحابهم من دائرة الفعل الاجتماعي والحضاري. وهذا المجال الاجتماعي كان من المستحيل أن يبرز في العهد الأموي بسبب الوتيرة البطيئة للنمو السكاني في الحواضر الكبرى مع ضعف نسبة التحضّر فالمجتمع الأموي قبلي التركيبة وبدوي التشكيلة، والبدو لم تكن لهم مشاركة في تشكيل العقل الدينيّ إلاّ قليلا. كما أن عائدات الغزو شكّلت مخرجا للدولة الأموية جعلتها قادرة على تجاوز حالات المجاعة والبؤس التي ستنشأ في العهد العباسي انطلاقا من خلافة المتوكّل سيما وأن خزائن الدولة ستُنفق على الغلمان والجواري والمرتزقة من السلاجقة والبويْهيّين الذين جنَّدهم الخلفاءُ لتكوين جيش نظامي يتمتع بالكفاءة والولاء.
إذن مع النصف الثاني من القرن الثالث تراجع نفوذ المعتزلة ثقافيّا وسياسيا، وتعطّل الغزو عسكريّا والذي أفقد الدولة حالة الرفاه، وترهلت أجهزة الدولة سياسيا، واتسعت المدن سكانيا، وظهر البؤس والفقر والجهل ، ومع نهايات القرن الثالث وتحت ضغط العامة انتشرت ثقافة التشدّد الحنبلية وثقافة الانسحاب الصوفية ، وعبثا حاول المعتزلة الوقوف في وجه غوغائية الفقراء من العوام الحنابلة الذين ما عادت الأطروحتان الشيعيّة والخارجيّة قادرة على استقطابهم روحيا واجتماعيّا، بل صار العوام جميعا حنابلة يطمعون في التعويض الأخروي، بكبس دور العامة والحلول محلّ عمّال الحسبة (نفس الممارسة التي يمارسها الإخوان على الملاهي في الستينات ثم السلفية في عصرنا).
وأمام هذا الضغط الهائل هجر أغلب الناس الأطروحة المعتزليّة المعقلنة للدين والطبيعة ، نحو طروحات انغماسية وخرافية مثل الطرح الصوفي، ونحو طروحات ظاهرية وحشويّة متشددة مثل طرح الحنابلة، وزد على ذلك أن الفكر الأشعري الناشئ بقدر ما مثل فرصة لإطالة أمد العقل في الثقافة وإن بأقل جذريّة فإنه ساهم في إرباك العقل المعتزلي في حربه مع الحنابلة ، سيما ووأن العقل الأشعري يشتغل بذات أدوات العقل المعتزلي فهو سليله. ولقد شكلّ الأشاعرة فرق مطافئ في الصراع الدائر بين المعتزلة والحنابلة وقلصوا من مساحة التصادم طمعا منهم في استمالة الغوغاء من عوام الحنابلة تجنبا لشرهم ولكن ما حدث أن تلك الوساطة والتلفيقية لم تكن في صالح المعتزلة بل كانت في صالح الحنابلة، اي لم تكن في صالح العقل بل في صالح الخرافة. حيث وبعد ثلاث قرون من الزمان سينتهي وجود المعتزلة تماما وسيجد الأشاعرة أنفسهم وجها لوجه مع الحنابلة بعد أن صاروا أكثر تغلغلا وتنظيما خاصة مع ابن تيمة وابن القيّم :
(تمثيله المعاصر هو الآتي : القوى التقدمية – الإخوان- الوهابيون = الإخوان قوات مطافي بين الحداثيين والوهابيين) ..
وفي هذا السياق انتشرت الكتابات التي يتخذها الدواعش مرتكزا لجرائمهم في الخطاب والممارسة. لذلك وفي مجتمع فقير مثل مجتمعنا عبثا تحاول النخب محاربة الدواعش بالحداثة العلمانية من خارج الهويّة وعبثا يحاول الإخوان محاربتهم بالتسامح والوسطية الأشعرية. فالمعركة الحقيقة هي معركة تأويل ونصوص وهي معركة داخل اللاهوت الإسلامي ويجب خوضها من الداخل بأدوات عقلانية من أجل افتكاك النصّ من الكهنة وإعادته للإنسان الحرّ والمريد، وهذا لا يكون إلاّ بفكر المعتزلة أوّلا لأنه عقل لاهوتي قادر على تفكيك النص من داخل الثقافة لا من خارجها، ثانيا أنّه لا يفاوض الدواعش على الحقيقة مثلما يفعل العقل الأشعري، ثالثا لأنه خَبِرَ الصراع مع الحنابلة ثلاثة قرون ويعرف مزالقهم ومساخطهم وسقطاتهم .
***
رحم الله واصلا والنظام والعلاّف والجاحظ والخيّاط والبشريْن المريسي وابن المعتمر، والجبّائيّين ابي علي وأبنه هشام ، ورحم الله القاضي عبد الجبّار وغيرهم ، لطالما أضحكوا المسلمين من الحنابلة وغبائهم .  
***

هذا النصّ ديديكاس إلى جنرال الجيوش خالد بن الوليد سيف الله المسلول .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق