الاصل فى حرية التفكير وحق التعبير والديموقراطية .
دكتور عصمت سيف الدولة .
ودع
المثقفون والكتاب عام 1991 وداعا فكريا ثريا عبروا عنه تعبيرا قويا دار حول حدثين
قدر المثقفون والكتاب انهما ذاتا أهمية تستحق الحوار العلني حولهما ، اول الحدثين
صدور حكم قضائي بادانة مؤلف كتاب وناشره
موزعه . الحدث الثاني هو فوز جبهة الانقاذ في الجزائر باغلبية
اصوات الناخبين في الجزائر في
الدور الاول . وقد كان لكل قائل قول في احد الحدثين أو فيهما ، وهي اقوال متطابقة
او متعارضة او متناقضة ولكنها جميعا صادقة
، اعني كل من قال يعتقد ان ماقاله الحق . ولما كانت حقيقة موضوع محددة ماهية وزمانا ومكانا لا بد من ان تكون
واحدة ، وان اختلف الناس وعيا بها فلا يصح من بين كل الاقوال الا قول واحد ، اولا
يصح منها جميعا قول وتبقى الحقيقة غائبة . قال ابن الهيثم ؛" كل مذهبين
مختلفين اما ان يكون احدهما صادقا والاخر كاذبا واما ان يكونا جميعا كاذبين ، واما
ان يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو
الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وانعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف"
. ولم يخالفه احد من بعده الا اصحاب مذهب انعدام الحقيقة ، ولسنا من اتباعهم .
ولست
اريد ان اشارك في الجدل حول الحدثين او ما اثاراه من اقوال عن حرية التفكير والتعبير
والديموقراطية . وانما اريد ، مجتهدا ، ان ارد تلك الكلمات الرنانة الى اصل
حقيقتها لتسهل معرفة اين الصدق واين الكذب فيما قيل ويقال عنها .
1) نبدأ بحرية التفكير .
التفكير نشاط ذهني داخلي خاص بصاحبه فهو
قانون نوعي من قوانين الانسان ، او سنه من سننه ، ذو اثر حتمي مثل كل القوانين . بحيث لا يستطيع انسان حتى لو اراد ان يتوقف عن التفكير . من
هنا يبدو ان الحديث عن " حرية " التفكير حديث ذي دلالة كالحديث عن حرية
نبض القلب وحرية التنفس . يترتب اولا على
هذا ان الادعاء بامكانية تجريم او تحريم
او الحجر على التفكير عبث محض ، فلا احد يستطيع ان يهتك السرائر او يحطم الجماجم ليطلع
على ما يفكر فيه الانسان فيجرمه او يحجر عليه . فان كان لا بد من الحديث عن "
حرية التفكير " فحرية التفكير
مطلقة لا ترد عليها حدود ولا قيود
. ولقد حاولت محاكم التفتيش الاوروبية في
العصور الوسطى ان تقتحم بالتعذيب ضمائر
من اتهمتهم بالكفر واتخذت من اعترافاتهم ادلة ادانة ولكنها لم
تفعل غير خداع نفسها ، اذ كان محالا ، كما
هو محال اليوم ، معرفة ما اذا كان
الاعتراف تعبيرا عن العقيدة او كان وضع حد للعذاب . واحد أحد هو الذي يعرف ما في
سرائر الخلق . وقد اراد جل جلاله ان يحرم التفتيش في صدور الناس عما اذا كانوا
مؤمنين ام كفرة ما داموا لم يعبروا عن
كفرهم وامر بمعاملتهم تبعا لما عبروا عنه
. فقد شهد الله في كتابه على نفر من الناس بانهم غير مؤمنين مع انهم قد
اعلنوا اسلامهم ثم اقر حقهم فى ان يعاملوا كمسلمين . قال تعالى في سورة الحجرات
آية 14 : قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في
قلوبكم وان تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من اعمالكم شيئا ان الله غفور رحيم
" ومعنى " لا يلتكم من اعمالكم
شيئا " انه جل جلاله لا ينقصهم من اجور اعمالهم كمسلمين شيئا . مع انهم غير مؤمنين
. وقد اصبح كل هذا مسلما في الشرائع الحديثة حيث لا يسأل انسان عما يفكر فيه ولا يسأل
عنه ما دام لم يعبر عنه .
2) حق التعبير :
التعبير هو نقل الفكرة الى الغير بأية وسيلة نقل من اول الاشارة الى العبارة
المنطوقة او المكتوبة او الاذاعة … الخ . هنا مسالة جوهرية في ادراك حقيقة التعبير
، انه ليس افرازا انسانيا مثل الدموع او العرق او البول وانما هو اداة نقل فكرة من
انسان الى انسان . وبالتالي لا يدخل في دلالة التعبير الاصوات التي يناجي بها الانسان نفسه ، ولا
الكتابات المحجوبة عن الغير ولا الهذيان . وهذا النقل يحول التعبير من نشاط فردي الى علاقة ثنائية او جمعية حسب الطرف المتلقي الفكرة عن طريق التعبير عنها ، وهو ما ينطوي
دائما على دعوة الغير الى الاشتراك مع
صاحب الفكرة في فكرته بالتلقي او التصحيح او اعادة الصياغة
وفي النهاية القبول الذي هو غاية كل تعبير . ومن هنا يتضح ـ كما نرجو ـ ان حرية
التعبير ليست حرية فردية بل حرية اجتماعية
، او فلنقل حرية كل فرد في ان يدعو الناس
في مجتمعه الى مشاركته افكاره ، من اين
اذن جاء ذلك التقدير الذي يقارب التقديس لحرية التعبير ؟ جاء من حقيقتها
الاجتماعية وليس من حقيقتها الفردية . ذلك
لان الامر من كل مجتمع انه مجموعة قليلة او
كثيرة من الافراد يعيشون معا في واقع اجتماعي مشترك تقوم عليه حياتهم ، ويؤثر في حياة كل منهم من حيث الاحتياجات والامكانيات
والمساهمة ف اشباع الحاجات بقدر ما تسمح الامكانيات ، ماديا وفكريا وروحيا ونفسيا
أيضا في زمان معين . من واقع هذه
المشاركة وليس من واقع " القدسية
الفردية " يستمد كل فرد حقا ف ان ينقل الى الاخرين افكاره عما هو كائن وما يجب
ان يكون في المجتمع الذي ينتمي اليه جزئيا او كليا ويتوقف مدى التطور في أي مجتمع
على مدى المساهمة الايجابية من كل فرد في ان يعرف الاخرين عن طريق التعبير الفكرة التي يدعوهم اليها خاصة بالنسبة الى
المشكلات التي لا يعرفها ، ولا يحسن التعبير عنها ، الا من يعانونها حتى لو لم
يعرفوا كيف يحلونها . البديل عن هذا هو ان تسند الى الناس مشكلات لا يحسها الناس ،
وتفرض عليهم حلول لا تحل مشكلاتهم التى يحسونها ، ولا يكون ذلك الا بالقهر الفكري
او المادي او السياسي الذي قد يفيد منه
المستفيدون ولكنه على وجه اليقين يبقي مشكلات
الناس معلقة ويعوق تطور أي مجتمع لمصلحة الناس فيه فيقال ـ بحق ـ ان حرية التعبير
مقدسة ، لانها الوسيلة الاولى والاولية ،
للحفاظ على المجتمع وحل مشكلات حياة الناس فيه وليس لان أي فرد فيه كائن مقدس .
اكتشاف
حقيقة حرية التعبير يكشف لنا بسهولة حديها :
الحد الاول ، ان كل تجريم او تحريم او منع او
قيد على تعبير الناس ، كل الناس ، في المجتمع ، أي مجتمع ، عن افكارهم هو
اعتداء على كل الناس فيه اذ يحرمهم جميعا
من معرفة الحقيقة الكاملة لمشكلات حياتهم ويحجب عنهم افكارا تساعدهم سلبا او
ايجابا في معرفة حلولها الصحيحة . هنا يصبح الغير (المجتمع) مصدر ما نفضل تسميته
" حق" التعبير بدلا من حرية التعبير .
الحد الثانى ، الذي يتجاهله البعض في بعض ما يقال
ـ ان سلامة المجتمع وجودا وحدودا وارضا وبشرا شرط موضوعي لحل حرية التعبير فيه ، بمعنى ان من يعبر عن
فكرة دارت في راسه تتضمن تقويض المجتمع او المساس بعناصر وجوده " كما
هو" ولو حتى فكرة استبدال مجتمع آخر به يرتكب تحريضا على تقويض المجتمع لا بد
للمجتمع ان يجرمه ويحرمه ويمنعه او يقيده . والمجتمع ليس مجرد وجود وحدود وارض
وبشر بل ثمة رابطة تضم كل هذه المفردات . انها ما يسمونه " الحضارة " ويعنون
بها القيم المادية والروحية والفكرية والفنية والاخلاقية الخاصة بالمجتمع المعين
والتى يستنكر الناس تحقيرها او الخروج عليها . وتتضمن كل الدساتير وكل القوانين في العالم احكاما
تجرم وتحرم وتمنع الاعتداء ، بحجة حرية التعبير ، على تلك العناصر المتداخلة في تكوين
المجتمع نفسه . مثالها البسيط جريمة القذف والسب في القانون المصري وكل قانون آخر
في العالم . لماذا ؟ لان القذف كما يقول القانون ( المادة 302 عقوبات ) اسناد واقعة الى الغير لو كانت صادقة لأوجبت احتقاره عند اهل وطنه . ولان السب
يتضمن خدشا للاعتبار ( المادة 306) . تحقق هذه الجرائم يفترض ان للمجتمع وكل مجتمع
، قيما مشتركة يحتقر الناس الخروج عليها وتخدش اعتبار من يخرج عليها منهم يكون على
القضاة ان يرجعوا اليها ويحكموا على هديها لا لمصلحة المجني عليه ولكن للحفاظ على
المجتمع .
3) والديموقراطية : الصدق احد قيمنا الحضارية
. فبالرغم من ان ليس في القوانين المنقولة راسا من القانون الفرنسي . التي
تحكم مجتمعنا منذ اكثر من قرن تجريم او تحريم الكذب ولو اتخذ وسيلة الى اكل اموال
الناس بالباطل ، الا ان قيمة الصدق التي هي
ركن من حضارتنا ما تزال تحمل الناس على تحقير الكذابين خاصة اولئك الذين يكذبون على انفسهم اذ الكذب على النفس فساد كامن في شخص من ابتلى . ولم تصب كلمة
كبيرة من الكذب على النفس حتى اصبحت عند
البعض من الكبائر كما اصيبت الديموقراطية لا في بنائها التنظيمي ، فهو متنوع
الهندسة ، بل في اصلها الذي لا ينكره حتى الكذابون . فهي نظام مشاركة الشعب في حكم
نفسه اما مباشرة او بممثلين عنه . باختصار هي ضد الاستبداد الذي يعني استئثار فرد او مجموعة من الافراد
بحكم الشعب على ما يرون حتى لو كانت رؤيتهم صحيحة . وقد يحدث ان يخطئ
الشعب في اختيار من يحكمونه ، وهي ظاهرة مستشرية منذ ان استقل النواب عمن انتخبوهم في القرن السابع عشر او كما هو حادث في
المجتمعات غير ذات التقاليد الديموقراطية . في هذه المجتمعات الاخيرة تقفز الى قمة
المشكلات الاجتماعية مشكلة الخطأ في الاختيار الشعبي ولا يحتاج الامر الى فلسفة او
سفسطة لادراك ان تصحيح الخطأ الشعبي في ممارسة الديموقراطية لا يكون الا بمزيد ،
من الديموقراطية ، ولا يكون ايضا بادانة الشعب او تقييد ممارسة حقه في المشاركة في
حكم نفسه .. ان الذين لا يقبلون ما يريده الشعب ويدعون الى ديموقراطية تحول دون
نفاذ ارادته يكذبون على انفسهم ، قبل غيرهم ، على الوجهين . اذ لا هم مع سيادة
الشعب ولا هم مع الديموقراطية . وهو فساد مطلق قبل ان يكون افسادا .
تلك
اصول التعبيرات قد تفيد في كشف اللعب بالكلمات .
في 11 يناير 1992 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق