رسالة إلي السيد جورباتشوف .
د.عصمت سيف الدولة .
السيد ميخائيل جورباتشوف قصر الكرملين ( موسكو ) :
السلام على من اتبع الهدى
وبعد ،
فهذه رسالة إليك من شيخ عربي من صعيد مصر ، وفي " الصعيد "
يا سيد جورباتشوف لا يبدأ الناس حديثهم بما يريدون الحديث عنه بل يمهدون بقصة
قصيرة يهيئون بها المستمع ذهنيا لتلقى موضوع الحديث ويقدمون بها أنفسهم إليه حتى
لا يكون الحديث مباغتة فيستفز في المخاطب به عوامل الرفض قبل أن يعرف ما يرفضه .
ممارسة في التعامل الإنساني علمتها الحضارة العربية لأبنائها قبل أن يكتشف العالم السوفيتي
بافولوف قانونها العلمي .. ما علينا .
تقول قصتنا ، أنه في الأيام الأولى من شهر سبتمبر 1981 رأى رئيس
جمهورية مصر السابق أنور السادات ، لأسباب لا شأن لك بها ، أن يزج بنحو ألفين من
المواطنين في السجون ، " متحفظا عليهم " ، لا متهمين ولا مسجونين ولا
محبوسين فهم لا ينتظرون تحقيقا ولا يتوقعون محاكمة ، ولا يتطلعون الى نهاية
لفترة "التحفظ عليهم " . واختار
من بينهم نحو أربعين لينزلوا في سجن صغير على قمة جبل جنوبي القاهرة . لم يكن ثمة
ما هو مشترك فيما بينهم إلا أمر واحد سأذكره لك . ثم هم مختلفون سنا وعقائد ومذاهب
يمثلون تيارات شعبية مختلفة الآلام والآمال ، ووزعهم على زنازين متقابلة ، جمع في
كل واحدة منها ثلاثة منهم منتقين لو تقابلوا في خلاء لتقاتلوا من فرط الخلاف إلا
على ذلك الأمر الواحد . وكانت الزنازين ، يا سيد جورباتشوف ، ذات أبواب حديدية لا
مغلقة ولا مفتوحة . كانت أبوابا من قضبان متقاطعة كأقفاص الحيوانات يتبادل خلالها
"المتحفظ عليهم " النظرات والكلمات ولا يلتقون . فأوحت إليهم عبقرية
السجن بأن ينشئوا " إذاعة صوتية " تبث برامجها ابتداء من الساعة الثامنة
مساء حتى الساعة الحادية عشر مساء أيضا . ويتولى تقديم البرنامج كل مساء واحد من
كل زنزانة ، ومن خلال المنافسة على الإبداع تحولت الأحاديث والمحاضرات المذاعة الى
مادة علمية بالغة الخصوبة . كان من أهم عوامل خصوبتها أنها حصيلة حوار بين كل
الآراء المختلفة أصلا ، وتعلمنا هناك صدق المثل العربي الذي صاغته حضارتنا في
كلمات تقول :" اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ". واختلاف الرأي ، يا سيد
جورباتشوف ، وليس اختلاف الفعل . فحضارتنا تأمر بالشورى ، ومجادلة المختلفين معنا بالتي
هي أحسن ولكنها تأمر أيضا بأن نقاتل من يقاتلنا ولا نعتدي .. ولعلك قرأت أو سمعت
أو قيل لك أن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر قد صاغ هذا في عبارة " نسالم من
يسالمنا ونعادى من يعادينا ". واتخذها خطا استراتيجيا للعلاقات الدولية كسب
بها الاتحاد السوفيتي صداقتنا وكسبنا صداقته .
وللقصة بقية ..
كنت واحدا من أولئك المتحفظ عليهم وأنا فى ذلك الوقت أكبر سنا منك
اليوم ، أختلف مع بعض رفاق السجن واتفق مع بعضهم على ضوء ما انتهى اليه تفكيرا
وتدبيرا وحركة : من منطلق الانتماء الى أمة واحدة نضال جماهيري ثوري منظم حتى
إقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية .
أنا اشتراكي إذن ، ولكنى لست ماركسيا ، ولى في نقد الأسس الفلسفية
والمنهجية للماركسية كتب وكتابات عدة محتجا عليها بتجربة التطبيق في الاتحاد السوفيتي
بالذات . ولما كان لي وأنا اشتراكي أن أحتج عليها بما يزعمه أو يروجه أعداء
الاشتراكية .. أنا إذن من المعجبين بتجربة التقدم في الاتحاد السوفيتي .
على أي حال في أوائل شهر نوفمبر 1981 ، طلبت الى الكاتب الماركسي
المناضل الصلب الأستاذ صلاح عيسى ، مقدم برنامج إذاعة تلك الليلة أن يتيح لي فرصة
الحديث . سأل : فيم ستتحدث حتى أقدم له . وقلت أنني أنتوي المشاركة بحديثي في
احتفالات السوفييت بالذكرى الرابعة والستين لثورة أكتوبر الاشتراكية . كان يعرف
كما كنا نعرف جميعا أنه منذ بدأ نشاط " إذاعة القوى الوطنية من ملحق سجن طرة
" ، أنشأت أجهزة الأمن وحدة تسجيل لما يذاع فيها ، وكان التسجيل علنيا تقريبا
. فلما بدا لي أن الصديق يشفق عليّ من مخاطر الحديث قلت له أني أريده على مسئوليتي
فقدمني متحدثا بدون إشارة الى الموضوع …
وقد كان … ماذا قلت مشاركة للاتحاد السوفيتي في الاحتفاء بذكرى ثورته
. قلت ، يا سيد جورباتشوف ، ما يهمني فعلا وصدقا من الاتحاد السوفيتي وثورته . وقصّرته
على أمرين ، قلت أن جميع الاشتراكيين وقوى التحرر القومي في العالم مدينون بهما
لثورة أكتوبر وشعوب الاتحاد السوفيتي وقياداته . أولهما ، أنهم قد دفعوا من
تاريخهم واقتصادهم وآلامهم أثمانا فادحة للتجريب غير المسبوق لبناء مجتمع اشتراكي
، وأن كل الاشتراكيين في العالم قد استفادوا من هذا بقدر ما تعلموا من الثورة كيف
يبنون الاشتراكية بدون أخطاء وبدون تضحيات . الأمر الثاني هو أننا نحن شعوب العالم
الثالث الذين عاشوا هم وأسلافهم في ظل القهر الاستعماري المصحوب بآلاف الوعود
الكاذبة بجلاء المحتلين قد شببنا على الشك في النوايا التي تصاحب وجود قوات أجنبية
على أرضنا ، وتحول الشك الى عقدة خوف من التعامل مع القوى القادرة عسكريا ، الى أن
أصدر رئيس جمهورية مصر السابق ، أنور السادات ، أمره الى القوات السوفيتية في مصر
بالمغادرة خلال أسبوعين على الأكثر ، فغادروها خلال أسبوع أو أقل . كانت تجربة مدهشة
في بلد ظل خمسة وسبعين عاما يحاول بطرق شتى أن يطهر وطنه من أقدام جند الاحتلال
الإنجليزي . تجربة طهرتنا نحن من الخوف المطلق من التعامل مع " الأجانب
" ولو كانوا حلفاء فعلمتنا كيف نختار الحلفاء ونثق فيهم .
وهكذا ترى يا سيد جورباتشوف أن الذي يخاطبك عربي اشتراكي ليس معاديا
للاتحاد السوفيتي لعل كل هذا أن يلفتك الى الضرورة " الحيوية " لتأخذ ما
سأقوله لك مأخذ الجد . أن ظروفنا العربية لا تسمح لأي عربي بأن يهزل ، وصدقني ، أنني
لا أجد متعة من أي نوع في الكتابة اليك ، لكني أدافع عن أمتي بأن أحذر أصدقائها من
الوقوع في أخطاء جسيمة قد تنقلهم من موقع الصداقة الى موقع العداء . خذ قولي إذن
على أنه تحذير لصديق حتى لا يصبح نذيرا لعدو .
المسألة يا سيد جورباتشوف هي أن قد تواترت الأنباء ثم تأكدت بما نقله
الى شعبنا ونشرته صحفنا مواطنون من مصر العربية كانوا في زيارتكم منذ وقت قريب نخص
من بينهم الماركسيين الذين لا يمكن أن يتهموا بأنهم يزيفون عليكم ما ينقلون عنكم .
نقلوا إلينا أنكم في سبيل إعادة بناء نظام الحياة في الاتحاد السوفيتي في ظل عمليه
تسمونها " بيريسترويكا " . فليكن ، هذا شأنكم وندعو لكم بالتوفيق فيما
هو من شأنكم . ولكنهم نقلوا إلينا أنكم قد وحدتم ( لا أدرى بأي حق ) بين شأنكم
وشئون البشر جميعا . قال الكاتب الماركسي موثوق الصدق فيما ينقل عنكم أنكم قد
أوجبتم على أنفسكم وعلى البشر جميعا رؤية جديدة :" بعد أن أصبح الإفناء
المتبادل ، بل وتعريض كوكبنا ذاته للتدمير الشامل خطرا يتهدد البشرية بأسرها إذا
ما ظلت منقسمة الى كتل متنابذة متصارعة . معنى ذلك أن هناك في العصر النووي ، عصر
أسلحة الدمار بالجملة قضية أخطر من المواجهة بين الرأسمالية والشيوعية هي قضية
المحافظة أصلا على الحياة فوق سطح كوكبنا . أي قبل معالجة قضية انقسام العالم الى
شرق وغرب أو حتى الى شمال وجنوب أصبحت تثور قضية أن يظل العالم موجودا أو غير
موجود . معنى ذلك ضرورة إخضاع الصراعات الآيديولوجية بين أنظمة اجتماعية واقتصادية
متناقضة أو متباينة مهما احتدمت الى قضية تسبقها في الخطورة هي حماية كوكبنا من أن
يصاب الى غير رجعة في صلاحيته كوعاء للحياة بسب الحرب أو حتى بسبب التلويث الصناعي
في ظل السلام .. معنى هذا أن الصراعات يتعين تطويعها لهذه المعطيات الجديدة ..
ثم أنه قد نقل إلينا أنكم قد أدخلتم شؤوننا العربية في نطاق رؤيتكم
وخططكم الكونية . نقل عنكم " أن التفكير السوفيتي الجديد الذي يطرح النزاعات
الإقليمية كجزء لا يتجزأ من المواجهة العالمية العصرية وبمقتضى رؤية إستراتيجية
يجرى التخطيط لها في إطار زمني يمتد الى نهاية القرن إنما يعني تصورا للنزاع العربي
الإسرائيلي يختلف كثيرا عما كان مطروحا من قبل " . " فلم يعد الاتحاد السوفيتي
يزعم أنه مع أطراف وضد أطراف فلقد أصبحت أجهزة الإعلام السوفيتية تسخر من مزاعم
الغرب بأنه ـ ابتداء ـ ضد إسرائيل ومع العرب . فهو يؤيد حق كل طرف في أن تتحقق له
حقوقه المشروعة . وهو ليس ضد حق إسرائيل في الوجود ". "وهو يرى أن
النزاع العربي الإسرائيلي مثل كل النزاعات يجب حله فقط بالطرق السلمية من منطلق
ألا يكون هناك غالب ومغلوب بل أن يجرى تأمين ما يعتمده المجتمع الدولي كحقوق
مشروعة من المطالب المتعارضة لأطراف النزاع "." ومثل هذا المنهج يعني
إعمال أدوات السياسة والدبلوماسية مع مختلف الأطراف لتحقيق ما يكفل الاستقرار لمدة
إستراتيجية طويلة الأمد وليس الاحتكام الى الايديولوجيات أو مناصرة الحركات أو
المنظمات أو الأنشطة الثورية "..
أيها السيد جورباتشوف ، يا من يجلس الآن في مقعد لينين العظيم ..
قبل أصدقك الرأي في رؤيتك دعني أحدثك عن " الاتحاد السوفيتي
" كما رأته وتراه الأمم والشعوب المقهورة من الخارج .
قبل أن تولد أنت وقبل أن ينشأ الاتحاد السوفيتي وقبل أن تقوم ثورة
أكتوبر ، قبل ذلك بنحو قرنين نشأ في الغرب الأوروبي نظام للحياة هو في فلسفته (
الطبيعية ) ومنهجه ( الليبرالية ) ونظام إنتاجه ( الرأسمالية ) نسخة كربونية نقلها بشر من نظام حياة الوحوش في الغابات
قانون حركته الأساسي حرية المنافسة على موارد الحياة والبقاء للأقوى . وامتد ذاك
النظام الى كل أطراف كوكبنا العزيز عليك ، ساحقا الأفراد والقبائل والشعوب والأمم
بالقهر المسلح الغالب ، محولا بني البشر الى سلع ومنتجي سلع ومستهلكي سلع لدى
الرأسماليين . وقبل أن تولد أنت كان قد تحول الى نظام إمبريالي . ولأن البشر ليسو
وحوشا ، بدأت مقاومة الشعوب في حركة تحرر محدودة في قواها وقوتها محاصرة في أوطانها
ودفعت البشرية عشرات الملايين ، ربما مئات الملايين من الضحايا ، لمجرد أن يبقوا
بشرا .. ثم قامت ثورة أكتوبر بقيادة لينين العظيم ، ثم دفعت شعوب الاتحاد السوفيتي
تحت قيادة ستالين تضحيات خيالية لتبدع نظاما للحياة بديلا ، ونقيضا ، للنظام
" الطبيعي ". " الإمبريالي " " الرأسمالي " . لم
يعرفه أحد من قبل ولا حتى كارل ماركس . نظام فلسفته علمية ومنهجه جدلي ونظام إنتاجه
اشتراكي . وقانون حركته الأساسي التخطيط الشامل لموارد الحياة ولكل حسب عمله .
واستطاع هذا النظام أن يثبت أفضليته للحياة في السلم ، إذ انتقل بشعوب الاتحاد السوفيتي
من مرتبه التخلف الموروثة من عهد الإقطاع الى المنافسة على قمة الرخاء في أقل من
نصف قرن . وفى الحرب ، إذ أسهم بنصيب رئيسي من المقدرة في هزيمة الفاشية … فأصبح
إحدى دولتين يقال لهما عظميين .. أما الدولة الأخرى ، قائدة المعسكر الليبرالي فهي
الولايات المتحدة الأمريكية …
وكسبت الشعوب المقهورة نقطة ثمينة : كسر احتكار الإمبريالية للقوة
القاهرة . هناك قوة موازية ممثلة في الاتحاد السوفيتي . قد يساعد قوى التحرر وقد
لا يساعد. المهم أن الإمبريالية الرأسمالية لم تعد منفردة أو متفرغة للقضاء على
حركة تحرر الشعوب والأمم . فكان الاتحاد السوفيتي يقدم الى حركات التحرر من
الاستعمار ما هو أهم بكثير من أية مساعدات اقتصادية أو عسكرية ، إنه ضمان موثوق
للحيلولة دون عودة الإمبريالية الى احتكار القوة وانفرادها بقوى التحرر .
من أين جاء هذا الضمان ، إن الاتحاد السوفيتي لم يقدمه نصا . ثم أنه
دولة قريبة الشبه الى درجة غريبة من الولايات المتحدة الأمريكية . فكلتاهما كثيف
العدد . وكلتاهما متسعة الأرض . وكلتاهما متعددة القوميات . وكلتاهما متنوعة
الموارد . وكلتاهما حديثة التاريخ . وكلتاهما تملك قوة عسكرية خرافية المقدرة . والقيادة
في كلتيهما أوربية الحضارة : بيضاء روسية أرثوذوكسية هنا وسكسونية بروتستنتية هناك
. ثم أن كلا من الدولتين قامت على أشلاء إرادة شعوب سحقتها بالقوة قبل أن تقوم ،
ثم ، أنه ما أن وثقت الدولتان في الانتصار على الفاشية حتى اجتمع قادتها في يالتا
واقتسما النفوذ والهيمنة في العالم ، فمن أين استوحت حركات التحرر الضمان السوفيتي
ضد عودة الإمبريالية الى احتكار القوة ،
حتى أصبح من الأخطاء التي لا تغتفر لأي داعية تحرري أو مناضل من أجل الحرية في
العالم الثالث المساواة في الحكم بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية
حتى ترتكب الدولتان أخطاء متشابهة …
من أين يا سيد جورباتشوف كسب الاتحاد السوفيتي ثقة الشعوب المقهورة
؟..
أنا أقول لك ما نراه من واقعنا في عالمنا بعيدا عن موقعك في عالمك.
كسبتم ثقة الشعوب المقهورة ، من اجتماع عدة عوامل أولها وأهمها أن الاتحاد السوفيتي
دولة تحكمها ايديولوجية معادية علميا لا يقبل التوفيق أو التلفيق أو الحلول الوسطى
بين المتناقضات وأن عنوان نظام الحياة فيها يستهدف إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، استغلال
الفرد للفرد ، واستغلال الدولة للدولة ، أو استغلال الأمة للأمة . وأنها دولة يحرس
ايديولوجيتها ومنهجها وأهدافها حزب ، يحرسها من انحرافات الحكام .
وكان هذا كافيا لتضمن حركات التحرر تحالف الاتحاد السوفيتي مع نضالها
المشروع ضد الإمبريالية الأمريكية ، أو ـ على الأقل يا سيد جورباتشوف ـ استحالة
تحالف الاتحاد السوفيتي مع الإمبريالية الأمريكية ضد نضالها المشروع . ولتضمن أن
موقف الاتحاد السوفيتي من أي صراع بين المتناقضات الايديولوجية أو الاجتماعية
سيكون مع الاستمرار في الصراع حتى يتم حل التناقض لمصلحة التحرر والتقدم أو ـ على
الأقل يا سيد جورباتشوف ـ استحالة التنكر لحتمية الصراع بين المتناقضات وتلفيق
حلول وسطى أو محاولة التوفيق بين المتناقضات المتصارعة . ولتضمن أن الاتحاد السوفيتي
لن يشارك ، أو يقبل ، أو يتغاضى ، أو يتساهل ، أو يقف على الحياد من أي صورة من
صور الاستغلال الفردي أو الدولي أو القومي .
هكذا كسب الاتحاد السوفيتي ثقة الشعوب المقهورة والمستضعفة فلم تساو
بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية حتى وهي تلمس أن رؤى بعض قادته وسياساتهم لا
تتفق مع واحد أو أكثر من هذه العوامل . كان الاتجاه العام موثقا للضمان فنسبت
الشعوب التي لا تريد أن تساوى بينكم وبين الإمبرياليين انحرافات الممارسة إلى
أخطاء القادة .
إلى أن جئت أنت فنقل إلينا ، والى شعوب العالم ، ما تواترت أنباؤه ،
لتطرح رؤية جديدة للاتحاد السوفيتي والعالم ذات ثلاثة أركان : (1) عدم الاحتكام
الى الايديولوجيات (2) حل المتناقضات
المتصارعة عن طريق الحلول الوسطى (3) هناك ما هو أهم من إلغاء استغلال الإنسان
لأخيه الإنسان هو أن يبقى كوكبنا وعاء صالحا للحياة ( أي حتى لو سخرت حياة البشر
جميعا وثروات الكوكب العزيز لمصلحة الرأسمالية ).
ما الذي بقي من الاتحاد السوفيتي وما يرمز اليه ودوره التاريخي ،
وثقة الشعوب به إذا تحققت رؤيتك ؟..
أنا أقول لك ما الذي يبقى بناء على ما لم تقله أنت ..
فقد لفتنا فيما نقل إلينا عنك ما لم تقله صراحة . وهي أجوبة لازمة
لأسئلة ملحة يتوقف عليها معرفة الى أين أنت متجه بالاتحاد السوفيتي . فقد تحدثت
كثيرا عن "أفعال " كثيرة ولكنك لم تقل من سيكون " الفاعل " .
قلت مثلا : يجب " أن تكون رؤية جديدة . فمن الذي " يوجب " ومن الذي
" يجب عليه " ، وما العمل إذا قدر الذي يجب عليه أن ما يقال له واجب ليس
واجبا أصلا ؟.. قلت : ضرورة "إخضاع " الصراعات الايديولوجية بين الأنظمة
الى قضية تسبقها . فمن الذي "يخضع " فاعلا ومن الذي " يخضع مفعولا
به . وما العمل إذا رفض المراد إخضاعهم أمر الخضوع . قلت " حماية "
كوكبنا . فمن الذي " يحمي " فاعلا قادرا ومن الذي يخضع للحماية مفعولا
به عاجزا وماذا سيفعل الحماة القادرون إذا رفضت شعوب كوكبنا قبول الحماية . قلت
" يتعين " تطويع ، المعطيات الجديدة فمن الذي " يعين " ومن الذي
" يطوع " وما العمل إذا رفض البشر ما يعين لهم أو رفضوا أن "
يطوعوا " صراعاتهم لما تريد ؟ وأخيرا ـ وليس آخرا ـ قلت : عدم الاحتكام الى
الايديولوجيات أو مناظرة الحركات أو المنظمات أو الأنظمة "الثورية"
أليست هذه ـ ذاتها ايديولوجية يا سيد جورباتشوف تنكر على الآخرين أيديولوجياتهم .
وتنكر على المنظمات والأنظمة " الثورية " ثوريتها . وتتنصل من مناصرتها
. لتمكن أعداءها منها ..
أليست هذه أيديولوجية ، لا هي ماركسية ولا هي جدلية ولا هي اشتراكية
ولا هي سوفيتية . بل هي ايديولوجيتك أنت . فأنت إذن " الفاعل " الخفي الذي
ستوجب وتخضع وتطوع البشر لما تريد لتحمى كوكبنا ، ليكون كوكبك . لست أعرف كيف سيتم لك هذا الا
بالمشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وحتى في هذه الحالة لا أعرف كيف
سيتم لكما هذا وقد بدأت منذ بضع سنين حرب فرسان الحرية التي أسميتها الحرب
العالمية الثالثة . حيث قد ولدت الأساطيل العملاقة والجيوش الكثيفة . نقيضها .
الفارس الفرد الذي لا يخشى الموت فألغى فعليا كل تلك الأساطيل والجيوش .
وما يزال الفرسان المقاتلون مشتبكين في حرب منتصرة ضد قوى البغي
والعدوان سفاحي هيروشيما الذين " يولولون " الآن فزعا من مخاطر الخروج
من منازلهم . فهل تريد يا سيد جورباتشوف أن تمتد هذه الحرب الى الاتحاد السوفيتي .
ألم تلاحظ أنت أو أجهزة أمنك أن الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية هي الدول
الوحيدة التي لم تمتد إليها هذه الحرب . أم تظنون أن قصر الكرملين أكثر حصانة من
قصور أمريكية . لا يا سيد جورباتشوف . إنما يوفر لكم السلامة والأمن من مخاطر هذه
الحرب الخفية أن مقاتليها الفرسان يقاتلون الإمبريالية وحلفاءها وقد عرفوا الاتحاد
السوفيتي عدوا للإمبريالية حتى لو وقف على الحياد في القتال . فماذا لو أصبحتم
حلفاء .
إن الإمبرياليين قاتلي الشعوب جملة يسمون أولئك الفرسان إرهابيين
لأنهم يتوسلون الى تحقيق أهدافهم بترويع وإخافة الناس وانا أسألك . ماذا تسمي إذن
دولتين مازالتا تستنزفان موارد شعوبهما حتى امتلكت كل منهما ترسانة من الأسلحة
النووية تكفي لفناء كوكبنا مئات المرات . فكانتا مصدر خطر فناء البشرية . ثم جاءتا
تعلنان على العالم أن حياة البشر معرضة لخطر الفناء الذي صنعتا أسبابه وتملكان
أدواته فأثارتا وتثيران موجات متلاحقة وطاغية من الفزع في أفئدة البشر من مخاطر
الفناء أو من مخاطر التلوث . ثم تتوسلان بهذه الإخافة الوحشية والترويع غير
الإنساني لتحقيق أهدافهما الخاصة على شعوب وأمم الأرض ان تقبل منهما ما تعنيانه
لهم . وأن تخضع وتطوع إرادتهما لما تريدان .. ألا يمكن أن يطلق على هذا ، المؤسسة
الكونية للإرهاب الدولي ؟؟.
فهل تريد أن يكون الاتحاد السوفيتي شريكا متضامنا في هذه المؤسسة .؟.
ولا نشك في أن شعوب الاتحاد السوفيتي وغيرها لن تسمح بأن تتحول
رؤيتكم الجديدة الى واقع .
أما عما نقل إلينا من رؤيتكم الجديدة للصراع العربي الصهيوني
وسخريتكم من مزاعم العرب بأنكم ـ إبتداء ـ ضد " إسرائيل " ومع العرب .
فلكم الحق في السخرية . كل ما في الأمر أن لكم الحق في السخرية منا نحن
الاشتراكيين العرب وليس من الغرب . فقد كنا مثلكم ومثل الغرب ومثل العالم كله نعرف
ـ ابتداء ـ أنكم أول دولة تعترف اعترافا قانونيا بالدولة الصهيونية ، ولكنا نسبنا
ذلك الى ستالين وأضفناه الى الأخطاء الفادحة التي أضفتموها أنتم الى تاريخه . ليس
لهذا أهمية الآن ، المهم الآن أن نطرح عليك سؤالا إن أجبت عليه بنعم سنقول "
نعم " لرؤيتك الجديدة . وإن أجبت " بلا " فارفع يدك عن فلسطين
وتفرغ لمتاعبك الخاصة .
السؤال :
يحشد الاتحاد السوفيتي منذ ربع قرن نحو مليون من جنده بكل ما يلزمهم
من عدة وعتاد على الحدود الشمالية للصين وتحشد الصين نحو مليونين من الجند في
مواجهتهم وذلك تأهبا لحسم النزاع بينهما على مساحة من الأرض لا يذكرها أحد . يعيش
عليها بشر لن يغير أسلوب حياتهم أن يكونوا من رعايا الصين الاشتراكية أو الاتحاد السوفيتي
الاشتراكي . ومع ذلك فالجيوش تواجه بعضها البعض لتجيب قوة السلاح على السؤال
" لمن الأرض " ؟ فهل يقبل الاتحاد السوفيتي ـ ولو للحفاظ على كوكبنا ـ
التنازل عن تلك المساحة من الأرض للصين ؟ أو هل تقبل الصين ؟..
إذن ، يا سيد جورباتشوف ارفع يدك عن فلسطين . فإن الأمر الوحيد
المشترك بين الذين كانوا " متحفظا " عليهم في سجن طرة والجماهير العربية
المختلفة التي يعبرون عنها . هو رفض التنازل أو التفريط في أي جزء من فلسطين
العربية . ولقد كانوا معرضين للفناء أنفسهم ولم يتراجعوا . فهل تظن أحدا يتراجع لأن
لسيادتك " رؤية جديدة " ؟ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق