النظام العالمى الجديد .
د.عصمت سيف الدولة .
كان تعبير " النظام العالمي الجديد " عنوانا ظاهرا أو
خفيا لأغلب ما شغل العالم من أحداث وأحاديث خلال عام 1991 . بدأ به ببواعث حرب
الخليج وبانتهاء الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي . ويكاد
الآن ، مع مطلع عام 1992 أن يكون مشروعا مطروحا للتنفيذ قبل نهاية هذا القرن .
ولما كان ثمة قوى دولية هائلة تحيطه بقوة دعائية مؤثرة فمن المهم أن نعرف أولا
دلالة مفرداته :النظام والعالمي والجديد .
أما النظام فيعني مجموعة من القواعد العامة الملزمة التي
تضبط سلوك ومواقف المجتمع ، أي مجتمع . ونموذجها الدستور في الدولة ، فيقال أن
الدولة مجتمع منظم . ولما كان من خصائص النظام أن يكون ملزما لمن يعيشون في ظله
فهو يقتضى دائما قيام سلطة عليا تعمل على نفاذه وتردع الخروج عليه بالقوة إذا لزم
الأمر . قياسا على هذه الدلالة الأصلية للنظام نستطيع أن نقرر أنه لا يوجد الآن
ولم يوجد قط نظام عالمي ، إذ ما زال العالم الكبير المكون من شعوب وأمم ودول شتى
خاليا من أية سلطة عالمية عليا تعمل على نفاذه وتردع الخروج عليه . وقد قضت
البشرية أغلب تاريخها تتعامل طبقا لنظام الوحوش في الغابات أعني الإحتكام إلى
القوة . وفيه نشأ نظام الإمبراطوريات . أعني خضوع مجموعات كبيرة من القبائل
والشعوب والأمم لسلطة مركزية واحدة لتدافع بقوتها الموحدة عن وجودها وحدودها ضد
الإمبراطوريات الأخرى في حروب مستمرة ، وكانت الحرب مشروعة بمعنى أن من يغلب يكسب
أرضا وبشرا ، وأهم من هذا أن من ينهزم يعترف لمن كسب بحقه فيما كسبه . ولما نشأت
الدولة في صورتها الحديثة في منتصف القرن السادس عشر برزت فكرة سيادة كل دولة
واستقلالها وبالتالي المساواة بين الدول .
وكان يقصد بالدول حينئذ الدول المسيحية الكاثوليكية وحدها . ثم بدأت الدول
المستقلة ذات السيادة في الالتقاء في سلسلة مؤتمرات للإتفاق على أسلوب التعامل
فيما بينها بدلا من الحروب . أولها مؤتمر وستفاليا (1648) الذي أقر مبدأ توازن
القوى ومؤداه أن تقوم الدول معا بردع أية دولة تتوسع على حساب دول أخرى . وتبعتها
سلسلة من الإتفاقات ( أوترخت 1713 والحياد المسلح 1780 ) آخرها " التحالف
المقدس 1815 ، والتحالف الثلاثي 1879 والتحالف الفرنسي الروسي 1897 .. الخ ، فقام
لأول مرة نظام دولي عام بالنسبة للدول المنضوية فيه . ورضائي أي بدون سلطة عليا
تفرضه وتحميه ، وتأكدت به في الوقت ذاته سيادة واستقلال الدول . ومع أن تركيا
الإسلامية دخلت هذا النظام (1856) وبعدها اليابان غير المسيحية ، إلا أنه لم يصبح
عالميا . وظل الوضع هكذا حتى الحرب
الأوروبية الأولى (1914ـ 1918 ) فبرزت فكرة تجنيب العالم مثل الدمار الشامل
الذي عانته في الحرب فأنشأت منظمة عالمية أسميت عصبة الأمم . وهي عالمية بمعنى أن
عضويتها مفتوحة لكل دولة مستقلة ذات سيادة . ومع ذلك لم تنجح العصبة في أن تكون
عالمية ، لسببين رئيسيين . أولهما اشتراط الإجماع في كل قراراتها ، الثاني هيمنة
الإتجاه الانجلو سكسوني عليها إلى درجة أدت إلى انسحاب اليابان وإيطاليا وألمانيا
. وقد صفيت عام 1946 لتخلي مكانها لمنظمة أخرى أنشئت بعد الحرب الأوربية
الثانية ( 1939 ـ 1945 ) . هي هيئة الأمم
المتحدة .
وقد كان المرجو من هيئة الأمم المتحدة أن تكون سلطة عليا
عالمية . والواقع أن ميثاقها وتشكيلها وسلطاتها ، خاصة سلطة استخدام القوة للحفاظ
على السلام العالمي . كان تيمنا بأن يقوم بها نظام عالمي لولا تآمر بعض الدول وعلى
رأسها الولايات المتحدة الأمريكية . تآمرها ضد العالم . فقد بدأت المؤامرة باقتراح
أمريكي بعقد تحالف عسكري دائم بين الاتحاد
السوفيتي ودول الكومنولث البريطاني
والولايات المتحدة الأمريكية لتكفل هذه الدول استقرار السلم استقرارا أكيدا وتشرف
على تنفيذ معاهدات الصلح مع ألمانيا واليابان وإيطاليا تنفيذا كاملا . وعارضت
الدول المشاركة في إعداد مواثيق هيئة الأمم هذا الإقتراح لأنه في حقيقته إخضاع باقي
الدول ، والهيئة ذاتها ، لديكتاتورية قلة من الدول التي تحتج بقوتها لتكون سلطة
فوق الدول والهيئة . عادت أمريكا فقدمت اقتراحا بإنشاء مجلس تنفيذي ( مجلس الأمن
فيما بعد ) ليكون السلطة العليا التي تمثل الأمم المتحدة جميعها يكون من بين
أعضائه إنجلترا والاتحاد السوفيتي ، والصين ، والولايات المتحدة كأعضاء
دائمين وسبعة منتخبون ، يتخذ قراراته
بأغلبية الثلثين على :" أن تكون من بينها أصوات الدول الأربع العظمى " .
( ضمت إليهم فرنسا فيما بعد ) . ولما كان هذا الإقتراح ينشئ سلطة عليا ديكتاتورية
على هيئة الأمم المتحدة وقد يتعرض للرفض في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي سينعقد يوم
25 أبريل 1945 لإبرام ميثاق هيئة الأمم المتحدة . فقد بادر المتآمرون ونستون تشرشل
رئيس وزراء انجلترا وفرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وجوزيف
ستالين رئيس الاتحاد السوفيتي إلى الإجتماع في يالتا ( بالاتحاد السوفيتي ) يوم 5
فبراير 1945 واتفقوا على فرض شرط موافقة الدول الخمس العظمى على أي قرار يصدر من
هيئة الأمم المتحدة لنفاذه . وهكذا تحولت هيئة الأمم المتحدة ذات الشكل العالمي ،
من نظام عالمي، إلى نظام خماسي مفروض على العالم ، ولقد استطاعت تلك الدول أن
تحافظ على السلام فيما بينها . واستبدلت بحروبها حروبا إقليمية تقوم بها قوى ودول
أخرى لحسابها في مناطق كثيرة من العالم . ..
هذا الصراع فيما بين الدول العظمى صفى مواقفها تبعا
لمقدرة كل منها على الإستمرار فيه وانحصرت أخيرا بين دولتين لكل منهما دول تابعة ،
الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية . وبينما كانتا تشعلان الحروب في
أطراف الأرض جميعا بقيت الحرب بينهما " باردة " . فتقلص النظام العالمي الذي
كان مرجوا من هيئة الأمم المتحدة إلى نظام ثنائي عدائي تدفع فيه شعوب العالم
أثمانا باهظة للصراع بين القوتين العظميين .
إلى أن صعد جوربا تشوف إلى مركز قيادة الإتحاد السوفيتي
والمعسكر الاشتراكي على سلم الحزب الشيوعي الذي لا يصعد عليه إلا أكثر الرفاق وعيا
وإيمانا بالماركسية أو هكذا هو المفروض . ولما كان الرجل يعرف تماما ، ربما أكثر
من أي واحد آخر أنه لا يوجد في العالم نظام عالمي . فقد فاجأ الجميع باقتراح نظام عالمي
جديد تحت عنوان جذاب " إعادة البناء" ( البروتسرويكا ) . خلاصة ما يهم
العالم منها ، ويتصل بالموضوع ، أن ما تحقق فعلا من تعبئة الأسلحة النووية
المتطورة قد أصبح يهدد سلامة الكرة الأرضية ، وبالتالي أصبح الحفاظ على سلامة
الكرة الأرضية من مخاطر الدمار الشامل الكامل ذا أولوية مطلقة على كل أنواع الخلاف
والصراع بين الدول والأمم يقتضي نظاما
جديدا لحل المشكلات يتلخص في إسقاط الأيديولوجيات ، واجتناب الأساليب الثورية ، واعتماد
المفاوضات والحوار ( المصارحة ) للوصول إلى حلول وسطى . وكان ذلك نظاما عالميا
" مثاليا " أي مقطوع الصلة تماما بالواقع الدولي ومشكلاته ، وكان لا بد
له من أن يفشل . ولما كان جورباتشوف مثاليا إلى درجة المرض فقد بادر قبل أن تسود
فكرته عالميا إلى تطبيقها على العالم الاشتراكي فانفجر ذلك العالم بفعل القوة المكبوتة فيه والتي أدانتها الماركسية
فتجاهلها الشيوعيون على مدى سبعين عاما ، أعني قوة الإنسان القائد الأساسي للتطور
وحريته في ممارسة هذه القوة. ففي دول أوروبا الشرقية حيث الدول قومية بدون إنكار
وحرية كل أمة في صنع مستقبلها منكورة هدمت الشعوب السجن الماركسي وانطلقت لا تدرى
إلى أين فقدم إليها الغرب المتربص بضاعته الليبرالية أي الحرية الفردية والمنافسة
الحرة بين الأفراد . أما في الإتحاد السوفيتي
فقد كانت الماركسية تنكر على الإنسان حريته الخاصة كما تنكر وتدين انتماءه القومي
. فبرزت القومية لتجسد ذاتياتها بالاستقلال عن موسكو ، وفي كل قومية انطلقت الشعوب
لا تدرى إلى أين فقدم لها الغرب المتربص ذات بضاعته الليبرالية أي الحرية الفردية
والمنافسة الحرة بين الأفراد . وما تزال الشعوب والقوميات والجمهوريات التي كانت
يوما محكومة " بنظام " تعيش في حالة " فوضى " . وحيث كان
الشبع ولو في حده الأدنى متاحا للكافة بدون عناء ولكن بدون أثرياء شاع الجوع بين
الشعب ، واستفحل ثراء الرأسماليين الجدد واللصوص والعملاء . وكل هذا هو التعبير
الصادق عن الليبرالية حين تغيب الدولة بالرغم من كل ما بشر به فيلسوف الفوضوية
برودون في القرن التاسع عشر .
ومع ذلك ، فقد أسهم تفكك الإتحاد السوفيتي وتخبط شعوب شرق
أوروبا في طرح فكرة " النظام العالمي الجديد " . ومحاولة إقامته .. كيف
؟.
بانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بمقدرتها على السيطرة
على العالم ، فالقوة بدون منافس وبالتالي ترشيح دولتها لتكون هي السلطة العليا التي
افتقدتها المحاولة السابقة لإقامة نظام عالمي . هذا هو الجديد بالنسبة لفكرة
النظام العالمي ولهذا تسميه الولايات المتحدة الأمريكية بحق النظام العالمي الجديد
ويتبعها آخرون ويصبح مفهوما أنه سيكون النظام الذي ترتضيه وتروج له أو تفرضه في
النهاية الولايات المتحدة الأمريكية على العالم وتقوم هي بحراسته وتنفيذ قواعده
وردع من يخرج عليه بالقوة . تأمل هذه الصيغة ينتهي إلى أنه نظام بمعنى مجموعة من
القواعد العامة الملزمة تضبط علاقات الدول والشعوب وأنه عام من حيث الخاضعين له
ولكنه فردي من حيث السلطة القائمة عليه ، باختصار أنه ليس نظاما عالميا جديدا أو
قديما بل هو تنظيم أمريكي للعلاقات الدولية طبقا للقواعد التي تضعها وتفرضها
أمريكا .
ولا شك في أن هواة الهروب من مسئولية الحرية احتجاجا بقوة
البطش سيقبلون النظام الأمريكي ولكنهم سيدركون آجلا أو عاجلا أنهم قد راهنوا على
الجواد الخاسر ، فآجلا أو عاجلا سيذكر التاريخ أن قيام النظام الأمريكي الحالي قد
كان نقطة بداية انهيار وتصفية الولايات المتحدة الأمريكية لذات الأسباب التي أطاحت
بالاتحاد السوفيتي وخاصة قوة وفاعلية القومية . فتحت جلد الإمبراطورية الأمريكية التي
ستسميها النظام العالمي الجديد ستتجمع كل القوميات في العالم . حينئذ لن يكون
لوحدة القوى القومية إلا هدف واحد هو التحرر من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية
واسترداد الاستقلال والسيادة . وأعتقد أن الصراع حينئذ سيكون عالميا فعلا ، أي
توحد قوى التحرر في العالم لإسقاط السيطرة الأمريكية ، ولا أشك لحظة واحدة في أن
النصر في النهاية للحرية ضد الاستبداد وللشعوب ضد السلطة وللعالم ضد أمريكا .. ومن
يعش يرى ..
في نطاق كل هذا يصبح مضيعة للوقت والجهد الحديث عن نظام
جديد للشرق الأوسط كما يسمونه فالواقع أنه
منذ كامب ديفيد إلى حرب الخليج وما بعدهما والعالم العربي ، ولست أسميه الشرق
الأوسط ، ينزلق بسلاسة في جوف الحوت الأمريكي .
لقد أصبحنا جزءا من مشروع النظام العالمي الجديد الذي
أوضحنا أنه نظام أمريكي للعالم ولا نستطيع أن نتجاهل أن الترجمة الفعلية لهذه
المأساة العالمية الجديدة لن تكون حادة واستفزازية ، ذلك أن عشرات بل مئات الألوف
من أدوات الاعلام ومن الفلاسفة ومن
المتفلسفين ومن الكتاب والصحفيين والمتحدثين سيحاولون إعداد الشعوب فكريا ونفسيا
وماديا لقبول النظام العالمي الجديد ، أعني النظام الأمريكي للعالم ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله .،،،،
القاهرة فى 22/1/1992.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق